الفصل الرابع والخمسون (الأخير)

115 4 2
                                    

ضمت ساقيها بقرب بعضهما وهي تراقب الجالس امامها على كرسي بنهاية الغرفة ، لتبتسم بوجهه بلطافة محببة وهو يقابلها بعبوس متجهم وكأنه يعبر عن غضبه ورفضه بأقرب صورة معبرة ، لتتنفس بعدها بضجر وهي تقول بابتسامة حاولت جعلها متفهمة رقيقة
"ألن ننتهي من هذا الصمت ؟ انت تناظرني بهذه الطريقة الغاضبة منذ ما يقارب الساعة ! تشعرني وكأنني على وشك خوض حرب مميتة لا مفر منها !"
انعقد حاجبيه اكثر بجمود وكأنه لا يقوى على التفكير بالأمر الذي تحتم عليه الخوض به ، ليقول بعدها بصوت خفيض مضطرب
"هل هو اليوم حقا ؟ هل موعد العملية سيكون بعد قليل ؟"
اومأت (غزل) برأسها بتأكيد للمرة التي لا تعلم كم وهي تهمس بخفوت حاني
"اجل اليوم يا هشام ، كم مرة اعدت عليّ هذا السؤال ! هل نسيت بهذه السرعة ؟"
اخفض رأسه قليلا وهو يقول بخفوت واجم
"كلا فقط اردت التأكد"
زمت شفتيها بعبوس وهي تراقبه عن كثب قبل ان تقول بتشدق
"ماذا بك يا هشام ؟ ألم تكن قبل ايام تشجعني وتشرح لي عن ضرورة اجراء هذه الجراحة ؟ حتى انك احضرتني لهذه البلاد ولهذه المشفى بدون اخذ رأيي ، واجبرتني على العودة عندما قررت الهروب من اجراء الجراحة ! فماذا حدث لك الآن ؟ هل بدأت تتراجع عن قرارك ؟ هذا شيء ينافي مبادئك"
رفع (هشام) رأسه بصمت وهو ينظر لها بملامح مكفهرة عبث بها الألم والحزن ، ليقول بعدها بجمود ساخر
"ليس الامر كذلك ، ولكنك انتِ التي فاجأتني ! لقد كنتِ من فترة خائفة جدا ومترددة بخصوص خوضك للعملية ، واليوم اراكِ غير مبالية ومبتهجة ومستعدة للخوض بالعملية التي رفضتها اكثر من مرة ! ما لذي غيرك هكذا ؟"
حركت كتفيها ببساطة وهي تهمس بابتسامة باردة وكأنها تركت كل اعبائها تطير بالهواء
"لقد تقبلت الامر الواقع ، وبأن الاقدار بيد الله وحده ولا احد يمسك موتك او حياتك ، لذا اتركها تسير بك كيفما شاءت افضل لك ، وهذا ما عليك فعله كذلك"
غامت ملامحه بحزن اكبر غرق به حد الصميم وهو يضم قبضتيه امام شفتيه ويهمهم بخفوت
"يا الله ! كيف يتوجب عليّ خوض هذا الاختبار ؟"
مالت طرف شفتيها بأسى وهي تهمس بخفوت مستاء
"انا اعتذر على جعلك تمر بكل هذا ، لابد بأنك تتألم كثيرا بسببي ، اكثر ما كنت اجيده بحياتي هو جعل كل من حولي يتألم بسبب مرضي وهمومي ! يبدو كما قالت عني خالتي ذات مرة انا مجرد هم على قلوب افراد عائلتي مثل المرض الذي لا مناص منه !"
رفع نظره بصدمة بددت سحابات حزنه وهو يقول باستنكار
"هل قالت هذا حقا ؟"
بهتت تقاسيمها بلحظة وهي تشيح بوجهها بعيدا بصمت طاف من حولهما ، ليهمس بعدها بخفوت منفعل
"غزل !"
ما ان تمسكت بصمتها اكثر حتى قام من مكانه واقترب منها بسرعة قبل ان يحتضنها بلحظات وهو يدفنها بين حنايا صدره العريض مكان ضربات قلبه يناشدان حبها ، لترمش بجفنيها بدموع حبيسة ما ان قال بخفوت اجش ويديه تمسحان على ظهرها برقة
"لا تفكري بكل هذا يا صغيرة قلبي ، ولا تعطيه مساحة بقلبك كي لا يحزنك ويحبطك اكثر ، فكما انتِ تكونين قلب هشام انتِ كذلك حزنه وألمه وسقمه والذي لن يفارقه معك حتى الممات ، ويسعده ان يكون جزء خالد بداخله ، فما دمت انا بجانبكِ لا حاجة لكِ لمساندة احد او دعم منهم ، حسنا ؟"
شهقت بانتحاب خافت وهي تومئ برأسها بصمت وتمسح عينيها بظاهر يدها ، ليبعدها عنه إنشات بسيطة وهو يدنو برأسه حتى مستوى وجهها ويطبع قبلته بحرارة على جبينها ، ليهمس بعدها وهو يغمض عينيه بخفوت هائم
"احبكِ للأبد"
طافت ابتسامة لطيفة على محياها وهي تهمس بحب صادق
"وانا كذلك ، احبك دائما"
فتح عينيه ببطء شديد وهو يتأمل خضار عينيها الواسعتين القريبتين بعد ان انقشعت الغمامة عن واحتهما ولاحت ألوان الحب بقلبهما .
رفع رأسه عاليا وهو يحول نظره جهة باب الغرفة الذي فتح بلحظة وظهرت منه الطبيبة لتقول من فورها بعملية جادة
"لقد انتهى وقت الانتظار ، وحان وقت الدخول للعملية الجراحية"
تنفس (هشام) بضيق وهو يقول لها بخفوت صارم
"هلا منحتنا دقائق اضافية ؟ فنحن لم نستعد بعد للجراحة"
بقيت الممرضة واقفة بمكانها وهي تقول بحزم اكبر
"لقد اخذتما كل الوقت اللازم واكثر ، وجميع الاطباء المختصين بحالتها حاضرين وبانتظارها ، لذا نحن مضطرين لأخذ المريضة الآن للبدء بإجراء عمليتها حالاً"
وقف باستقامة وهو يستدير لها بلحظة قائلا بانفعال هادر
"لقد اخبرتكِ ان تتركينا دقائق قليلة ، ألا تسمعين ما اقول ؟ هل تريدين ان اتكلم بصوت عالي كي تسمعي جيدا ؟....."
قاطعته (غزل) بسرعة وهي تمسك بذراعه قائلة بحسم
"لا بأس يا هشام ، انا مستعدة لخوض العملية ، وليس هناك داعي للتأخير اكثر"
استدار لها بسرعة وهو يقول بوجوم محتد
"ماذا تفعلين ؟......"
قاطعته مجددا وهي تهمس بخفوت لطيف تحاول ان تطمئنه
"لا تقلق يا هشام ، سوف اكون بخير"
امسك بكتفيها بقبضتين قويتين لبرهة قبل ان يعانقها بين ذراعيه بهدوء وهو يقول بحزم رقيق
"عليكِ ان تكوني بخير"
اومأت برأسها بابتسامة ناعمة اعتلت محياها وهو يشدد عليها اكثر يكاد يمزق القميص الخاص بالجراحة حول جسدها ، ليتمالك نفسه بلحظة وهو يبتعد عنها ويلتفت ناحية الممرضة التي ما تزال لم تبارح مكانها ليقول لها بهدوء جاف ميت
"حسنا ، نحن مستعدون الآن"
نقلت نظراتها بعيدا عنه وهي تنادي على المرضى الآخرين
"هيا تعالوا وخذوا المريضة ، فالجميع بانتظارنا"
دخلوا ثلاث ممرضين مختصين للغرفة مع السرير المتحرك وهم يقفون بالقرب منهما ، وما ان كانت على وشك النزول عن السرير حتى منعها الواقف امامها وهو يعتقل خصرها بقوة ويحملها عاليا بين ذراعيه حتى طارت بالهواء ، ليتجه بها نحو السرير المتحرك بخطوتين واسعتين وهو يضعها فوقه برفق حتى تمددت عليه بالكامل .
خرج السرير المتحرك برواق المشفى وهو يسير بطريق غرفة العمليات ، لتظهر لها عائلتها الواقفين بانتظارها واعينهم تملئها الحسرة والحزن والإيمان بالحياة بأمل لا يموت ، بينما زوجها ورفيقها يسير معها بطريق الحياة وهو يتمسك بيدها بقوة بدون نية بتركها وكأنها سوف تختطف منه ، وما ان مرت من جانب عائلتها حتى لمحت ابتسامة والدها الواثقة ودموع والدتها الغالية التي تغلبها العبرة بهذه المواقف وهتاف شقيقها الصغير باسمها بتشجيع حامي وكأنها على وشك الخوض بمباراة كأس العالم ، وبلحظة اقترابها من غرفة العمليات ابتعد عنها رفيقها بالحياة واعلن فض التواصل بينهما مع فك تشابك ايديهما وهو يغلق الباب على قلبها حتى يحين موعد احيائه من جديد .
_______________________________
بعدها بمرور ساعات زمنية كانت تفتح جفنيها بهدوء ترفرف بهما بأجنحة الفراشة وتستقبل اول شعاع الشمس الموجه عليها يضرب عليها بحرارة وانتعاش وكأنها تحيى من جديد وتعلن ولادتها اليوم ، كما يحدث بحالات الولادة العسيرة يدخلون غرف العمليات بين الحياة والموت ويخرجون بعدها بمولود جديد وحياة اخرى جاءت على العالم تكتب تاريخها ، وها هو اليوم قد جاء لتعيشه بأول ايام ولادتها وبداية كل شيء بحياتها الطويلة التي كتبها الله لها ان تعيش بها وكأنها تخرجها من رحم اوجاعها .
