الفصل التاسع

123 5 2
                                    

نظرت للهاتف بعيون دامعة متأملة بأن يكون هو وسيلتهما بالنجاة من كل هذا الكابوس ، ومن حسن حظها بأنها لم تضع هاتفها بحقيبتها والتي صادرها منها (مازن) قبل ان تدخل للغرفة بدون ان يجرب تفتيش جيوبها والتي كانت تخفي بداخلها هاتفها بدون ان يعلم بذلك ، دست بعدها هاتفها بسرعة بجيب قميصها وهي تتجه من فورها للجالسة بمكانها بجمود لتمسك بذراعيها وهي تقول بابتهاج لمع بحدقتيها الدامعتين
"اسمعي يا ماسة ، نحن سنتحرر قريبا من هنا وهذا الزواج لن يحدث ، فروميساء الآن بالطريق وستصل قريبا"
مرت لحظات مشحونة بالمشاعر الغريبة قبل ان ترفع (ماسة) رأسها ببطء شديد وهي تبتسم لها بشحوب بدون تعبير وبدون ان تحدد سبب ابتسامتها الغامضة الآن ! بينما عقدت (صفاء) حاجبيها بريبة وهي تبتسم تلقائياً مترافقاً مع ابتسامتها برقة ناعمة والصمت يلفهما معا بهالة من الدفء ، ليخترق بعدها هالتهما صوت فتح قفل الباب مجددا والذي اعاد الجمود والخوف للأجواء مصحوبة مع تجمد القلوب برهبة وترقب لما هو قادم الآن .
اندفع الباب للأمام ليدخل صاحب الابتسامة المستفزة وهو يمسك بكفه كيس بلاستيكي كبير ويدس كفه الآخر بجيب بنطاله بكسل ، ليسير بعدها للداخل بخطوات متمايلة بعض الشيء وعينيه العسليتين تتنقلان بافتراس بينهما ببطء ، بينما العيون تتابعه بامتعاض حانق غير ظاهر بملامحهما الهادئة .
وقفت بعدها (صفاء) امامه بارتجاف ما ان توقف امامها مباشرة وهو يقول بحاجبين مرفوعين بتركيز
"ماذا هناك ؟ لما تنظرين لي بهذه الطريقة ؟"
زمت (صفاء) شفتيها بوجل وهي تخفض عينيها بارتباك وخوف من ان يفضح امرها بسبب تشنجها الواضح والذي احتل أنحاء جسدها فجأة ، لتشعر بعدها بقبضته وهي تمسك بذقنها بقسوة ليرفعها عاليا رغما عنها قائلا بفحيح خطر
"لما تحاولين التهرب مني بعينيكِ يا صفاء ؟ هل تخفين شيئاً على شقيقك ولا تريدين اخباره عنه ؟ ام انني اتوهم هذا فقط !"
ردت عليه بخفوت ما ان اصطدمت نظراتها بعينيه العسليتين القاتمتين والشبيهتين بعينيها
"لا شيء ، صدقني لا يوجد شيء"
شدد (مازن) من القبض على ذقنها اكثر حتى شعرت به يكاد يخلعه من مكانه وهو يعيد كلامه بنبرة اكثر تهديدا تعرف نتائجها جيدا منذ كانت طفلة
"حقا يا صفاء لا يوجد شيء ! ام انكِ تحاولين اللعب معي الآن لعبة الغميضة والتي لطالما كنت انتصر فيها عليكِ واجدكِ بالمكان والذي كنتِ تختبئين به ! فأنتِ لا تجيدين اخفاء شيء على شقيقك الوحيد"
اتسعت عينيها بتوجس وهي تحاول تخليص ذقنها من قبضته الخشنة ، لتنظر بعدها بلحظات لليد والتي امسكت بذراعه بجمود من الخلف ليتبعها بعدها بصوتها وهي تقول لأول مرة ببرود خافت
"اتركها وشأنها يا مازن ، فهي تقول الحقيقة ، وإذا كنت تريد ان توجه سؤال لأحد ، فأنا موجودة يمكنك سؤالي"
التفت (مازن) نحو الواقفة من خلفه بعد جمود وصمت دام لدقائق ، ليخفض بعدها يده عن ذقنها وهو يقول بابتسامة متسعة بملل
"لا بأس لم اعد اريد ان اسأل ، وبالمناسبة انا سعيد جدا لأنكِ قد عدتي لحالتكِ الطبيعية والتي هي احب على ما في قلبي ان تكوني بأحسن حال !"
اشاحت (ماسة) بوجهها بعيدا عنه وهي تزفر انفاسها بغضب مكتوم ، لتعود بعدها للنظر له بقوة وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها قائلة بابتسامة ساخرة ببرود
"انا بأحسن حال لا تقلق على حالي ، ولكن يبدو بأنك انت الغير واثق من نفسك وخائف من ان يضيع كل تعبك هباءً ، او ان يفسده احد منا بغيابك ، أليس هذا ما انت خائف منه ؟"
ابتلعت (صفاء) ريقها بتوتر وهي تنقل نظراتها بينهما بجزع وكفها تمسد على عنقها بتشنج ، بينما كان (مازن) ما يزال ينظر لها بنفس الابتسامة المستفزة قبل ان يتمتم ببساطة وهو يرفع كفه عاليا بطواعية
"حسنا لا داعي لكل هذا العداء ، فأنا لا اريد منكما شيء سوى ان تتعاونا معي بطاعة تامة ، وعندما يصبح كل شيء بين يديّ وكما تمنيت فأنا عندها سأحرركما من قيودكما بدون اي مشاكل"
تنفست (ماسة) ببرود وهي تتمتم بنفاذ صبر
"توقف عن هذا الهراء ، وتكلم لما اتيت للغرفة ؟ هل هناك المزيد من الاوامر والتي ستلقيها على اسماعنا ؟"
ارجع رأسه قليلا للخلف وهو يرفع الكيس بكفه عاليا قائلا بابتسامة باردة
"لقد احضرتُ لكِ كل ما تحتاجينه بهذا الكيس ، لكي تصبحي عروسي المنتظرة والتي عليها ان تكون جاهزة بمساء اليوم ، فأنا لا اطيق صبرا حتى اراكِ امامي عروس جميلة كما اريد"
تصلبت ملامحها وانفاسها تزداد حدة لتتسع عينيها باستدارتهما بقوة وجمود ، وقبل ان ينطق اي منهما بكلمة ارتفع صوت رنين الهاتف والخارج من جيب قميص التي جمدتها الصدمة بمكانها وكل طرف بها ينتفض بذعر غير مسبوق ، ليستدير بعدها (مازن) بوجهه نحو مصدر الصوت بهدوء خطير وحاجب واحد بدأ بالارتفاع ببطء قاسي .
رفعت (صفاء) نظراتها العسلية باتجاهه بتوجس ما ان قال بهدوء مريب وهو يرفع يده نحوها بأمر
"اخرجي هاتفكِ"
اخرجت (صفاء) بسرعة هاتفها بخوف والذي توقف عن الرنين من جيب قميصها بارتجاف شل حركة اطرافها لثواني ، لترفعه بعدها باتجاه يده الممدودة ببطء شديد وهي تودع وسيلة التواصل الوحيدة والتي كانت توصلهما لطوق نجاتهما ، انتشل (مازن) الهاتف من يدها بقوة وما هي ألا لحظات حتى رفع يده الأخرى عاليا وبلمح البصر كان يهبط بها على خدها بقسوة لدرجة اوقعتها جالسة على طرف السرير من خلفها وهي تمسك خدها المحمر بكفها بارتجاف استولى على كامل جسدها .
تقدم نحوها بخطوة قبل ان يسد عليه الطريق بلحظات من وقفت امامه بشموخ وهي تقول بضراوة
"لقد اخذت هاتفها وعاقبتها ، ماذا تريد ايضا قتلها ؟ إذا كنت تريد ان يتم هذا الزواج المهزلة لتحصل عليّ فأنت عليك إذاً المحافظة على المسافة بيننا والالتزام بقواعد اللعبة وألا سيحدث عندها شيء سيكلفك كل ما تملك ! هل فهمت يا مازن جلال ؟"
عقد حاجبيه بشراسة وقد اختفت الابتسامة عن وجهه تماما ليحل مكانها الغضب الوحشي وهو يشدد على الهاتف بكفه يكاد يحطمه بقبضته ، رفع بعدها قبضته نحوها قرب وجهها تماما وهو يهمس بانفعال مهدد
"إذا حاولتما اللعب معي مرة أخرى او خرقتما قواعد اللعبة والتي وضعتها لكما ، فلن تتوقعا عندها ما سيحدث لكما من شروري ، فأنا ما أزال لم اظهر لكما ذلك الجانب البدائي بداخلي وعندما يتحرر ذلك الوحش الكامن لن اميز عندها بين صديق او شقيق او حبيب !"
كانت (ماسة) تنظر له بجمود تتحداه بعينيها الصلبتين بدون ان يرف لها جفن او ان تتأثر بنبرة صوته الخشنة والتي تستطيع دب الرعب بأوصال عدوها ، بينما انسحب (مازن) من امامها وهو يلقي نظرة سريعة على شقيقته الجالسة بطرف السرير بدون اي حركة فقط تنشج بصمت .
تنفست بهدوء ما ان اغلق باب الغرفة من خلفه بالمفتاح مجددا ، لتخفض بعدها نظراتها للكيس الملقى ارضا والذي لم ينتبه احد لسقوطه من كف صاحبه ، ركلت الكيس بقدمها بعيدا وهي تسير نحو المرتجفة بسكون وكفها ماتزال متجمدة على خدها المصاب ، لتجلس بعدها بجانبها على طرف السرير بصمت وهي ترفع ذراعها لتأخذ رأسها بأحضانها بتصلب ، بينما اراحت (صفاء) رأسها على صدرها بسكينة وكأنها كانت تنتظره بفارغ الصبر وهي تدفن وجهها بذاك الصدر الصلب بشهيق اطلقت سراحه ، لتربت بعدها بيدها الاخرى على شعرها البني الناعم بهدوء وهي تستمع لبكائها الخافت بصمت لفهما معا برقة اعتادتا عليها مثل رفيقهما الثالث بهذه الحياة .
______________________________
كانت تتنفس بملل بين الحين والآخر فوق مائدة الطعام وهي تستمع لشهقات شقيقتها بجانبها والتي لم تتركها وشأنها للآن بعد كم من الأوامر الصارمة والتي حرصت والدتها على حشوها برأسها قبل وصول والدها ، لترغم شقيقتها بالنهاية على ترك غرفتها لتشاركهم بطعام العشاء بدون اي حياة وهي تبدو شاردة بعيدا عن الجميع منذ بداية الجلسة بدون ان تلمس الطبق من امامها .
قال الوالد فجأة وهو ينظر لابنته الكبرى بتركيز حاد
"ما لذي اصابكِ يا سلوى ؟ هل انتِ بخير ؟"
انتفضت (سلوى) بألم ما ان شعرت بقدم والدتها تضرب على ساقها بقوة وهي تشير لها بعينيها بصرامة باتجاه والدها ، لتنظر بعدها بارتباك لوالدها وهي تبتسم له بنعومة حاولت تصنعها وهي تهمس بخفوت
"نعم يا ابي !"
