الفصل الثالث والخمسون

91 4 0
                                    

بعد مرور اسبوع آخر جاء اليوم المنتظر مكتسي بثوب الفرح ومتدلي بأجراس وزينة العيد لتحل السعادة ضيف بمنزلهم بعد ان قلبت صفحة جديدة تخط بها حكاية ابتدأت من السطر الأول....
كانت تتبسم بسعادة لصورتها بالمرآة التي تعكس كل المشاعر والعواطف التي تخوضها وتخالجها بخلدها....وكأنها على وشك قذف نفسها بمخاطرة جنونية بوسط ساحة احلامها التي يخالف شعور تمنيها عن تحققها....فهي تكون مجرد كلمات وخيالات محصورة برأسها تسعى من اجل تجسيدها واقع بحياتها وخارج حدود الباطن بدون ان تحسب نتائج لحظة تحققها....فكل شيء يكون رائع وجميل بفترة التخيل والحلم ولكن ما ان تدخل برهن التنفيذ حتى تخاف من خسارة كل ذلك بحركة متهورة او خاطئة تندم عليها طول العمر وتسرق منها مهارة التخيل والحلم .
تنهدت بنفس طويل وهي تمسح بيدها على صدرها المكشوف من الأعلى وكأن نيران تشتعل بقلبها وتذيب جلدها الرقيق ، لترفرف بجفنيها الواسعين بسرعة تمنع موجات البكاء من اقتحامها وسكب دموعها ببركتي العسل الصافيتين بهذه اللحظة المهمة بحياتها ، لتمسح اسفل جفنيها بأناملها بقوة وهي تهمس مع نفسها بحزم تأمرها بالتحلي بالمزيد من الشجاعة بعد ان اصبحت على بعد خطوة من حلمها
"هيا يا صفاء لا تضعفي الآن ، فكل شيء على وشك التحقق بهذه الليلة ، وستكونين بالمكان الذي اردتِ الوصول له دوما ، فقط قوي نفسكِ اكثر"
اغمضت عينيها براحة وهي ما تزال تمسح على صدرها بانتظام تحاول تبريد نيران روحها التي استعرت بقارورة مشاعرها ، لتفتح عينيها باللحظة التالية ترفقها ببسمة لطيفة ما ان شعرت بهبوط وشاح الطرحة على وجهها وشعرها بملمس ناعم مثل ألحان الكمان بوقت الافراح ، ليقتحم صوتها الناعم عقلها والتي بات وجهها يرافق صورتها بالمرآة الكبيرة   
"لقد اصبحتِ مستعدة للاحتفال بنصركِ يا اميرتي ، فهذا ما تستحقه الاميرة التي جاهدت طويلا بإثبات قانون الحب بتفكيرها العاطفي الخيالي !"
عضت على طرف ابتسامتها وهي تبعد ستار الطرحة عن وجهها لتكشف جمال العروس المخبئ خلفها...وهي تبدو اميرة بمعنى الكلمة بفستان الزفاف الذي يحدد جسدها الممشوق بجمال وكأنه صمم لها خصيصا بعد القيام بتعديله باللازم وزيادة القماش الابيض الحريري عليه....واما تبرج وجهها الرقيق فقد لائم نعومة وعذوبة ملامحها الجميلة وهو يزيد شعاع الشمس التي اشرقت بأخدود قلبها...بينما رفعت نصف شعرها بشكل كعكة صغيرة فوق رأسها وتركت باقي شعرها منسدل على كتفيها وجانبيها مثل الحرير البني....وتزين رأسها بالتاج الملتصق بالطرحة مطوق بالورود والوريقات ويتدلى الوشاح الابيض الشفاف من حوله بملوكية وكأنها اميرة حكاية بالعصور الوسطى صاحبة العربة الخشبية التي تقودها الاحصنة نحو حفلة زفافها .
اخفضت (صفاء) يديها عن الطرحة وهي تقول بابتسامة خجولة تحادث صورتهما بالمرآة
"كيف ابدو ؟ هل انا جيدة ؟"
كورت شفتيها وهي ترمقها بنظرات جانبية هامسة بخفوت واثق  
"تبدين جميلة جدا ، اجمل ما رأت عينيّ على الإطلاق ! هل هناك جمال اكثر من هذا ؟"
تشربت بشرتها بحمرة الخجل الحارة وهي تضربها على كتفها بخفة هامسة بخفوت ممتعض  
"انتِ تبالغين فقط لكي تخجليني وتجعلي نبضات قلبي تتسارع ، تعلمين جيدا بأن هذا النوع من الاحاديث يضعفني ويزعزع قواي ! وانا حقا لا اريد اي شيء يوترني او يخجلني بهذه المعركة المقدمة عليها ، يكفي بأنني لم انم طول الليل من التفكير والاستعداد من اجل الليلة المنتظرة ، لذا رجاءً لا تزيديها عليّ انتِ ايضا"
عقدت حاجبيها بتفكير وهي تنظر لهما بالمرآة هامسة بخفوت مرح تستمر بإغاظتها اكثر
"ولكنني لا اكذب ، انا حقا اقول الحقيقة ، انتِ تبدين جميلة جدا لدرجة تذيب قلب اي انسان ينظر لكِ ! والصبر والاحتمال على قلب زوجك المسكين الذي سيحظى بكل هذا الجمال دفعة واحدة...."
ضربتها على كتفها بقوة اكبر وهي تصرخ بانفعال حانق توهج بخديها بحياء
"يكفي يا ماسة ، لا تفعلي هذا بي ، اكاد افقد عزيمتي وقوتي بسببك !"
اخفضت رأسها وهي تغطي خديها الحمراوين بكفيها تخفي خجلها المفرط من كلامها ، لتمسك بعدها بكتفها من الجهة الاخرى وهي تقول بابتسامة متملقة  
"ما بكِ يا عزيزتي صفاء ؟ تتصرفين وكأنكِ عزباء لم يسبق لها الزواج ! ولن يصدق احد بأنكِ تحملين طفل منه يقارب الشهر الرابع ، كيف جاء ذلك الطفل يا ترى ؟"
رفعت رأسها بلحظة وهي ترميها بنظرات غاضبة بعبوس هامسة باستياء  
"ماسة !"
امسكت (ماسة) بيدها الحرة خدها وهي تداعبها قائلة بابتسامة شقية
"لا تحزني يا قطعة السكر ، لقد كنت امزح معكِ فقط ، وتعلمين جيدا بأن مزاحي يكون ثقيل مع الاشخاص المهمين جدا بحياتي ، لذا لا تأخذيها على محمل الجد وتكوني بكل هذه الحساسية"
ابعدت يدها عن خدها وهي تدير وجهها للأمام بملامح عابسة بغضب ، لتشدد بذراعها حول كتفيها وهي ترفع اصبعيها السبابة والإبهام وتشير لشفتيها هامسة بمحبة 
"ابتسمي فلا شيء يستحق حزنك"
اعتلت ملامحها ابتسامة صافية وهي تدير وجهها نحوها لتشير بيدها بأصبعي السبابة والإبهام تقلد حركتها ، لتهمس بعدها بخفوت حزين استحضرت غلالة الدموع بمقلتيها
"لن انسى هذه العبارة ابدا ، لقد كانت منقذتي من الكثير من المآسي والاحزان !"
مسحت بسرعة خديها بأصابع يدها وهي تقول بابتسامة جادة
"إياكِ ان تبكي الآن ، ستفسدين مستحضرات تجميلك التي تعبنا كثيرا عليها ، وبدل ان تخرجي عروس الاحلام التي نتمناها ستصبحين عروس التعاسة التي تبكي بيوم زفافها !"
اومأت (صفاء) برأسها وهي تتنفس بقوة تحاول تهدئة ثورة قلبها التي حركت مشاعرها ودموعها ، لتقول بعدها بلحظات وهي ترمقها بنظرات حزينة  
"سأشتاق إليكِ كثيرا ، لن تتخلي عني من بعد هذا الزفاف صحيح ؟ فأنا مازلت احتاج إليكِ"
مالت ابتسامتها بعطف وهي تعانق رأسها بذراعها وتضمها لها بقوة لتقبل بعدها رأسها هامسة بتأكيد
"لن اتخلى عنكِ يا مصيبة فوق رأسي ، فقد تعهدت بحمايتك منذ كنتِ طفلة باكية يستغل الجميع نقاط ضعفها ويتلاعب بمشاعرها"
تنفست بهدوء وهي تبتسم بنعومة راضية قبل ان تبتعد عنها بلحظة ما ان استقامت الاخرى قائلة بخفوت جاد
"هيا يكفي مواقف عاطفية واحزان ما قبل مراسم الوداع ، فهناك حفلة زفاف تنتظرنا ، وايضا لكي لا نؤخر حفلة زفاف الثنائي الآخر ، فأنا لم اصدق بعد بأن جواد قد وافق على مشاركة ذاك الزوج حفل زفافه ! أليس غريبا ما يحدث ؟"
عدلت الطرحة فوق رأسها امام المرآة وهي تقول بابتسامة هادئة تشاركها بالرأي
"انتِ على حق ، وانا ايضا قد صُدمت عندما عرفت بتقسيم الزفاف الجديد وإدخال زوج آخر بعدنا ! فقد كانت تخبرني عمتي هيام دائما بالكره الشديد الذي يطمره جواد لشقيقه بالرضاعة وتحميله كل المسؤولية بمعاونة والده بتدمير حياتهم ! بالرغم من انه لا ذنب له بأفعال وتصرفات والده والتي كان بريء منها ، لذلك تفاجأت عندما علمت بمشاركة شقيقه وزوجته بزفافنا بنفس القاعة والمكان ولكن بوقت مختلف عنا ! ومع ذلك لن اخفي عنكِ سعادتي من اجل الجميع فهذه بداية خير للصلح بينهم وبدء انفكاك التشققات بالعائلة"
كتفت ذراعيها فوق صدرها وهي تشيح بوجهها هامسة ببرود باهت
"يا له من رجل حقود غير متسامح ! لم ارى بحياتي من يحمل شر وحقد بقلبه اكثر منه"
التفتت بنصف وجهها نحوها وهي تقول بابتسامة رقيقة بحب  
"لا تحكمي عليه هكذا ، فهو قد مر بظروف صعبة جعلته يكون هكذا ، وانا اثق بأنه يحمل قلب طيب بداخل قشرته القاسية يلين عندما يتفهمه الآخرين ويعطونه فرصة للتبرير ، لذا لا تعايري احد من مظهره الخارجي وتصرفاته فقد يكون من ورائها ماضي مريع وكسور سببت له كل هذه التشوهات والعقد ! أليس هذا ما تشعرين به ايضا ؟"
عادت بالنظر لها بملامح باردة وهي تهمس بشبح ابتسامة ساخرة
"اجل بالطبع ، ستدافعين عنه وتبحثين عن كل التبريرات له ، فكما يقال المحب لا يرى سوى ميزاتك والغير محب لا يرى سوى مساوئك وعيوبك ، وانتِ تحبينه لدرجة ان تلغي عيوبه الواضحة وتصورينه الانسان الانقى على وجه الارض والمنزه من كل الاخطاء والسلبيات ! أليس كذلك ؟"
ادارت وجهها بسرعة وهي تدس خصلاتها خلف اذنها هامسة بخفوت يشوبه التوتر
"ليس الامر هكذا كما يصور لك ، اقصد ليس حرفياً !"
تغضنت زاوية ابتسامتها بلطف وهي تربت على كتفها قائلة بعطف 
"ولكن الجانب الجيد بالأمر بأنه قد بدأ يسامح ويصفح عن الجميع ، والدليل هو مسامحته لابن عمه والسماح له بعمل حفلة زفافه معه ، وهذه خطوة كبيرة اتخذها جواد نحو محي الماضي واحقاده ونسيان ما فات ، فقد بدأت مسامحة الماضي عندما وقع بحبك بالوقت الذي كان يقرر به الانتقام منكِ ! فلم يتصور ان ينقلب الانتقام عليه ويكون قد انتقم من نفسه ! وهذا يعني بأن الفضل الاكبر يعود لكِ بفتح صفحة جديدة بحياته تصالح بها مع ماضيه واغلق سجل الحساب للأبد"
حانت منها نظرة نحوها وهي تهمس بابتسامة حالمة بشرود
"كم يسعدني حدوث ذلك ، يسعدني كثيرا"
غامت ملامحها بصمت وهي تسحب يدها وتلتفت نحو باب الغرفة ما ان سمعت صوت الطرقات القوية من خلفه ، ليُفتح الباب بلحظة بدون انتظار ويظهر منه الطارق صاحب الحضور الطاغي بالمكان وبقلب معشوقته ، وما ان توقف بنظره على الجالسة امام طاولة الزينة تسرح به بهيام وببسمة طافت بمجرى قلبها حتى رفع يده نحوها وهو يقول بقوة
"هل تسمحين لي بهذا الشرف ؟"
تراجعت (ماسة) للخلف وهي تعطي مجال وطريق للتي نهضت عن كرسيها بصمت بدون ان ترى احد امامها بعد ان استحوذ صاحب الدخول على عقلها ، لتتقدم بعدها بخطوات بطيئة تتعثر بطرف ثوبها وهي تسير بخط مستقيم وقدماها تجران بها طوعا وقلبها اصبح يمسك زمام السيطرة ، وما ان اصبحت امامه حتى حطت بيدها الصغيرة بكفه بهدوء والتي اقفلت عليها بكل تملك وقوة حتى لم يعد هناك طريق للهروب ، وما هي ألا لحظات صمت مرت بينهما وحكت القلوب حكايتهما حتى كان يسحبها بقوة ويحتضنها بين ذراعيه وبداخل صدره يكاد يغرزها بضلوعه التي تعبت محاربتها وإبعادها واقصائها من قلبه حتى خر صاغرا مستسلما امامها .
اخرجت وجهها من صدره وهي تريح جانب خدها مكان ضربات قلبه تتنعم بذلك الدفء وتلك المشاعر التي تاقت بشدة لتجربتها معه بأحلامها ، لتسمعه بعدها يهمس بالقرب من رأسها بخفوت اجش حامي
"احبكِ"
اتسعت ابتسامتها بسعادة غامرة وهي تعانقه كذلك بذراعيها حول خصره وهي تجيبه بخفوت خجول متوهج
"وانا كذلك"
زفر انفاسه بقوة وهي تخرج من سباق طويل بالحياة ليدفن وجهه بطرحة شعرها وكأنه يستنشق رحيق الورود العطرة بالطوق الذي امتزج بها وكأنها جنة حياته ، بينما كان الفرد الثالث يراقب بهما بابتسامة عبرت تقاطيع ملامحها تسبح بمياهها وتستقر بزورق الامان والطمأنينة على شقيقة روحها التي لم تلدها امها .