اتسعت حدقتيها العسليتين بغشاوة بددت القليل من تشوش عقلها وغياب شعورها ، لتسلط نظراتها جهة النافذة المفتوحة ومصدر النور الساطع مثل الضوء بآخر النفق وبصيص الامل بحفرة اليأس ، لتتسع الرؤية بمحور نظرها وتتضح صورة ظل طويل بزاوية النافذة تغطي جزء من الضوء حتى شكلت هيئة انسان الاقرب لقلبها .
رفعت يدها بالهواء تفرد اصابعها امام الضوء وتحجب الصورة وهي تنادي بخفوت مناجي ضعيف
"هشام ، هشام ، هشام ، هشام....."
توقفت عن النداء عند المرة الرابعة ما ان تحرك الظل من مكانه وهو يستدير نحوها ويسكن بثبات ، وبغضون لحظات كان الظل يقترب باتجاهها رويدا رويدا حتى تضخم شكل الظل وتجاوز حجم كفها الصغيرة وغطى الضوء بأكمله ، ولم تشعر بعدها سوى بكفه القوية تعانق كفها الباردة بدفء ووجوده يطغى من حولها ويتسلل فوق اي سطوة او سلطان ، لتغمض عينيها بسعادة غامرة ما ان احتضنها بذراعه التي احاطت جسدها تحت الغطاء وسرقتها من سرابها لداخل صدره الواسع .
ارتسمت ابتسامتها بنعومة بطوف وردي ما ان حلق صوته المحبب بأذنها بطريق قلبها مباشرة
"لقد اصبحتِ بخير ، انتِ الآن بخير"
تنفست (غزل) بهدوء بدوامات وعيها وهي تهمس بنشيج حزين
"هل سأكون بخير ؟"
شدد من عناقها برفق وهو ينشر قبلاته الرقيقة على طول شعرها مثل بتلات الازهار ويهمس بخفوت شاعري
"ستكونين بخير ، كل شيء سيكون بخير بداية من هذه اللحظة"
رفعت يديها الصغيرتين فوق ظهره وهي تقبض بأصابعها على قماش قميصه وتهمس بدمعة تسربت بشقاء فوق بشرتها الشاحبة بسعادة
"لقد انتهى اخيرا ، انتهى !"
زفر انفاسه بحرارة وهو يدفن وجهه بعنقها الابيض ويبصم قبلاته على عظامها النافرة مثل صك الملكية ، ليتمتم بين كل قبلة والاخرى بخفوت اجش ولهان
"ارتاحي يا قلب هشام ، لقد اصبح من حقك الراحة ، ومن حقي انا ان اريح قلبي المعذب بكِ"
مسحت دموعها بكتف قميصه وربطت يديها خلف ظهره بتمسك تستمد منه الحب والاهتمام والمشاعر والحياة وكل ما كانت تفتقر له مسبقا وملئت تلك الفجوة اخيرا...
_______________________________
بعد مرور ايام.....
كان يصدح صوت بكاء طفل رضيع حديث الولادة بداخل جدران الغرفة يعلن عن وجوده ويكتب تاريخ ميلاده ، لينتهي به الوضع محمول بين ذراعي والدته وهي تهزه باستمرار وتحاول تهدئة بكائه والذي خفت تدريجيا لتتبقى فقط الشهقات الصغيرة والتنهدات وكأنه يحاول العيش ، بينما كانت الممرضة برفقتها تربط انبوب المغذي بيدها بالعبوة الخاصة بها وحقنها بالأدوية الحيوية والمساعدات .
اقتحم صمت الغرفة الذي دخل لها مباشرة بدون استئذان وهو يتقدم اتجاه السرير بسرعة ، وما ان وقف امامها حتى وجه كلامه للممرضة التي صعقت من دخوله قائلا بجدية
"كيف حالتها الآن ؟ هل كل امورها بخير ؟"
اومأت برأسها بتوتر وهي تقول بسرعة بتأكيد
"اجل انها بخير ، بخير تماما"
تطوعت (ميرا) بالكلام وهي تهمس بوهن خافت
"اجل انا بخير يا اخي ، لا تخاف علينا فأنا وطفلي على افضل ما يرام ، لقد نجونا بفضل رحمة الله ومن بعدك يا اخي"
حانت منه التفاتة نحوها وهو ينتقل بنظره تلقائيا للفافة الطفل بين ذراعيها تظهر منه يده الصغيرة تلوح بالسماء وتثبت وجودها بالكون ، ليسمع بعدها صوت الممرضة الذي جذبه من شروده وهي تقول بتهذيب
"سأخرج الآن لكي تستطيع الانفراد مع شقيقتك براحة ، ولكن تذكر مدة الزيارة عشر دقائق فقط من اجل راحة المريضة والطفل ، سأكون بالقرب من هنا بحال احتجتما أي شيء"
عاد (شادي) بالنظر لها وهو يقول بابتسامة هادئة
"شكرا لكِ ، بلغي الطبيب تشكراتي واحترامي"
اومأت برأسها وهي تقول بخفوت مهني
"حمد لله على سلامتهما ، ومبروك ما جاءكما"
خرجت بعدها من الغرفة بلحظات قبل ان يحول نظره للأم وطفلها وهو يتخذ مكانه بجوارهما على طرف السرير ، ليمسح بعدها على رأسها بكفه وهو يقول بخفوت باسم
"كيف تشعرين الآن ؟ هل تشعرين بأي ألم او سوء ؟"
حركت رأسها بالنفي وهي تهمس بخفوت لطيف
"كلا انا بخير تماما ، لا تقلق عليّ بعد الآن يا اخي ، فقد تخطيت الامر بالفعل"
تنفس (شادي) براحة وهو يقبل جبينها بعطف قبل ان يهمس بخفوت حاني
"حمد لله على سلامتك يا ام صالح"
توردت وجنتيها بسعادة رغم شحوب ملامحها والخطوط الواضحة عليها بإرهاق ، لتخفض نظرها نحو طفلها الوديع وهي تمسح على رأسه الصغير بحنان وتقربه من احضانها بهدوء ، لتقول بعدها بابتسامة غزت محياها برفق
"ألن تسلم على ابني ؟ لقد كان ينتظر قدومك بفارغ الصبر !"
بهتت ملامحه وهو يخفض يده عن رأسها ويحدق بوجه الطفل الابيض الصغير حديث الولادة ، امسك برأسه من تحت لفافته وهو يحدق بعينيه السوداوين المحدقتين به والشبيهتين بعيون عائلة والدته والمتوارثة عن اجدادهما الذين اشتهروا بالأعين السوداء الواسعة المكحلة .
افاق على صوتها وهي ترفع الطفل اتجاهه قائلة بابتسامة عطوفة
"ألا ترغب بأن تحمل طفل اختك ؟ انت بالتأكيد تريد رؤيته عن قرب وتبادل الترحاب معه ! هيا احمله وجرب ذاك الشعور ، وصدقني ستحبه كثيرا"
ابتلع ريقه بتصلب وهو يمد ذراعيه ويتلقف الطفل بين احضانه بحرص قبل ان يقربه من وجهه وتزكمه رائحة الطفولة المنبعثة منه بسخاء ، ليهمس بعدها بابتسامة حارة بسعادة
"جميل جدا يا اختي ، الله يبارك لكِ بهذا المولود"
اتسعت ابتسامتها بسعادة غامرة وهي تهمس بخفوت متودد
"والله يرزقك بالمثل يا اخي"
تجمدت ابتسامته بدون كلام وهو يتأمل التفاصيل الصغيرة والدقيقة بالطفل حديث الولادة بمتعة غريبة ، لتقول بعدها بفضول وهي تتجول بنظرها حوله
"اين هي ماسة ؟ لماذا ليست برفقتك ؟"
ردّ عليها بهدوء جاف بدون اي اهتمام
"ستصل بأي لحظة فقد اخبرتها بموعد ولادتك ، قد تكون علقت بالزحام بالطريق بين عملها والمشفى"
عقدت حاجبيها بتفكير قبل ان ترفع رأسها بآن واحد ما ان ظهرت المقصودة بكلامهما وهي تطرق على باب الغرفة المفتوح ، لتلتفت العيون نحوها وهي تلوج للداخل بثقة وتحمل بين يديها باقة ازهارها البيضاء ، لينهض (شادي) من جانبها كي تأخذ الاخرى مكانه وهي تعانقها بذراعها وتقبل خديها الاثنين هامسة بمرح
"حمد لله على سلامتك يا ام صالح وشقيقة زوجي ، سعيدة بخروجك سالمة من هذه المعركة الكبيرة"
اومأت (ميرا) برأسها بضحكة مرهقة وهي تهمس بامتنان
"شكرا لكِ يا زوجة اخي ، لقد اسعدتني جدا بمجيئك ، وانا كنت اتساءل اين هي بهجة العائلة ؟"
سحبت نفسها بعيدا عنها وهي تهمس بابتسامة متأسفة
"اعتذر على التأخر عنكِ ، لقد كنت عالقة بالزحام ، لذا اخذ مني وقت اطول بالوصول"
ربتت على يدها فوق ملاءة السرير وهي تهمس بمحبة
"لا بأس بذلك ، المهم بأنكِ وصلتي"
تنهدت بهدوء وهي تدس خصلاتها خلف اذنها هامسة باهتمام
"كيف اصبحتِ الآن ؟ هل انتِ بخير ؟ لقد سمعت بأن عمليتك قد اخذت وقتا اطول من اللازم !"
اومأت برأسها بالإيجاب وهي تهمس بتأكيد
"اجل انا بخير ، لقد تجاوزت مرحلة الخطر والحمد لله"
رمقت الواقف بجانبها بطرف عينيها وهي تهمس بتملق
"كيف حالك يا زوجي ؟ اراك قد وصلت مبكرا !"