عقد الوالد حاجبيه بريبة وهو يكرر السؤال بصرامة اعلى
"لقد كنتُ اسألكِ عن حالكِ ، فأنتِ تبدين لي غير طبيعية ! هل انتِ بخير يا ابنتي ؟"
اومأت برأسها بالإيجاب وهي تقول بابتسامة متزنة
"انا بأفضل حال يا ابي ، فقط حدثت معي بعض المشاكل الغير مهمة"
حرك رأسه بهدوء وهو ينظر لها بعدم اقتناع فهذه ليست ابنته المجنونة والتي يعرفها منذ صغرها ، لينقل بعدها نظراته لزوجته والتي كانت مشغولة بوضع الطعام بطبق ابنها الصغير بدون ان تمنع نفسها من ألقاء النظرات الجانبية والموجهة نحو ابنتها بالخفية ، ليصل بنظره لابنته الثانية والتي كانت تتناول طعامها بهدوء تحسد عليه بدون ان تتأثر بالمشاعر المتنافرة والتي تحوم من حولها بكثرة .
عاد بنظره لابنته (سلوى) مرة أخرى وهو يقول بحزم صارم
"وما لذي اتى بكِ للمنزل هذه المرة ؟ لم يكد يمر يومين على زيارتكِ الأخيرة لنا ! ام انكِ احببتِ النوم عندنا بعيدا عن منزل زوجك !"
عبست زاوية من شفتيها وهي تقول بمرح مزيف
"ماذا بك يا ابي ؟ هل مللت من زياراتي لكم بهذه السرعة وتريد طردي من منزلك لترتاح من وجودي ؟"
ردّ عليها والدها بتصلب بدون ان يهتم لكلامها الأخير
"لقد سألتكِ سؤال محدد واريد جواباً عليه ، ما لذي حدث معكِ لتتركي بيت زوجكِ وتأتي لمنزلنا مرة أخرى ؟"
عبست ملامحها بتشنج وهي تحيد بنظراتها لوالدتها بارتجاف والتي كانت تنظر لها بتحذير مستعر ينطق بعينيها ، لتعود بعدها بلحظات بنظرها لوالدها وهي تهمس بوجوم خافت
"لقد حدثت بعض المشاكل بيني وبين احمد ، لذا تركتُ منزله وجئت لهنا طلباً لبعض الوقت حتى انسى ما حدث بيننا"
كان والدها ينظر لها بتفكير عميق ليقول بعدها بتصلب متزن
"انتِ تقصدين بأنكِ قد اتيتِ لتقري لوالدتك كل ما حدث بينكِ وبين زوجك وتطلبي منها النصيحة والتي لا تستطيعين المضي بدونها ! وكأنكِ طفلة لا تستطيع فعل شيء بحياتها بدون مشورة والدتها والتي تتحكم بها كما تشاء مثل الدمية ، وحتى لو طلبت منها عصيان زوجها وعدم الاصغاء له فستفعل بدون ادنى تفكير ! بالرغم من ان زوجكِ هو الذي لديه الحق بالتحكم بحياتكِ اكثر من والدتك"
فغرت شفتيها بارتعاش وهي تهمس بدفاع
"هذا غير صحيح يا ابي....."
قاطعها والدها وهو يرفع كفه عاليا بأمر قائلا بنفاذ صبر
"هذا يكفي فقد اكتفيتُ من تصرفاتكِ الطفولية والتي لم تعد تطاق ابدا ! فأنتِ الآن قد اصبحتِ امرأة ناضجة متزوجة من عائلة من افضل عائلات المجتمع ، وهذا الهراء والسخافات وطريقة الهروب من بيت زوجك بكل مرة بسبب كارثة صغيرة عليه ان يتوقف الآن ، وليس اني غير مهتم بزياراتكِ الكثيرة ومشاحناتكِ والتي ازدادت مؤخرا مع زوجكِ يعني اني راضي عن هذا الوضع ! فنحن لم نربي ونتعب من اجل ان تتشوه صورتنا بالمستقبل بسبب اولادنا والذين لا يفكرون بمصلحة انفسهم ابدا"
تجمدت ملامحها بصدمة ممزوجة بالذهول وهي لا تعلم بماذا تنطق الآن بعد ان اهانها والدها امام العائلة بصورة مخزية ؟ لتهمس بعدها بلحظات بعبوس مستاء
"وما لذي افهمه من هذا الكلام يا ابي ؟"
تنهد والدها بهدوء وهو يقول بجدية حاسمة
"الذي عليكِ ان تفهميه هو بأن هذه الزيارات ستتوقف ، ومشاكلكِ والتي تحدث بمنزلك تحلينها مع زوجك وحدكما وبالتفاهم والتراضي بين الطرفين ، وآخر شيء ستعودين لمنزل زوجكِ غدا صباحا بدون اي تأخير"
ردت عليه (سلوى) بسرعة باستنكار
"لا يا أبي لا تقولها....."
قاطعها والدها بجمود وهو يضرب بيده على سطح الطاولة بأمر
"ولا كلمة يا سلوى ، ستفعلين كل ما اطلبه منكِ بدون اي اعتراض ، فهذه المهزلة والتي تفتعلينها دوما عليها ان تتوقف ! ولكي لا نصبح حديث الناس اكثر بسبب إهمالكِ وطفوليتك"
زمت شفتيها بغضب مكتوم والدموع عادت لتتجمع بمقلتيها من جديد وهي تهمس بقنوط
"حسنا"
انتفضت بعدها واقفة عن مقعدها وهي تندفع بعيدا عن مائدة الطعام لتكمل بكائها بغرفتها بعيدا عنهم ، بينما كانت نظرات (جويرية) تتابعها بحزن وحنق مما تسببه لنفسها من غبائها اللامحدود ، وما ان نقلت نظراتها لزوجها حتى قال لها بتجهم وهو ينظر لها بضيق 
"هل لديكِ كلام تريدين قوله ؟"
ابعدت نظراتها عنه بعبوس وإيباء قبل ان تنهض عن مقعدها كذلك وهي تسحب ابنها معها رغم ممانعته الشديدة لتغادر المكان بهدوء مريب ، ليخلفوا من بعدهم صمت دام لدقائق وحزن خيم على الأجواء بمشاعر كاتمة .
رفع الوالد نظراته باتجاه ابنته الأخرى والوحيدة والتي بقيت حول المائدة ، ليقول بعدها بهدوء وهو يمسك بالملعقة بشرود
"إذاً اخبريني كيف حال دراستكِ ؟ وهل ما تزال تنتابكِ نوبات الإجهاد من السير الطويل تحت الشمس وبساحات الجامعة ؟"
حركت رأسها بالنفي بهدوء وهي مشغولة بمضغ الطعام قائلة بخفوت مبتسم
"لا كل شيء بخير ، ولم اعد اشعر بأي إجهاد كما كان بالسابق"
اتسعت ابتسامة والدها بتصلب حنون وهو ينظر لخديها الموردين وهي تمضغ بهما الطعام مرجعة شعرها القصير لخلف اذنيها بهدوء ، ليرفع بعدها الملعقة وهو يتناول الطعام باتزان هامسا بحنية
"وهذا كل ما ارجوه منكِ يا ابنتي"
_____________________________
امسكت بشعرها الاسود الطويل وهي تلفه حول قبضتها بمنتصف رأسها قبل ان تنتزع المشبك عن رأسها لتمسك به خصلات شعر الجالسة امامها بإحكام ، لتثبت عندها استدارته فوق رأسها بدون ان يمنع بعض الخصلات من التساقط على جانبيها باستكانة ، اخفضت يديها بعيدا عن رأسها وهي تهمس بوجوم حزين
"لا اصدق بأني افعل هذا حقا ! لقد تمنيت سابقا ان اقف بجانبكِ بهذه اللحظة المهمة بحياتك ولكن ليس بهذه الطريقة"
كانت الجالسة بمكانها تنظر للمرآة امامها بشرود ولانعكاس عينيها الزرقاوين بدون اي حياة وكأنها احجار منحوتة بصدف البحر بدون اي عواصف او امواج فقط سكون تام احتل البحر بأكمله بطقس غائم جزئياً ، بينما باقي ملامحها هادئة تماما بشحوب لا لون له بيوم جف به بحر دموعها ليترك آثار جفافه واضحة عليها ، لتخفض بعدها بلحظات جفنيها الحمراوين بإنهاك وهي تهمس بابتسامة هادئة
"ولكنكِ ما تزالين تقفين بجانبي بهذه اللحظة المهمة من حياتي ، أليس هذا كافياً ؟"
عبست ملامحها ببؤس وهي تنظر لعينيها بالمرآة هامسة بامتعاض
"ليس هذا ما كنت افكر به عن هذا اليوم المهم ، وانا متأكدة بأنكِ انتِ ايضا ليس هذا ما كنتُ تفكرينه بهذا اليوم والذي من المفترض ان يكون من اسعد ايام حياتك !"
فتحت (ماسة) عينيها بحذر باتساع وهي تلمح بعض الدموع والتي ما تزال عالقة بأطرافهما بدون ان تسيل عن عينيها وكأنها تصر على تعذيبها بمكانها وهي تلسع عينيها بحرقة تشعر بها بكل أنحاء جسدها وكأنها تجلس على جمر من نار تندلع ألسنته بأعماق روحها ، لتقول بعدها بجمود وهي ترفع كفها لتمسح بها على خديها الثلجيين برفق
"ليس كل ما نتمناه يتحقق ، وليس كل ما نفكر به صحيح بالمعنى الحرفي ، فقد يكون كل ما يدور بذهننا مجرد افكار تافهة تدور برؤوسنا بلحظة ضعف منا لتختفي بعدها ما ان تتحقق صحتها ومدى استحالة حدوثها بعمالنا !"
زمت شفتيها بحنق وهي ترفع يدها لتلتقط من على طاولة الزينة مشبك آخر صغير قبل ان تمسك به بعض الخصلات الخارجة من عقدة شعرها وهي تتمرد عليها بسبب كثافته وطوله ، لتقول بعدها بابتسامة حالمة بأمل بعيدا عن كلامها الأخير
"بغض النظر ، ولكن هناك احلام جميلة وافكار من وحي خيالنا ، نتمنى حقا ان تتحقق لنعيشها على ارض الواقع كما نتمنى ، فليس هناك قانون يمنع عنا الخيال والتفكير بأشياء بعيدة عن عالمنا ، فكل ما اريده من هذه الحياة هو القليل من هذه السعادة برؤية ما احلم به يتحقق امامي وبرؤية كل من احبهم يعيشون بسعادة وهناء"
ابتسمت (ماسة) بمرارة وضعف ظهر على ملامح وجهها الشاحبة بانكسار وهي تستمع لكلام صديقتها الحالم والبعيد جدا عن عالمها البارد ، فهذا كان دائما التناقض بينهما وكل واحدة منهما تعيش بعالمها الخاص بها لوحدها والذي نسجه لها عقلها الباطن ، لتقول بعدها ببرود وهي تخفض قبضتها لتستكين بحجرها بجمود
"يبدو بأن القصص الخيالية قد اثرت على عقلكِ كثيرا يا صفاء ، وكل ما اخشاه هو بأن تنجرحي بقوة يوما ما من قسوة الواقع والذي نعيشه !"