_____________________________
كان يقف بين الحضور وهو يراقب جميع الموجودين بعينين ثاقبتين مترصدتين والهاتف على اذنه ، ليشتم بعدها بقوة ما ان فصل الخط من الطرف الآخر قبل ان يتمتم بكبت
"اين اختفت تلك المجنونة ؟ اكاد افقد عقلي !"
حاول مرة اخرى الاتصال بنفس الرقم الذي اعاد الاتصال عليه مرارا وتكرارا منذ ساعات متواصلة من خروجه من المنزل ، وهو لا يعرف اي اثر او طريق لها بعد ان تركته غارق بأحلامه بالعسل وتسللت هاربة خارج المنزل وعش الزوجية كعادتها التي لا تقلع عنها ، بدون ان تنسى ترك رسالتها الكتابية التي اصبحت تقليد شامخ بينهما مثل ايام زمن العشاق الذين اكثر ما كانوا يعتمدونه بالتعبير عن الحب بالرسائل والكتابات والاشعار .
اغمض عينيه بشدة وهو يطبق على اسنانه يستذكر محتوى الرسالة التي تركتها خلفها تتكلم نيابة عنها 
(اعتذر بشدة على هذا ، اعتذر من كل قلبي ، ولكن زوجتك مضطرة لمغادرة المنزل باكرا بيوم العطلة ومساعدة صديقتها المقربة بحفلة زفافها ، لذا لن اكون متفرغة لك من اجل مناقشتك بهذا الموضوع واخذ موافقتك عليه ! واتمنى ان تسامحني على تمردي واتخاذ قراراتي بدون الرجوع لك ! تعلم جيدا بتفاصيل الحفلة ومكانها وموعدها ، وقد تركت لك بذلتك السوداء الفاخرة مكوية ومرتبة بالخزانة .
واقبل مني كامل محبتي وقبلاتي الخالصة لك ، اراك بعد ساعات من الآن ، معك محبوبتك المجنونة !)
زفر (شادي) انفاسه بصفير خافت وهو يحرك رأسه بيأس ويبتسم تلك الابتسامة الملتوية التي تلون علاقتهما بمتعة خاصة ، ليفتح بعدها عينيه على صوت الضوضاء التي ازدادت من حوله بصخب وهو يركز نظره مع الجمهور صوب الجهة التي ظهرت منها العروس برفقة والدها يسيران بطريق المنصة ، لتنقبض يده لا إراديا على الهاتف بجانب اذنه ما ان وصلت محبوبته المجنونة التي هربت منه بغفلة عنه .
كانت تسير من خلفهما مثل الملكة وهي تمسك بباقة الازهار البيضاء الخاصة بالعروس وتتهادى امام العيون بخطوات راقية واثقة تطعن قلوب الجميع وتنغرز بالصميم...وهي ترتدي فستان ليلكي فاتح لأول مرة تجرب الألوان الفاتحة عليها والتي ابهرته بالنتيجة الواضحة....فستان طويل يصل حتى كاحليها بأكمام مفتوحة عند المرفقين بتصميم اجنحة الفراشة...وينزل على وركيها وباقي جسدها بانسياب منفوخ لينتهي بدائرة مستديرة واسعة وكأنها غيمة تحلق بأعالي السماء....واما شعرها فقد كان مموج بلفائف متراصة فوق بعضها البعض تمسكها بمشابك شعر صغيرة وهو ينسدل على طول ظهرها بحرية وسلاسة وتتراقص بعض الخصلات القصيرة على جانبيّ وجهها بمشاغبة مداعبة .
تنفس بصدر تضخم بمشاعر تلظى نار بقلبه وكأنه يراها للمرة الأولى بجانب جديد من شخصيتها ناعمة مثل زهرة الشتاء وباردة مثل ضوء القمر وجميلة مثل فراشة ملونة خرجت من شرنقتها ، ضاقت حدقتيه بلحظة ما ان تركز بصرها عليه وهو يغرق بسطح امواجها الجامحة التي اهلكته حد التعب والاستنزاف ، ليلاحظ حركة يدها التي اشارت بجانب اذنها بأصبعي السبابة والإبهام بشكل الهاتف الذي ما يزال على اذنه ، ليرتفع حاجبيه بإدراك وهو يخفض الهاتف عن اذنه ببطء بدون عجلة كما يتمهل بتأملها وحفظها ببطء وإمعان شديدين .
قطع حوارهما الصامت تداخل اصوات الشهقات الفجائية بالأجواء والتي دفعتها لتدير وجهها بلحظة وتعلق بنظرها هناك ، انعقد حاجبيه بصدمة وهو يراقب شحوب ملامحها وتحجرها حتى سقطت باقة الازهار من بين يديها بلحظة خاطفة بدون ان تشعر ، ليلتفت برأسه بفضول ناحية الذي جذب انتباهها وتركيز الحاضرين ليُصدم بشكل العروس الملقاة على الارض بين ذراعيّ العريس وهي تبدو فاقدة للوعي والجميع متجمهر من حولهما .
بغضون دقائق كانت العروس تتحرك تدريجيا وهي تستعيد شعورها بالواقع وتتمسك بملابس زوجها بتشبث ، وما ان ساندها واوقفها على قدميها من جديد حتى اخذها بين احضانه بقوة وهو يدفنها هناك ويشدد العناق من حولها بمشاعر خوف وانكسار وحزن ظهرت للعلن بين المتجمهرين من حولهما بدون ان يأبه بأحد منهم ، فعندما يصل الانسان للخوف ويوشك على فقدان كل شيء بلحظة غادرة ينسى المكان والزمان والواقع ويركز فقط على الفرصة التي منحها إياه القدر !
ابتسم (شادي) بهدوء وهو يعود بنظره للوجهة الأولى بمحور حياته وخاطفة قلبه ، لتختفي الابتسامة بلحظة عن محياه ما ان شاهد فراغ مكانها الذي لم تعد موجودة به وكأنها حلم بالمنام ، وما يثبت صحة رؤيته لها هي باقة الازهار البيضاء الملقاة ارضا بإهمال بعد ان تركتها ورحلت مثل قصة سندريلا التي تترك الحذاء ورائها وتهرب ما ان تدق الساعة منتصف الليل ، ولكن الاختلاف بقصته بأنها قد هربت من شيء آخر مجهول لا يمت لموضوع تلك القصة الخيالية بصلة !
_______________________________
خرج للشرفة والمكان الأول الذي توقع وجودها به بعد هروبها وانسحابها من حشد الحفلة ، لتنفرد مع نفسها بوحدتها الخاصة التي تعتبرها ملجئها ومهربها وعالمها الذي لم يستطع يوما السطو عليه وتثبيت علم الاحتلال بأرضه ، وكل ما فهمه بأنها قد قررت الهروب من مشاعرها التي طافت على السطح ما ان شاهدت سقوط صديقتها ارضا بوسط الحفلة ، فهو قد بات يشعر ويتفهم تقلبات مشاعرها المتغيرة بكل دقيقة التي تبدو مثل امواج المحيط لا يستطيع احد التنبؤ بأوقات هجوم امواجها الغاضبة وبسكونها الهادئ الحزين وبنعومتها الساحرة التي تبهج القلب والروح .
تنفس بهدوء وهو يتقدم منها عدة خطوات ويقف بجوارها امام حاجز الشرفة الذي يطل على حديقة كبيرة موحشة سابحة بالسواد ، ليقول بعدها بابتسامة هادئة وهو يشرد بالمكان امامه كما تفعل يشارك سكون امواجها الحزينة
"ماذا تفعلين هنا بينما الحفلة على وشك ان تبدأ بالداخل ؟ ألا تريدين الاطمئنان على حالة صديقتك الصغيرة ؟ ماذا تفعلين هنا ؟"
اخفضت (ماسة) رأسها بهدوء وهي تضم مرفقيها فوق حاجز الشرفة قبل ان تهمس بخفوت باهت  
"انا بخير هنا ، اُفضل البقاء هنا فترة اطول"
عقد حاجبيه وهو يحيد بنظره نحوها يتأمل جانب وجهها البارد الشبيه بالرخام ، ليقول بعدها بشبه ابتسامة  
"لماذا ؟ ما لذي ضايقك هكذا ؟ من ماذا تهربين ؟"
حركت كتفيها بصمت وهي تهمس بخفوت جليدي  
"احيانا احتاج للحصول على وقت مستقطع بالانفراد مع نفسي بين الحين والآخر ، فأنا والضجيج لا نجتمع معا ولا نملك علاقة جيدة بيننا !"
غامت ملامحه بوجوم وهو ينصب مرفقه على الحاجز ويسند ذقنه فوق قبضته قائلا بابتسامة عميقة
"هناك سبب وراء ذلك ، فأنتِ لا يخرج منكِ تصرف او فعل من عبث بدون ان يكون هناك سبب ! لذا هلا اخبرتني بهذا السبب ؟"
رفعت رأسها وهي تمسك الحاجز بيديها ويساندها بوقوفها قبل ان تقول بشفتين متبرمتين باستياء  
"انا اهرب من نفسي ، اهرب من لومها ، ومن ذنبها ، ومن استيائها ، لقد هربت لكي لا اعيش كل تلك المشاعر وافسد اجواء الفرحة !"
قبض على اصابع يده حتى ابيضت مفاصلها وهو يقول بابتسامة حائرة بدون ان يظهر اي من مشاعره الداخلية
"بماذا انتِ مذنبة ؟ هل كنتِ السبب بغياب صديقتك عن وعيها ؟ ام كنتِ السبب بتلك الفوضى التي حدثت هناك ؟ لماذا تشعرين بنفسكِ مذنبة ؟ لماذا !"
ادارت رأسها نحوه بسرعة وهي تهمس بانفعال لا إرادي
"لم اذنب هذا الذنب الكبير ؟ لم افعل لها شيء يؤذيها عن قصد ! انا لا اقصد افعالي ، ولكني ، ولكني...."
بترت كلماتها الاخيرة بتوتر ليرفع رأسه بعيدا عن قبضته وهو يستقيم امامها قائلا بهدوء حازم
"ولكن ماذا يا ماسة ؟ ألا تستطيعين مصارحتي بما يجول بداخلك ؟ هيا تكلمي"
ابتلعت (ماسة) ريقها بجمود وهي تعيد نظرها للأمام قائلة بابتسامة حزينة بانت تقاطيع حولها
"لقد اذنبت بعدم اهتمامي بها ، فقد امضيت طول اليوم معها ولم اقدر على الانتباه لها كما يجب ! وبدل ان اساعدها بهذا اليوم المهم بالنسبة لها جعلتها تتوتر اكثر واربكتها بكلماتي وحركاتي ! انا اعرف صفاء منذ كنا اطفال بالخامسة من عمرنا ، فهي تملك عادة او مرض ملتصق بها عندما يصل بها الحماس والتوتر اقصى درجاتهما تفقد وعيها لا شعوريا ، الامر ينطبق على الخوف والقلق كل هذا يؤدي لغيابها عن الوعي ، وكأن مشاعرها تخرجها كلها دفعة واحدة حتى تؤذي نفسها بنهاية المطاف ! وهذا كان يحدث كثيرا بأيام المدرسة الابتدائية وكنت انا السبب بأغلب تلك الحوادث التي تفقدها وعيها ، فكيف الآن وهي تحمل طفل بأحشائها ؟ لقد اقسمت على عدم اذية احد من المقربين مني ، ولكني دائما ما اعود وانكث قسمي وافسد كل شيء بلحظة ! كان عليّ ان اكون اكثر حرص بانتقاء كلماتي وتصرفاتي معها ! لماذا دائما عليّ ان افسد الامر هكذا ؟ لماذا لا افكر بعواقب افعالي بالآخرين ؟"
كان (شادي) يحدق بها بهدوء وهو يفسر كلامها بعقله بثواني قبل ان يقول بتفكير جاد
"تقصدين بأن هذا هو السبب بغيابها عن الوعي ! الآن عرفت لماذا قررتِ قضاء هذا اليوم معها !"
ابتعدت عن الحاجز وهي تلتفت نحوه هامسة بخفوت واجم وكأنها تحمل نفسها كامل المسؤولية
"اجل ولكني لم افلح بما فعلت ! لقد حملتها فوق طاقتها الطبيعية وحدث كما كان يحدث بالماضي ! فهي رقيقة جدا مثل النسيم وسريعة التأثر والانكسار مثل الزجاج ، واعتقد بأن هذه الصفة قد ورثتها عن والدتها رحمها الله ، فقد كان سبب وفاتها هو التعب الدائم وعدم تحمل جسدها الامراض . لقد اردت مساعدتها حقا ، ولم اتوقع ان يحدث هذا معها ، يبدو بأن مساعداتي ومحاولاتي تنتهي دائما بالإخفاق والفشل ! لذا لا احب ان يحملني احد الثقة بشيء او ان اكون له المنقذ والبطل ، لأني اصبح غبية جدا عندما يتعلق الامر بمساعدة احد ! اقدم له كل ما استطيع من جهد واحصد فقط الدمار والخراب ، لا اعرف كيفية التصرف او التعامل مع كل هذا ! هذا الامر يزعجني جدا . فقط اريد ان اعرف ، لماذا اصبح غبية جدا عندما اصادف مثل هذه المواقف ؟ لماذا ؟"
قطب جبينه بجمود وهو يرفع يده ويشير بأصبعه لخدها قائلا بابتسامة باردة
"نعم انتِ غبية ، غبية جدا يا ماسة"
ضاقت حدقتيها الزرقاوين باحتباس الدموع وهي تضرب اصبعه بعيدا عنها ، لتهمس بعدها بخفوت حانق  
"شكرا لك على المجاملة"
التفتت مجددا للأمام وهي تريح مرفقيها فوق الحاجز بصمت عاصف بعد ان تحولت لأمواج غاضبة ، لترتفع ابتسامته بهدوء وهو يمسك بكتفها ويديرها نحوه بهدوء ، وما ان وقفت مقابلة له وهي ما تزال تتحاشى النظر له حتى انحنى بوجهه امامها تماما قائلا بخفوت عميق
"لا تنزعجي مني يا ألماستي ، انا فقط كنت اصارحك بالحقائق ، لكي تتقبليها وتحاولي تغييرها للأفضل !"