شدد من احتضان الطفل بين ذراعيه وهو يقول بابتسامة ساخرة
"بالطبع سأصل على الموعد ، فأنا بخلاف عنكِ دقيق بمواعيدي واضع لكل شيء مهم بحياتي اولويات له"
زمت (ماسة) شفتيها بعبوس وهي تهمس بخفوت مشتد
"لم اتأخر عن قصد ، لقد كان هناك زحام بالطريق"
نظر لها بحدة وهو يقول بتجهم بدون اي مراوغة
"ولم اطلب منكِ ان تعلقي بالزحام ، لقد ابلغتكِ بقدومي إليكِ لاصطحابك من مكان عملك ، ولكنكِ رفضتي بحجة انشغالك بالعمل"
اشاحت بوجهها بعيدا عنه بدون ان تنطق بمزيد من الكلام لكي لا تدخل بشجار جديد معه ، لتتدخل بعدها الجالسة على السرير وهي تهمس بدهشة
"هل انتما متخاصمين بسببي ؟"
قالت (ماسة) من فورها وهي تبتسم بمشاكسة
"ومنذ متى لم نكن متخاصمين ؟ هذا تقليد شائع بيننا بكل فترة علينا ان نتخاصم لكي نجدد الروتين بحياتنا ، هل فهمتني ؟"
ارتفع حاجبيها ببهوت وهي تهمس بخفوت مبهم
"اعتقد بأنني فهمتك"
رفعت باقة الازهار امامها وهي تلوح بها قائلة بابتسامة مبتهجة
"لقد احضرت لكِ هدية بمناسبة ولادة طفلك ، باقة ازهار جديدة ومختلفة عن السابقات لأنها من نوع فاخر"
مالت ابتسامتها بهدوء وهي تهمس بامتنان
"شكرا لكِ ، انتِ الافضل"
وضعت الباقة فوق المنضدة بجانبها قبل ان تسمع تعليق الواقف بقربها باستهزاء
"كيف كان العمل ؟ هل انتظرتِ لنهاية الدوام ؟"
عضت على طرف شفتيها بحنق وهي تنهض عن السرير وتلتفت نحوه مباشرة ، لتقول بعدها بتسلط
"وهل يهمك هذا كثيرا ؟ ألن تتوقف عن مضايقتي بهذا الموضوع ؟"
تلبدت ملامحه بجليدية وهو يقول بجمود صخري
"انتِ من بدأ بكل هذا يا رأس المشاكل ! واكثر ما يضايقني هو تمثيلك الاهتمام وانتِ آخر من يهتم"
نفضت ذراعيها على جانبيها وهي تقول بانفعال حانق
"لست بوضع يسمح لك بمحاكمتي واطلاق المواعظ ! وانت آخر مرة زرتها بها كانت قبل شهرين من الآن"
ارتفع حاجبيه بصدمة بدون ان يسمح له الطفل بحضنه بالتفكير بعد ان اطلق صوته ببكاء عالي على اثر شجارهما ، لتتجمد الاخرى بمكانها بتسمر وهي تنتبه لوجود الطفل لأول مرة والذي كان يلوح بكلتا يديه الصغيرتين بالهواء وكأنه يطلب النجدة او الاستغاثة ، لتقول (ميرا) بجانبها بخوف متوجس
"ماسة ساعدي شادي بحمل الطفل ، يكاد ينزلق من بين يديه ، يبدو بأنه قد تضايق كثيرا من اصواتكما !"
لوحت بيديها برفض وهي تقول لها بارتباك شديد
"كلا لا استطيع ، لا اعتقد بأنها فكرة سديدة ، فأنا ليس لدي خبرة....."
قال (شادي) بسخرية وهو يستمر بصب جام غضبه عليها
"لن تفعل ذلك بالطبع ، فهي لا تجيد سوى الصراخ واللوم وجلب المشاكل على العالم ، لا تفلح بشيء غيره"
قبضت على يديها بقوة وهي تتقدم نحوه وتمد ذراعيها إليه قبل ان تقول بعزم
"اعطيني الطفل وانا سأتولى امر تهدئته ، اترك هذا الامر للنساء امثالي"
توترت ملامحه وهو يحتضن الطفل الباكي قائلا بقلق
"وماذا لو اوقعته ؟ او فعلتي ما هو اسوء ؟....."
هجمت عليه وهي تختطف الطفل منه بالقوة وتحتضنه بين ذراعيها وامام صدرها ، لتقول بعدها بثقة عالية
"هل رأيت ؟ استطيع تولي الامر بنفسي"
اخفض ذراعيه وهو يشاهدها بصدمة ليس بسبب كلامها الوقح بل بسبب سكوت الطفل عن البكاء بلحظة احتضانها له وكأنه يتعرف على هوية حامله والصدر الذي يحتويه بحنان ، لتخفض نظرها بهدوء وهي تتأمل العيون الصغيرة الناظرة لها واليدين الممسكتين بقميصها والابتسامة التي تعتلي ثغره الزهري كأجمل ما رأت ! لتدنو بعدها بوجهها منه وهي تستنشق عطره الفواح الذي يزكم انفها ويرفرف بقلبها بكثير من العواطف ويوقظ الغرائز المهجورة بداخلها .
اعتلت ملامحها ابتسامة تلونت بالحب وهي تهمس بخفوت رقيق
"هل تعلم مدى جمالك ؟ انت اجمل ما رأت عيناي ! حمد لله على وصولك سالم يا صالح"
غامت ملامحه عند سماع تلك الكلمات وكأنها نار تحرقه بأحشاء قلبه وتكويه ، لتقول بعدها صاحبة الابتسامة العريضة بابتهاج
"يبدو بأنه قد احبكِ كثيرا ، هذا يعني بأنكِ ستصبحين ام عظيمة بالمستقبل يحبها اطفالها ، انتظر بفارغ الصبر رؤية اطفالكما امامي وحملهم بين ذراعيّ !"
نقلت نظرها للواقف امامها يتبادل النظرات معها بصمت متشابك لبرهة ، لتهمس بعدها بابتسامة صغيرة بثقة
"اجل انا اجيد دور الأم بمهارة ، واصلح ان اكون ام ومربية لأطفالي"
قطب جبينه بجمود وهو يقول بهدوء باهت
"انا سأخرج قليلا ، فقد اصبح الهواء هنا خانق"
اتسعت حدقتيها الزرقاوين بصدمة وهو يتحرك امامها ويتجاوزها بسرعة قبل ان يخرج من الغرفة بثواني ، لتزم شفتيها بوجوم وهي تشرد بمكان خروجه بحسرة وغصة علقت بقلبها ، لتنجذب بعدها لصوت بكاء الطفل بأحضانها الذي سرق تفكيرها ومزق سرابها .
التفتت (ماسة) نحوها بسرعة وهي تضع ابنها بأحضانها قائلة بعفوية
"يبدو بأن طفلك جائع ، خذي ارضعيه وانا سأعود إليكِ ما ان تنتهين ، حسنا !"
خرجت بسرعة قبل ان تسمع تعليقها لتقابل الذي كان يعطيها ظهره ويشرد بنافذة كبيرة بنهاية الممر ، لتتنفس بعدها بقوة وهي تقطع المسافة بينهما بلحظات وتقف امامه تماما تحجب عليه صورة التأمل ، لترفع ذراعيها على جانبيها تجذب انتباهه وهي تقول بعبوس حزين
"هل ما تزال غاضب مني ؟"
اخفض نظره نحوها وهو يتمتم بجفاء
"هل اصبح الامر يهمك ؟"
ضربت ذراعيها على جانبيها وهي تهمس بخفوت جاد
"بالطبع الامر يهمني ، كل شيء يخصك ويعنيك يهمني لأنك زوجي وملكيتك حقي ، قد لا اظهر ذلك امامك تحاشي للمشاكل ولكنها الحقيقة"
حرك (شادي) رأسه باهتمام وهو يقول بابتسامة جانبية
"يا له من اكتشاف مدهش !"
زمت شفتيها بامتقاع وهي تهمس بخفوت متملق
"لم اقصد ان ارفض قدومي معك ، ولكني حقا كنت مشغولة للغاية بمشروع كان عليّ انهاءهُ بالوقت المحدد ، خاصة بأنني قد استلمت مكان ثابت بالعمل واصبح التزامي بمواعيد دوام العمل مهم"
ادار عينيه بعيدا وهو يقول بشبه ابتسامة باردة
"لا بأس بذلك يا ماسة ، فأنا لم اكن غاضب منكِ بكل الاحوال ، فقد كنت مستاء قليلا بسبب عدم وجودك بجانبي ! وغير هذا انتِ لست ملزمة بحضور ولادة شقيقتي او الاهتمام بموعد دخولها وخروجها من العملية !"
غامت ملامحها بصمت وهي تمسك بيده بين كفيها لتهمس بعدها بابتسامة لطيفة
"انا اعتذر لأنك مررت بكل هذا ، هل تسامحني على هفوتي ؟"
احاط يديها معا بكفه وهو يقول بابتسامة جانبية بتغضن
"موافق بشرط ان احصل على تعويض مقابل ذلك"
اتسعت ابتسامتها بسعادة حتى ظهرت اسنانها البيضاء بجمال حركت الامواج الجامحة بعينيها بعشق بدأت تحاكيه ، ليسحب بعدها يديه وهو يدسهما بجيبي بنطاله قائلا بجدية مفاجئة
"كيف عرفتِ بأنني لم اقم بزيارتها منذ شهرين ؟ هل كنتِ تزورينها باستمرار من وراء ظهري ؟"
ضمت يديها خلف ظهرها وهي تتجول بنظرها من حوله ما عداه هامسة ببساطة
"تقريبا كل اسبوع ازورها مرة ، يعني ليس باستمرار ، لا تخطئ فهمي"
رفع رأسه وهو يستغفر ربه بهدوء قبل ان يعود بنظره لها بلحظة وهو يقول باستهجان
"الآن عرفت فقط اين كنتِ تغيبين بين الحين والآخر بأيام عطلتك وبعد مغادرتك من العمل ، لقد لعبتها عليّ جيدا ايتها الماكرة الصغيرة !"