نفضت (صفاء) ذراعيها للأسفل بإحباط وهي تهمس باستياء
"ها قد عدنا مرة أخرى للكآبة ! ألن تتوقفي عن هذه الافكار الكئيبة يا عدوة المتعة ؟ أتعلمين انتِ وشقيقي مازن مناسبين جدا لبعضكما لأنكما مزعجين ولا يطاق التكلم معكما ابدا ؟"
تنفست بهدوء وهي تعود للنظر لحدقتيها وللدموع العالقة بأطرافهما بشرود بدون ان تتجرأ على مسحها وكأنها خائفة من ازدياد انهمارها والتشققات بهما إذا اقتربت منهما اكثر من الحد المسموح به ، لترفع بعدها قبضتها المتصلبة وهي تتلمس بأصابعها طرف طاولة الزينة هامسة بشرود وابتسامة صغيرة اعتلت محياها بحزن
"أتذكرين يا صفاء عندما كنا اطفالا ! كنتِ دائما تخبريني بأنني لن اتزوج احدا غير مازن فهو الوحيد والذي يناسبني ويشبهني بكل شيء ، وانتِ ستتزوجين من امير يشبه الذي نراه على التلفاز وسيكون لقائكِ به بحفلة ملوكية لتصبحي انتِ اميرته وترقصين معه فوق الغيوم بسعادة"
ابتسمت (صفاء) بحنين وهي تتذكر افكار الطفولة البلهاء والتي لم يعد لها اثر بالواقع بعد ان تحررت من قيود برائتها لترتدي رداء الواقع القاسي والذي ليس له اي اثر من هذه الأحلام ، لتزفر بعدها انفاسها بنشيج متهدج ما ان تذكرت رقصها مع نفسها وهي تحرك قدميها الصغيرتين بحركات متأنية وتلوح بذراعيها النحيلين بالهواء بانسيابية مع تطاير اطراف ثوبها ليشكل هالة حول نفسها ، وكأنها ترقص فوق السحاب وهي تعانق الغيوم بسعادة ، بينما ضحكات صديقتها الساخرة بطفولية تخترق غمامتها بدون ان تؤثر عليها وكأنها نغمة خاصة ترقص على ألحانها بلا مبالاة ، لتصبح مجرد ذكريات واراها الزمن ودفنها الواقع الكئيب لتبقى طي النسيان للأبد .
انحنت عيناها الدامعة للأسفل بحزن والدموع تتجمع بحرارة بحدقتيها العسليتين بدون ان تمنعها ، لتحرك بعدها شفتيها الورديتين بارتجاف وهي تهمس باستنكار
"ولكنه كان مجرد كلام اطفال وتفكير محدود بالحاضر بعيدا عن المستقبل ، فنحن لم نكن نعلم بأن كل شيء سيتغير بلمح الصبر ما ان تمر السنين عليه ويظهر مدى سخفه بوقتها !"
تنهدت (ماسة) ببرود وهي ترفع عينيها لصورة انعكاس صديقتها بالمرآة لتقع نظراتها على خدها المحمر من الصفعة والدموع تسقيه بحزن ، لتقول بعدها بلحظة بابتسامة ساخرة بمرارة
"ولكن يبدو بأن جزء من تلك الاحلام السخيفة قد تحقق ، فأنا الآن سأتزوج من مازن كما كنتِ تفكرين وتتمنين !"
اتسعت عينيها بجزع وهي تحرك رأسها بالنفي بحركة غير ملحوظة ، لتندفع بعدها نحوها وهي تعانق كتفيها من الخلف بذراعيها بقوة هامسة بخفوت مرتجف وهي تريح جانب رأسها على كتفها
"لن يحدث شيء من هذا ، فأنا لن اسمح به ، وكل الذي دار بيننا بذلك الماضي سيبقى مجرد ذكريات لا معنى لها ، وانتِ ستكونين بخير اعدكِ بهذا ، وروميساء لن تترككِ ابدا وستفعل كل ما بوسعها لتساعدك"
اومأت برأسها بشرود بدون اي تعبير وكأنها قد سلمت نفسها لمصيرها المظلم أينما كان ، بينما استقامت (صفاء) بوقوفها لتمسح خديها بكفها بنشيج وهي تدلك بكفها الآخر على كتف صديقتها بهدوء ، لتسير بعدها بعيدا عنها وهي تتجه للنافذة المحطمة بهدوء لتنظر بلحظة للسواد والذي ساد بالمكان بالخارج لتختفي عندها معالم المكان والغير معروف موقعه فقط اصوات جراد الليل هو ما كان يخترق السكون بالأجواء الكاتمة بغموض ارهق القلوب المنتظرة !
_____________________________
اوقف السيارة بجانب الطريق بهدوء وهو ينظر للمنزل امامه بتركيز وهو يحمل نفس المواصفات والتي اخبرتهم به تلك الفتاة على الهاتف ، كان المنزل صخري بمعنى الكلمة بدون دهان يخفي اشكال الصخور وصناعتها البدائية والتي تبدو تآكلها الزمن بدون ان يترك اي شيء سليم بها من نوافذها المحطمة ومن لون صخورها الشاحبة المتآكلة بالعفن والحشرات ، وهذا بحد ذاته يدعو للإحباط والاشمئزاز لما وصل له حال البشر ووجود مثل هذا النوع من البيوت على سطح الأرض .
التفت نحو الجالسة بجانبه وهو يقول بغموض
"ماذا حدث ؟ ألم تجب على اتصالاتك ؟"
رفعت نظراتها نحوه وهي تحرك رأسها بالنفي لتخفض عندها الهاتف عن اذنها وهي تقول بإحباط
"لا لم تجب ، ولا اعلم لما اقفلت الهاتف الآن !"
حرك رأسه باتزان وهو يفتح الباب بجانبه قائلا بجدية هادئة
"اعتقد بأنه قد صادر الهاتف منهما ، وعلى كل حال فنحن قد وصلنا الآن ، ولا يفصلنا شيء عن تحريرهما من هذه القذارة ، فقط بعض الخطوات لنتعرف على غريمنا"
نظرت (روميساء) للمنزل امامها وهي تدس هاتفها بجيب بنطالها بهدوء ، لتخرج بعدها من السيارة خلف الذي سبقها وهو يقف امام المنزل بتجمد مضيقا عينيه السوداوين وكأنه يحاول حل معضلة ما .
وقفت بجانبه وهي ترفع قبضتها لصدرها المهتز تدعو ان لا يكون ما تخشاه قد حدث وفات الأوان على التدخل ، قالت بعدها بلحظات بابتسامة هادئة بوجوم
"ألم يكن علينا احضار الشرطة معنا ؟ من اجل هذه المهمة"
عض (شادي) على طرف شفتيه بعبث وهو يهمس ببرود يخفي من خلفه الكثير
"واين المتعة بالموضوع ؟ إذا تدخلت الشرطة فلن نستطيع عندها التسلي بتلقين ذلك الحقير والمسبب الرئيسي بكل مشاكل ماسة درسا لن ينساه بحياته !"
رمقته بطرف عينيها بعبوس وهي تهمس بجفاء صارم
"سيد شادي لا تنسى المهمة والتي علينا فعلها بهذا المكان وهو تحرير ماسة من براثن ذاك المجرم ، وليس الحصول على المتعة والتسلية بالقتال معه فنحن لا نريد المزيد من المشاكل !"
التفت بوجهه نحوها وهو يرفع حاجبيه بخفة قائلا بتعجب ساخر
"هل انتِ دائما صارمة هكذا بالتعامل مع الآخرين ؟ ام انها وراثة عندكم بالعائلة فقد لاحظت بأنها موجودة عند شقيقتك ايضا بكثرة !"
تجهمت ملامحها وهي تحرك رأسها بيأس من هذا المزعج والذي لا يتوقف عن قلب كل شيء يحدث معهم لمهزلة وهي اعصابها على وشك الانفلات منها بدون سخريته والتي ترفع ضغطها ، لترفع بعدها وجهها نحوه باستياء عابس ما ان همس بابتسامة متسعة ببرود
"ما بكِ ؟ لما تجمدتِ بمكانك هكذا ؟ ام لا تريدين انقاذ شقيقتك من ذلك المجنون ! هيا بنا بسرعة قبل ان يضيع كل شيء فعلناه هباءً وتضيع المتعة معها"
حركت رأسها بعيدا عنه بجمود وهي تسير باتزان باتجاه باب المنزل ، ليتبعها بعدها (شادي) بالسير خلفها بهدوء وعينيه مركزتين على المنزل بدون ان يحيد بنظراته بعيدا عنه ، وما ان وقفت امام المنزل وهي على وشك طرق الباب بقبضتها حتى اوقفتها اليد والتي امسكت بمرفقها وهو يقول بهدوء غامض
"انتظري قليلا ، فلم يأتي الوقت المناسب لتبدأي بطرق الباب"
التفتت نحوه بحيرة وهي تفلت مرفقها بعيدا عنه قائلة بتصلب
"ماذا تقصد ؟ ومتى يمكنني طرق الباب ؟"
تنفس (شادي) بهدوء وهو يعود للخلف عدة خطوات بحذر لينزل درجات مدخل المنزل ، ليتوقف بعدها بلحظات على بعد خطوات منها وهو يحني بجذعه للأسفل بتحفز قائلا بابتسامة جانبية بافتراس
"يمكنكِ الآن طرق الباب"
انفرجت شفتيها ببلاهة لبرهة وهي تراقبه بعدم استيعاب ، لتستدير بعدها بعيدا عنه بجمود مرتجف وهي ترفع قبضتها مجددا لتبدأ بطرق الباب بقوة ، وما هي ألا دقائق فقط حتى فُتح الباب بقوة امامها وهو يصدر صوتا مزعجا بسبب قدمه وهو يكاد يقع من مكانه ، اتسعت عينيه بصدمة الذي اطل من خلف الباب وهو ينظر بعدم تصديق للواقفة امامه بجمود ، لينطق بعدها بلحظة بابتسامة التوت بتصلب بزاوية شفتيه بانفعال
"مرحبا بروميساء ، ما لذي احضركِ لهذا المكان او بالأحرى كيف عرفتِ عن هذا المكان ؟"
عقدت (روميساء) حاجبيها بحدة وهي تكتف ذراعيها قائلة بصرامة قاطعة
"اريد شقيقتي ماسة"
ارتفع حاجبيه ببطء مستفز وهو يستند بكتفه بإطار الباب قائلا ببساطة
"اعتذر ولكني احتاجها الآن فعقد قراني بها سيبدأ بعد قليل وبعد وصول المأذون ، ولكني سأسمح لكِ بأن تكوني شاهدة معنا"
ارتفع حاجبيها بانشداه منفعل وشفتيها متصلبتين بشحوب ، ليتدخل بعدها صوت من خلفها جعل العيون تتجه نحوه وهو يقول ببرود متحفز
"سأريك الآن من سيسمح لك بعقد قرانك بها !"