رفعت عينيها الجامحتين نحوه وهي تقول بجمود متصلب
"ابقي هذه الحقائق لنفسك ، فأنا لا احتاجها"
عض على طرف ابتسامته وهو يرفع وجهه سنتمترات يستنشق لفائف شعرها المصفوفة فوق رأسها مثل زهور اللوتس ، ليقول بعدها بانفعال هادر  
"لا تتصرفي بكل هذا التبجح والتعالي ! فأنتِ لست سوى جبانة صغيرة تخاف من مواجهة المواقف والحقائق بحياتها ! ودائما ما تستخدم الهروب وسيلة بالاختباء من نفسها ومشاعرها ، ماذا سينفعك الهروب منها إذا كنتِ سوف تصادفينها بحياتك فيما بعد ؟ انتِ فقط تضيعين وقتا من عمركِ هباءً !"
زمت شفتيها بامتقاع وهي تزيح عينيها بعيدا عن سطوته التي باتت تسيطر عليها ، لتهمس بعدها بلحظات بخفوت مرير بتألم  
"انت على حق بكلامك ، فهذا هو اكثر ما افلح به بحياتي ، الهروب كان حجة ووسيلة اغطي بها على اغلاطي وذنوبي ، عندما اخاف من العقاب اهرب ! عندما اخاف من مواجهة الألم اهرب ! عندما اخاف من الشعور بالذنب اهرب ! عندما يحاصرني الجميع ويخنقني اهرب ! حتى عندما اقع بالحب اهرب ! ولكن ما هي الحقوق التي املكها انا بعد ان سرق الجميع مني حقوقي ؟ لقد كان هذا حقي الوحيد بالحياة لكي اعيش واستمر ، بعد ان اخذوا مني صوتي وحريتي وضميري وقيدوا قلبي بالأصفاد ! ماذا افعل غير ذلك ؟ لقد اصبح الهروب حق والحياة خياري"
زفر انفاسه بجهد وهو يحيط جسدها بين ذراعيه ويعانقها امام صدره برفق وعطف ، ليطبع شفتيه على جبينها العريض وهو يهمس بخفوت اجش هادئ
"لا تُحزني نفسكِ يا ألماستي ، فأنتِ الآن قد اصبحت حق من حقوقي ومشاركة حياتك ومشاعرك هو خياري ! لذا إذا ودتِ يوما الهروب من نفسكِ او مشاعركِ فعليكِ بالهروب إلي ، وسأكون اكثر من سعيد باحتوائك وتخبأتك عن العالم بحصون سجني !"
رفعت يديها على صدره وهي تشدد بأصابعها على سترته هامسة بخفوت ممتعض
"يا لك من سجان قاسي القلب !"
رفع رأسه عاليا وهو يضحك بمرح يضرب بقلبه بصخب فوق وجهها ترتعش له مفاصلها واوردتها ، لتدفعه بعيدا عنها بقوة وهي تقف على بعد خطوات منه لتلوح بذراعها جانبا وهي تقول باستنكار عابس  
"لماذا لحقت بي إلى هنا ؟ ماذا كان الداعي للمجيئ خلفي ؟ الآن سنثير الشكوك بين الناس بعد اختفائنا سويا من المكان ، ماذا سيفكرون بنا الآن ؟"
ارتفع حاجبيه ببرود وهو يرفع يده الاخرى التي لم تنتبه لها بالباقة البيضاء التي سقطت منها بالحفلة وهو يقول بخفوت جاف
"لقد اردت ان اعيد لكِ باقة الازهار التي سقطت منكِ بدون ان تنتبهي ، فليس من اللطيف تركها ارضا تحت اقدام الناس يدهسون عليها ! وانا احب الاحتفاظ وحماية كل ما يخصك وتملكينه ، وهذا شيء غالي لا يجب التبذير به !"
حدقت بباقة الازهار بيده وهي تمسد على جانب ذراعها هامسة بخفوت بائس
"يا إلهي ! هذه الباقة ليست ملكي بل هي لصفاء ، لقد كنت امسكها لها ، ستقتلني عندما تكتشف اختفائي بها !"
تغضنت زاوية ابتسامته وهو يقدم باقة الازهار لها قائلا بخفوت واثق
"إذاً خذيها وقدميها لها ، اقتحمي الحفلة بقوة كما فعلتِ بالمرة الأولى واكملي الطريق الذي قطعته واعطيها باقتها ، فأنتِ تملكين هذه القوة والمقدرة ، وسترين بأنها حل افضل من الهروب !"
اومأت برأسها بصمت وهي تمسك بالباقة بكلتا يديها بحرص وتأخذها منه ، وما ان ابتعدت خطوة حتى وجدت يدين تكبلان خصرها وتقربانها منه بلحظة وهو ينتهز فرصة وجودها ، لترفع رأسها بارتباك وهي تراقب انقلاب ملامحه بصلابة ليدنو بلحظة بالقرب من وجهها حتى بات على بعد إنشات وهو يتمتم بخفوت حامي
"هل ظننتِ نفسكِ ستهربين من هذه المواجهة ؟ لقد هربتِ من المنزل بالصباح الباكر بدون ان تخبريني بشيء ! فقط تركتِ رسالة خلفك ورحلتي ، لا وايضا لا تجيبين على اتصالاتي وتتجاهليني ! انا اتساءل ما هو العقاب الذي يليق بكِ على سوء سلوكك وقلة تهذيبك ؟"
عضت على طرف شفتيها بخزي وهي تخفض نظرها هامسة بخفوت متذمر  
"ولكني قد اعتذرت لك بالرسالة وشرحت لك اسبابي ، ألا تستطيع فقط الصفح عني ؟"
شب اصابعه بخصرها الغض وهو يلصقها بصدره الصلب قائلا بفحيح خافت شرس
"كلا هذا لا يكفيني ، ولا يمسح شيء من ذنبك !"
رفعت رأسها بتردد وهي تضع باقة الازهار بينهما وتخفي وجهها بها هامسة بلطافتها المشاغبة
"اعدك ان ارضيك عند عودتنا للمنزل ، واجبرك على مسامحتي والصفح عني"
مالت ابتسامته بشغف وهو يلين بأصابعه على خصرها ويستنشق عبير الازهار بينهما قبل ان يقول بتملك
"كيف ستفعلينها ؟"
رفعت يدها الاخرى وهي تمسك بياقة سترته لترتفع بعدها على اطراف حذائيها وهي تصل لجانب اذنه قبل ان تهمس بها بوله وحب
"سأكون ملكك وحدك الليلة"
اتسعت ابتسامته براحة وهو يستشعر قبلتها الناعمة على خده تثبت الكلام بالأفعال وتطبع سحرها الخاص بوسط مملكته ، لتبتعد عنه خطوتين واسعتين للخلف قبل ان تركض بعيدا ضاحكة بمرح ولفائف شعرها التي تشابه الدمى تتراقص ببهجة وهي تختفي خلف باب الشرفة بلحظة ، ليزفر انفاسه بسخونة عالية وهو يدس يديه بجيبي بنطاله يحاول منع نفسه من اللحاق بها وبث اشواقه هناك بوسط الحضور والحشود بعد ان تحولت لأمواج ناعمة ساحرة تبهج القلب والروح !
_______________________________
كان يقف بعيدا عن دائرة الجماهير وهو يراقب كل شيء يجري من حوله بعينين باردتين غير مباليتين بما يحدث بهذا العالم ، لقد كانت الحفلة تستمر بعد حادثة فقدان العروس وعيها بلحظة تقديمها لزوجها اثارت الفوضى والتشتت بالمكان لفترة من الوقت ، قبل ان يعود كل شيء لسابق عهده ويندمج الجميع بأجواء الحفلة الملوكية ويتناسى الجميع ما حدث ، ولكن ليس تماما فقد سمع بعض التعليقات اللاذعة من الضيوف المتملقين بعد حادثة سقوطها تغرس الشوك بظهره وتسفك دماء كرامته
(هل رأيتِ افعال عصافير الحب ؟ منتهى الابتذال والتصنع)
(لم ارى بحياتي من يمتلك هذه الجرأة مثلهما ، يعيدان زواجهما ويقيمان حفلة وهما كانا مرتبطين بالفعل ! هل كل هذا من اجل التباهي ؟)
(لقد غابت الآن عن الوعي بين احضان زوجها ، لا نعلم ما سيكون عليه العرض القادم !)
(اشك بأن تكون حامل من الفترة التي قضتها بزواجها الاول ، وقد تكون ايضا حامل من قبل زواجهما ، وألا لماذا كانا يخفيان عن العالم امر زواجهما السري بدون اي تشهير ؟)
(لقد سمعت بأن هناك عداوة بين العائلتين جعلت الفتاة اضحية بينهما ومعاهدة صلح)
تجهمت ملامحه وهو يرفع الكأس ويشرب العصير بها جرعة واحدة علها تطفئ تلك النيران الهائجة بخلده تلهب حواسه ، يكفي مشهد رؤيته لتلك الساحرة الصغيرة التي ازدادت بهاءً وجمالا عن السابق وكأنها تشرق وتشع برفقة الرجل الذي احبته واختارته عليه ، فمن قال بأن الانسان لا يتغير عن اصل نشأته وتربيته بل هو يتغير والدليل هو تغيرها واختلاف شخصيتها التي عرفها طويلا حتى باتت فتاة اخرى لا يعرفها ولا تشبه نفسها القديمة التي تربى معها منذ مراحل طفولتهما !
ارتفع حاجبيه بانتباه ما ان جذب سمعه صوت طرقات الحذائين العاليين بقربه قبل ان يأتيه الصوت الانثوي الخافت باتزان  
"مساء الخير يا مازن ، كيف هي الاجواء معك ؟"
تغضن جبينه بوجوم ما ان تعرف على الصوت المألوف وهو يقول بابتسامة جامدة
"ماذا تفعلين هنا ؟ هل انتِ مدعوة للحفلة ؟"
توقفت على بعد مترين منه وهي تقول بابتسامة هادئة بدون ان تتأثر بفظاظته
"لماذا تسأل ؟ هل انا اضايقك بوجودي ؟"
ادار رأسه نحوها بحركة عابرة وهو يقول ببرود
"لم اقصد هذا بكلامي ، ولماذا اتضايق منكِ ؟ وانا اراكِ كل يوم بالعمل !....."
عض على طرف شفتيه يصمت عن الكلام ما ان مرت عينيه على فستانها النيلي الطويل الداكن ينساب على جسدها بنعومة وهدوء يمثل اتزان وبساطة شخصيتها الداخلية ، بحزام مطرز بالفصوص حول خصرها بالإضافة على اكمامها الطويلة المتدلية بأساور حول معصميها وتزين ياقتها المثلثة تغلقها بأزرار اعلى صدرها ، واما شعرها فقد كان معقود بذيل حصان خلف رأسها تنسدل منه بعض الخصلات الناعمة على كتفيها وجانبيها .
توقف برحلة تأمله عند وجهها الناعم بتبرج بسيط عملي وهو يقول بابتسامة مائلة بمغزى
"يبدو بأنكِ قد جهزتِ نفسكِ جيدا للحفلة ، هذه اول مرة اراكِ بها بملابس مغايرة عن ملابس العمل الرسمية !"
اطرقت (رجاء) برأسها للأسفل وهي تمسك بأطراف ثوبها هامسة بخفوت متبرم
"لم تحدث مناسبة مهمة بحياتي حتى اتزين لها ، لذا استغليت هذه الفرصة وحاولت ان ابدو بمظهر جيد يليق بطبيعة الحفلة ، ولم اتوقع ان تكون الحفلة بهذه الاماكن الفخمة التي تفوق تصوراتي عنها !"
ضيق حدقتيه العسليتين بتفكير وهو يقول بخفوت صريح
"لماذا كل هذا الإحباط ؟ تبدين جيدة جدا من وجهة نظري ولا تحتاجين اي تعديلات على مظهرك ، فأنتِ داخلك يمثل نفسكِ الخارجية"
توترت ملامحها وهي ترفع نظرها بصدمة يتبعها حياء تجلى على محياها ، لتدس بعدها خصلة من شعرها خلف اذنها هامسة بخفوت ممتن
"شكرا لك على المجاملة ، لقد رفعت معنوياتي كثيرا"
ادار (مازن) رأسه للأمام وهو يقول بخفوت جاد
"لم تجيبي على سؤالي للآن ، من اين تلقيتِ الدعوة لحضور الحفلة ؟"
زمت شفتيها بامتقاع وهي تخفض يدها هامسة بعملية
"لقد دعاني السيد جلال للحفلة ، واصر عليّ كثيرا الحضور لها وان اكون موجودة بينكم بهذا الحدث ، ولم ارد ان اخيب ظنه بي بعد ان احرجني بطلبه ، لذا اتيت وحضرت للحفلة"
اومأ برأسه بشرود وهو يتمتم بشبه ابتسامة ساخرة
"لقد كان عليّ توقع ذلك ، يحاول كسب قلبها بعروض رخيصة !"
عقدت حاجبيها باستغراب وهي تقول بعدم فهم
"هل كنت تتكلم عني للتو ؟"
تجمدت ملامحه بلحظة وهو يقول بجفاء
"هل تظنين نفسكِ محور الكون حتى اتكلم عنكِ ؟"
كورت شفتيها بامتعاض وهي تعيد رأسها للأمام بصمت ، بينما شرد الآخر بأفكاره وهو يتذكر عندما اكتشف خطة والده بتزويجه بالعروس المختارة التي لم تكن سوى العاملة التي اقحمها بحياتهم ، ولم يحتاج الامر لذكاء كبير حتى يكتشف الرابط بينهما وسبب توظيفها مساعدة بجانبه لتدخل بمحيط عمله وحياته الخاصة ، فقد فعلها والده بدهاء وادخلها لحياته قسرا وابقاها نصب عينيه حتى يرضخ ويعلن استسلامه امام رغبة والده بزواجه بها .
قطع شرود افكاره صوتها وهي تقول بهدوء متزن تراقب الاجواء حولها
"لماذا تقف هنا بالزاوية بعيدا عن الجميع ؟ ألا تفضل مشاركة فرحة شقيقتك بزفافها ؟ فأنت فرد من عائلة العروس بعد كل شيء"
حدق (مازن) امامه بعينين قاتمتين وهو يقول بابتسامة باردة
"اُفضل البقاء هنا والاكتفاء بالمشاهدة ، فاقترابي من هناك قد يكلفني الكثير ، وانا لا اريد حقا افساد فرحة احد !"
