الخاتمة

116 4 3
                                    

فتحت دفترها الوردي الصغير ذو الصفحات الصفراء الباهتة التي عفى عنها الزمن ومضى بسباق الحياة ، تسكن بين اروقته اجمل ذكرياتها واتعس ايامها عندما يهزمها الألم ويحفر ندوب بقلبها لتفضي بها بوسط اوراقها وتكتب حروفها بدموعها النابعة من فرط الوجع ، وهنا تكون الطفلة المظلومة من الظالمين والمحرومة من ابسط حقوقها والمجروحة من سهام الحاقدين ، نشرت حزنها وآهاتها وفتت روحها بين فواصل تلك الارواق التي احتوتها وشملتها منذ ولادة الألم معها مثل ظلها مع غياب شعاع الشمس ومثل صورتها التي تعكسها المرآة ومثل قرينها المرافق لصاحبه .
امسكت القلم بيدها وهي تتوقف على ورقة بيضاء فارغة تنتظر منها ملئها بما يعتمل بقلبها ولا تفضيه لأحد ، لتقرب رأس القلم من سطح الورقة وهي تشن الحرب عليها وتترجم كلامها وتعبيراتها ومشاعرها بالحروف والكتابة
(إلى امي مايرين الفكهاني....
لقد فهمت الآن معنى الامومة ومتطلباتها واحتياجاتها بالشكل الصحيح ، فقد اصبحت تلك الأم التي تؤدي دورها بهذه الحياة بعد ان دارت بها الدورة وجاء الدور عليها .
لقد كبرت يا امي ، كبرت وكبرت معي مفاهيم ومعالم اوضحت جوانب وخفايا بعالمي لم اكن اعلم عنها ، وكأن الألغاز بحياتي قد حلت شفرتها وفكت اصعب احجية بقفل كان معلق بباب قلبي ، فهذه الامومة التي لم افهمها يوما كانت اشمل واوسع من ان ادركها او استوعبها ، حتى عرفت كم من تضحيات تحتاج ! وكم من اوجاع تعاش ! وكم من تفاني وإيثار تأخذ ! ولكنها لا تضاهي رؤية ضحكة نابعة من قلب طفلك ومسحة سعادة ترسمها على محياه الجميل . وما اسوء شعور الوجع او الألم الذي يعيشه طفلك وكأنه يغرس شوك تدمي قلبها بنزيف وتقطعها إرباً !
لقد اصبحت استطيع فهم طريقتك بممارسة امومتك يا امي ، فكل ام لديها طريقة واسلوب بلعب دور الامومة التي ولدت معها بالفطرة ، ومهما اختلفت كل تلك الطرائق والاساليب فهي تؤدي لمسار واحد ونيل الهدف ذاته .
طول هذه السنوات كنت اعيش باعتقاد خاطئ نحوك يا امي ، لم افهمك بالطريقة الصحيحة ، لم اسمح لنفسي بفهمك حقا ! وعندما توضحت الحياة وعشت دوركِ استطيع تفسير وتبرير كل موقف وحدث مررت به وعشته بحياتك ، افهم الآن سبب قسوتك وغضبك نحونا عندما نغيب عن ناظريكِ فترة طويلة ! افهم الآن سبب صمتك عندما تتعرضين للتعنيف والتوبيخ من الجيران وزملائك امامنا ! افهم الآن سبب حرماننا من اللعب خارج المنزل ! افهم الآن سبب عودتك للمنزل بساعة متأخرة من الليل ! افهم الآن سبب زيارتك لغرفتنا ليلاً قبل نومك ! افهم الآن سبب سماع صوت بكائك خلف باب غرفتك المغلق ! افهم الآن سبب شموخك وثباتك وقوتك بمواجهة كل العواصف والكوارث بحياتنا ! انا اصبحت على علم بكل هذا يا امي ، اصبحت افهم حزنك وصمتك وغضبك ومشاعرك ، اصبحت اعلم جوانب شخصيتك وتركيبها العجيب . اعرف اي ام كنتِ عليها واي ألم عشتِ بسبب الجميع ، لقد كنتِ فقط عاشقة ! وخطأكِ الوحيد بأنكِ سلمت نفسكِ لذاك الحب المستحيل الذي ادفعك الثمن غاليا وانشف دموعك عليه !
لقد تعلمت يا امي ، تعلمت الكثير مما لم تستطيعي تعليمي إياه ، تعلمت بأن الحب بدون تضحية لا يسمى حب ، وبأن الحب لا يكون عطاء بدون اخذ ولا سمو بدون تنازل ، وبأن الحب اهتمام ومودة ورحمة وعطف وبدون هذه الصفات يتدمر الحب ويتحول لحرب ابدية لا خلاص منها ، وإذا لم يكن الحب الترياق للسم فلن يكون يوما العلاج ! واهم عاملين باللعب برابط الحب هما التفاهم والثقة واساس بناء كل العلاقات بالمجتمع . وتعلمت كذلك بأن الحب ليس بالمظاهر والاشكال بل بالداخل والاعماق عندما يحب مساوئها قبل محاسنها ، عندما يحب ماضيها قبل حاضرها ، عندما يحب حقيقتها قبل اكاذيبها ، هذا هو ما يسمى بالحب ، وليس ما يتغنى به الملوك والشعراء والمطربين ! بل الحب شيء اوسع واعمق من مداركهم التي تجاري العصر والتفكير الحديث وسبب تدمر جيل طويل بأكمله !