ابتعدت (روميساء) عن طريقه بسرعة ليندفع صاحب الصوت من خلفها باتجاههما وهو يصعد الدرجات بلحظات ليوجه قبضته للذي ما يزال متسمر بمكانه بصدمة لتصل لكمته له وهي تعيده للخلف بعيدا عن إطار الباب ، ليسير بعدها لداخل المنزل ببساطة وهيمنة وهو يراقب من كان يمسح الدماء عن انفه ونظراته العسلية تتحول لنيران متقدة بلحظات ، بينما دخلت (روميساء) من خلفهما بسرعة لداخل المنزل وهي توزع نظراتها بأنحائه بهلع والرعب قد شل حركتها بالكامل وعقلها قد تشوش عن التفكير تماما وهي تتحرك بعيدا عنهما بحثا عن وجهتها الاساسية .
وقف (شادي) امامه مباشرة وهو يفرد ذراعيه له باستعداد قائلا بجدية وبنبرة جامدة نحتت ملامحه الباردة بخطر
"تعال وارني ماذا تستطيع ان تفعل يا قليل المروءة والشرف ! لتجرب مرة اخرى خطف فتاة مجددا رغما عنها وكل هذا لتجبرها على الزواج من شخص دنيء مثلك ، اتعلم ما هي مخالفة هذه الجريمة وما يستحق مرتكبها ؟"
ارتفع حاجبيه بتعجب قبل ان يبتسم بشراسة وهو يظهر انيابه قائلا بوحشية بدائية تظهر جانبه الاجرامي
"يبدو بأنك لا تعلم مع من علقت الآن يا مدلل ، فإذا لم تكن تعلم انا والجريمة لدينا ماضي ملطخ بالسواد سيعجبك كثيرا ان تتذوق بعضاً منه ! وهذه الفتاة والتي تتكلم عنها الآن هي ملكي منذ ان خلقت على هذه الحياة"
قطب جبينه بغموض حاد من كلامه وهو يشعر بنيران بأحشائه بدأت بالاندلاع بداخله تدريجيا بدون ان تظهر اي منها على ملامحه الجامدة ببرود وهي تتدفق لباقي انحاء جسده بحرارة الحمم يشعر بها لأول مرة ، بينما اندفع (مازن) وهو ينقض عليه بهجوم مباغت ليلكمه بقوة بوجهه وهو يرد لكمته السابقة ، ليحاول الآخر التوازن بوقوفه وهو ينظم انفاسه قبل ان يشعر بيدين تقبضان على عنقه بعنف وهو يكتم انفاسه ليهمس امام وجهه بجنون الغضب
"من انت ؟ ومن تكون ؟"
ردّ عليه (شادي) بابتسامة ساخرة باستهانة بدون ان يهتم بيديه الكاتمتين على انفاسه
"انا اكون ابن خالها شادي الفكهاني ، وماسة الفاروق تخصني انا وحدي"
زادت ملامحه شراسة متقدة وهو يعقد حاجبيه بطريقة خطيرة وكأنه قد فقد السيطرة على انفعالات جسده ، وبخضم صدمته لم ينتبه للقدم والتي ضربته بمباغتة بين ساقيه ليفلته عندها وهو يتأوه بألم ، ليستغل (شادي) ضعفه وهو يضرب برأسه جبهته بقوة جعلته يترنح بعيدا عنه ، ولم يتركه عند هذا الحد بل عاد ليمسك بعنقه بيديه وهو يشدد من القبض عليه كاتما انفاسه كما كان يفعل به قبل قليل وكأن الادوار قد انقلبت بينهما ، ليهمس بعدها بلحظات امام وجهه بانفعال مكتوم  
"مرة اخرى عليك بمواجهة من هو بحجمك ، فليس من اللائق بهيئتك وضخامتك هذه ان تفرد قوتك على فتاة ضعيفة لا تصل لنصف قوتك ! وهذا من اجل كرامتك بالمرة القادمة"
بهذه الأثناء كانت (روميساء) تحاول فتح قفل الباب والذي اكتشفت وجود شقيقتها وصديقتها بداخله وهي تضرب المقبض بدون جدوى ، لتخفض عندها ذراعيها بتعب وهي تتنقل بنظرها بارتباك لتقع على رزمة مفاتيح كانت ملقاة فوق طاولة الزينة بجانب الرواق .
ابتعدت بسرعة عن الباب لتلتقط المفاتيح من على الطاولة قبل ان تعود للباب وهي تتمتم باطمئنان مرتجف
"لا بأس ، لقد وجدت المفتاح الآن"
لتحاول بعدها فتحه وهي تدس المفتاح تلو الآخر حتى سمعت بالنهاية صوت فتح قفل الباب اخيرا ، تنهدت ببعض الراحة وهي تدفع الباب بكتفها باندفاع ، لتتوقف بعدها بلحظات بتوازن مهتز وهي تتمسك بإطار الباب وانفاسها تخرج بتهدج منفعل ، نقلت نظراتها من (صفاء) الواقفة بجانب الباب تبتسم لها بسعادة غامرة وعينيها دامعتين بشكل طفولي ، لتصل لشقيقتها الواقفة عند النافذة بجمود وليس هذا ما جمدها عن الحركة تماما ، بل بسبب ثوب الزفاف الأبيض والذي كانت ترتديه وهو يصل لكاحليها واكثر وملتصق بكامل جسدها بتناسق رهيب ادهشها ، وهذا غير شعرها الطويل والملفوف فوق رأسها بمشابك صغيرة بيضاء بنعومة الثوب ليظهر عنقها الطويلة والمنحوتة مثل الرخام الابيض ، ولا تعلم لما تذكرت والدتها بهذه اللحظة بالذات عندما كانت بزفافها من زوج والدتها وهي تبدو صورة طبق الأصل عنها فقط ينقصها ذلك اللمعان والذي كان يغطي والدتها بالكامل وهي تزف لذاك الرجل الغريب بسعادة منقطعة النظير !
تقدمت عدة خطوات بعيدا عن الباب وهي تنظر لها بانشداه متوجس دام لثواني وعينيها ما تزالان على اتساعهما المستدير الشاحب ، وما ان كانت ستبدأ بالكلام حتى سبقتها من التفتت نحوها برأسها ببطء وهي تهمس بخفوت حزين
"لقد تأخرتِ كثيرا ، أتعلمين كم من الوقت انتظرت عودتك ؟"
تصلبت بمكانها للحظات وهي تتنفس بنشيج وقبضتها مضمومة عند صدرها ونفس العبارة ضربتها من نفس الشخص ، عندما كانت تعود يوميا للمنزل بوقت متأخر بسبب عملها الطويل والذي كان يأخذ منها كل يومها لتستقبلها عند الباب طفلة بعمر العاشرة وهي تصرخ بها ببكاء منتحب
"لقد تأخرتِ كثيرا ، أتعلمين كم من الوقت انتظرت عودتك ؟"
افاقت من افكارها وهي تزفر انفاسها بابتسامة هادئة قبل ان تتسع ابتسامتها بسعادة شاحبة وهي ترفع قبضتها لتمسح بها الدموع المتجمعة بمقلتيها ، لتضرب بعدها جانب رأسها بنفس قبضتها وهي تهمس بخفوت نادم
"اعتذر ، لن اعيدها مجددا"
ارتفعت طرف ابتسامتها بتصلب هادئ وقد بدأت بعض الراحة تزحف لملامحها الرخامية بشحوب حزين ما ان تذكرت نفس الحركة والتي كانت تفعلها دائما كاعتذار على تأخرها الدائم بالعمل ، اندفعت (روميساء) بعدها بلحظات وهي تقطع المسافة الفاصلة بينهما لتعانق شقيقتها بقوة وهي تحيط كتفيها بذراعيها بحنان هامسة باضطراب مترافقا مع ارتجاف جسديهما معا
"لا تقلقي انا هنا معكِ ، وسأبقى دائما بجانبكِ ، وكل شيء سيكون بخير"
تنفست عندها بهدوء وهي تومأ برأسها بشرود بحركة غير ملحوظة لتريح جانب رأسها على كتفها باطمئنان وكأنها قد وصلت الآن لبر الأمان ، بينما كانت (صفاء) تتابعهما بشهقات صامتة ودموعها تنهمر بخفوت على خديها بانحدار حزين .
انتفضت بعدها من فورها الواقفة عند الباب وهي تلتفت برأسها للخلف بهلع ما ان سمعت صوت تحطم بالمنزل وصراخ شرس لوحوش تتناطح مع بعضها ، لتعقد عندها حاجبيها بتوجس وهي تنقل نظراتها للتي كانت تنظر لنفس الجهة بقلق متشنج وهي تستمع للأصوات المرتفعة بالخارج وكأن حرب طاحنة تدور بمنتصف المنزل ، بينما بقيت (ماسة) مستكينة بأحضانها بدون ان تفكر بما يدور من حولها من ضجة صمت اذنيها بألم منذ الصباح .
تحركت (صفاء) بالبداية وهي تخرج من الغرفة بسرعة لتلحقها الأخرى وهي تسحب شقيقتها معها للخارج ليكتشفوا مصدر الضوضاء ، لتقف بعدها فجأة التي شهقت بذعر ما ان رأت (مازن) مسجى على الأرض وشخص غريب يجثو من فوقه وهو يقبض على انفاسه يكاد يزهقها .
اندفعت بعدها لا إراديا وهي تمسك بذراع الغريب والقابض على انفاس شقيقها لتتشبث به وهي تصرخ به برجاء باكي
"ابتعد عن مازن يا هذا ، اتوسل إليك ابتعد عن شقيقي !"
تجمد (شادي) بمكانه وهو يرفع رأسه بعدم استيعاب للفتاة ذات الشعر البني الطويل والعيون العسلية والتي تبدو من قرابة هذا المجرم ! لينقل بعدها نظراته للواقفات بمكانهما بتجمد ولكن ليس هذا ما لفت انتباهه بل التي كانت واقفة بشرود وهي ترتدي ثوب زفاف ابيض زادها هشاشة وضعف وهو يظهر قوامها النحيل وكأنها مجرد شبح خرج من الحياة للتو بدون ان يظهر عليها اي بوادر من الحياة ، فقط عينيها القاتمتين واللتين ازدادتا برودا بلونهما الغريب والمائل لألوان البحر بيوم غائم هما وحدهما ما كانتا تدلان على الحياة والتي تدب بعينيها المتصلبتين وهو يلمح بعض من الدموع المتدفقة عند زاويتهما والتي كانت تحتجزها بداخلها بقسوة رآها من قبل ، بدون ان يفهم سبب كل هذه القسوة بعينيها البحرية ؟
حرك رأسه بقوة وهو يعود بنظره للمسجى على الأرض اسفله وهو يهيمن عليه من فوق ، ليشدد عندها من القبض على عنقه بقوة وهو يقرب وجهه امامه تماما ناظرا لعينيه العسليتين واللتين اصبحتا بأبشع صورهما ، ليقول بعدها بابتسامة جانبية باشمئزاز
"اسمع ما سأقوله جيدا وضعه برأسك الأحمق ، إذا حاولت الاقتراب مرة أخرى من ابنة عمتي ولو على بعد خطوات منها فلا تلوم عندها سوى نفسك لأني لن اتركك عندها تنجو من يديّ ، وتذكر بأني شخص لا يخطئ هدفه ابدا مهما كانت المسافة والتي تفصلني عنه !"