رمقته بطرف حدقتيها بجمود وهي تقول باستنكار عابس
"ولكنك واقف هنا منذ مدة ، حتى عند غياب العروس عن الوعي لم يحرك بك ساكن ! لماذا تتصرف بكل هذا البرود ؟"
غامت ملامحه بقسوة وهو يحيد بنظره نحوها قائلا باستهزاء واضح
"لم اكن اعلم بأن هناك من يراقبني ، منذ متى اصبحت بكل هذه الاهمية بحياتك ؟"
اشاحت بنظرها بسرعة وهي تمسح جانب وجهها بظاهر كفها هامسة بخفوت متلبك بعد ان تلقت ضربة مباغتة
"ليس هذا هو المقصد بكلامي ، لقد كنت اراقبك بشكل عشوائي وليس بشكل دائم"
تجول بنظره على قوامها بتسلية قبل ان يقول بهدوء متسائل يغير صيغة سؤالها
"بل ما لذي تفعلينه انتِ هنا ؟ لماذا لا تشاهدين الحفلة عن قرب بما انكِ حضرتي لها ! ام تحبين مشاركتي بالمشاهدة معا ؟"
عضت على طرف شفتيها بغيظ وهي تكتف ذراعيها بلحظة هامسة بخفوت مشتد 
"ليس لأني احب ذلك افعلها ، فأنا لست مولعة بالبقاء معك بمكان واحد ! ولكن الدافع اقوى مني بما انني لا اعرف احد هنا بهذه الحفلة الغريبة عني ، وانا اشعر بنفسي مثل الفضائية بمكان لا انتمي له ! لذا لن تمانع لو بقيت معك هنا فترة اطول حتى تنتهي الحفلة"
ادار عينيه بملل وهو يتمتم بلا مبالاة
"افعلي ما تشائين"
اعتلت ملامحها ابتسامة انتصار وهي تستند على الجدار بجواره كما يفعل ، لتقول بعدها بلحظات بهدوء وهي تشرد امامها     
"هل تعلم شيئا ؟ هذه الاجواء تذكرني كثيرا بأيام عملي خادمة بهذه الاماكن ، تحضر العصير وتنظف بقايا الطعام وتمسح الارضيات وتعزل المكان بعد مغادرة الضيوف وانتهاء الحفلة ، لقد كان عمل مهلك جدا ومذل من الناحية النفسية والجسدية بسبب اضطرارك للبقاء طول الليل تعمل بخدمتهم وحضور الحفلة للنهاية ! وما ان يحل صباح اليوم التالي حتى يتوجب عليك الحضور بسرعة لموقع عملك وبدء يوم جديد شاق بالتجهيز والتنظيم للاستعداد لسلسلة حفلات لا تنتهي تبقى طوال اليوم"
حرك رأسه بهدوء وهو يستمع إليها بإنصات علها تنسيه اجواء الحفلة من حوله ، ليقول بعدها بجدية يجاري سياق الحديث
"وكيف حدث وتركتي العمل هناك ؟ هل اكتشفتِ اخيرا بأنه لا يناسبك ويأخذ من وقتك وجهدك الكثير ؟"
نظرت له بسرعة وهي تقول بعبوس منفعل
"لا فما حدث مختلف تماما عن كل هذا ! لقد تركت العمل خوفا من تلقي العقوبة على الجريمة التي التصقت بي ، عندما وجدت جثة تحت السرير حاولت تهديدي بالمسدس وقتل صديقتي ، لقد كان هذا اكثر مشهد مرعب بحياتي وكأنه كابوس...."
زمت (رجاء) شفتيها بصمت ما ان لاحظت تغير واضح بملامح وجهه الحجرية وكأن شيطان قد تلبسه ، لتشيح بنظرها بعيدا عنه وهي تهمس بخفوت متشنج
"يبدو بأنني قد تكلمت الكثير عن نفسي ، اعتذر على كلامي الكثير ، لقد نسيت بأن هذه الحادثة تذكرك بأمور لا تود تذكرها !"
اخفض رأسه بهدوء وهو يقول بجمود خاوي 
"لا بأس بذلك فقد انتهت تلك القصة منذ زمن ، انتهت منذ زمن طويل"
احنت حاجبيها بوجوم وهي تتمعن بالنظر لجانب وجهه لبرهة لتلتفت بعدها بجسدها نحوه وهي تقول بهجوم مباشر  
"انا لم اعرف للآن حكايتك ؟ وما هي قصتك الحقيقية ؟ اراهن بأن لديك ماضي تحاول اخفائه ، او حادثة مروعة حدثت معك ، او خيانة وغدر جعلتك بكل هذا الاسوداد والظلم ، والمرجح بأنها قصة حب من طرف واحد وخيانة حدثت معك ! وهذا ما توصلت له من لقائنا الاول بالغرفة الخاصة بالقاعة بصباح اليوم الذي يلي ليلة الزفاف ، والواضح بأن هذه الحادثة قد حصلت بتلك الليلة التي غيرت مجرى حياتك وجعلتك تقضي طول الليل غائب عن الوعي بين الحياة والموت ! وليس هناك استنتاج آخر غيره !"
رفع رأسه بملامح غير معبرة بعد ان سردت اغلب وقائع حياته وكأنها كانت موجودة هناك بالفعل ، ليتنفس بعدها بهدوء وهو يهمس بوجوم متلبد
"لا تحاولي البحث عن الحقيقة والنبش خلفها كثيرا ، لأنني واثق بأنكِ ما ان تكتشفي الاسرار المخبئة خلف الستار المغلق فلن تستطيعي من بعدها النظر لي ثانيةً ! وسوف اخسر عندها احترامك ومكانتي وقيمتي بحياتك ، وستنضمين لفرقة الإناث المكسورات الذي اصبحت احمل لقب المكروه بالنسبة لهن ، ولن احتمل انضمام فرد جديد وعضو لتلك الزمرة او ان اكون السبب بدخولها لتلك القائمة السوداء !"
كانت (رجاء) تحدق به بعينين حائرتين بصمت قبل ان تنفض ذراعيها على جانبيها وهي تقول بهدوء حازم
"لا يهمني كل ما تقول الآن ، فأنا متأكدة بأنك تملك القدرة والإرادة على تغيير كل هذا بنفسك ، فكل انسان لديه دائما فرصة ثانية بتغيير نفسه للأفضل مما كان عليه سابقا ، فنحن لا ننظر للماضي او ماذا حدث هناك وماذا فعلت وارتكبت ، بل ننظر للأمام وبما نستطيع فعله ونفكر بإنجازه بحياتنا المقبلين عليها ، فلن تتوقف حياتك لو توقفت وحزنت او ركعت وبكيت ! بل ستستمر وتتخطاك وتتركك عالق بالمنتصف بلا شيء ، لذا اترك كل هذا خلف ظهرك وامضي بحياتك فأنت من تصنع مجدك بنفسك وانت من تصنع إخفاقك بيديك ، والامر يعود عليك انت بالنهاية !"
نقل نظره لها بملامح باهتة مسحت التعبير القديم عنها وحلت الدهشة والانبهار مكانها ، ليرسم بعدها ابتسامة هادئة على محياه وهو يقول بثقة يركز نظره عليها
"يا للمتعة ! لقد اصبحتِ تثيرين اهتمامي بالفعل ، اعدكِ ان احاول الاصطلاح من نفسي وترميمها من جديد كما ينبغي ، وعندما اشعر بنفسي مستعد للبدء من الصفر وبناء حياتي سأضمن بأن تكوني الاختيار الاول بقائمتي ، لذا كوني على استعداد لرؤية المفاجآت مني يا رجائي !"
فغرت شفتيها ببلاهة حتى سقط فكها وهي تستمع لكلامه وكأنها تنصت لمخبول وخاصة بعد نطقه لاسمها واضافة ياء الملكية لها ، ليربت بعدها على كتفها بخفة وهو يقول بابتسامة متسلية بمكر
"لقد انتهت الحفلة بالفعل ويمكنكِ المغادرة ، رافقتك السلامة"
انسحب بعدها من امامها بدون انتظار ردّ منها وهو يغمز لها بعينه بطريق خروجه وكأنه يؤكد كلامه ، وما ان اختفى عن نظرها حتى اطبقت على شفتيها بسرعة وهي تهمس بعصبية بالغة
"ماذا يقصد بالأولى على القائمة ؟ هل هناك خيارات غيري بقائمته ؟ حقا زير نساء محتال !"
ادارت رأسها بعيدا وهي تمسك ذقنها بأصابعها هامسة بخفوت باسم وكأن الفكرة قد راقت لها
"لنرى ماذا يستطيع ان يفعل ذلك المخبول ؟ صائد قلوب النساء بجدارة"
______________________________
ارجع الكرسي للخلف وهو يجلسها عليه برفق وكأنه يعامل مريضة عاجزة لا تقدر على رعاية نفسها ، ليقول بعدها وهو ينحني بالقرب منها ويمسح بيده على كتفها بقلق
"هل انتِ مرتاحة ؟ هل احضر لكِ شيئاً آخر ؟"
رفعت رأسها وهي تربت على كفه فوق كتفها هامسة بابتسامة جادة
"انا بخير يا عزيزي ، ليس هناك اي شيء بي يدعي القلق ، توقف عن معاملتي وكأنني حامل بالشهر التاسع لا اقدر على السير !"
استقام (احمد) بمكانه وهو يقول بعبوس واجم
"كيف لي ان اهدئ بعد ما حدث امامي قبل قليل ؟"
نظرت له بجمود وهي تشير بذراعها خلف ظهره قائلة باستنكار عابس
"ما حدث لم يكن بي انا ، بل حدث بالعروس المسكينة التي غابت عن الوعي بغفلة عن الجميع ، وكان من المفترض ان اقف بجوارها واساندها قبل ان تجذبني بعيدا عنها !"
نظر لها بنفس الجمود تغلفه عواصف قاسية وهو يقول بتسلط
"وماذا ستفعلين معها هناك ؟ زوجها بجوارها وعائلتها معها ! ماذا سيكون وضع وجودك هناك ؟ هل تظنين نفسكِ طبيبة العائلة ؟"
تبادلت النظرات معه بصمت مستاء بدون ان تبدي رأيها على كلامه ، ليتابع كلامه بانفعال مكتوم وهو ينفض ذراعه على جانبه
"تخيلي ايضا لو انتِ من حدث معكِ هذا ! ماذا كنت سأفعل حينها ؟"
اشاحت (روميساء) بوجهها بعيدا وهي تدس خصلاتها خلف اذنها قائلة بتصلب جاف
"اجلس بمكانك يا احمد ، فأنت الآن توترني وترفع هرموناتي بدون شيء"
تنهد (احمد) بجمود وهو يقول بتشدق واضح
"لا إياكِ ان تغضبي ، فكل شيء يهون ألا ارتفاع هرموناتك !"
راقبته بطرف حدقتيها وهو يسير امامها ويجلس على الكرسي المقابل لها بصمت ، لتتجول بنظرها بالأنحاء ببرود بدون ان تعطيه اهتماما او اعتبارا وكأنها عاصفة ثلجية حطت بقلبها ، ليقول بعدها ببديهية يفتح موضوع معها ويبدد البرود بينهما
"اين هي شقيقتك ماسة ؟ انا لم ارها منذ قدومي للقاعة ! ولم تكن برفقة شادي ايضا ، هل قررت عدم حضور حفلة صديقتها التي اجبرتنا على حضورها ؟"
تجمد جانب وجهها بقسوة قبل ان تقول باقتضاب
"لا اعلم"
تلبدت ملامحه بهدوء وهو يتكأ بذقنه فوق قبضته يتأمل غضبها الصامت وطريقتها بالتعبير عن مشاعرها وكأنها تعاتبه وليس تخاصمه ، فهي عندها الخصام الجفاء بالكلام والاجوبة المختصرة والنبرة المستاءة التي تظهر بها لمحة لوم وحزن .
كان يتأملها بتمعن شديد حتى انجرف بنظره لشكلها وهيئتها وهالتها التي تظهرها اجمل ملكة اعتلت عرش قلبه....فقد كانت ترتدي فستان اخضر طويل بلون حجر الفيروز النقي ومطرز بطوق من الورود الصفراء حول ياقته واطراف اكمامه....وبحزام اصفر مشدود حول الخصر المستدير تقبع وردة خضراء بوسطه...وينزل باقي الفستان على جسدها بطبقتين احداها من القماش الناعم الداخلي والاخرى من الشيفون الرقيق بالخارج وتتوزع الورود الصفراء ووريقاتها على انحاء الفستان فوق الطبقة الخارجية بإطلالة ساحرة وكأنها جنة من البساتين .
عاد بنظره لوجهها ما ان نظرت له بعبوس مستاء وهي تهمس ببؤس
"هل يعجبك النظر لي وانا غاضبة ؟"
اعتلت ملامحه ابتسامة جانبية وهو يقول بخفوت هائم
"بل انتِ جمالك وشكلك وغضبك كل شيء بكِ يعجبني ، واتساءل دائما داخل نفسي هل كنتِ يوما اقل جمالا من هذا !"
عضت على طرف شفتيها تكبح ابتسامتها من الغدر بها وهي تتمتم بغيظ خافت
"لا تحاول معي ، فهذا لن يفلح ، لن يفلح ابدا"
حرك رأسه بيأس وهو يقول بهدوء جاد ما ان عادت للعبة الخصام وتحاشي النظر عنه  
"حسنا لا تغضبي يا قاسية ، تعلمين جيدا بأنه لم يكن من نيتي افساد مزاجكِ بهذه المناسبة ، ولكنك من اضطرني بسبب تصرفاتك وتدخلاتك بأمور غيركِ بدون ان تراعي زوجك الموجود هنا ، وانا اكثر شيء كرهته بحياتي بأكملها هو معاملتك للجميع بكل لطف ومودة وبحسن نية واستثناء زوجك من تلك المعاملة !"
حدقت به باستهجان وهي تقول بانفعال حانق
"هل انت تغار مني بسبب هذا ؟ ما نوع هذه الغيرة ؟"
ردّ عليها من فوره وهو يتقدم بجلوسه قائلا باندفاع شديد السطوة
"اجل اغار منكِ ، ولا املك مسمى لهذه الغيرة ، ولكن كل ما اعرفه بأنني اغار منكِ بكل لحظة تغيبين بها عن ناظري...وبكل لحظة اعرف بها بأنكِ محاطة بين اناس آخرين غيري...يفكرون بكِ او ينظرون لكِ او يتكلمون معكِ ! وهذا الامر يزعجني بشدة ولا يريحني مطلقا ! لذا رجاءً يا روميساء احترمي مشاعري ولو قليلا ولا تدفعيني اكثر لهذه النيران التي احترقت بها بسببك !"