انا اليوم اعترف ولأول مرة بأنني اشبه والدتي كما كان يقول الجميع ، ولكن ليس فقط بطبيعة الشخصية الحادة ، او الحسن والجمال الذي يجذب الجنس الآخر نحونا ، او تطابق ردود الافعال العنيفة اتجاه الآخرين ، او لون العينان القريب من السماء بصفائها والبحر بتقلباته ، او الذكاء الحاد المتوارث بالعائلة ، بل الشبه هو طريقة عيش الألم الخاصة بنا بتدوينها بأوراق صفحات المفكرة وحبسها بقوقعة صمتنا ، فقط الاختلاف بأن والدتي عرفت الألم منذ وقوعها بالحب واكتشافه ، بينما انا عرفته منذ ولادتي وكان موجود معي منذ نشأتي ونموي !
لقد كرهت نفسي سنوات طويلة بسببك يا امي ! لقد كرهت نفسي لدرجة كدت انهي بها على حياتي وارتاح ، كدت اخسر دنياي وآخرتي بسبب لحظات ضعفي وحزني ! كان كل همي بالحياة نيل الراحة والعيش بسلام بين عائلة تعطيني الامان والحب ، وعندما لم اجد اي طريقة للوصول إليها قررت عدم اكمال هذه الرحلة . لقد ضعفت يا امي ! ضعفت كثيرا ، لدرجة تمنيت بها وقلت يا ليتني لم اولد ! وحملتك كل اللوم والحق بولادتي ، وبالنهاية فقدت اهم شيء يملكه الانسان وهو حب الحياة ، ولكن ما لم اتوقعه عند وصولي لطريق مسدودة وعلى شفة من الموت...ان يفتح الحب لي طريق مهدت عليها كل الاشياء التي افتقدتها وسرقت من بؤرة حياتي ! حتى غيرت نظرتي كاملة للحياة ودفعتني لرؤيتها بمنظور آخر جديد...اجل لقد استعددت مشاعري الانسانية وضحكة قلبي وبكائي من الوجع وحب الحياة بكل ما فيها وبجوارحها ، واستطيع ان اقول الآن بأنني ممتنة بحياتي ، لذا شكرا لكِ يا امي ، شكرا على إنجابي...
اعدكِ يا امي من الآن وصاعدا ومن هذه اللحظة سأداوم على زيارتك كل يومين بالأسبوع ، واضع ازهار الوداع والسلام فوق ترابك ، وادعو لكِ بالرحمة والمغفرة لكي يشفع عنكِ وعني ! وكما تفعل ابنتكِ روميساء بزيارتها لقبر والدها كل ما غلبها الشوق إليه .
انا الآن سأعلن حريتك من غضبي وحقدي وعتابي ولومي ، فأنتِ حتى لو كنتِ من اسوء مخلوقات الارض فستبقين المرأة التي انجبتني واعطتني وجود والتي كانت ذات يوم امي ! ولن اتمنى لكِ سوى ان ترقدي بسلام وتنفضي رداء الحزن عنكِ وتعيشي بسعادة ابدية .
احبكِ يا امي ، واشتاق إليكِ دائما ! فهل تسامحيني على اخطائي وهفواتي وتعودين لزيارة احلامي ؟)
تنهدت بهدوء وهي تغضن جبينها وكأنها تتوجع من شيء داخلي ينبض بصدرها ، لتمسح بعدها على رحمها بكفها وهي تغمض عينيها وتفك اسر دمعة يتيمة هبطت على محياها لتسقط مباشرة على سطح الورقة فوق كلماتها الاخيرة ، فتحت بعدها مقلتيها المشبعتين بالدموع الندية وهي تناظر مكان استقرار الدمعة بصمت .
مسحت (ماسة) بسرعة عينيها بظاهر يدها وهي تأخذ انفاسها بقوة وتهمس بتأنيب
"ليس هناك بكاء بعد الآن يا ماسة ! فقد تجاوزتِ كل هذا منذ زمن ، وينتظركِ طفل يحتاج منكِ ان تكوني ناضجة واعية لتكوني الأم المثالية التي يتمناها ابنك"
اغلقت دفترها على الدمعة التي بقيت بمكانها بقلب الورقة ، لتضع بعدها مفكرتها بجانب مفكرة بنفس حجمها ولكن بغلاف مهترئ اكثر يتضح عليها تقدم العمر وطيلة الزمن ، لتسند ظهرها للخلف بهدوء وهي ترفع رأسها ومعها يدها التي يستقر بها خاتم زواجها الألماسي بأصبعها الوسطى بشموخ واعتزاز ، لتعتلي ابتسامة فاتنة فوق محياها حركت الامواج بعينيها بعشق عاصف وهي تهمس بأنشودة الحياة
"هذه قصة حبي انا ، ولا خلاص لي منها سوى بموتي ! فهل لديك القدرة على قتلي ؟"
افاقت (ماسة) على صوت رسالة من هاتفها وهي تخفض نظرها ويدها لتخرج الهاتف من جيب سترتها ، وما ان فتحته امامها حتى ظهرت لها محتوى الرسالة لهف قلبها لها
(احبكِ يا مجنونة ، كم مرة عليّ ان اعيد كي تكفي عن معاقبتي !)
لاحت ابتسامة منتصرة على محياها بانتشاء وهي تهمس بخفوت واثق
"عليك ان تبقى تعيدها حتى تموت عشقا وشوقا !"
رفعت رأسها بضحكة حب اختلجت بأمواج قلبها وهي تضم اصابع يدها على الهاتف وتسندها فوق صدرها النابض...لتخرج بعدها بلحظات هدير انفاسها بارتياح ليزول الألم اخيرا وتحل الراحة مكانها بعد ان كادت تغرق وتختفي ببحر احزانها....ولكنها تعلم بأن الألم طريق له نهاية والسعادة طريق لا نهاية لها بمفترق الحياة...
 

(تمت بحمد لله )🌹🌹.......

بحر من دموع Where stories live. Discover now