ابتسم بعدها ببرود وهو يبتعد عنه لتتراجع عندها (صفاء) كذلك باهتزاز وهو يستقيم بوقوفه لينفض قميصه الابيض وشعره وكأن شيء لم يكن ، لتتصلب بعدها ملامح الآخر بشراسة قد عادت لتدب بجسده وهو يركل ساقه امامه حتى كاد يوقعه للخلف قبل ان ينتفض وهو يقفز واقفا بعد ان وقف على قدميه ، بينما وقف الآخر امامه باتزان بعد ركلته وهو يتنفس بهدوء متصلب شرس .
قال بعدها (مازن) وهو يمسح وجهه بذراعه بتعب وببدائية لم تتوقف بعد
"لا تظن بأني من الحماقة لأدعك تأخذ دميتي وترحلون ! فهي الآن قد اصبحت ملكي ولا احد منكم استطاع اخذها مني لا من قبل ولا من بعد ، وانتم هنا فقط تضيعون وقتكم بلا جدوى بوجودكم بمنزلي"
تجمدت ملامحه بدون ان يظهر اي شيء على سطح وجهه وحاجبيه مرفوعين بترقب خطر ، لتتدخل بعدها (ماسة) لأول مرة وبعد ان استعادت قوتها السابقة وهي تقول بنبرة باردة بقسوة
"انا لست دميتك يا مازن ، ولا تستطيع التحكم بي وفعل ما تشاء بحياتي ، وكما اخبرتك انا لم اعد تلك الفتاة والتي يتآمرون عليها الرجال مثل الدمية ، لذا اوقف هذه المهزلة وتوقف عنها فقد اصبحت تدعو للملل والاشمئزاز !"
التفت (مازن) نحوها بعبوس متجهم وهو يقترب منها عدة خطوات ليلوح بذراعه جانبا قائلا باستنكار هجين
"هل جننتِ يا ماسة ؟ ام لا تريدين ان تفهمي مصلحة نفسكِ ومع من عليها ان تكون ! هل حقا تريدين الذهاب بعيدا عن الشخص والذي دائما ما كان يوفر لكِ كل فرص السعادة والراحة ومن يعرف كل خفاياكِ وعيوبكِ ؟....."
قاطعته (ماسة) وهي تبتعد عن شقيقتها واقفة امامه بشموخ وهي تهمس بجفاء حاد
"كفى لقد تعبت من اعادتك لنفس الاسطوانة امامي ، ألم تمل منها ام انك تحب كثيرا الهدر من كرامتك والتي لم يتبقى منها شيء على مدار سنوات ؟"
تغضن جبينه بغضب مكتوم وهو يعقد حاجبيه بشراسة متقدة وانفاسه تخرج باشتعال يوشك على حرقها والفتك بها ، لتتابع بعدها كلامها وهي تغادر بعيدا عنه باتجاه باب المنزل بلا مبالاة
"عذرا ، ولكني متعبة جدا الآن ، واريد الذهاب للمنزل"
كانت الأنظار تحوم من حوله وقد تجمد بمكانه بتصلب للحظات قبل ان ينسحبوا واحدا تلو الآخر باتجاه باب المنزل ، ولكن ما لم يتوقعه احد هو السكين والتي اخرجها من جيب بنطاله ليصوبها باتجاه (شادي) وهو يصرخ به بوحشية مع استدارته للخلف
"انتظر ، فأنا لدي هدية من اجلك يا مدلل !"
ما ان التفتت الأنظار باتجاهه حتى ألقى بالسكين بعيدا بأقصى ذراعه بخط مستقيم ، ولم ينتبه احد للتي وقفت امام هدف السكين ليصيب نصلها طرف ذراعها قبل ان تكمل طريقها لتغرز بالجدار حتى علقت به بشموخ ، مرت لحظات خاطفة كاتمة للأنفاس قبل ان تقطعها شهقة (روميساء) وهي تهمس بانشداه مرتجف
"صفاء !"
امسكت (صفاء) بجانب ذراعها بألم والتي غرقت بالدماء حتى سالت لطرف اصابعها لتقطر بالدماء والتي بدأت بالهطول لتسقي الأرض من تحتها ، بينما ارتجفت اطراف (مازن) فجأة بانقباض وهو ينظر باهتزاز لشقيقته والدماء والتي تغرق جانب ذراعها وقميصها والذي انشق منها مكان نصل السكين ، ليبتلع بعدها ريقه بتشنج مضطرب وهو يرفع كفه ليمسح بها على وجهه بغضب ناري قبل ان يندفع بعيدا عنهم بعنفوان وهو يخرج من المنزل بلحظة .
تنهدت (ماسة) بارتجاف وهي تتراجع للخلف لتستند بالجدار بتعب استبد بها من كل ما حدث معها للآن ، بينما نقل (شادي) نظراته باتجاه السكين المغروزة بالجدار وهو يفكر بمدى الضرر والذي كان سيتعرض له من نصل تلك السكين والتي تلقفتها عنه شقيقته كما رأى !
تحركت (روميساء) والوحيدة والتي قطعت السكون والذي لفهم معا لتتقدم باتجاه المصابة وهي تمسك معها بمكان موضع الجرح والذي سببه نصل السكين لتنظر لمدى اصابته .
قالت (صفاء) وهي تحرك رأسها بهدوء هامسة بابتسامة متشنجة
"لا بأس يا روميساء ، مجرد اصابة عرضية"
عبست ملامحها وهي تعود لصرامتها لتشدد من الضغط بكفها على موضع الألم قائلة بجدية منفعلة
"هل جننتِ يا صفاء لتفعلي هذا وتقفي امام السكين ؟ من الجيد بأنها قد اصابت جانب ذراعك فقط وألا كانت ستقتلك يا مجنونة !"
ردت عليها (صفاء) بارتجاف وهي تبتسم بحزن
"ولكن هذا افضل من ان تصيب احد منكم ، وعندها سأتحمل انا الملامة لأن شقيقي هو المسبب الرئيسي بهذه الاصابة !"
نظرت (روميساء) بحزن لموقع اصابتها وهي لا تصدق مدى الضرر والذي تعرضت له من اجل شقيقها المجنون ! لتسمع بعدها صوت (شادي) وهو يقول من خلفها بتصلب جاد بعد ان عاد لبروده الجليدي
"اعتقد بأنها تحتاج للذهاب للطبيب ، ويمكننا ان نوصلها معنا بالسيارة ، وانتِ يا روميساء ستذهبين معها للطبيب للاطمئنان على اصابتها ، وانا سأكمل الطريق مع ماسة لأوصلها للمنزل"
التفتت (روميساء) برأسها نحوه وهي تفكر بصحة كلامه وهو افضل شيء يفعلونه بحالتهم المتدهورة والاصابات والتي تملئ كل واحد منهم ، ليتدخل بعدها صوت (ماسة) البارد باهتزاز وهي ما تزال تستند بالجدار بإنهاك
"استطيع العودة للمنزل وحدي....."
قطعت كلامها وهي تتنفس بحشرجة واختناق لتخفض عندها رأسها للأمام باهتزاز وهي تحاول استعادة توازنها لطبيعته وكل شيء من حولها بدأ يدور بحلقات مفرغة ، لتشعر بعدها بذراع متصلبة تعيد رأسها للخلف بهدوء وهو يرفع ذراعها النحيل ليسندها حول كتفيه ويمسك بجانب خصرها بذراعه الآخر وهو يبعدها عن الجدار ليقول بلحظة بابتسامة هادئة بثقة
"انا سأهتم بها جيدا واعيدها للمنزل سالمة ، فهي الآن تحتاج لأحدهم بجانبها ليسندها حتى تصل للمنزل بحالتها المتدهورة هذه !"
كانت (روميساء) تتنقل بنظرها بينهما بتشوش ناظرة لشقيقتها والتي تبدو بحالة منهارة لأول مرة تراها عليها وهي تكاد تقع لولا الذراعين الممسكين بجسدها بإحكام ، اومأت بعدها برأسها بالإيجاب بصمت قبل ان ينسحب (شادي) من امامهما وهو يسير بخطوات متمهلة مترافقة مع خطوات رفيقته المتعثرة ، ليلوح بعدها بكفه الآخر لهما قائلا بعجلة
"هيا بنا لنسرع ونخرج من هذا المكان المشمئز ، فقد بدأت اشعر بالغثيان من هذه الأجواء !"
لتتبعه بعدها الفتاتين وهما تخرجان من باب المنزل بسرعة والذي تركوه مفتوحا ليخلف من بعدهما سكون تام والهواء يلعب بفراغه وعتمته وما تزال السكين ثابتة بمكانها بشموخ بدون ان تهتز من الهواء والذي يحوم من حولها ببرودة جمدت المكان .
_____________________________
كانت تنظر من النافذة للطريق المظلم والذي كان يجري بسرعة بجانبها بدون اي انارة تضيء الطريق فقط اضواء السيارة الامامية هي من كانت تخترق السواد امامهم بقوة ، بعد مسافة طالت لساعات لم تستطع حسابها بدقة من الطنين والذي كانت تشعر به يصم اذنيها منذ بدأ رحلة العودة ، حتى انها لم تشعر بخروج شقيقتها وصديقتها المصابة من السيارة بصمت بعد وصولهما لمشفى قريب من المدينة ، وكل ما تذكره هو صوت (روميساء) وهي تقول بهدوء حزين
"ارجوك اعتني بشقيقتي جيدا ، وخذ هذا مفتاح شقتنا الجديدة بالطابق السابع ببرج النجوم بمنتصف البلد ، لا تنسى ما اخبرتك به"
ولم تشعر بعدها سوى بتحرك السيارة بعيدا عنهما لتفترق عندها بعيدا عن صوت تنفسهما والذي كانت تشعر به بوجودهما ليتركاها وحدها بعالمها المشوش والغائب عن الوعي وهي تحاول التشبث بكل قوتها بخيوط ذهنها بدون ان تفلتها او تسمح لها بالهروب ، وكل ما تملكه الآن هو هذا العالم الوهمي والذي تعيش به وينسجه لها عقلها الباطني بدون ان تفقد شعورها بالواقع وهي تتمسك به بقوة بعد ان خسرت كل شيء تملكه وبقيت وحدها بهذا العالم ، فهي لن تدع نفسها تسقط غائبة عن الوعي بهذه اللحظة بالذات قبل ان تصل لفراشها ولمكانها الآمن والذي سيخلصها من كل دناءة البشر من حولها .
اخترقت اصوات ضوضاء السيارات والمركبات وعيها ما ان وصلوا للطريق السريع بمنتصف البلد والذي يعج بكل انواع البشر وكأنها امواج هائمة من حولها ، وما ان مرت لحظات أخرى مشحونة بالضوضاء حتى شعرت بتوقف السيارة أخيرا بجانب الطريق وهي تعلن عن انتهاء رحلتها الصاخبة والتي استنفذت منها كل قواها .