ارتفع حاجبيها السوداوين ببهوت وهي تهمس بلحظة باستنكار حاد
"ما هذه الحجة التي تقولها يا احمد ؟ غيرتك هذه غير منطقية ابدا ! وايضا انا لم افعل شيء كبير حتى تغار هكذا ! لقد كنت فقط احاول مساعدة صديقة اقرب لشقيقة فقدت وعيها بوسط الحفلة ، وانت منعتني من اداء هذه المهمة بسبب غيرتك التي لا تملك مسمى ، بماذا اخطئت اخبرني ؟"
التوت شفتيه بتصلب وهو يقول بنبرة باردة اقرب للسخرية
"اذكر بأنها كانت صديقة شقيقتك ! متى اصبحت شقيقتك ؟ هل جميع من بالحفلة اشقائك وانا لا اعلم ؟ لماذا تصرين على نشر حملات مساعداتك ونجداتك بكل مكان تجدين به مريضة او مشلولة او مكسورة ؟ لماذا لا تتركين الناس وشأنها يفكرون بأنفسهم ويعتمدون على اقربائهم بدون تدخلك ؟ هل هذا صعب عليكِ جدا ؟"
تقوست شفتيها بعبوس وهي تقول من فورها بصوت باهت قاسي
"لا تسخر يا احمد ! فأنا جادة تماما بما اقول ، هذه ليست فقط صديقة شقيقتي بل الطفلة التي تربت معنا وبداخل محيطنا ، قد لا تفهم نوع هذا الرابط الذي يجمع بيننا ، ولكن ما عليك معرفته بأنها لطالما كانت بمرتبة شقيقتي الصغرى بحياتي عندما اهتممت بها وربيتها على يديّ بجوار ماسة ، هي بالحقيقة مجرد ابنة شقيق قيس الذي تزوج بوالدتي ، ولكن بالنسبة لي كانت فرد من عائلتي التي تربيت بداخلها واحببت العيش بها كعائلة حقيقية ، وانا لا افرط او اضحي بفرد من عائلتي ! فهذه العائلة التي اعترفت بنا بوقت لم يكن لدينا جدار او نسب نستند عليه ! هل فهمت مقصدي جيدا يا احمد ؟"
غامت ملامحه بضبابية وهو يرجع ظهره للخلف ويكتف ذراعيه فوق صدره ليقول بعدها بوجوم قاتم
"احسنتِ القول يا روميساء ! الأم الحنونة والعطوفة على الجميع والتي ولدت هكذا بالفطرة ، كنا بالسابق مشغولين بماسة لفترة طويلة والآن اصبحنا بصديقتها ! كم سيأخذ منا الوقت هذه المرة ؟ كم ستتجاهلين زوجك بعد من اجل الآخرين ؟ كم ستضحين من اجلهم على حساب حياتي ومشاعري ؟ ولن استغرب بعدها لو ظهر بالأيام القادمة كلب صديق للعائلة تحبينه اكثر مني ، فأنا بقائمة اهتماماتك واحبائك احصل على المرتبة الاخيرة بكل شيء !"
ضيقت حدقتيها الخضراوين بحدة وهي تقول من فورها بجموح
"هذا ليس مضحكا يا احمد !"
تقدم بجلوسه بلحظة وهو يضرب بقبضته على سطح الطاولة قائلا باحتجاج
"اجل انتِ على حق ، ليس هناك اي شيء يضحك بالموضوع ، بينما تشغلين نفسكِ بالتفكير بكل من شقيقتك وصديقتها ، تنسين بأن لكل منهما زوج بجوارهما يهتم بمسؤولياتهما ويعتني بأمرهما بحال تعرضتا للأذى او للسوء او للجرح ! واما انتِ فمن سيهتم بكِ عندما تتعرضين لكل هذا ؟ او من سيهتم بي إذا تعرضت كذلك لأي نوع من الاذى ؟ نحن ليس لدينا حاليا سوى بعضنا ، نساند بعضنا بالشدائد ، ونساعد بعضنا بالمحن ، مهما قلتِ وكررتِ بأن هناك اشخاص من حولك يهتمون بكِ ! ستبقين وحيدة مشردة بنهاية المطاف تحتاجين لمن يكملكِ ويسير معكِ بهذا الدرب ، لذا حاولي دائما إفراغ مساحة لكلينا والتفريق بين علاقاتك الاخرى وعلاقتك الزوجية الراسخة طول العمر"
عقدت حاجبيها بجمود وهي تشيح بوجهها بتمرد هامسة بخفوت متذمر
"لماذا تتكلم معي وكأني مذنبة ؟ انا لم افعل لك شيء يؤذيك او يجرحك ! ولم افعل شيء يسيء لعلاقتنا ، انت فقط تبالغ بردة فعلك"
حدق بها بصمت لبرهة قبل ان يخفض نظره لقبضتيه المضمومتين فوق سطح الطاولة وهو يقول بتصلب
"لقد خفت عليكِ بشدة عندما رأيت التجمهر بالساحة وهناك احدهم مغشي عليه ، لقد ظننت بلحظة بأنكِ انتِ هي من فقدت وعيها ، قلقت كثيرا من ان يكون مكروه او اذى قد اصابك بغيابي ، من ان يكون الطفل....اقصد مولودنا الجديد قد خسرناه مجددا ! عندها كيف سنتحمل العيش بهذه الخسارة للمرة الثانية ! ستكون صعبة جدا علينا ، وعليّ خاصةً لأنني الشخص الذي لم يستطع حمايتك والاهتمام بكِ للمرة الثانية !"
لانت خطوط ملامحها بحزن وهي تعود بالنظر له بقلبها العاشق الذي رق له بسرعة ، لتمسح بعدها بكفها على رحمها برفق وهي تهمس بعطف رقيق بعد ان ارتضت
"يبدو بأنني قد بالغت بردة فعلي ، فأنا اصبحت متقلبة المزاج والمشاعر بسبب هرموناتي ! لذا اعذرني على مضايقتك بتصرفاتي وتجاهل مشاعرك وخوفك عليّ ، فبينما انت خائف علينا انا وطفلي كنت انا قلقة على حالة العروس وصحتها ! اعتذر منك يا احمد"
رفع نظره لها بابتسامة شقت طريقها على ملامحه وهو يشير بأصبعه لأذنه قائلا بمكر
"لا اسمعكِ جيدا ، ماذا قلتي ؟"
زفرت (روميساء) انفاسها بهدوء وهي تقول بجدية
"لقد قلت بأني نادمة على موقفي ، واتفهم مشاعرك وخوفك جيدا...."
قاطعها (احمد) بحزم وهو يلوح بيده بالهواء يمثل البرود 
"اقصد ما بعد هذا الكلام"
زمت شفتيها بقنوط وهي تهمس من بينهما بقهر مكبوت
"انا اعتذر يا احمد"
حرك رأسه بالنفي وهو يكرر كلامه قائلا بمرونة وكأنه يستمتع بكل مرة تنطق بها
"كلا كرريها مجددا ، فأنا لم اسمعكِ جيدا"
اطبقت على اسنانها بصرير وهي تقول بنفاذ صبر
"هل تمزح معي ؟"
نهض (احمد) عن الكرسي مباشرة وهو يقول بحسم ويدور حول الطاولة
"انتِ على حق ، عليّ ان اقترب منكِ اكثر من اجل سماعكِ جيدا"
انفرجت شفتيها بانشداه ما ان وصل لها وهو يمسك بظهر الكرسي بيد ويريح يده الاخرى على سطح الطاولة ويميل بجذعه نحوها ، ليقول بعدها بجانب وجهها بخفوت اجش واثق
"هيا قوليها لكي اسمعها ، اريد ان اسمعها منكِ مجددا"
رفعت عينيها الواسعتين نحوه وهي تهمس بخفوت صارم  
"ابتعد عني يا احمد لكي لا نلفت الانتباه والانظار نحونا ! هل ترى نفسك ما تفعله الآن ؟"
ردّ عليها من فوره بدون ادنى تردد
"قوليها يا روميساء لكي لا اتهور اكثر امام الناس"
اخفضت وجهها بسرعة بحرارة وهي تشدد بيديها على جانبي الكرسي قبل ان تهمس بخفوت حاد
"اعتذر منك يا احمد"
تنفس براحة لفحت بشرتها الشاحبة بسخونة وهو يهمس برضا
"واخيرا سمعتها منكِ"
رمقته بطرف حدقتيها الخضراوين بضيق ممزوج باحمرار الخزي والحياء ، لتقول بعدها بسرعة وهي تعض على لسانها كذبا
"انتبه يا احمد ، ماسة قادمة نحونا"
اتسعت حدقتيه بصدمة وهو يستقيم بذات اللحظة ويستدير للخلف ، وعندما بحث من حوله ولم يجدها حتى قال بخفوت واجم
"اين هي ؟ انا لا اراها !"
افاق على صوت ضحكتها التي خرجت بصخب من انطلاء الحيلة عليه بكل هذه السهولة وكأن عقرب قد لدغه ، وما ان عاد بالنظر لها بعبوس غاضب حتى قالت من بين ضحكاتها بسعادة شامتة
"لقد انطلت عليك الحيلة حقا ! يبدو بأنك تخاف من ماسة كثيرا حتى اصابتك رعشة على ذكر اسمها ، لم اكن اعلم بأنها مخيفة لهذه الدرجة التي تجعلك ترتعد امامها وتستقيم هكذا !"
عض على طرف شفتيه بضيق وهو لا يصدق بأي موقف مخزي دخل الآن بعد ان اوقعته المحتالة بالفخ ! ليضرب بعدها بذراعه على جانبه وهو يتمتم بسخط
"حسنا كفى ، هل تستمتعين بالضحك عليّ والسخرية مني على حساب كرامتي ؟ يا لكِ من زوجة وقورة ومثال الادب والحياء !"
غطت فمها بيدها وهي تستمر بالضحك بهستيريا وكأنها قد جنت حتى انحنت بجذعها على سطح الطاولة وهي تضرب عليها بكفها بقوة ، لتعتلي ملامحه بسمة شاردة على رؤيتها بتلك الصورة الغريبة والغير مألوفة عليه والتي جعلت الجنة تضحك بلقياها !
______________________________
دخلت على الحفلة وهي تعدل من هيئتها وتسريحة شعرها بنفض لفائفها خلف كتفها ، لتتمسك بعدها بباقة الازهار بين يديها وهي تتقدم بخطواتها بوسط القاعة تعود لمداهمتها بقوة فرس جامحة تسلحت بالشجاعة اللازمة ، لتأخذها خطواتها لوجهة معينة تركزت بطريقها عليها وهي تتجاوز طاولات الضيوف من حولها وتصل لطاولتها المستهدفة ، وما ان وقفت خلفها تماما لوهلة حتى هجمت عليها بعناق مفاجئ ارتعد لها جسد الجالسة التي اقتحمت سكون اجوائها .
افاقت من صدمتها بلحظة ما ان همست المتطفلة بجانب اذنها بشقاوة طفلة مشاغبة
"كيف حالكِ يا روميساء ؟ هل اشتقتِ لي ؟"
تنفست (روميساء) ببطء وهي تضرب بيدها على ذراعها من حولها قائلة بتأنيب
"لقد افزعتني يا مجنونة ! ماذا تظنين نفسكِ فاعلة بهذه التصرفات ؟"
شددت من تطويق ذراعيها حول كتفيها وهي تقبل خدها وتقول بابتسامة متلاعبة 
"لقد اشتقت إليكِ"
اتسعت ابتسامتها بتغضن طفيف وهي تمسح على ذراعها هامسة بجدية
"اين كنتِ ؟ لماذا لم اراكِ بالحفلة ؟ ألم تكوني المرافقة الشخصية لصفاء ؟"
رفعت رأسها وهي ترمق الجالس المقابل لهما بنظرات جانبية قائلة بمغزى
"لقد كنت هنا بالجوار ، لم اتحرك من مكاني ميل واحد ، ولكنكِ انتِ التي لم تستطيعي رؤيتي بسبب وجود احدهم بجانبك جذب كل الانتباه ناحيته ، فيبدو بأن هناك من اخذ الاهمية والاولوية من الجميع وتربع بعرش قلبك !"
بادلها (احمد) بنظرات جليدية وهو يقول بوجوم عابس
"لقد كنت اتسائل لماذا الاجواء هادئة هذه الايام ! وعرفت بعدها بأن غيابك من حولنا هو السبب ، ويبدو بأن هذا الوضع لن يستمر طويلا"
عقدت (ماسة) حاجبيها بجمود وهي تهمس بخفوت متملق
"ماذا ؟ هل افتقدتني يا سيد احمد ؟"
ادار عينيه بعيدا وهو يقول بشبه ابتسامة ساخرة
"وهل من الممكن ان يفتقدكِ الانسان ؟ انتِ لا تسمحين للشخص بافتقادك !"
كورت شفتيها بامتعاض وهي توجه نظرها للتي قالت باستغراب وهي تمسك بيدها التي تحمل باقة الازهار
"ماذا تفعل هذه الباقة معكِ ؟ أليس من المفترض ان تكون مع العروس صفاء !"
سحبت ذراعيها من حولها وهي تقرب باقة الازهار من حضنها قائلة بابتسامة مهذبة  
"اجل كنت على وشك الذهاب لها وتسليمها باقة ازهارها ، ولكني اردت المرور عليكما بالبداية وألقاء تحية السلام ، لكي لا اكون مقصرة معكما وانسى تأدية واجبكما"
ردّ عليها (احمد) بهدوء متصلب
"سلمتِ كثيرا"
نظرت له بجمود وهي تشير بأصبعي السبابة والوسطى نحو عينيها بإشارة تحذير وهي تنقلهما بينهما قبل ان تقول بتهديد واضح
"إياك وان تضايق او تسيء بالتصرف لحبيبتي روميساء ، لكي لا نفسد المودة بيننا ويحل محلها خصام ، انا اراقبك جيدا يا سيد احمد ، لذا حذاري !"
نظر لها بسرعة باستهجان وهي تتراجع للخلف وتعيد نفس الحركة المستفزة امامه وكأنها تؤكد اكثر كلامها الغير قابل للتفاوض او التحاور ، وما ان اختفت بالنهاية بين حشد الضيوف حتى قال بابتسامة جانبية بهدوء
"هذه الفتاة تستطيع ان تكون مخيفة ببعض الاحيان !"
بهذه الاثناء كانت تكمل طريقها بوجهة اخرى وهي تصعد منصة العروس بثقة ، وما ان وقفت امامها حتى مدت باقة الازهار لها وهي ترفقها ببسمة محبة وعطاء فوق محياها ، لترفع الجالسة رأسها بملامح حزينة منهكة كسرتها بابتسامة اكثر حزنا وكأن هالتها المشرقة قد غدرت بها وهجرتها بأهم لحظاتها .