عادت بنظرها له وهي تحرك كتفيها باستخفاف هامسة ببراءة
"لقد كنت اوفي بوعدي لها ، فهي فتاة وحيدة ليس لديها قريب او بعيد ، واحببت ان اكون رفيقتها بهذه الايام الصعبة لكي اكفر عن ذنبي معها ، فأنا املك ضمير بعد كل شيء"
اشاح (شادي) بوجهه بعيدا وهو يقول بابتسامة جامدة بقسوة
"انتِ لم تذنبي بشيء معها ، بل انا المذنب الوحيد بكل هذه القصة ، لقد وضعتها تحت عهدتي وتوليت مسؤوليتها ولكني لم استطع رعايتها كما ينبغي ، لتصل بالنهاية لهذا الوضع والحال بسبب جهلي وحماقتي !"
احنت حاجبيها السوداوين بأسى وهي تقول بابتسامة حانية بصدق
"انت لست كذلك يا شادي ، فقد كنت وما تزال رجلي الافضل والاقوى على الإطلاق ، بالرغم من انني لن اتنازل عن لقب احمق شادي الفكهاني"
حدق بها بوجوم وهو يقول بخفوت ساخر
"صدقا لقد افادني كلامكِ كثيرا بطريقة غير معقولة !"
تراقصت ابتسامتها فوق محياها بعبث وهي تهمس برقة
"على الرحب والسعة"
حرك رأسه بيأس منها وهو يستدير بنصف جسده بعيدا عنها ، لتعود بسرعة للقفز امامه وهي تطوق عنقه بذراعيها بتأرجح قبل ان تهمس بلطافة خادعة
"هل فكرت بموضوع الاطفال جيدا ؟ فأنا ارغب بالفعل بالحصول على طفل ، ولن استسلم حتى احصل على مرادي"
زفر انفاسه بجهد وهو يقول بخفوت عابس
"هل الامر مهم جدا بالنسبة لكِ ؟"
اومأت (ماسة) برأسها بقوة وهي تقول بتصميم اكبر
"اجل مهم جدا ، ويمكنك اعتباره آخر امنية بحياتي قبل موتي ، فهل تحققه لي ؟"
ادار عينيه بعيدا وهو يرسم طرف ابتسامة على محياه قائلا باستنكار
"يا لكِ من مجنونة ، تسعين دائما بطريق اهدافك !"
شددت من تطويق عنقه وهي تهمس من بين اسنانها بتهديد
"ماذا قلت عني للتو ؟"
عاد بنظره لها وهو يقول بابتسامة هادئة باستسلام
"يبدو بأنه لا مفر لي من هذا المصير المحتوم ، وانا سأعلن هنا فوزكِ عليّ بهذه الحرب"
اتسعت حدقتيها الزرقاوين بانفجار الموج بقلب سمائهما وهي تهمس بلهفة كبيرة
"هل اعتبر هذه موافقة ؟"
رفع رأسه عاليا وهو يتمتم ببرود
"أياً يكن"
هجمت عليه بالعناق حتى دفعته للجدار خلفه وهي تكاد تتسلق فوق اعضائه وتأرجح قدميها بالهواء وكأنها تعيش سعادة ليس لها حدود او منطق ، لتلين ملامحه بحنان خالص ما ان همست فوق قلبه ببهجة طفولية
"شكرا لك يا شادي الفكهاني"
تنفس براحة وهو يلف ذراعيه من حول خصرها يسندها عليه كي لا تسقط ارضا ، ولكن تلك الراحة لم تدم طويلا ما ان صدح صوت بكاء الطفل بصوت اعلى يقرع مثل اجراس الخطر ويخترق الجدران بزلزال حي ، لينفض كليهما عن بعضهما بلحظة وكأن صاعقة قد مرت من بينهما وقطعت ذاك التواصل بعنف ، وبدون كلمة كان (شادي) يتجه بسرعة نحو غرفتها ويترك الاخرى تراقب اختفائه باستيعاب متأخر .
ما ان ادركت موقفها حتى جرت قدميها نحو الغرفة التي يخرج منها صراخ الطفل الذي كان مختلفا عن السابق وكأنه يقول شيء مفجع ويترجمه بشيء محزن ، وما ان وقفت قدميها عند إطار الباب حتى شاهدت زوجها الذي كان يحاول إفاقة الغائبة عن الوعي فوق السرير ويرقد بجوارها الطفل الباكي الذي يكاد يلفظ انفاسه الاخيرة من فرط بكائه ، وعندما يأس من ذلك كان يتحرك نحوها ويتجاوزها وهو ينادي بأعلى صوته على الممرضة بالممر يطلب نجدتها
"ايتها الممرضة اين انتِ ؟ تعالي بسرعة وانظري بحالة شقيقتي ! انها لا تفيق ابدا ! عليكِ برؤيتها وإيجاد حل سريع لها"
زفرت انفاسها بلوعة وهي تغطي فمها بيدها المرتجفة وتنزلق على إطار الباب حتى استقرت ارضا ، لتدفن وجهها بين ركبتيها وهي تعانقهما بين ذراعيها وتبكي بنواح فوق بكاء الطفل العالي ، وكأنهما يتشاركان نفس الوجع ونفس المعاناة والتي عاشت عليها طفلة وتربت عليها مراهقة ، انه الفقد الذي ما زال وما يزال يأخذ منها احبابها واقربائها ويفجعها بهم إلى مكان لا عودة منه او هروب .
_______________________________
كانت تسير معصوبة العينين بسبب شريطة مربوطة حول عينيها تحجب الرؤية عنها بالكامل ، وهي تلوح بيديها امامها تبحث عن طريقها وتستدل به من بين العتمة التي تظلل عالمها ، لتتوقف بعدها بشكل مفاجئ وهي تهمس بتوجس
"احمد هل ما تزال هنا ؟ اسمعني صوتك إذا كنت بالقرب مني !"
ارتعش عامودها الفقري ما ان شعرت بأنفاسه تضرب خلف عنقها وهو يقول بخفوت واثق
"انا هنا خلفك تماما ، ولم ابتعد عنكِ ميل واحد ، هل شعرتي بالوحدة بدوني ؟"
غطت عنقها بكفها وهي تقول بعبوس متذمر
"هلا توقفت عن هذا العبث ؟ واخبرتني بما تنوي فعله ! فقد مللت من لعب هذه اللعبة الطفولية"
رفع (احمد) رأسه عاليا وهو يقول بابتسامة باردة
"هل مللتِ بهذه السرعة ؟ نحن لم نسير سوى عدة خطوات للآن وبدأتِ تشعرين بالملل ! حقا تستحقين لقب معلمة متزمتة بكل شيء وعدوة المتعة"
اخفضت يديها على جانبيها وهي تقول بجمود مهدد
"إذا كان هذا كل شيء لديك فأنا سوف اخلع هذه العصابة عن عينيّ ولتذهب مفاجأتك للجحيم"
امسكها بسرعة من ذراعيها قبل ان تفعلها وهو يقول بهدوء جاد يعدل نبرة صوته
"لا تفعلي هذا يا مجنونة ! لقد تبقى فقط مسافة مترين امامك وبعدها باب مغلق ، ومن ثم تصلين لمكان المفاجأة ، لا تفسديها بآخر لحظة بعد ان بذلنا كل هذا المجهود"
زفرت (روميساء) انفاسها بضيق وهي تقول بخفوت حانق
"ما سبب كل هذه الحركات والغموض ؟ استطيع رؤية المفاجأة بدون ان تعصب عينيّ هكذا وتقيدني بالسير مثل الدمية"
ضرب على رأسها بخفة وهو يقول بصرامة مزيفة
"هذه مفاجأة يا بلهاء ! إذا رأيتها فلن تصبح مفاجأة ! لذا يتوجب التمهيد لها اولا واضافة بعض الإثارة والحركات عليها بهدف زيادة الحماس والمتعة"
زمت شفتيها بوجوم بدون ان تقتنع بكلامه وهو يدفعها بيده على ظهرها قائلا بعجلة
"هيا تقدمي بالسير وتوقفي عن التباطؤ بكل خطوة"
تنفست باستسلام وهي تكمل سيرها الاعمى وترفع يديها لترشدهما بطريقها ، وكما قال كانت تصل للباب المغلق بلحظات وهي تتحسس بيديها على سطحه تتعرف على وجهتها ، وقبل ان تتقدم بأي خطوة كان يقول لها مجددا بأمر نافذ
"افتحي الباب الذي امامك وادخلي"
ارتجفت يديها ما ان شعرت بصوته وانفاسه تلاصقها حتى دفعها للتخبط بالبحث عن مقبض الباب ، وما ان امسكت به اخيرا حتى اندفعت بفتحه بقوة وتقدمت عنه مسافة خطوات واسعة كادت تفقد اتزانها .
توقفت بعدها باستقامة وهي تدس خصلاتها المتمردة خلف اذنها بتوتر ، لتتغضن ملامحها بارتياب وهي تشتم روائح دهان ومنظفات تعبق بزوايا المكان وكأنها محصورة بمكان فسيح حديث البناء ، ليوقظها بعدها صوته البعيد وهو ما يزال يقف عند إطار الباب قائلا بحزم
"يمكنكِ ازالة الشريطة عن عينيكِ"
رفعت يديها بحذر وهي تمسكها بأصابعها وتنزلها عن عينيها للأسفل حتى مستوى عنقها...لترمش بعينيها الواسعتين عدة مرات بتشوش ما يزال يغيم بمجال رؤيتها بسبب تغطيتها فترة طويلة....وما هي ألا لحظات حتى شخصت بعينيها باتساع منبهر وهي تتجول بنظرها بأنحاء الغرفة التي وصلت لها وصدمتها بروائحها واجوائها...وكما استنتجت تماما كانت غرفة فسيحة باتجاه مضرب الشمس الذي يخترق زجاج الشرفة بقوة وينتشر بمحيط الغرفة....محاطة بجدران عالية مطلية بألوان سماوية ناعمة حديثة العهد والتي تركت بعض بقعها على الارضية وبكل مكان...والدليل على كلامها هو وجود المنظفات والمكانس بزاوية الغرفة والتي جهزت مسبقا من اجل تعزيل وتنظيف الفوضى بعد الانتهاء من دهانها بالكامل .