خرج (شادي) من السيارة ليدور حولها بخطوات واسعة قبل ان يفتح الباب بجانبها وهو يمد كفه قائلا بهدوء
"هل تحتاجين للمساعدة ؟"
نظرت (ماسة) لكفه لثواني لتتمسك بعدها بإطار الباب بيديها وهي تقول ببرود
"لا بأس ما زلت استطيع التحرك لوحدي ، فأنا لم اصب بمكروه بعد كل شيء"
رفع كفه لرأسه بعيدا عنها وهو يحرك كتفيه بلا مبالاة ، بينما كانت (ماسة) تحاول النهوض بتعب وهي تشعر بالدوار يعود ليلفها بقوة ليحتجزها بمقعدها وهي تعود للجلوس عليه بإنهاك وتشنج احتل اطرافها ، لتترك بعدها إطار الباب وهي تمسد على جانب رأسها بكفها باهتزاز اصبح ينتابها بانتفاضات متفاوتة ، نظرت ليده الممدودة مجددا وهو يقول ببساطة بالغة بدون استسلام
"والآن هل تحتاجين للمساعدة ام انكِ ستعاندين اكثر ؟"
زمت شفتيها بألم وهي ترفع كفيها على مضض لتمسك بذراعه بقوة وهي تحاول النهوض عن مقعدها ، ليسحبها بعدها للأمام بقوة وهي تقف بارتجاف امام جسده والذي اسند وقوع جسدها المنتفض .
اغلق باب السيارة من خلفها بذراعه وهو يمسك بجسدها بذراعه الآخر قبل ان يقف بجانبها وهو يحاوط كتفيها بهدوء ، لتحاول بعدها الابتعاد عنه وهي تمسك بطرفي الثوب بيديها لتخطو للأمام عدة خطوات متمهلة بدون ان تسمح للدوار بأن يوقف تقدمها .
شهقت (ماسة) بوجل ما ان شعرت بجسدها يطير بفعل ذراعين حملتاها عاليا بخفة ليتهدل باقي الثوب حول قدميها للأسفل ، لترفع بعدها نظراتها نحوه ما ان قال بابتسامة جانبية بثقة
"اعتذر ولكن ليس لدينا الوقت بطوله لأنتظركِ وانتِ تخطين كل عشر خطوات بخطوة ، ومراقبتكِ وانتِ تفعلين كل هذا يبعث على الملل الشديد !"
عضت على طرف شفتيها باستياء وهي لا تصدق مدى بساطته بمثل هذا الموضوع بعد كل ما حدث معها للآن ، بينما تجاهل (شادي) امتعاضها والواضح بحدقتيها الحجريتين وهو يسير باتجاه مدخل البناء بثبات .
وما ان وصل امام باب الشقة المطلوبة حتى انزلها على قدميها بهدوء وهو يراقب نظراتها الحادة بتصلب والتي ادارتها بعيدا عنه ، ليفتح بعدها قفل الباب بالمفتاح بحوزته وهو يدفع الباب بهدوء ، ارتفع حاجبيه بدهشة مصطنعة وهو ينظر لها وهي تدفعه لتسبقه بالدخول بقوة وكأنها ليست الضعيفة والتي تستطيع الرياح تحريكها والتي كانت عليها قبل قليل !
ابتسم بلا مبالاة وهو يسير لداخل الشقة لينظر لزواياها بتمعن هادئ ، وصل بنظره للواقفة امامه والتي كانت تمد يدها بتصلب قائلة بخفوت جامد
"اعطني حقيبتي"
اخفض نظره للحقيبة والمعلقة على ذراعه وقد نسي امرها تماما ، ليرفعها بعدها امامها وهو يقول بابتسامة باردة
"تفضلي يا آنسة"
امسكت حزام الحقيبة بهدوء لتتراجع بخطواتها بعيدا عنه وهي تقول بنزق  
"والآن يمكنك المغادرة ، وشكرا لك على كل شيء"
ارتفع حاجبيه بخفة وبعدم تصديق لما يسمعه من وقاحة بعد كل ما فعله من اجلها ومن انقاذ كلفه حياته لتطرده بالنهاية من الشقة ببساطة ! ليرفع بعدها بلحظات ذراعيه لفوق رأسه وهو يقول بمرح مزيف
"رائع ! أهذا كل ما لديكِ مقابل التضحية والتي قدمتها من اجلكِ يا ناكرة الجميل ؟ حتى اني كنتُ على حافة الخطر بالسكين والتي كانت ستصيبني من اجل انقاذ حياتك !"
حركت رأسها ببرود وهي تسير بعيدا عنه باتجاه بهو الشقة قائلة بجمود قاتل
"لا اذكر بأني قد ارغمتك على المجيئ وانقاذي من ذلك المصير !"
زفر انفاسه بضيق وهو يتخلل شعره بأصابعه بغضب دائما ما تبعثه بداخله بدون ان يعلم السبب لذلك ؟ لينقل بعدها نظراته باتجاهها وهي تجلس على الأريكة بصمت لتضع حقيبتها ارضا ، كان يتابع حركاتها الجامدة بانتباه وهي تخلع المشابك الفضية بعنف عن شعرها لتلقي بها ارضا غير مبالية بتكسر معظمها ، لينزل شعرها الطويل بعشوائية غجرية وبعض الخصلات قد التفت بتموجات غريبة بنعومة ، لتحيط بعدها بوجهها البارد بهشاشة بعيدا عن الجمود والتي كانت تتسم بها بشرة وجهها الرخامية بدون اي حياة .
تأوهت بألم وهي تخفض ذراعها ببطء بعد ان تخدرت من حركتها العنيفة بآلية ، لتخفض بعدها نظراتها للأسفل بخمول هيمن على جسدها بعد قتال طويل اجهد اعصابها ويدها تمسد على جانب رأسها برتابة ، لم تنتبه بعدها لتحرك الواقف عند باب الشقة وهو يتجه نحوها مباشرة بعد ان اغلق الباب من خلفه بهدوء ، ليجلس بعدها على الطاولة امامها ببساطة بدون ان يهتم بنظراتها والتي ارتفعت نحوه فجأة بعبوس ضعيف اظهرها اكثر رقة وحزن وخاصة مع شعرها الهمجي والذي كان يشكل هالة بديعة الجمال لساحرة صغيرة تستطيع سلب القلوب الضعيفة بنظرة واحدة لأحداقها البحرية .
تنهد (شادي) بلحظات وهو يقول بتفكير عميق ناظرا لأحداقها والتي كانت تنظر له بجمود
"هل انتِ بخير ؟ هل ما تزالين تعانين مما حدث مع ذلك المجنون ؟ واصلا ما قرابته بكِ فهو يبدو يعرفكِ جيدا !"
ادارت عينيها بعيدا عنه ببطء وهي تهمس بوجوم شارد
"انه ابن شقيق زوج والدتي قيس والذي كنتُ اعيش معه ، يعني قيس يكون عمه"
حرك رأسه بتفكير محبط مما استنتجه من هذه العلاقة الغريبة بينهما والتي تدل على أنهما كانا مقربين جدا من بعضهما فيما مضى ، مع ان الواقع يقول بأنه لا علاقة تربط بينهما ولا من اي جهة ولكن بسبب علاقتها الطويلة بزوج والدتها تحتم عليها ان تتقبل اقاربه ايضا ومن بينهم تلك الفتاة صديقتهم ، عاد بنظره لها ما ان شعر بتقطع انفاسها بنشيج مضطرب لينظر مرة اخرى لحدقتيها البحريتين واللتين ما تزالان تختزلان الدموع بهما بتجمد قاسي لم يرى له شبيه .
قال بعدها بلحظات وهو يسند كفيه على ركبتيه بقوة ناظرا لها بتمهل
"هل انتِ بخير ؟ اعتقد بأنه كان من الأفضل لكِ الذهاب للطبيب مع روميساء ورفيقتها !"
حركت رأسها بالنفي بحذر وهي تهمس بخفوت مشتد
"انا بخير فقط احتاج لأخذ قسط من الراحة بعد كل ما حدث معي ، لذا هل تسمح لي ؟"
عبست ملامحه وهو يفهم جيدا تلميحها له بالخروج من الشقة بكل وقاحة وبدون اعتبار لوجوده وبأنه يكون ابن خالها والذي انقذها من الخطر قبل ساعات ، رفع بعدها كفه بدون ان يمنع نفسه ليتلمس اطراف عينيها بمفصل اصبعه السبابة وهو يقول برفق
"حقا بخير ! إذاً ما سبب هذه الدموع والتي اراها دائما بعينيكِ ؟"
انتفضت بتشنج من ملمس اصبعه على بشرة وجهها ، لتتنفس بعدها باضطراب وهي تدفع يده بعيدا عنها هامسة بتلعثم منقبض
"هذا لا يعنيك ، واخرج من هنا"
عاد (شادي) لرفع يديه ليمسك هذه المرة بكتفيها من فوق خصلات شعرها المجنونة وهو يقول بروية وكأنه يتعامل مع قطة صغيرة خرمشت وجهه بأظافرها الحادة للتو
"اهدئي يا ماسة ، واخرجي كل ما بداخلكِ من كبت فليس من الجيد حجزه بداخل روحكِ هكذا وبعينيكِ ، فكل شيء بالحياة له حد للتحمل وانتِ قد تجاوزتِ ذلك الحد !"
رفعت حدقتيها الجامدة له ولأول مرة وهي تهمس بخفوت مرتجف بعيدا عن البرود والذي كان يطغى على صوتها
"لما تصر على تعذيبي ولا تخرج من هنا ؟ احتاج للبقاء لوحدي ، ووجودك هنا يزيد من الضغوط عليّ !"
ردّ عليها (شادي) وهو يحرك كتفيه بلا مبالاة وبإصرار غريب لم يعهده بنفسه
"لا بأس فأنا موجود هنا لأستمع وأراقب نهاية انهياركِ وإلى اين سيصل ، وانا متأكد بأنكِ عندما تخرجينها من داخلك كل شيء سيتحسن عندها"
زفرت انفاسها بإنهاك وهي تخفض رأسها ببطء شديد لتستند بجبينها على كتفه العريض وشعرها متساقط مثل الستار من حولها وعلى كتفيه بسكون ، وما هي ألا دقائق معدودة الفاصلة بينهما حتى بدأت تخرج الشهقات المنتحبة قاطعة الأجواء الساكنة بتمزق صوتها وهي تتحرر من قيودها كوحش كاسر يقبع بداخلها ، ودموعها تسقي قميصه الأبيض بنفس بياض ثوبها بدون ان تعيرها اهتمام فقط تُخرج كل ما بداخلها من ضغط وانتهاك لا إراديا وكأنها كانت تنتظر الفرصة لتفك قيوده وتخرجه امام احد مهما يكن ، بينما كان (شادي) يدلك على كتفيها برتابة خشنة وهو يحاول تخفيف القليل من انهيارها الناعم مثل لعنة انقلب السحر على الساحر وقد كان هو الساحر بالنهاية !