رفعت يديها وهي تنوي اخذ باقة الازهار لولا التي ابعدتها عنها بلحظة خاطفة وهي تمد لها كفها الاخرى قائلة بابتسامة واثقة
"هل تريدين اللعب قليلا ؟"
اخفضت (صفاء) يديها وهي تهمس بخفوت فضولي 
"وما هو نوع هذه اللعبة ؟"
امسكت بيدها وهي توقفها منها هامسة بابتسامة ملتوية بتحفز  
"ارقصي يا فراشتي"
تألقت ابتسامتها بسعادة وهي تهمس بلهفة طفولية
"لطالما احببت لعبها"
غمزت لها بطرف عينها وهي تهمس بخفوت مرح  
"سترين كيف سنلعبها الآن"
سحبتها بسرعة اسفل المنصة امام انظار الجماهير والضيوف والاقارب والازواج...لتقف كلتيهما بوسط ساحة الرقص وانغام الموسيقى تتغير بإيقاع مختلف اكثر صخبا ومرحا نبض بالحياة بالقاعة الخاوية...توقفتا بجانب بعضهما بخط مستقيم وتمسكت ايديهما بتشابك وايديهما الاخرى تطير بالهواء واقدامهما متساوية بنفس المسافة...لتبدأ بلحظات حركاتهما بالتناغم تدريجيا برقص مزدوج غربي حتى اندمجتا تلقائيا بداخل الرقصة....وكأنهما كانتا تحفظان حركاتهما واسلوبهما منذ طفولتهما بداخل فعاليات المدرسة والحياة اليومية التي لم تخلو من إضافة المتعة الخاصة بهما عليها....حتى باتت حياتهما عبارة عن تجارب ودروس ومخاطر ومغامرات علمتهما بأن السعادة من صنع يديهما وبأن التعاسة لها نهاية وبأن القدر سيضحك لهما يوما بقدر مجهودهما ومثابرتهما بالضحك له...وبعمق المأساة تخرج ضحكة تجمل العالم بأسره .
كان كل من يشاهدهما يتلون بأشكال عدة بين سعيد ومصدوم ومستهجن وحسود ومغتاظ وحقود ، وتتصنف بين نظرات زوج عاشق وشقيقة محبة وام عطوفة ومنافس حسود واب حنون ، ولكنهما كما يفعلان عادةً يديران ظهرهما لكل من ينغص عليهما سعادتهما ويتجاهلان كل من يقابلهما بالسوء ، فالقانون عندهما يقول مقابل المحب وردة والخائن قسوة والعدو برود والمغتاظ رقصة ، وإذا ما ظهرت امامهما عقبة عنيدة يقنعانها بالعقل والمنطق وبالاستفزاز تنصرف بلا رجعة .
______________________________
كانت تعدل الحجاب حول وجهها الدائري وهي تثبته بدبوس اسفل فكها وتنسدل اطرافه خلف كتفيها بسلاسة ، لتتأمل بعدها شكلها عن قرب امام المرآة من وشاحها الابيض الناعم المطرز باللؤلؤ والفصوص على طول القماش الحريري ، وهو يشكل طقم متناسق مع فستان الزفاف الابيض الطويل المنقوش عند الاطراف باللآلئ والمجوهرات والمرصع عند صدره بالفصوص والاحجار الكريمة ، وينزل بتلال بيضاء ساحرة على وركيها وباقي جسدها بطبقات من نسيج النعاج وصولا حتى كاحليها ، لتخرج بالنهاية على شكل طائر اللقلق الابيض الذي يبعث السلام والامان على العالم ويرسل رسائل الحب والغرام على الناس .
تنهدت براحة تاقت لها بشدة بعد صراعات ومعارك بالحياة دامت طويلا حتى اضاعت طريق السعادة إليها ، لتقبض بيدها فوق صدرها وهي تقول بابتسامة واثقة اعتلت ملامحها السمراء الفاتنة
"حان الوقت اخيرا ، حان الوقت لتفرحي لنفسك ولحياتك"
ادارت رأسها بعيدا عن المرآة وهي تنظر ناحية باب الغرفة الذي كان يصدر طرق خفيض منه ، لتسمح بعدها للطارق بالدخول قبل ان يظهر لها شقيقها الصغير الذي كان يجر الكرسي المتحرك امامه ويقول بابتسامة عريضة بمحبة
"هل يمكننا الدخول إليكِ يا عروس ؟"
تهللت اساريرها بسعادة وهي تنظر لعائلتها الصغيرة التي تعتز بها مجتمعة بيوم زفافها لحضور فرحتها الكبرى ومشاركتها السعادة ، لتنهض من فورها عن الكرسي وهي تقول بابتسامة مبتهجة
"بالطبع تستطيعون الدخول ، وانا من لي غيركم بهذه الحياة يقف بجانبي ويدعمني"
دلف (معتز) للداخل وهو يجر الكرسي امامه بهدوء حتى اصبحا يقفان امامها ، وما هي ألا لحظة حتى كانت تجثو على ركبتيها امام والدتها المقعدة وهي ترتمي بأحضانها بقوة وكأنها تعيش سعادتها الخاصة التي لم تعد تتسع الكون ، لتقول بعدها بسعادة غامرة ملأت قلبها فرح ومسرة   
"شكرا لكِ يا امي ، شكرا على وجودك بجانبي بهذه اللحظة ، شكرا على مساندتك لي بكل لحظات حياتي ، انا سعيدة جدا ، سعادة لا يتسع لها الكون !"
مسحت بيدها على ظهرها بحنان وهي تقول بنبرة متعبة عطوفة
"اه يا ابنتي ! اه يا صغيرتي ! بارك الله بكِ ، وادام الافراح والاعياد بمنزلك وعائلتك ، فابنتي انا تستحق السعادة"
زمت (سيدرا) شفتيها بحزن وهي تعصر دموعها بجوفها وتطلق العنان لقلبها بالتعبير عن سعادته ، لتهمس بعدها بخفوت حزين متحشرج
"احبكِ يا امي ، وسأشتاق إليكِ بشدة ، ارجوكِ اهتمي بنفسك وبصحتك من اجلي"
تنهدت بإنهاك فوق وشاحها الابيض وهي ترفع يدها لرأسها لتقول بعدها بخفوت حنون  
"لا تقلقي يا صغيرتي ، انا سأكون بخير ، انتِ التي عليكِ ان تهتمي بنفسكِ وتكوني بخير من اجلنا ، وسأدعو لكِ كل يوم ان تكون حياتكِ كلها سعادة ومسرة وراحة بال"
تنفست براحة وهي تشبع نفسها من رائحتها العطرة التي كانت المنفذ والدواء لها بشقاء وعناء ايامها ، لتهمس بعدها بخفوت رقيق محب 
"احبك دائما وابداً يا نبع الحنان"
ابتعدت عنها بلحظة وهي تقبل رأسها ثم ظاهر يدها باحترام شديد تكنه لأغلى الناس بقلبها ، ليقول بعدها الواقف بجوارها بتذمر واضح  
"وماذا عني انا ؟ ألا استحق الحصول على حضن ووداع ؟ فقد ساعدتكِ كثيرا بهذه الحياة"
مسحت وجنتيها بظاهر كفها بدون ان تفسد زينتها وهي تقف على قدميها باتزان ، ليأتي دوره بالعناق وهي تلف ذراعيها حول كتفيه وهو يوازيها طولا بالرغم من فارق العمر الكبير بينهما ، لتمسح بعدها على ظهره بيديها وهي تهمس بابتسامة رقيقة وكأنها تكلم طفلها
"شكرا لك يا اخي الصغير ، شكرا لك على وقوفك بجانبي ومساندتي بكل قرارات حياتي مهما كان مدى سوئها وضررها علينا ، لقد كنت السند الوحيد بحياتنا من بعد وفاة والدي ، اشكرك على وجودك بحياتنا ، احبك يا قلب شقيقتك"
ارتسمت ابتسامة هادئة على محياه وهو يربت على ظهرها برفق قائلا بهدوء واثق بدون ان يسمح للعواطف بالتأثير على رجولته  
"ونحن نحبكِ ايضا يا عزيزتي ، فقط اهتمي بنفسكِ جيدا وفكري بسعادتك ولا نريد اكثر من هذا ، وإذا حدث واحتجتِ مساعدة او مررتِ بمأزق بحياتك فقط باتصال واحد سأكون متواجد عندك ، فنحن ما نزال عائلتك ولن نترككِ وحدكِ مهما كانت الظروف !"
ابتعدت عنه وهي تربت على كتفه بقوة قائلة بنشوة كبيرة
"وانا فخورة جدا بك ، لأن لدي رجل حقيقي مثلك بحياتي يهتم بأمري ويقلق بشأني ، وإياك وإهمال نفسك كذلك ونسيانها ، فأنت ينتظرك مضمار حافل بالنجاح والتفوق ، يحتاج منك مجهود كبير ومثابرة للوصول لأهدافك وتسجيل الانتصارات بحياتك ، لذا إياك وان تخذلني وارفع رأسي دائما بك يا بطلي المغوار !"
اخفض رأسه ببعض الحياء وهو يقول بابتسامة رزينة بتأكيد  
"اعدكِ يا اختي ، اعدك ان اكون الشخص الذي تطمحين له دوما ، فما دمتِ تدعميني من الخلف بقوة فلن اتخاذل او اتراجع حتى اصل لهدفي واصنع المجد الخاص بي"
تغضنت طرف ابتسامتها بحنان وهي تمسح على كتفه قبل ان تهمس بزهو  
"احسنت يا معتز ، ابقى هكذا دوما ولا تنحرف عن مسارك مهما حدث ، فقط تحلى بالإيمان والثقة ويمكنك عندها فعلها"
اخفضت يدها عن كتفه وهي تدير رأسها بذات اللحظة ما ان ظهر الدخيل الجديد الذي كان يقف عند إطار الباب وهو يقول بهدوء عميق
"هل يمكنني اخذ عروسي الآن ؟"
اتسعت ابتسامتها بتألق رفرف لها قلبها بسعادة وهي تشاهد عشيقها وزوجها وحبها الذي حلمت به دوما يقف امامها بكل استعداد ليوهبها حياته واسمه ، وكل ما حلمت بفعله وبنائه برفقته ليكون سقف واساس عائلتها بدون ان تأبه بعد تلك اللحظة لأي موانع قد تعرقل عليهما طريقهما ، ليجذب الانتباه الذي قال بجوارها بابتسامة هادئة بقوة  
"لقد اصبحت الآن امانة بين يديك ، لذا حافظ عليها جيدا لكي لا نتواجه من جديد !"
نقل نظره له وهو يومئ برأسه بهدوء ويقول بابتسامة جادة
"سأفعل ذلك ، لذا لا تقلق بشأنها بعد الآن فهي ستكون مثل الجوهرة بين يديّ صاحبها"
توردت وجنتيها بحياء تشرب ببشرتها السمراء الناعمة وهي تلهي نفسها بدس خصلاتها بطرف الحجاب ، لترفع بعدها نظراتها نحوه برهبة ما ان مد ذراعه لها قائلا بقوة
"هيا بنا نذهب يا عروس"
تقدمت بخطواتها اتجاهه لا شعوريا تقودها العاطفة الجامحة نحو قدرها المرسوم والتي سيطرت عليها بتلك اللحظات ، وما ان اصبحت تقف امامه حتى شبكت مرفقها بذراعه بحركة تلقائية تضع نفسها بالمكان الذي حلمت بالوصول له وقست على نفسها بالبعد ، لتزيح نظراتها بعيدا ما ان دنى بالقرب من اذنها وهو يهمس بها بصوت اجش حامي
"كم انتظرت طويلا من اجل عيش هذه اللحظة ، وها قد جاءت اخيرا ، شكرا على انبعاثك بطريقي يا قدري الاجمل بالحياة !"
عضت على طرف ابتسامتها بخجل وهي تدير نظراتها نحوه ويدها الاخرى تتحرك لتمسك بذراعه المصابة وتمسح عليها بأصابعها برفق ، قبل ان تهمس برقة عذبة
"سأكون لك كل شيء من الآن وصاعدا ، انا بجانبك ومن حولك وخلفك ، لذا لا تخف من الوقوع او التعرض للانكسار لأني قد اصبحت هنا من اجل ان احميك وابعدك من كل هذا ، وإذا جاء يوم وانحرفت به عن طريقك فأنا بنفسي سأعيدك لطريق الصواب !"
اتسعت ابتسامته بشغف حتى برزت الندبة بين حاجبيه بوضوح وهي تصبح علامة جاذبية وقوة بالنسبة للناظر لها ، ليقبل بعدها جبينها فوق الحجاب برقة يشكرها بطريقته ويطبع مشاعره معها ، ليعتدل بعدها باستقامة وهو يمسك بيدها الاخرى على ذراعه ويأخذها للخارج حيث العالم والمكان الذي ينتظر قدومهما لرفع اشرعة قاربهما والانطلاق حسب اتجاه الرياح .
_______________________________
صباح اليوم التالي......
تغضنت تقاسيمها الناعمة برقة مثل انفتاح زهور دوار الشمس على ضوء الشمس وهي تتنعم بحلمها الخيالي الدافئ الذي ما تزال تعيش بقلبه وتسكن بخلجاته....فما عاشته بحفلة البارحة كان اجمل احلامها تصورا وخيالا خطف انفاسها وسرق نبضاتها وانتهى بأروع نهاية قصة ألفتها بعقلها وجسدتها بواقعها مهما اختلفت طرق حدوثها ومجريات قدرها...فهي تعلم جيدا الاختلافات الشاسعة بين القصص والواقع وبين الحلم واليقظة والفروقات بينهما بهذا العالم القاسي والمرعب....لذا كل ما تستطيع فعله هو التأقلم معه وتغيير مساره وحركات سيوله ومكان صبها حتى تناسب طريقة سعادتها وفرحها وترضي حياتها التي ترغب بعيشها....فلا شيء يأتي كما ترغب النفس ولا شيء سهل الوصول بالواقع ولا حياة بدون تعب وشقاء بطريق مبتغاك .
انقلبت على جانبها وهي ترسم بسمة حالمة على شفاهها بدون ان تخرج نفسها من اسوار احلامها التي ينسجها عقلها مثل شبكة العنكبوت خوفا من التلاشي ، ليتغضن جبينها بلحظة ما ان تحسست بيدها المكان الفارغ من الجانب الآخر من السرير ، لتفتح عينيها العسليتين بإفاقة اخرجتها من سراب احلامها وهي تتأكد من احساسها الطارئ بعدم وجود شريكها بالغرفة الذي قضى طول الليل يقسم معها على عهود الزواج .
نهضت بسرعة عن السرير وهي تجلس بهدوء وتستند بظهرها على الوسائد بتعب ، لتتنفس بعدها بإنهاك وهي تضغط بيدها على بطنها بألم مفاجئ قبل ان تهمس بخفوت رقيق
"اعتذر على الضغط عليك يا صغيري ، لقد اتعبتك كثيرا وحملتك فوق طاقتك ، ولكن كل هذا قد انتهى ، وسأكون اكثر حرصا عليك من الآن وصاعدا"
تجولت بنظرها بأرجاء الغرفة الفارغة وقلبها يقرع بصدرها واذنيها مثل صوت الطبول بتزايد مخيف ، لتبتلع ريقها بخوف داخلي وهي تقول بخفوت متوجس
"جواد ! هل انت هنا ؟ جواد ! جواد....."