ارتفع حاجبيها بدهشة ما ان جذب نظرها وجود ألواح خشبية مصفوفة امام بعضها البعض ، واحداها موضوع على هيكل خشبي خاص بالرسم يقبع كرسي بدون ظهر امامها ، ويوجد كذلك علب ألوان مغلقة ومختومة بجانب مكان الرسم وضعت لغرض استعمال الراسم لها بترتيب منظم ، وما يثبت صحة تفكيرها هو وجود لوحات مختلفة ومنوعة معلقة على الجدران تعود لأشهر الرسامين...فمنها مرسوم بألوان زيتية ومنها بألوان مائية ومنها بألوان شمعية ومنها بألوان خشبية ، وكل واحدة تتصنف لرسام مختلف عن الآخر تعرف تاريخه وسجل حياته وإنجازاته وسيرته المهنية .
اتسعت ابتسامتها بين اندهاش وانبهار وهي تعيد نظراتها نحو الواقف بمكانه يشاهدها بصمت تام ، لتنطق بعدها وهي تخرج من سحر التأمل هامسة بذهول
"هل هذا مرسم ؟"
تحرك من مكانه وهو يتقدم نحوها بخطوات واسعة حتى وصل امامها بلحظات ليقول بثقة عالية
"اجل مرسم ، وماذا سيكون غير ذلك ؟"
ارتجفت طرف ابتسامتها وهي تشير بذراعها حولها هامسة بخفوت مفتون
"لماذا كل هذا ؟ ما هي المناسبة ؟"
مالت ابتسامته بحنان وهو يفرد ذراعه لها وكأنه يدعوها قائلا بفخر كبير
"هذا من اجل رسامتنا الماهرة ذات الموهبة الفريدة ، لكي نعلي من شأنها ونعطي هوايتها قيمة ومكانة بهذا المجتمع"
ابتلعت ريقها برهبة وهي تخفض ذراعها وتقول بابتسامة غامرة بالسرور
"لم اتوقع هذا منك ! لقد فاجأتني بالفعل ! لم اتصور ان تفعل كل هذا فقط من اجل هوايتي بالرسم ومعاملتها معاملة خاصة وكأنني واحدة من الرسامين المحترفين"
ربت على كتفها بقوة وهو يميل نحوها ويقول بابتسامة عريضة بمساندة
"انتِ بالفعل فنانة محترفة واكثر من الرسامين الآخرين ، لأنك استطعتِ الحفاظ على مثل هذه الموهبة الربانية بالرسم بمحيط قاسي يفتقر لكل الإعدادات اللازمة ! لذا عليكِ ان تفتخري بهذه الموهبة وتعطيها حقها بما انكِ تمتلكينها بحوزتك ، وإذا لم يدعم الزوج موهبة زوجته ويساندها فمن سيفعل ؟"
غزت الابتسامة محياها بكل حب ازهر بحدائق عينيها الخضراوين وهي تهمس برقة
"هذا كرم بالغ منك ، لم اتوقع ان احصل عليه يوما ! فهذه الهواية كانت حدودها الرسم على ورق الكراسة وجدران المنازل والشوارع وكراسي المدرسة بالفصل ، لم احلم ان تتطور لكل هذا ويكون لدي مرسم خاص بي مثل حال الرسامين المشهورين الذين كنت اتابع لهم فيما مضى ! هذا قد فاق عالم افكاري وخيالي بالنسبة للبيئة التي كنت احيى بها !"
امسك بكتفها الاخرى بيده يشدد عليها وهو يقول بابتسامة رقت بحنان يملئه الشغف
"توقعي كل شيء من الآن وصاعدا يا اجمل انسانة موجودة بهذا الكون ، فأنتِ الآن بعالمي كل شيء مستحيل اصبح ممكن ، لذا تمني امنياتك بحرية وبدون حدود وانتظري من فارسك لكي يحققها لكِ واحدة تلو الاخرى ، ألم اخبركِ سابقا بأنني قادر على سرقة النجوم واحضار القمر من اجلك ؟"
ضحكت بدموع تزاحمت بعينيها بسعادة وهي تمسك بيديه على كتفيها هامسة بمحبة خالصة
"شكرا لك يا احمد ، لجعل كل المستحيلات بحياتي ممكنة ، لقد حصلت منك على العطاء الذي لم احظى به يوما ، لذا شكرا جزيلا لك"
سحب يديه من تحت كفيها وهو يعانق وجهها ويقربه منه هامسا بخفوت اجش عاشق
"انتِ دائما معطاءة وصادقة ، وحان دوري لأكون مثلكِ بالعطاء ، احبكِ يا شجرة عطائي السخية !"
اتسعت ابتسامتها حتى تغضنت اطراف حدقتيها بجمال وهي تنتهز الفرصة وتقبل طرف شفتيه بتلامس رقيق ، وقبل ان يدرك كانت تطوق عنقه بذراعيها وتدفن وجهها بحضنه الدافئ وهي تهمس بأذنه بامتنان شغوف
"شكرا لك يا حبي الاجمل"
زفر (احمد) انفاسه بثورة وهو يمسك خصرها بيديه قائلا بخفوت خشن
"سوف اردها لكِ يا محتالة"
تبسمت شفتيها بسعادة وهي ترفع رأسها وترجع للخلف قليلا ، لتقع نظراتها على الجدار الابيض المخالف عن الجدران الاخرى وكل منها مطلي بنوع الدهان نفسه وهو يبدو لم يصل دوره بعد ، لتسحب ذراعيها من حوله وهي تشير بيدها ناحية الجدار الابيض لتقول بعدها بغموض
"لماذا هذا الجدار غير مطلي بالدهان كباقي الجدران ؟"
نظر حيث تشير بيدها وهو يعقد حاجبيه بلحظة ليقول بعدها ببساطة
"يبدو بأن العاملين لم يصلوا لهذه الجهة بعد ، فهذه الغرفة ما تزال بصدد العمل عليها ، واعتقد بالغد سيكون اليوم الاخير الذي يتم به انهاءها بالكامل وتصبح صالحة للرسم بها"
رفعت رأسها نحوه وهي تقول بابتسامة كبيرة بحماس
"استطيع انا انهاء العمل المتبقي ، فأنا ماهرة جدا بأعمال الدهان وطلاء الجدران ، وايضا هذا المرسم الخاص بي ومهمة اكمال عمله ستكون عليّ من الآن وصاعدا"
نظر لها بسرعة وهو يقول باستنكار مندهش
"انتِ ماذا ؟ ماذا ستفعلين ؟....."
لكنها كانت قد اختفت من امامه قبل ان يتم جملته وهي تنطلق نحو عملها وكأنه من اوكلها المهمة
"لا تقلق كل شيء تحت السيطرة"
تنفس بإجهاد وهو يحك جبينه بأصابعه بضيق لوهلة قبل ان يستسلم ويلحق بها بلحظة ، ليقف بعدها بجوارها وهو يراقبها تنزع الغطاء عن الدهان بعزم وتباشر بالعمل ، قال بعدها بلحظات باستهجان عابس
"ماذا تفعلين بالله عليكِ ؟ هذه مهام رجال متخصصين بهذا العمل ، ما علاقتك انتِ تتدخلين بكل شيء ؟ لما لا تتركين هذه الاعمال لأصحاب الخبرة ؟"
وقفت (روميساء) على قدميها بلحظة وهي تلوح بفرشاة الدهان بوجهه قائلة بصرامة قاطعة
"إذا كنت لا تريد المشاركة بالعمل فعليك البقاء بعيدا عن هذه المنطقة ، فأنا لا احب من يعيقني عن عملي ويشوش ذهني ، لذا قف بعيدا رجاءً"
رفع يديه وهو يتراجع للخلف مثل المتهم قائلا باستسلام
"حسنا ، حسنا لا تغضبي مني ، افعلي ما يحلو لكِ ، فهذا مرسمك بالنهاية"
تجاهلته تماما وهي تجثو بركبتيها مجددا امام علبة الدهان لتغمس الفرشاة بداخلها بحذر ، ليخفض يديه بدوره وهو يكتف ذراعيه فوق صدره ويراقب عملها الذي يبدو مارسته من قبل ، فما ان مرت لحظات حتى اخرجت الفرشاة من الدهان ومسحت اطرافها بحواف العلبة بحرص ، ومن ثم فكت الشريطة التي بقيت حول عنقها لتربطها بمعصمها وباليد التي تمسك مقبض الفرشاة وكأنها تحاول ابقائها على استقامة لكي لا تميل اثناء عملها .