_________________________________
بعد مرور شهر.......
سارت بسرعة باتجاه باب الشقة والذي كان يصدر صوت الرنين المتواصل وهي تحاول عقد شعرها الطويل صارخة بارتفاع صارم
"حسنا سمعت ، انا قادمة"
وما ان وقفت امام باب الشقة حتى فتحت مقبض الباب بيد وهي تمسك بعقدة شعرها الطويل بيدها الأخرى ، لتتجمد بعدها بمكانها للحظات ما ان اصطدمت نظراتها بالشخص الواقف امامها بهيبة وشموخ ملئت المكان وهو ينظر لها بعينيه الرماديتين الهادئتين وبنفس الابتسامة المتزنة والتي يحافظ عليها دائما ، ليقطع بعدها تواصل العيون صوت (احمد) وهو يقول بابتسامة متسعة بجاذبية
"صباح الخير يا روميساء ، كيف حالكِ اليوم ؟"
ابتلعت ريقها برهبة وهي تبتسم باتساع رقيق بشفتيها الممتلئتين بعد ان اعتادت على مقابلته بها دائما وهو لا يتوقف عن زياراته لشقتهما بشكل شبه يومي ، وخاصة بأنه قد تكفل بمهمة إيصالها يوميا لمقر عملها وهي المدرسة الجديدة والتي اختارها لها لتبدأ عملها بها ، وكم تشعر بالراحة بعملها الجديد بها وبوجوده بقربها دائما من حولها ليلبي لها كل طلباتها واحتياجاتها بالحياة وقبل ان تطلبها حتى ، لتصبح حياتهما هي وشقيقتها بهذا الشهر المنصرم عبارة عن حياة هادئة لا يشوبها اي مشاكل فقط منزل يحتويهما وطعام وفير وعمل يوفر لهما المصروف اليومي بجانب المال والذي يصر (احمد) على وضعه بحوزتها كمورد آخر ، وهذا غير الملابس والمأكولات والتي تصلها منه عن طريق رجاله والذين يعملون عنده وبخدمتها .
اومأت برأسها بقوة وهي تنفض الأفكار عنه لتبتسم بعدها بامتنان قائلة بمودة
"انا بأفضل حال ككل يوم ، وكيف لا أكون بخير وانت دائما موجود معنا وتقدم لنا دعمك بكل لحظات حياتنا !"
ابتسم بهدوء وهو يحرك رأسه باتزان قبل ان يتمتم بقوة
"هذا لا شيء امام مهمة تحقيق راحتكِ وسعادتكِ يا زوجتي العزيزة ، فأهم شيء عندي هو ان تكوني بخير وهذا يكفيني"
ابتسمت بإحراج شديد ظهر على خديها المحمرين بكل مرة يبدأ بها بمعاملتها بلطف وبتذكيرها بمرتبة زوجته والتي احتلتها مؤخرا ، ومن فرط احراجها الشديد لم تنتبه لنفسها وهي تخفض يدها والتي كانت تمسك بالعقدة بعنف ليتناثر شعرها حول وجهها بكثافة ونعومة وهو يغطي جانبيها بطوله وينزل بفوضى ناعمة لأسفل كتفيها وكأنها ستارة سوداء تغطي مفاتنها عن الأعين المسحورة بها ، عادت بسرعة لرفع يديها بارتباك وهي تحاول اعادة تجميعه مرة أخرى بصعوبة ، لتشعر بعدها بكفيه وهي تمسك بيديها ليخفضهما قائلا بهدوء جاد
"دعيني اهتم بهذه المهمة"
سكنت بمكانها بجمود لبرهة وهي تتابع حركاته الهادئة وهو يتخلل شعرها الاسود الطويل بأصابعه ليجمع خصلاته معا قبل ان يعقدها سويا بربطة مطاطية خلعها عن معصمه ليعقد بها شعرها على هيئة ذيل حصان طويل ، وما ان انتهى حتى ارجع ذيل حصانها لخلف ظهرها ببساطة وهو يتغلغل به مستمتعا بنعومته الفائقة والتي يجربها لأول مرة والمختلفة تماما عن تموجات شعر زوجته الاخرى والتي تملئها التشابكات .
تراجعت للخلف بعيدا عن يديه بارتباك وهي تمسد على ذيل حصانها بتوتر ، لتقول بعدها بابتسامة صغيرة بخفوت
"شكرا لك على المساعدة"
رفعت عينيها الخضراوين نحوه بتوجس ما ان قال بعبوس متجهم تراه لأول مرة على ملامحه المتزنة
"اين هو خاتم زواجكِ ؟ لما لا اراكِ ترتدينه ؟"
اخفضت كفها بسرعة لتضمها مع كفها الأخرى وهي تقول بابتسامة هادئة
"اجل انا لا ارتديه دوما لأنه ثقيل جدا على اصبعي ، واخشى من ان يسقط مني بالعمل او بأي مكان بدون ان اشعر به فهو يبدو غالي جدا !"
ازداد عبوس ملامحه بعدم رضا من تصرفها وقد لاحظ مرارا عدم ارتدائها للخاتم بمكان عملها وبكل مرة تخرج بها من الشقة وكأنه شيء عتيق غير مهم وجوده بحياتها وما يمثله لها وهي تعامله كصاحبه تماما ، بدون ان تعلم بأنه الشيء الوحيد والذي يمثل انتمائها له بحياته .
بينما عقدت (روميساء) حاجبيها بحيرة وهي لا تفهم إمارات الحزن والأسى والتي تغزو محياه ما ان يكتشف عدم ارتدائها للخاتم والذي لم ترتح يوما لارتدائه والتلويح به بكل مكان خوفا من ان يسرق او يفسده شيء ؟ حتى انه لم يسألها او يأخذ رأيها بشراء الخاتم والذي احضره لها على حين غرة منها لترغم على تقبله بسعادة منقبضة وهي تراه اكبر حجما على اصبعها بكثير ومتناقض تماما عن شخصيتها والتي لم تحب يوما مثل هذه المظاهر الفارهة والتي تخدع العين فقط !
قطع عليهما الصمت والذي غيم عليهما فجأة صوت (ماسة) وهي تقول ببرود ساخر
"مرحبا بزوج شقيقتي المحترم ، هل اتيت لتأخذها معك لعملها ؟ ام لتتسلى معها بالكلام الغرامي عند باب الشقة كالعادة مثل المراهقين !"
التفتت (روميساء) نحوها بعنف وهي تهمس بحدة
"ماسة كفى ، احترمي ابن خالكِ والذي يكون زوج شقيقتك ولا تنسي بأنه هو من يأمن لنا هذه الحياة المريحة !"
تأففت المقابلة لها بنفاذ صبر وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها قائلة باستخفاف بالغ
"هل تريدين ان تحمليني اللوم لأنني قبلت بهذه الحياة المريحة والقادمة من زوجك والذي يحاول ان يكفر عن ذنب عائلته والذين نبذونا بالماضي ؟ وهو بالواقع ينتظر ولو نظرة صغيرة منكِ مقابل كل الهدايا والتي يمطرها علينا منذ زواجه منكِ"
فغرت شفتيها بارتعاش مرتجف وهي تشعر بالدماء الحارة ستنفجر بأوردتها من قوة تدفقها بهذه اللحظة بالذات ، بينما اشاح (احمد) بوجهه بعيدا عنها بإحراج استبد به ووضعه بموقف لا يحسد عليه ، لتتدخل بعدها (روميساء) وهي تقول بصرامة مهتزة ناظرة لها بتحذير
"اصمتِ يا ماسة ، لا اريد ان اسمع اي كلمة منكِ بحق احمد ، وإياكِ وان تعيدي هذا الكلام الوقح امامي مرة أخرى ، سمعتي !"
حركت عينيها بعيدا عنها قائلة بملل
"حسنا فهمت لن نزعج زوجك مرة أخرى ، ألن تذهبي الآن لعملكِ فقد تأخرتِ كثيرا يا معلمة روميساء ؟"
تنهدت بيأس منها لتنظر للساعة بمعصمها قبل ان تشهق بجزع ، لتندفع بعدها بسرعة بعيدا عنهما وهي تقول بعجلة
"انتظرني قليلا يا احمد ، فقط سأحضر حقيبتي من غرفتي"
اختفت بعيدا عن انظارهما لتتقدم (ماسة) بخطواتها امامه قاطعة المسافة بينهما ، لتتوقف بعدها امامه تماما وهي تقول بخفوت هادئ
"ماذا حدث معك بموضوع البحث عن عمل من اجلي ؟"
ادار نظراته نحوها بجمود وهو يقول بصرامة خافتة
"لا اعلم حقا ما حاجتكِ للعمل وكل شيء تريدينه متوفر عندكِ ! فقط انتِ اطلبي وكل شيء سيكون حاضر عندكِ وقت ما تشائين"
ردت عليه بتصلب خافت باقتضاب
"ارجوك يا احمد لقد تكلمنا عن هذا الموضوع من قبل ، والآن اخبرني هل وجدت ام لا ؟"
حرك (احمد) رأسه بالنفي بوجوم غامض وهو يهمس بخفوت
"لا لم اجد العمل الذي يناسبك"
تشنجت ملامحها وهي تقول بانفعال حاد
"ولكنك تبحث لي عن عمل منذ اسبوع ، غير معقول ان تكون لم تجد لي حتى الآن اي عمل مناسب لي ولو كان خادمة بشركتكم !"
حرك (احمد) رأسه بقوة وهو يقول بعدم رضا
"ما هذه السخافة والتي تتفوهين بها يا ماسة ؟ انتِ ما تزالين طالبة جامعية كيف تريدين مني ان اوظفك خادمة ! عندما تتخرجين يمكنكِ عندها العمل بمجال دراستك"
اشاحت بوجهها بعيدا عنه وهي تهمس بغيظ
"اشك بأن اجد وظيفة بمجال دراستي"
قطع عليهما كلامهما من تقدمت نحوهما بسرعة وهي تجري بعجلة وترسم ابتسامة كبيرة على محياها لتقول بعدها بجدية هادئة
"هيا بنا يا احمد ، فقد تأخرتُ كثيرا على دوامي"
كان (احمد) على وشك قول شيء لتسبقه التي تجاوزته وهي تخرج من الشقة بعجلة قائلة بنفاذ صبر
"هيا يا احمد بسرعة"
التفت برأسه للخلف بإحباط نحو التي غادرت من امامه بمسار ممر الشقة بعيدا عنه ، وما ان تحرك خلفها حتى سمع صوت بارد يقول من خلفه بخفوت
"شكرا لك على كل شيء قدمته لروميساء"
حرك رأسه بامتنان صامت وهو يكمل سيره خلف التي سبقته وهو يسير بخطوات متمهلة بتعمد لن تصل لها قبل ساعة بعكس خطواتها السريعة وكأنها بسباق ، وهو يتعمد فعل كل هذا ليستمتع باستفزازها لاحقا والذي نادرا ما يخرج منها ، ونظرات (ماسة) تتابعهما بهدوء لتتنفس بعدها براحة وبسعادة تشعر بها لأول مرة وهي تتمنى الأفضل لشقيقتها دائما والتي تستحق كل سعادة العالم والتي تمنتها كثيرا من اجلها .