صرخت بآخر كلمة وهي تنادي بالفراغ بذعر لتسيل الدموع فوق وجنتيها لا شعوريا وكأنها تعايش لحظة دمار احلامها مجددا وبطريقة اكثر قسوة ، انتفضت بعدها بارتعاش مفاجئ ما ان فُتح باب الغرفة على اتساعه جذب انتباهها ونظرها نحوه ، ليظهر من خلفه الذي كان يحمل صينية الفطور بين يديه وهو يدلف للداخل ويستقبلها بابتسامة عريضة ، ولكن سرعان ما اختفت الابتسامة عن محياه وحل الخوف مكانها وهو يناظر وجهها الشاحب المغرق بالدموع الندية وعينيها الواسعتين مثل شموس صغيرة ينسكب منها ماء الذهب .
وضع الصينية على المنضدة وهو يقترب منها بسرعة ويجلس على طرف السرير ، ليمسك بعدها بكتفيها وهو يشدد عليهما قائلا بخفوت وجل
"ماذا هناك ؟ لماذا تبكين ؟ هل راودك كابوس ؟"
حركت رأسها بالنفي وهي تهمس بخفوت محتقن
"لا ترحل وتتركني"
ارتفع حاجبيه بدهشة وهو يأخذها بين احضانه بدون ادنى انتظار ويطوق جسدها الضعيف بين ذراعيه بكل قوة وطاقة تملكته بلحظة خوف ، ليتخلل بأصابعه خصلات شعرها الفوضوية وهو يصل للأعماق قائلا بخفوت اجش متضخم
"لا تبكي يا عزيزتي ، انا ما ازال هنا ولم اترككِ ، ما لداعي للبكاء الآن ؟"
هدئت انفاسها على عنقه وهي تلف ذراعيها حول خصره وتدفن وجهها بصدره هامسة بخفوت متنهد  
"لا تتركني مجددا ، لا تتركني للأوهام والتخيلات ، لقد تعبت من عيش هذه المخاوف ! لا تعيد ما فعلته بي سابقا !"
تصلبت خطوط ملامحه وهو ما يزال يتوغل بأصابعه بشلال شعرها ويقوم بتهدئتها على طريقته ، ليخفض رأسه بلحظة ويطبع قبلته على قمة رأسها بحرارة وهو يهمس فوقها بتأكيد صادق
"اعدكِ ألا يحدث شيء من هذا ، فأنتِ قد اصبحت كل عائلتي الآن ، فهل يترك الانسان عائلته ؟ لا لن يفعل ذلك ! لذا اخرجي كل هذه الافكار السوداوية من رأسكِ وارتاحي"
استلت رأسها من داخل احضانه وهي ترفعه سنتمترات قليلة لتهمس بعدها بخفوت متبرم  
"حقا ! هل تعدني ؟"
ركز عينيه عليها وهو يبادلها النظرات بقوة مشاعره نحوها قبل ان يقول ببسمة طفيفة 
"اعدك"
اتسعت ابتسامتها بسعادة شقت طريقها بملامحها الباكية واحمرت لها وجنتيها بتوهج الشمس ، ليحيط بعدها جانب وجهها بكفه وهو يقول بعطف ويمسح بإبهامه اطراف عينيها
"إذاً ما سبب هذا المشهد العاطفي بالصباح الباكر ؟ هل فعلت شيء لكِ زرع الشك بقلبك ؟ لو اني لم اكن بكامل وعيي بليلة امس التي شهدت على انفجار عواطفنا لكنت صدقت بكائك....."
ضربت بقبضتها الصغيرة على صدره بقوة وهي تهمس بحياء مفرط
"كفى يا جواد ، لا تبدأ بفعلها الآن !"
عض على طرف ابتسامته وهو يتلمس حرارة وجنتها بظهر اصابعه قائلا بعبث واضح
"ماذا قلت انا ؟ انتِ من تبالغي بخجلك ، وكأنكِ كنتِ عذراء من قبل...."
اخفت وجهها بصدره العريض بخجل وهي تهمس بانفعال حانق
"جواد ! منذ متى اصبحت تخجلني هكذا ؟"
التوت ابتسامته بشغف وهو يبعدها عن صدره ويمسح بيده على شعرها قائلا برفق
"اهدئي يا صغيرتي ، لقد كنت امزح معكِ ، فأنا لا اريد ان يغشى عليكِ من الخجل كما حدث بالحفلة"
تراجعت (صفاء) للخلف قليلا وهي تخفض رأسها وتدس خصلاتها خلف اذنها بأصابع شاحبة قبل ان تهمس بخفوت محرج
"انا اعتذر على ذلك ، يبدو بأنني قد سببت فوضى عارمة بالحفلة ، لقد كان استغفال مني وإهمال من جهتي ! فأنا هكذا منذ طفولتي عندما اتحمس بالقدر البالغ او اتعرض للخوف ينزل الدم بجسدي وافقد وعيي لا إراديا ! وهذا المرض يلاحقني منذ مدة طويلة جدا بسبب نقص المناعة بجسدي"
تجمدت اطرافها ما ان امسك بذقنها بمفصل اصبعه وهو يرفعه نحوه بهدوء رقيق اذاب عظامها ، وما ان تلاقت النظرات بينهما ببحر عميق متلاطم حتى قال بابتسامة جادة
"وهل هذا ذنبك انتِ ؟"
ردت عليه من فورها بخفوت متلعثم
"كلا ، ولكني شعرت ببعض التأنيب بسبب افساد الحفلة....."
قاطعها (جواد) بقوة وهو يقرب وجهه من وجهها حتى احاط فكها بأصابعه الطويلة
"لا تقولي كلام اكثر ، لقد اجبتِ بأنه ليس ذنبك ! إذاً هو ليس ذنبك ، لا داعي لتحميل نفسكِ فوق حد طاقتها ، فأنا اريدكِ امامي قطعة واحدة سليمة ! حسنا ؟"
اومأت (صفاء) برأسها بوداعة وهي تهمس بخفوت مهذب
"حسنا"
تنهد بقوة حتى لفح ملامحها بسخونة الجمرة بداخله وهو يهمس بخفوت جاد عميق  
"لقد اخفتني عليكِ ، هل تعلمين ما لذي كاد يصيبني عندما غبتِ عن الوعي امامي فجأة ؟ لقد كدت افقد عقلي بسببك ! كنت سأندم طيلة حياتي على عيش تلك اللحظة ، لقد اوشكت على فقدان ثاني شخص عزيز بحياتي !"
عضت على طرف شفتيها بذنب وهي تخفض نظرها هامسة بخفوت نادم
"انا اعتذر ، لأنك مررت بكل هذا بسببي"
رفع (جواد) رأسه عاليا وهو يقول بابتسامة جامدة بدون اي تعبير
"توقفي عن الاعتذار بكل فرصة ، فاعتذارك لن يغير ما حدث بالأمس ، ولن يعيد ما فات ايضا"
تقوست شفتيها بعبوس وهي تمسك بيده بين كفيها هامسة بخفوت لطيف
"على الاقل اقبل مسامحتي ، فقد افسدت علينا صباحنا الخيالي بمخاوفي وبكائي وشكواي"
اخفض رأسه وهو يرسم ابتسامة حانية على محياه ليجمع كفيها بين يديه وهو يقول بهدوء واثق
"سوف اوافق على مسامحتك بشرط ان تتناولي طعام الفطور بأكمله ، ولن اقبل بأي مساومات اخرى"
ارتفع حاجبيها بدهشة وهي تنتشل يديها بعيدا عن يديه هامسة بحيرة 
"احضرت لي فطور ! من هو الذي اعدّ الفطور إذا لم يكن هناك احد بهذه الشقة غيرنا ؟"
مالت ابتسامته بثقة وهو ينقل نظراته بعيدا ليميل بجسده ناحية المنضدة التي ترك عليها الصينية ، ليعود بعدها امامها بلحظة وهو يحمل الصينية بين يديه ويضعها بحجرها قائلا ببساطة
"انا الذي اعددته ، ومن غيري سيفعلها ؟"
ارتفع حاجبيها بدهشة اكبر حتى اصطدما بمنابت شعرها وهي تهمس بانبهار وكأنها تشهد على تحقق معجزة كونية
"كيف يحدث هذا ؟ هل اعددت هذا الإفطار بنفسك ؟ منذ متى تملك هذا الجانب فيك !"
حرك كتفيه باستخفاف وهو يمسك بلقمة خبز ويغمسها بطبق الحمص قائلا بمرونة
"ستتعرفين على جوانب كثيرة ومخفية بجوزك لم تكتشفيها بعد ، فقط انتظري وترقبي القادم ، وسترين ما يملكه زوجك ولا يملكه غيره !"
نظرت له بافتتان وهي تهمس بابتسامة حالمة تغرد فوقها عصافير الحب
"اجل انا ارى ذلك ، ومبهورة جدا...."
قطع جملتها الاخيرة بلقمة الطعام التي دسها بفمها بسرعة وهو يقول بابتسامة جادة
"توقفي عن الثرثرة وتناولي فطورك ، وتذكري بأنني افعل كل هذا من اجل نمو طفلي ، لذا لا تجعلي الافكار تأخذك بعيدا وتدعي انانيتك تسيطر عليكِ !"
عقدت حاجبيها وهي تلوك اللقمة بفمها بقوة لتهمس بعدها بخفوت ناقم
"يا لك من قاسي ، كنت اعلم بذلك مسبقا ، وانا التي ظننتك قد تغيرت !"
افلتت منه ضحكة قصيرة وهو يغمس لقمة خبز اخرى قائلا بمرح
"تعلمين جيدا كيف تقلبين الامر لصالحك"
رفع لقمة الطعام لها قبل ان تتوقف بمنتصف طريقها وهو يجدها تبتسم له بسذاجة وتراقب به بتمعن ، ليقول بعدها بارتياب وهو ينظر لها عن قرب
"ماذا هناك تبتسمين بوجهي ببلاهة مثل المراهقات ؟ هل هناك ما لفت انتباهك ؟"
حركت (صفاء) رأسها بالنفي وهي ترفع يدها وتشير بأصبعها لفمها هامسة بابتسامة محبة
"ضحكتك جميلة جدا ، حتى ابتسامتك رائعة ، انت نادرا جدا ما تضحك او تبتسم بحب ! ومنذ معرفتي بك لم اراك تبتسم بحياتي ألا لحظات عابرة غير مرئية ! لذا عندما تضحك او تبتسم بصدق يكون رائع جدا عليك وكأنك تسرق جزء من قلبي ، ومن الظلم حقا حرمان العالم من رؤية ضحكاتك وابتساماتك ! وسيكون من الرائع لو بدأت تضحك وتبتسم اكثر من المعتاد ، أليس كذلك ؟"
تغضنت زاوية ابتسامته وظهرت خطوط حول عينيه اخذت منه لوهلة قبل ان يدس اللقمة بفمها الحلو ويسكت سحر كلماتها عليه ، ليقول بعدها بهدوء حازم يرسم الجدية
"اخبرتكِ ان تتوقفي عن الثرثرة وتؤكلي طعامك ، ولكن بدلا من ذلك تتغزلين بزوجك وتضايقينه ! هذا محرج حقا !"
كورت شفتيها بامتعاض وهي تضرب يده بعيدا عن الصينية قائلة ببأس
"استطيع تناول طعامي بنفسي"
ابعد يديه واسندهما على ملاءة السرير وهو يراقبها تتناول طعامها بصمت وتتحاشى النظر له بإيباء ، ليقول بعدها بابتسامة هادئة شقت جمود ملامحه وظهرت بصدق مشاعره
"السبب بضحكتي وابتسامتي ، انتِ سببها يا صفاء ، فأنا لا اضحك سوى معكِ ، ولا ابتسم سوى بجوارك ، يعني انتِ ضحكتي وابتسامتي وسعادتي ! انتِ من اعدتِ كل هذه الاشياء المفقودة بحياتي ! لذا احبكِ كثيرا يا منبع الصفاء"
رفعت رأسها بملامح احمرت بخجل وتدفقت الدماء بأوردتها حتى نست لقمة الخبز بفمها وهي تغص بها وتسعل بقوة ، ليمسك بسرعة بكأس الماء من على المنضدة بلحظة وهو يعود ويقدمها لها قائلا بحزم
"خذي اشربي الماء ، اشربيه بسرعة"
اخذت الكأس منه وهي تقربها من شفتيها وتشرب منها على مهل جرعات متتالية حتى اختفت السعلة ، ليقول بعدها وهو يأخذ الكأس منها بابتسامة ماكرة
"ما لذي اصابكِ فجأة ؟ هل شعرتِ بالخجل من جديد ؟"
ردت عليه بسرعة وهي تقول بدفاع قوي
"غير صحيح ، لقد تناولت قطعة خبز محروق ، يبدو بأنك لا تعرف كيف تعد الخبز للإفطار ، ولا تلام على هذا فهي اول تجربة لك !"
ارتفع حاجبيه بصدمة وهو يمسك بالخبز ويتفحصه من كل الجوانب ليقول بعدها بجدية صارمة
"مجرد حرق بسيط ، لن يؤثر كثيرا بمهمة هضمه ، وانتِ يتوجب عليكِ تناوله كله شئتِ ام ابيتِ ، فلن اجازف مرة اخرى بصنع إفطار آخر لكِ !"
اشاحت (صفاء) بوجهها بعيدا وهي تهمس باستنكار قطعي
"وانا لا اريد تناول هذا الإفطار ، اخاف من ان اصاب بتسمم غذائي"
تجهمت ملامحه وهو يكتف ذراعيه فوق صدره قائلا بسطوة
"لقد عقدنا اتفاق بيننا ، إذا لم تتناولي كل الطعام الموجود بالصينية فلن اسامحك على شيء ، والخيار متروك بين يديكِ"
اعادت رأسها للأمام وهي تهمس بخفوت متملق  
"حسنا سأفعلها ، ولكن تذكر على ضمانتك"
طافت ابتسامة حانية فوق محياه وهو يراقبها تتابع تناول طعامها بنهم بعد ان اطاعت امره مثل القطة الجائعة التي يقدم لها صاحبها الغذاء ويعطف عليها .