حدق بها باهتمام وهي تقف امام الجدار وترفع الفرشاة عاليا لتباشر بطلي الجدار بشكل افقي متساوي لا ينحرف عن الخط ، وكأنها ترسم لوحة فنية فوق جدار ابيض شاحب متقشر اصبح اداة رسمها الذي تخرج به مواهبها ، ليعقد حاجبيه بجمود وهو يقول ببرود جاف بعد ان سأم من المراقبة
"انتِ من اين تعلمتي طريقة طلي الجدران ؟ هل كنتِ تفعلينها كثيرا من قبل ؟ هل كان يوكل لكِ مثل هذه المهام ؟ فمن غير المعقول ان تكوني بلا خبرة ؟"
شردت ملامحها وهي تهمس بابتسامة حزينة بدون ان تتخلى عن عملها
"لقد تعلمتها من مشاهدتي الطويلة لوالدي وهو يعمل بها ، الحقيقة بأن والدي كان يقضي ايام عطلته بالانشغال بالأعمال المنزلية الناقصة مثل تصليح الاجهزة الكهربائية وانابيب المياه العاطلة وطلي جدران المنزل المتقشرة والجافة ، لقد كان يبذل جهدا كبيرا من اجلنا بهذه الاعمال لكي نعيش بهناء ، عندما كنت بعمر الخامسة كنت اكتفي بالمشاهدة فقط ، وعندما تجاوزت السادسة من عمري اصبحت اساعده بكثير من الاعمال واشاركه بالأعمال المنزلية الشاقة ، حتى اصبح اجمل اوقاتي اقضيه بمساعدته بتلك المهام الطويلة التي تجعلني ابقى بقربه اطول فترة ممكنة ، فأنا لا احصل على المتعة بمساعدته وحسب بل احصل على الحب والاهتمام بين الاب والابنة واملئ فجوة روحي بتلك السعادة الشحيحة التي احصل عليها منه ، فقد كنا نصنع من لحظاتنا الشاقة والحزينة مواقف سعيدة تهون علينا الصعاب وسوء الوضع وتزرع ضحكة امل ببؤس الحال مهما ساءت الظروف وقادتنا بحياتنا"
كان يحدق بها بصمت وهو يقول بابتسامة حفت طرف شفتيه بأسى
"يبدو بأنكِ كنتِ شديدة التعلق بوالدك ! والدك الذي كان بالنسبة لكِ الحياة بأكملها ، وبرحيله اخذ منكِ كل عالمك واحلامك وسعادتك التي نسجتها معه"
ارتجفت يدها بالفرشاة وهي تخفض نظرها قليلا هامسة بخفوت شاحب
"كيف عرفت عن ذلك ؟"
حرك (احمد) كتفيه ببساطة وهو يقول بخفوت بارد
"بيوم عزاء زوج والدتك كنت هناك وشاهدتك"
ابتلعت ريقها بغصة قديمة نحرت روحها لبرهة ، لترفع الفرشاة بعيدا عن الجدار وهي تقول بخفوت متحشرج
"آه صحيح ! لقد نسيت القصة تماما ، لقد كنت بوقتها مثيرة للشفقة"
تجمدت ملامحه وهو يلحظ حركة يدها على الفرشاة وارتعاش مفاصلها ، ليقترب منها خطوتين واسعتين وهو يقول بمرونة
"إذاً سأقدم لكِ يد المساعدة بمهمة دهن الجدار ، فلن تستطيعي انهاءهُ لوحدك"
حانت منها التفاتة نحوه ما ان جثى على ركبتيه وامسك بفرشاة دهان اخرى ، ليغمسها بعدها بعلبة الدهان ويفعل نفس الخطوات التي طبقتها ويبدو حفظها بسهولة ، لينتهي به الامر واقفا بجوارها وهو يباشر بطلي جهة من الجدار بشكل اقفي كما فعلت كذلك ، لتبتسم بعدها برفق وهي تعود للعمل ايضا هامسة بسعادة
"لقد تعلمت بسرعة"
رمقها بطرف حدقتيه الرماديتين وهو يقول بغرور
"لدي معلمة رائعة افتخر بها"
زمت شفتيها بصمت تكبح ضحكتها بدون ان تجاري كلامه اكثر ، لتتنفس بعدها بهدوء وهي تقول باتزان تجيبه على سؤال سابق بسلاسة وكأنها ترغب بإفضاء بما يعتمل بقلبها
"لقد كنت شديدة التعلق بوالدي لدرجة الجنون ! فقد كان خلاف عن والدتي يعاملني بمحبة وفخر شديدين وكأنني ملكة بعينيه ، خاصة بأنني كنت الابنة الكبرى والأولى بحياته ، لذا كان يميزني بمعاملة خاصة متفردة تجعلني احبه بجنون واراه رجلي وبطلي الوحيد ، بالرغم من ابتعاده الطويل عني بفترات العمل وغيابه اوقات كثيرة حد الهجران ! ولكنه لم ينقص من حبي له يوما ومثابرتي بخلق الاعذار له على الدوام وعذري الوحيد كان بأن كل ما يفعله من اجل توفير حياة اسهل لنا ، لقد كان وجوده قوة بالنسبة لي استمد منها وعون بأسوء ايامي احتمي بها ، يكفي وجوده بحياتنا الذي يغنينا عن كل شيء آخر سيء بحياتنا ، ولكن بخسارته لم يعد هناك شيء جيد بحياتي واتضحت الامور معانيها بأسوء صورها وعرفت معنى اليتم الحقيقي حينها ! لقد كانت اكبر خساراتي التي امر بها لأنني خسرت الشخص الوحيد الذي احبني بصدق بدون اي شروط او مصالح"
تلبدت ملامحه بوجوم وهو يطيل بالنظر نحوها قبل ان يرسم ابتسامة حانية على محياه وهو يقول بعطف ينسيها بعض من حزنها
"كان سيكون شرف كبير لي لو استطعت لقائه لمرة واحدة ! حينها كنت شكرته وقبلت يديه وقدميه على هذه التربية والنشأة الرائعة التي خرجت من تحت يديه ! ولكن يبدو بأنني لم يقدر لي فعلها"
نظرت له بملامح حزينة وهي تهمس بابتسامة بددت بعض من ألمها
"كان سيسعد كثيرا بالتعرف عليك ، فأنت تشبهه كثيرا يا احمد ، ودائما ما تذكرني به بكثير من الاحيان !"
ارتفع حاجبيه ببطء بفعل المفاجأة التي تلقاها للتو وهو يلتفت نحوها بكامل جسده ليضرب بيده على صدره قائلا بابتهاج بالغ
"يا له من شرف كبير ان احظى بهذا الشبه مع والدك الراحل ! وسأكون اكثر من سعيد لو حصلت على مشاعرك ابضا اتجاه والدك واصبحتِ متعلقة بي حد الجنون ، فأنا لا امانع ابدا ان تضعيني مكان والدك"
عضت على طرف ابتسامتها وهي تهمس بقلب محب عطوف
"انا متعلقة بك بالفعل برباط غير قابل للانقطاع ، فقد تجاوز تعلقي بك شدة تعلقي بوالدي ، فقد اصبحت بمرتبة عالية بحياتي لا يستطيع احد المساس بها او تغييرها !"
اتسعت ابتسامته بعبث وهو يفرد ذراعيه لها قائلا بلهفة كبيرة
"تعالي لأحضاني يا ملكة الدك ، لأعبر لكِ عن شكري الخالص لكِ"
لوحت بالفرشاة بوجهه بسرعة بدون ان تسمح له بالاقتراب وهي تقول بحزم مزيف
"إياك والاقتراب مني يا منحرف وألا دهنت وجهك بهذه الفرشاة"
اخفض ذراعيه بإحباط وهو يلتفت امام الجدار ويكمل عمله قائلا بنزق
"حقا معلمة متزمتة !"
توردت وجنتيها بسعادة نفضت عنها ألم لحظات تذكر والدها الراحل الذي يجلب الحزن والاسى لقلبها ، وبغضون لحظات كانت تندمج بتلك الاجواء السعيدة برأسها زرعت بسمة طافت على محياها دفعتها لتوقف عملها وتلقي بفرشاة دهانها ارضا لتلتفت بكامل جسدها بلحظة للجانب الآخر الذي يعمل به شريكها .
امسكت بعدها بذراعه توقفه لتديره نحوها وهو ينساق معها تلقائيا لتلف ذراعها حول عنقه وتشبك يدها بيده التي تحمل فرشاة الدهان ، لترفع الفرشاة عاليا امام الجدار وهي تقول بابتسامة تلونت بحب
"امسك بيدك الاخرى خصري ودعنا نصنع لحظاتنا الخاصة هنا"
اتسعت حدقتيه بصدمة حتى افلتت منه ضحكة مرحة وهو يقول بتعجب
"ما لذي تخططين له يا فتاة ؟"
ردت عليه من فورها بابتسامة بريئة
"لقد كنت افعلها مع والدي كثيرا ، نرقص بين الحين والآخر اثناء العمل لكي نقضي اوقات ممتعة وننهي العمل بآن واحد ، لذا هل تسمح لي بفعلها معك ؟"
التوت ابتسامته بنشوة وهو يشب يده بخصرها ويلصقها به قائلا بخفوت مشتعل
"يسعدني فعل هذا بدلا عن والدك ، فهذه ستكون خدمة كبيرة اقدمها له ولأبنته"
ضحكت بمرح وهي تتمايل معه بتناغم ويرقصان بإيقاع عشوائي والفرشاة ترسم لوحتها على الجدار حسب حركاتهما ، ليقتنص بعدها قبلة من شفتيها الضاحكتين وهو يهمس امامها بخفوت منتصر
"لقد استرددت حقي منكِ الآن"
ضربته بقبضتها على صدره وهي تهمس بحنق
"مراوغ كبير"
ضحك بقوة وهو يعيدها له ويرقصها على انغام اوتار قلبيهما وسعادتهما التي رسمت ألوان فوق لوحتهما بالفرشاة الموجودة بين ايديهما والتي سارت بهما حسب هوى العشاق....
_______________________________
بعد مرور ثلاث شهور.....