____________________________
طرقت على باب المكتب بهدوء خافت ليلتفت عندها صاحب المكتب نحوها ببطء وهو مشغول بالتكلم على الهاتف بأذنه ، ليشير لها بعينيه السوداوين باتجاه الأريكة امام المكتب بصمت وهو مستمر بالاستماع للطرف الآخر ، تقدمت بعدها عدة خطوات بعيدا عن الباب وهي تلوح بالكتاب بكفيها امام وجهها ليعلم سبب قدومها إليه بوقت عمله الآن ، بينما رفع الآخر حاجبيه ببرود وهو يستمع للطرف الآخر بالهاتف بتركيز وعينيه معها ، ليفصل بعدها بلحظات الخط مع الطرف الآخر وهو يضعه فوق سطح المكتب بهدوء بالغ .
رفع (جواد) نظراته نحو التي ما تزال واقفة بمكانها بوجوم وهي تبتسم له برقة وكأنها طفلة تنتظر الأذن بالتحرك بعد ان انتهت مهلة عقوبتها ، ليبتسم بعدها بغموض وهو يحرك عينيه للأمام قائلا بجدية
"اقتربي امامي"
تحركت بسرعة وهي تقف امام مكتبه بطاعة تامة وذراعيها تدسان الكتاب بأحضانها بقوة ، ليقف بعدها عن مقعده وهو يدور حول المكتب بثواني قبل ان يقف امامها تماما ، فتحت شفتيها بارتباك عدة مرات وهي على وشك الكلام لولا ذراعه والتي ارتفعت نحوها ليمسك بأعلى ذراعها برفق وهو يهمس بجمود جاد
"كيف هي حالة ذراعكِ الآن ؟ هل تحسنت عن السابق ؟"
ارتجفت اطرافها بوجل وهي تشعر بلسعة حارقة من لمسة كفه على ذراعها بحركة عابرة وقد شعرت بها وهي تخترق سترتها الصوفية الثقيلة بقوة ، لكنها لم تتراجع او ترتعد منه كما كان بالسابق فقد اصبحت معتادة على لمساته العابرة واطمئنانه على حالها بين الحين والآخر منذ اصابتها بذلك الجرح والذي كان سببا بتقربها منه وهو يمطرها دائما بالأسئلة عن جرحها وحالته وسبب حدوثه وكأنها قد تحولت بلحظة خاطفة لشخص مهم جدا بحياته ، وهي بالمقابل تلتزم الصمت التام وتحاول تجنب اجابته عن اغلب أسئلته والتي تكون معظمها عن سبب حدوث الجرح ، وهي تتنعم بلطفه والذي كان نادرا ما يخرج منه وهي تمثل امامه دور الاميرة المدللة بقصور الحكايات والتي يلتف من حولها الفرسان بكل مكان .
اومأت (صفاء) برأسها بامتنان وهي تهمس بابتهاج لمع بحدقتيها العسليتين بتوهج
"لقد اصبح افضل من قبل ، ولم اعد اشعر بالألم به"
ضيق عينيه السوداوين وهو يدقق النظر بملامحها المشعة بتوهج عسلي دافئ ليعود بنظره لذراعها وهو يتذكر اول مرة رأى بها حالة ذراعها المريعة وكأنها قد انشقت بسكين لتسبب ذلك الشرخ وهي ملفوفة بعدد من الضمادات والتي كانت ظاهرة حول ذراعها ومن فوق قميصها ، والآن لم يعد هناك اي شيء ظاهر حول ذراعها وقد توقفت عن لف تلك الضمادات فوق قميصها ، ولكن الأكيد بأن تلك العلامات ما تزال واضحة على بشرة ذراعها ولن تزول بهذه السهولة .
قال بعدها بلحظات وهو يمسك بذراعها برفق ليرفعه عاليا بحذر وكأنه يتفحص مدى الألم به
"وهل تشعرين بالألم برفعه وباستخدامه بحياتكِ اليومية ؟"
تغضن جبينها بألم وهي تشعر بنخزة طفيفة سرت بطول ذراعها بدون ان تمنع الألم بالظهور على ملامحها الناعمة ، ولكنها تبقى اخف بكثير من الألم الحارق والذي كانت تشعر به ببداية اصابتها ، لتعض بعدها على طرف شفتيها الورديتين بارتجاف وهي تتمتم بامتعاض متألم
"بعض الشيء ، ولكنه يبقى افضل من الألم والذي كنت اشعر به بالسابق"
اخفض ذراعها بهدوء بدون ان يتركه وهو يقول بخفوت جاد
"إذاً ألن تخبريني عن السبب الحقيقي والمتسبب الرئيسي بإصابتكِ ؟"
زمت شفتيها بحنق وهو يعيد امامها نفس السؤال والذي لم ينفك يتوقف عن السؤال عنه وكأنه يصر على نبش الحقيقة من داخلها رغما عنها بدون ان تفهم سبب عناده ؟ وكأنه يستطيع قراءة افكارها وبما يجول برأسها ! انتفضت بعدها بعيدا عن كفه وهي تتراجع للخلف هامسة بارتباك متزن
"لقد اخبرتك بالسبب الحقيقي يا جواد ، فأنا قد وقعت على نصل سكين حاد كان ملقى على الأرض وجرح جانب ذراعي بقوة....."
قاطعها بخفوت بارد بنبرة غامضة
"لما تتكلمين بهذا الارتجاف يا صفاء وكأنكِ مرغمة على قول كل هذا ؟"
تنفست (صفاء) بتوتر وانشداه وهي تحاول استيعاب مغزى كلماته والتي ضربتها بالصميم ، لترفع بعدها ذراعها المصاب وهي تعانق به الكتاب بحضنها بقوة وكأنها تستمد منه الدعم .
افاقت من افكارها على صوت (جواد) وهو يقول بابتسامة هادئة بالتواء خفيف
"هل احضرتِ الكتاب معكِ لتعطيني اياه ؟ هذا يعني بأنكِ قد انتهيتِ من قراءته !"
اخفضت نظرها بسرعة للكتاب بحضنها وقد نست امره تماما والسبب والذي دفعها للقدوم لغرفة مكتبه الآن ، لترفع بعدها نظراتها نحوه وهي تقول بابتسامة صغيرة بسعادة عادت للتلون بملامحها
"اجل لقد انهيته بالأمس ، لذا احضرته لك لتستطيع قراءته بما انك كنت تريد الحصول عليه بشدة"
حرك رأسه باتزان وعينيه تتابعان سعادتها والتي تحولت من الحزن للابتهاج بثواني معدودة فقط ، لتخفض بعدها وجهها للأسفل بإحراج ممتعض من نظراته المسلطة نحوها بدون ان تبتعد عنها ولو لثانية وهو يصر على اختراق هشاشة مناعتها بسواد نظراته الحادة والتي لا تفهم طبيعة حدتها ؟!
بينما كان (جواد) يمتع نظره بمراقبة خصلات غرتها المقصوصة عند مقدمة جبينها وهي تسقط امام نظرها لتغطي الرؤية امامها بلون بني مائل للذهبي يختلف عن باقي خصلات شعرها المعقودة بالخلف ، ليتنهد بعدها بهدوء وهو يرفع يده ليمسك بالكتاب بحضنها وهو ينتشله منها بقوة ما ان ارخت ذراعيها للأسفل بعيدا عن الكتاب ببطء .
رفع الكتاب امام نظره وهو يتصفح به بسرعة بلمحة سريعة ليعرف على ما يحتوي بدون ان يدقق النظر به اكثر من لحظات ، ليغلق الكتاب باللحظة التالية وهو يقول بغموض مبتسم
"اعتذر إذا كان هذا الطلب سيكون ثقيلا عليكِ ، ولكن هلا شرحتِ لي محتوى هذا الكتاب الشيق فأنا احب كثيرا سماع تجارب الآخرين ؟ من اجل ان استطيع ان احكم على الكتاب قبل قراءته !"
رفعت عينيها العسليتين المتسعتين بتوجس وهي تعقد حاجبيها بتفكير قبل ان تهمس بابتسامة شاردة بحالمية
"اكيد لا امانع ، فأنا احب كثيرا ان اشارك تجاربي بالقراءة مع العالم ، وخاصة النوع المفضل عندي من القصص الخيالية"
حرك (جواد) رأسه بهدوء وهو يبتسم باتساع متصلب قائلا بسعادة غامضة  
"رائع يبدو بأننا نتشارك بنفس الأفكار ! وهذا سيكون جيدا لكي نستطيع التفاهم معا"
نظرت بسرعة نحوه وهي تهمس بوجوم عابس
"وماذا عن عملك ؟ ألست مشغولاً الآن بالعمل ! فأنا لا اريد ان اكون سببا بمقاطعتك"
حرك رأسه بلا مبالاة وهو يسير بعيدا عنها ليجلس على الأريكة وهو يضع الكتاب امامه قائلا ببرود
"لا بأس ، فأنا لدي الآن وقت مستقطع من العمل قبل ان اعود إليه ، وبهذا الوقت يمكننا التكلم عن طبيعة هذا الكتاب وتجربتك به"
رفعت حاجبيها بانشداه من عدم اهتمامه بالعمل واصراره الغريب للتكلم عن الكتاب والذي انتهت من قراءته بالأمس ؟ لتنفض بعدها كل هذه الافكار عن رأسها وهي تتجه بسرعة للأريكة لتجلس امامه وتضم قبضتيها معا قائلة بحماس طفولي وتوهج غزى ملامحها مجددا بشكل مبالغ به
"حسنا بما انك مصر على سماع تجربتي فسأخبرك بها وبكل ما اكنه من حب لهذا النوع من الكتب ! فأنا بالحقيقة عاشقة لكل انواع الكتب والتي تضم الخيال والحب معا بمزيج مذهل وكأنك تعيش بعالم آخر ، وهذا الكتاب لا يختلف عنهم بالجمال فهو يملك سحر سيأخذك بعيدا جدا لمكان لا يوجد به سوى جمال الحب وسحره والذي يلقيه على القلوب الملهوفة للحب....."
كان (جواد) يرفع حاجبيه بدهشة ممزوجة مع التجهم وهو يحاول تتبع كلامها الخافت والسريع والخارج من شفتيها الورديتين ، وكأنها عصفور صغير اطلق سراحه ليبدأ بالغناء والنشيد بكل مكان مسحرا العالم بصوته الرقيق مع رنة حزينة بدون ان يوقفه حائل ، وكل ما يدور بذهنه الآن بأن هذه الفتاة قد اصبحت جاهزة لتكون فريسة سهلة بعد ان اكتشف نقطة ضعفها والتي ستوصله لمراده اخيرا والذي تاق إليه كثيرا بعد سنوات طويلة حفرت بداخله بين الجفاء والحزن على ما ذهب تحت التراب بدون ان يستطيع اعادته للحياة...

نهاية الفصل.....

بحر من دموع Where stories live. Discover now