بعدها بساعة كان يستند على ظهر السرير وهو يعانقها بين ذراعيه ويدسها بين احضانه مثل طفلته الوحيدة ، لتهمس بعدها فوق صدره بخفوت متنهد وهي تريح جانب خدها فوق ضربات قلبه  
"انا لا احلم صحيح ! هذا ليس حلم من وحي خيالي سأستيقظ منه بأي لحظة ! فقد تعبت من عيش هذه الاحلام ومطاردتها دائما ، تعبت من مهمة إمساكها وتلاشيها من بين يديّ ، لا اريد عيش الحياة بعد الاستيقاظ منها واكتشاف حقيقتها ، كل ما اتمناه ان كان هذا حلم من احلامي فلا اريد الاستيقاظ منه ابدا !"
مسح على رأسها الناعم بيده وهو يحتضن بيده الاخرى بطنها البارزة قليلا ويمسح عليها برقة ، ليقول بعدها بابتسامة متزنة وهو يشدد من عناقها واحتوائها هي وطفلها كأجمل ما في الوجود 
"لقد تجاوزنا مرحلة الاحلام والأوهام ، ودخلنا بواقع الحياة بكل ما فيها ، وكل شيء سيحدث من الآن وصاعدا سيكون تجسيد واقعي بحياتنا ، فقط ابقي املكِ كبير بي وثقي بقدرتي على تحقيق المستحيل من اجلكما"
_______________________________
خرجت من بناية المدرسة وهي تمسك بيد الصغير الذي لا يكف عن الثرثرة وهو يتكلم بلسان منطلق مختلف عن لسانه بداخل الحصة وكأنه لا يعطي هذا المجال سوى للأشخاص الذين يألفهم ويحبهم من قلبه
"لقد كان يزعجني جدا بتصرفاته ويستمر بمضايقتي ، ولكنني اجبرته بالنهاية على الاعتذار مني امام كل طلاب الفصل ، وهذا بعد ان لقنته درسا قاسيا واثبت له من الاقوى بيننا ، وكي لا يعيد فعلته بي ويحاول ان يخطئ بحقي مجددا ، فأنا لا اسمح لأحد بتخطي حدي او حد والدي فهاذين خطين احمرين بالنسبة لي !"
توقفت خطواتها امام درجات المدخل وهي تلتفت نحوه بكامل جسدها وتمسك بخصرها بيدها الحرة لتقول بعدها بهدوء صارم
"وهل ترى ان ما فعلته هو عين الصواب ؟"
التفت نحوها وهو يومئ برأسه بقوة قائلا بثقة
"اجل لقد فعلت الشيء الصحيح"
تنفست (روميساء) بيأس وهي تنحني امامه على ركبتيها وتنزل لمستواه قبل ان تمسك بكتفيه الصغيرين وهي تقول بهدوء جاد تحادثه بلغته
"هذا لا يجوز يا سامي ، ان ترد اساءة الآخرين بالإساءة ! فليس جميع الخاطئين يستحقون فعل هذا بهم وإيذائهم ! نحن لدينا ضمير حي وانسانية تحتم علينا المسامحة والتجاوز عن المسيء والدعوة له بالهداية والإصلاح ، ولكي نكون ايضا اناس ناضجين واوعى منهم ونتجمل بشخصيات حسنة يقتدي بها الآخرين"
تبرمت شفتيه بعبوس وهو يقول بتذمر طفولي
"هم الذين يبدئون اولاً بالإساءة وليس انا ، لذا كلميهم هم وليس انا !"
احنت حاجبيها بأسى وهي تقول بهدوء حازم  
"الامر لا يتعلق بهذه المشكلة وحسب ، إذا بقيت تتصرف بهذا الشكل مع الجميع فلن يكون لك اي اصدقاء ، وانت بالفعل لا تملك اي اصدقاء بالمدرسة ولا تتفاهم مع زملائك بالفصل ! ولن تجد هناك من يقف بجانبك ويشاركك حزنك وفرحك وتتسامر معه بالكلام وتقضي اجمل الاوقات برفقته ، وستمر سنواتك كلها بوحدة بدون اي رفاق او شركاء !"
ردّ عليها من فوره بثقة مبالغ بها  
"لا احتاج اي اصدقاء عديمين النفع ، فأنا لدي صديقين عزيزين بحياتي وهما انتِ ووالدي"
تنهدت (روميساء) بحزن وهي تخفض يديها عن كتفيه قائلة بخفوت صارم
"هذا لن يجدي يا سامي ، فأنت بحاجة لأصدقاء حقيقيين من سنك وجيلك ! اشخاص ليسوا مثلنا ولا يشبهون طريقة تفكيرنا واسلوب حياتنا ! بل هم اشخاص مثلك تماما يعرفون وجعك ودوائك وحاجتك"
نقل نظره بعيدا عنها وهو يقول ببرود متعمد
"لا يهمني كل هذا ، ابدا ، ابدا"
فتحت شفتيها وهي على وشك الكلام لولا الذي هتف بحماس وهو يلوح بيده بعيدا
"ابي هنا ! ابي هنا ! مرحى"
ادارت رأسها بعيدا اتجاه باب المدرسة حتى تلاقت نظراتها مع الواقف هناك يحدق بهما بدون تمييز او مفارقة ، لتقف بعدها باستقامة وهي تنقل نظرها للطفل الذي سبقها بنزول سلم المدخل بطريق الوصول لوالده ، لترسم بعدها ابتسامة حانية على محياها وهي تتابع كذلك نزول درجات السلم وتكمل طريقها نحوهما .
ما ان وقفت امامه وهو يعطي كل انتباهه لابنه الملتصق بساقه حتى قالت بهدوء رسمي
"كيف حالك يا سيد يوسف ؟ لقد اسعدتنا للغاية بحضورك الخاص للمدرسة رغم كل اشغالك"
رفع (يوسف) رأسه نحوها وهو يقول بابتسامة جادة
"بخير يا معلمة روميساء ، كيف حالك انتِ بعد عودتك لممارسة حياتك بشكل طبيعي ؟ هل هناك اي اثار جانبية ؟"
اتسعت ابتسامتها بهدوء وهي تقول بمودة     
"الحمد الله كل شيء بأفضل حال للآن ، لقد تجاوزت كل هذا منذ مدة اسبوعين ، فلا شيء يستطيع قهقرة عزيمتي او إضعافي بهذه الحياة ! فأنا املك مقدرة عالية وقوة على تجاوز كل تلك النكبات والكوارث بدون اي اعراض جانبية او سلبيات"
اومأ برأسه وهو يقول يشاركها بالرأي
"اجل ليس لدي شك بذلك ، المهم ان تهتمي بصحتك جيدا وتكوني اكثر حيطة"
زمت شفتيها بوجوم وهي تقول بتفكير جعلته اكثر بهجة
"لقد فاجأتني بحضورك اليوم ! فقد كنت افكر بأخذ سامي معي وتوصيله بنفسي للمنزل ، ولكن بما انك قد حضرت بالفعل يمكنك انت توصيله وتولي هذه المهمة عني"
اخفض رأسه قليلا وهو يراقب الطفل الواقف بجانبه بصمت ليقول بعدها بجدية  
"اجل لقد قررت اليوم اصطحابه معي للمنزل بعد ان انهيت عملي بالمكتب مبكرا ، فلم افعلها منذ مدة وحان الوقت الذي انظم به حياتي بينهما واكون اكثر عدلا نحوهما !"
غزت ملامحها ابتسامة تبثها كل حنانها وهي تهمس برقة
"هذا تغيير سليم بحياتك وسيكون له تأثير إيجابي عليكما"
رفع نظره لها وهو يقول بابتسامة ممتنة
"شكرا لكِ ، والفضل بكل هذا يعود لكِ ، لذا شكرا على كل شيء"
اخفضت رأسها بإحراج مفرط وهي تضم يديها وتحاول ترتيب الجمل برأسها التي عليها قولها ، لتقول بعدها مباشرة بهدوء ممتقع
"اعتذر على ما حدث بذلك اليوم بالمشفى ، لقد حدث الكثير من سوء التفاهم هناك ، لذا اعتذر إذا كنت قد شعرت بأي نوع إزعاج او تقليل شأن...."
قاطعها (احمد) من فوره وهو يلوح بيديه بتبرير
"لا يا روميساء لا تعتذري مني ! لم يحدث اي شيء من هذا ، وانا لست منزعج منكِ بأي شكل ، ومقدر جيدا حالتكِ وما كنتِ تمرين به حينها"
رفعت (روميساء) رأسها نحوه بملامح باهتة ليقول بعدها بتصحيح بسيط  
"اعتذر لقد قصدت معلمة روميساء ، انا افهم جيدا موقف زوجك احمد اتجاهي ، ولا ألومه على تصرفاته وكراهيته نحوي ، فأنا قد اقترفت بعض الاخطاء وتجاوزت حدودي بالتدخل بحياتكم الخاصة وبزيارتي الشخصية لكِ وانا اعتبر غريب عنكِ ! ولكني اردت ان اؤدي واجبي نحوك وارد بعض الجميل لكِ ، لذا إياكِ وان تشعري بأي سوء بسبب هذا او ان تضعي اللوم عليكِ فليس هناك احد ملام بهذا العالم بقدري ! وموافق على مسامحتك مقابل ان تسامحيني فكل منا قد اخطئ بحق نفسه واذى الطرف الآخر بدون ان يقصد"
ابتلعت ريقها بارتباك وهي تمسح جبينها من حبيبات العرق بظاهر يدها هامسة بخفوت متشنج
"وايضا بخصوص عرض الزواج ذاك ، فأنا كنت سأكلمك...."
قاطعها مجددا بهدوء متزن بدون ان يفقد ابتسامته وكأنه رضي بالأمر الواقع
"لا داعي للكلام بهذا الموضوع ، فقد حصلت على اجابتي بالفعل وانتهى الامر ، فأنا قد تسرعت كثيرا بطلبي المتأخر بعد ان فات الآوان ، لذا احمل نفسي كامل المسؤولية وكل النتائج والاضرار التي خرجت عنها !"
غامت ملامحها ببهوت حزين وهي تهمس بخفوت نادم
"اسفة على ذلك"
زفر (يوسف) انفاسه بوجوم وهو يقول بهدوء معاتب
"لا تعتذري مجددا يا معلمة روميساء ، فأنتِ تشعريني بالإحراج والخزي بكل مرة تعتذرين بها ، وهذا الامر يثقل على صدري ويصورني شخص سيء بنظري !"
عقدت حاجبيها بضيق وهي تقول باستنكار عابس
"بالطبع انت لست كذلك ! انا اعترف بأنني مدينة لك بالكثير على تلك السنوات التي كنت بها بجواري بكل مرة احتجت بها لك ، لقد كنت الشخص الجيد الوحيد بذاك العالم القاسي الوحشي الذي اجبرت على التأقلم والتكيف بقلبه ، حتى بالرغم من قوتي الخارجية وتظاهري بالصلابة دوما كانت هناك لحظات اضعف بها وانهزم امام صعوبات لا اقدر على تخطيها ! ولكني سعيدة بما وصلت له بالنهاية واحرزته بحياتي ، لذا شكرا لك على تلك المساندة الكبيرة التي لن انساها لك بحياتي ، واتمنى ان يرافقك النجاح والتوفيق دائما بكل سبل حياتك"
تغضنت زاوية ابتسامته وهو يقول بهدوء عميق
"واخيرا فهمتي كل شيء ، لقد كبرتِ جدا يا روميساء ! وسعيد بتلك الفترة القصيرة التي قضيتها معكِ وسمحت لي بالتعرف عليكِ اكثر"
عضت على طرف شفتيها بحياء وهي تشيح بوجهها بعيدا بدون ان تضيف كلام آخر ، ليتنحنح بعدها بتحشرج وهو يقول بجدية ويمسك بكف ابنه
"لقد نسيت ان اطلعك على آخر الاخبار ، لقد قررنا قضاء عطلة نهاية الفصل الدراسي برحلة سفر للخارج حيث تعيش خالة سامي ، فهو يرغب كثيرا بزيارتها وقضاء العطلة معها ونحن نفعلها دائما بكل سنة بعطلة انتهاء دوام المدارس ، يعني بهاذين اليومين سأحصل على إجازة من العمل فترة شهر ونسافر بأول طائرة إلى هناك ، ودت اخباركِ بذلك من اجل ان يكون لديكِ علم وكي لا تشغلي بالك على سامي"
ارتفع حاجبيها بدهشة وهي تقول بابتسامة تغضنت زواياها بسعادة غامرة
"يا لها من فكرة رائعة ! وهكذا تستطيعون الترفيه عن انفسكم وقضاء الوقت الممتع معا بعيدا عن العمل وضغوطات الحياة ، فأنتما تحتاجان بالفعل لمثل هذه الاجازة من اجل تقوية الصلات بينكما وتغيير بأنظمة حياتكما الروتينية المملة"
حرك رأسه بضحكة مرحة وهو ينقل نظره لابنه بجواره ويقول له بهدوء
"وهذا بالضبط ما افعله ، هيا يا سامي قم بتوديع معلمتك ، لكي لا نتأخر بحجز تذاكر الطائرة للرحلة"
لوح لها (سامي) بيده وهو يرسل لها قبلات بالهواء قائلا بابتهاج   
"وداعا يا معلمة روميساء ، اراكِ بالسنة الدراسية الجديدة"
اخفضت رأسها نحوه وهي تتبعها بالانحناء امامه بآن واحد لتحتضنه بعدها بدون انتظار وهي تقول بحنان معبأ بقلبها المعلق به
"وداعا يا تلميذي الصغير ، اذهب وعد بالسلامة ، ولا تنسى بأنني سأكون بانتظارك بفارغ الصبر حتى عودتك يا قلب روميساء"
ردّ عليها بلحظة بسعادة غامرة
"اعدك يا معلمتي الحبيبة"
ابعدته عنها بلحظة وهي تتحكم بمشاعرها وتمسح اطراف عينيها الخضراوين بأناملها ، لتقف بعدها باستقامة وهي توجه نظرها للصامت الواقف امامها قبل ان تقول بابتسامة رقيقة
"اتمنى لكما رحلة آمنة ، رافقتكما السلامة"
ابتسم بهدوء وهو يسحب ابنه معه ويلوح بيده قائلا
"إلى اللقاء يا معلمة روميساء ، اعتني بنفسكِ جيدا"
مالت ابتسامتها بهدوء ما ان اختفوا خلف باب المدرسة واصواتهما تصل لها بوضوح مثل قطار مر من محطتها وترك عطره الخاص به عالق عندها...وتشبه سكك القطارات بتغير وجهات الحياة بها وبالحقيقة بأن الامر لا يتعلق بالسكك بل يتعلق بمكان المحطة التي تقف منتظرة عندها .

نهاية الفصل........

بحر من دموع Where stories live. Discover now