زفرت انفاسها بضيق شديد ما يزال يطبق عليها بدوامات الغضب المدمرة وكأنها بركان يغلي فوق ألسنة اللهب ، وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها بقوة وترسم الاستياء والغضب على محياها بأبهى صوره وتسمح للأمواج العاتية والتيارات باحتلال مقلتيها الجامحتين بشكل ينطق بها بدون كلام بلغة صمتها الخاصة ، فهذا الدور الذي تبرع به فتاته الصامتة بكل فصولها وتقلباتها إذا غضبت او حزنت او سعدت او فرحت او بكت بكل تلك الحالات تصمت ، فهو ادرى من الجميع نتائج انفجار ذاك الغضب الوشيك إذا خرج من قوقعة صمتها او اخرجته من صدفتها ، عندها لن يوقفها احد عن احتلال الساحل وغمر جزيرة بأكملها تحت الماء ، فهذه الانثى صعبة المراس تحرك جبال ومحيطات حسب ذبذبات مشاعرها الداخلية وإيماءاتها الصامتة المعبرة التي تتحكم بمسارات الحياة .
تنهد بهدوء وهو يركز نظره على الطريق امامه بدون ان يدعها تسرق اهتمامه اكثر وهو يقول بابتسامة جادة
"هل ستطول لعبة الصمت طويلا ؟ فقد قطعنا نصف المسافة تقريبا وانتِ على نفس الصمت ! ألم يحن الوقت الذي تعلنين به استسلامك للأمر الراهن ؟"
رمقته بطرف حدقتيها الزرقاوين المغمورتين ببحار سوداء وهي تحاوره بلغة صمتها الخاصة ، ليسرق نظرة عابرة نحوها حركت مشاعره وهو يقول بخفوت لطيف
"ابتسمي يا ذات الوجه الجميل ، فهذا العبوس لا يليق بكِ ابدا ، ويقلل درجة من مقياس انوثتك"
اشاحت (ماسة) بوجهها بعيدا وهي تعض على طرف شفاهها تمنع ابتسامة غادرة من الافلات من حصونها وخرق قوانين عدائها ، لتتنفس بعدها نفس طويل وهي تتبعها بالهمس لأول مرة منذ بداية رحلتهما بخفوت مغتاظ
"من السهل عليك التبسم والكلام بطبيعية ، لأنك لست من تعرض للخداع والغدر من قبل زوجك !"
ارتفع حاجبيه بخفة وهو يراقب الطريق امامه قائلا بابتسامة ملتوية بمغزى
"هذه المسميات مبالغ بها بالنسبة لما حدث ، فأنا قد اخبرتكِ باليوم السابق بالتخطيط الذي جهزته من اجلنا لقضاء ايام اجازتنا ، ولكن يبدو بأنكِ لم تكوني بوعيك حينها او كان عقلك قد اخذ إجازة قبلكِ ورحل بدونك !"
حادت بنظرها نحوه بعبوس وهي تتمتم بقنوط
"هل تسخر مني ؟"
حرك رأسه بالنفي وهو يقول ببساطة شديدة
"معاذ الله ان افعل ذلك ! ومن الذي سيملك تلك الجرأة على السخرية منكِ ؟ سيكون حينها قد جنى على نفسه"
استعرت نظراتها وهي تلوح بذراعها بالهواء قائلة بجموح بعد ان اطلقت شياطين غضبها
"كفى سخرية بهذا الموضوع ، وعلاوة على ذلك ما فعلته قد تجاوز حد الخيانة والغدر وانت تأخذني بملابس نومي وتركبني بالسيارة بدون ان اشعر وكأنك تختطفني عنوة وتضعني بالأمر الواقع ! ألا يحق لي الشعور بالخيانة والغضب بعد ما فعلته بي ؟"
عض على طرف ابتسامته وهو يقول بتسلية بدون النظر لها
"الامر ليس بهذا السوء ، وعندما يكون الخاطف هو زوجك فلا يسمى عندها اختطاف ، بل يسمى طريقة جديدة وتكتيك بين الازواج للتقارب بينهما واعطاء فرصة لزيادة التجاذب بعلاقتهما"
التفتت نحوه بكامل جسدها وهي تغير جلستها اتجاهه وتقول باستنكار منفعل
"وهذا لا يختلف عن كونه اختطاف وانتهاك بحقوقي بالمقام الأول ، ولا سيما بأنك تحركني مثل الدمية التي لا تملك امر نفسها وتسير فقط على هواك وكما ترغب نفسك ! حتى انك لم تتعب نفسك بشرح مخططك العظيم لي وما تنوي على فعله ! لتخرجني بالنهاية من المنزل بملابس النوم وانا غير واعية على نفسي ، لأكتشف بعدها بساعة بأني بداخل سيارة مسرعة لا اعرف متى دخلتها ! هل يعجبك وضعي هكذا ؟"
حرك رأسه نحوها بهدوء وعينيه تسبقانه بزمام السيطرة عليه وتحكمان على شكلها الذي يدقق به لأول مرة....كانت ترتدي فستان قطني يصل لركبتيها بلون الازرق السماوي الشاحب وبنصف اكمام تصل لمرفقيها...ورسومات غيوم بيضاء مطبوعة على ياقتها واطراف تنورتها ليقبع جيب صغير بخياطة صدرها كما تبدو السماء بأول شروق الشمس....واما شعرها المشعث بفوضى عارمة فقد كان كله متطاير بالهواء بفعل الكهرباء الساكنة وكأنها تعرضت لشحنات زائدة فوق الطبيعية حتى اصبح يحد كتفيها...بينما لا ترتدي شيء بقدميها سوى جوارب بيضاء قصيرة رسم عليها صورة دبدوب طفولي جميل...ولأول مرة يشعر بها طفلة خرجت من اعماق نفسها الحقيقية واعادتها لطفولتها العفوية بعيدا عن المثاليات والكماليات .
ارتسمت ابتسامة هائمة على محياه ما ان تلاقت النظرات بينهما من جديد ثبتته بمكانه لوهلة قبل ان يقول بثقة بالغة
"تبدين اجمل نساء الارض ! وقد سررت حقا بالقيادة ساعة كاملة بدون سماع صوتك او حسك ، فقد اكتشفت بأن نوم الاموات لا يضاهي نومك بالعالم !"
ردت عليه من فورها بصراخ متضايق
"ايها المحتال...."
قاطعها (شادي) بسرعة وهو يضع اصبعه على شفتيه بتحذير
"اخفضي صوتك كي لا يستيقظ الطفل النائم بالخلف ، فلن اتحمل رعاية طفلين بآن واحد !"
عضت على طرف شفتيها بامتعاض وهي تلقي نظرة للكرسي الخلفي الذي يقبع به السرير المتنقل وينام الطفل بداخله بسلام ، لتعود بعدها لجلستها الأولى وهي تتمتم بحدة مشتعلة
"يا لك من متحجر القلب ، لقد افسدت يوم من اجازتي الثمينة ، سحقا لك !"
تغضنت زاوية ابتسامته بهدوء وهو يقول بجدية
"لقد كنت اود اعطائكِ فرصة للاستعداد للتحضير للإجازة المخطط لها ، ولكن بمعرفتي بكِ اعلم بأنك سترفضين ذلك وتعاندي برأيك ، لذا استخدمت الطريقة الاسهل بأخذكِ عنوة وارضائك بعدها ، وايضا اين سنجد الوقت للاستمتاع بإجازتنا كعائلة سوى بهذا الوقت من السنة ؟"
ازاحت (ماسة) نظراتها اتجاه النافذة وهي تهمس بخفوت ناقم
"وإذا كنت تعلم برأيي مسبقا لماذا فعلتها ؟"
عقد حاجبيه بجمود وهو يقول بتسلط
"لأنني اريد ذلك"
زمت شفتيها بعبوس وهي تتجاهله تماما وتنظر لحركة الطريق بجوارها ، وبغضون لحظات كان المطر يغطي زجاج النوافذ بقطرات صغيرة وهو يزداد رويدا رويدا حتى اصبحت تهطل بغزارة ، ليشتم بعدها بضيق وهو يقول بعبوس ساخط
"انظري لهذا الوضع ! لقد كان الجو صحو قبل قليل والشمس مشرقة ، كيف انقلبت الموازين هكذا ؟ اراهن بأن تكوني من تحكم بطبيعة الجو ! فيبدو بأن الطقس ايضا يسير حسب مزاجك"
تقدمت (ماسة) بجلوسها بشكل مفاجئ استرعى انتباهه وهي تقول بهدوء جاد
"اوقف السيارة"
اتسعت عينيه بصدمة وهو يقول بعدم استيعاب
"ماذا ؟!"
ضربت بقبضتيها على ركبتيها بقوة وهي تصرخ بجنون
"اوقف السيارة الآن !"
اوقف السيارة بلحظة خاطفة حتى ارتدت للأمام قليلا وسكنت بمكانها ، ليلتفت نحوها بعاصفة وهو يصرخ باستنكار
"هل جننتِ ؟...."
توقف عن الكلام ما ان سمع صوت اصطدام شيء بمقدمة سيارته اشبه بارتجاج ، وما ان التفت بنظراته للأمام حتى لمح كتلة سوداء متحركة لم تكن سوى قطة خرجت من تحت سيارته وهربت بعيدا بعد ان نفذت بحياتها ، ليسمع بعدها صوت زفير مرتاح خارج من الجالسة بجواره وكأنها تحررها من مخاوفها التي مرت عليها للتو ، فهل يعقل بأنه قد ذكرها بحادثة موت قطتها العزيزة من الماضي البعيد ؟
التفت بسرعة نحوها ما ان فتحت باب السيارة بلحظة لتخرج منها ببساطة وتغلقه خلفها ، ليتابعها بعدها بنظراته المسلطة عليها وهي تسير تحت المطر الغزير حافية القدمين قبل ان تستقر واقفة امام مقدمة السيارة المقابلة له وهي تضم ذراعيها بيديها وترفع رأسها للسماء الماطرة .
تنهد بتعب وهو يرجع بجلوسه للخلف ويخفض يديه عن المقود بحالة سكون وصمت لا يقطعهما سوى صوت قطرات المطر التي تضرب على الزجاج بعنف ، ليمسد بعدها بأصابعه بين عينيه وهو ينقل نظره بين الطفلة المجنونة بالخارج وبين المرآة الصغيرة التي تطل على الصغير الآخر النائم بالخلف ، لتعتلي بعدها ابتسامة ساخرة محياه وهو يخاطب الطفل النائم بلوم وعتاب
"هل ترى افعال زوجة خالك ؟ لن يصدق احد بأن هذه المرأة تكرس حياتها بالاهتمام بك اكثر من نفسها ! لقد اراحتني كثيرا من التفكير بك وبمستقبلك بعد ان اضحيت وحيدا بهذه الحياة ، واعتقد بأنها لا تريدك ان تعايش او تجرب ما مرت به سابقا ! هذه الطفلة محاربة جدا وقوية بدرجة لا تتصورها ! فما مرت به لم يمر به احد من قبل ولم يقاسيه ، ولكنها مع ذلك تعاني من نزعة الطفلة الضائعة والتي تحتاج من يحتويها ويضمها بالشكل الذي يناسب نزاعاتها وعقدها وسلوكياتها"
اخفض يده بقوة وهو ينزع حزام الامان ما يزال يخاطب الطفل بالمرآة بعينيه قائلا بابتسامة متحفزة
"لا استطيع تركها بهذا الوضع ، لن يطاوعني قلبي على تركها تعاني وحدها ، فقد تواعدنا مسبقا على تقاسم الألم سويا ، وهذا ما علينا فعله نحوها من الآن وصاعدا فهذه منارة قلوبنا واساس بناء عائلتنا"
فتح الباب بجواره وهو يشير بأصبعه السبابة للطفل النائم بالخلف قائلا بتحذير
"دقائق واعود إليك ، انتظرني بمكانك بأدب وإياك ان تتحرك"
خرج من السيارة وهو يستقبل تساقط الامطار الغزيرة التي بللت قميصه الداخلي ليمسك بسترته بيد ويغلق الباب بيده الاخرى ، ليسير مباشرة نحوها وهو ينتقل امام مقدمة السيارة بلحظة ويراقب التي ما تزال متسمرة بمكانها بللتها الامطار بالكامل حتى التصقت خصلات شعرها المكهربة بوجهها وفستانها القصير بجسدها ، لتبدو بالنهاية مثل القطة السوداء التي كاد يدهسها وفرت بعدها هاربة من تحت مخالب الموت المترصد لها .
ارتعشت بمكانها بقشعريرة ما ان احتضن كتفيها بسترته السوداء الواسعة التي احتوتها بالكامل ، لتنظر له بعينيها المغرورقين بدموع المطر وهي تمسك بأصابعها جوانب سترته توشك على رميها ، قبل ان يقبض على يديها بسرعة يمسكهما فوق سترته وهو يقول بتهديد صارم
"إياكِ ان تخلعيها يا ماسة ، إذا اردتِ المخاطرة بالوقوف تحت المطر فعليكِ على الاقل تدفئة نفسكِ ، فلن اتحمل نتائج ما سيحدث معكِ بعدها !"
زمت (ماسة) شفتيها بتبرم والمطر يغرق تفاصيل ملامحها وينحتها من جديد وكأنه يمسح تعابير الألم عنها ، لتنتشل يديها بعيدا عن قبضتيه وهي تدير نصف جسدها بعيدا عنه ، ليراقبها بعدها وهي تدخل يديها بأكمام السترة وتخرج اصابعها منها بسبب طولها وتستل خصلات شعرها من ياقتها ، ليختلس النظر عليها وهي تقرب انفها وتشتم رائحتها بشغف واضح وتحتضنها بذراعيها كما تفعل دائما بملابسه وستراته الاخرى بعادة غريبة .
قال (شادي) بعدها وهو يرسم ابتسامة عاطفية على محياه
"يمكنكِ ضمها ايضا لمجموعة السترات التي سرقتيها من خزانتي ، فكل شيء املكه هو ملككِ كذلك"
ساد صمت قصير بينهما بدون ان تعطيه اهتمام قبل ان تتحرك من مكانها تنوي العودة ، ليوقفها بلحظة وهو يمسك بذراعها ويديرها امامه بقوة يتحدى إرادتها ، ليخفض يده عن ذراعها ويمسك بيديها الباردتين بين كفيه برقة وهو يقول بهدوء جاد يلتمس عطفها
"اعتذر لأنني اخذتكِ بهذه الإجازة عنوة بدون الاخذ برأيكِ او حتى اعطائك الفرصة للاستعداد ، كان يجب على الاقل تنبيهك وإفاقتك من الصباح وليس بخطفك بهذه الطريقة مثل المجرمين ، ولكني اضطررت لفعل ذلك عندما فرغت مني الحلول معكِ ! فأنا واثق بأنكِ سترفضين الفكرة كالعادة واي طريق توصل لقضاء الاجازة بالخارج او قضاء العطلة معا ، وقد اردت ان ارفه عنكِ قليلا بتغيير اجوائك الكئيبة ، وخاصة بأنك منذ وفاة شقيقتي ميرا رحمة الله عليها وانتِ تحبسين نفسكِ بتلك الدائرة الصغيرة بين البيت والعمل بدون الخروج منها او السماح لنفسكِ بالتحرر !"
اخفضت نظرها حتى تساقط شعرها المبلل على جانبيها وهي تقول بخفوت حزين
"هل كنت اظلم نفسي ؟"
رفع رأسه وهو يتنفس بهدير تحت قطرات المطر التي تكاد تغرق حواسه ، ليخفض رأسه بعدها وهو يشدد على يديها برفق ويقول بعطف رقيق
"اجل يا ماسة ، لقد ظلمتي نفسكِ كثيرا ، وآن الاوان لتعدلي مع نفسكِ وتكوني اكثر إنصاف معها"
رفعت نظرها نحوه ببطء قبل ان تومئ برأسها بالإيجاب وهي تهمس بابتسامة رقيقة
"حسنا"
كست ملامحه ابتسامة عريضة وهو يسحبها لأحضانه العميقة ويدفنها بين رطوبة ضلوعه وضربات قلبه الساخنة يكاد يلصقها هناك ، لتضع يديها فوق صدره تبعده عنها سنتمترات وهي تهمس بخفوت محرج توردت لها وجنتيها
"اعلم بأن الوضع غير مناسب لأخبارك بهذا الكلام ، ولكني مع ذلك اريد اخبارك بشدة ، فلن اتحمل ان اخبئ الامر اكثر"
نظر لها بحيرة وهو يقول بابتسامة مرتبكة
"عن اي كلام تريدين اخباري به ؟"
رفعت (ماسة) ذقنها بإيباء وهي تواجهه مباشرة قبل ان تهمس بعفوية
"لقد نجحت الخطة"
تعقدت ملامحه بعدم فهم وهو يهمس ببلاهة
"عن اي خطة تتكلمين ؟"
تمسكت يديها بياقة قميصه وهي تستطيل على اطراف اصابعها وتهمس بأذنه بخفوت مغري
"انا حامل"
اتسعت عينيه بذهول حتى وجد صعوبة باستعادة تركيزه مجددا بعد ان علق عند كلامها ، ليتبلع ريقه ببطء شديد وهو ينزع يديها عن ياقته قبل ان يقول بوجوم مستاء
"هل انتِ جادة ام تمزحين معي ؟"
ابتعدت عنه قليلا وهي تقول بخفوت مرح
"وهل تعرف عني بأني امزح ؟"
امسك ذقنه يحكه بتفكير وهو يقول بتساؤل جاد
"كيف فعلتها ؟"
حركت (ماسة) كتفيها باستخفاف وهي تقول بتلاعب ماكر
"لقد اتبعت خطتك"
تبادل النظرات معها للحظات حتى اختفت الابتسامة عن محياها وحل الوجوم مكانها وهي تهمس بخفوت باهت
"ألست سعيد بسماع هذا الخبر ؟ ألم ترد حدوث هذا ؟"
غامت ملامحه للحظة فقط قبل ان يكبل خصرها بذراعيه وهو يدورها دورة كاملة بأعالي السماء وفوق الغيوم الماطرة التي سقتها واغاثتها بسعادة لا نظير لها ، لتتشبث يديها بكتفيه لا شعوريا وهي تغمض عينيها لتتسرب الامطار الباردة على صفحة وجهها والتي تثلج قلبها الذي عشش الحب به .
سمعت بعدها صوته القوي مثل الترياق لها وهو يقول بخفوت هائم
"كيف لا اكون سعيد ؟ وانا سأحصل اخيرا على ابن من الزوجة التي احببتها يوما بجنون وما ازال ! هذه ستكون بداية بشائر السعادة علينا عندما يكتمل نصاب عائلتنا"
زفرت انفاسها بابتسامة اعتلت محياها بسعادة مثل انقشاع الظلمة عن قلبها وطلوع ضياء القمر عليها ، لتخفض وجهها بسرعة وتصطدم بوجهه الذي تشرف عليه من علو قبل ان تقطع المسافة بلمح البصر وتنقض عليه بقبلتها العنيفة التي لم يعرفها بكل هذا الجموح وكأنها اطلقت سراح حبها العالق به ، ليشاركها بموجة جموح عاطفتها السخية وكسر حصون حبها المجنون الذي اطلق لجام عشقها الغير محدود ، وما ان حررت نفسها للحظة تأخذ انفاسها بعنف حتى همست بخفوت ملهوف بحبه الذي امتلكها
"احبك كثيرا"
لانت ابتسامته بلطف وهو يقبلها برقة ويهمس بعشق قلبها اصبح مملوك
"حبيني بقدر ما تشائين ، فأنا حبي لكِ ليس له حدود او مبدأ !"
احاطت بوجهه بين يديها وهي تنقض عليه بقبلاتها الرقيقة التي تحولت لسيل هادر مثل بحر يطمع بغمر كل اليابسة والتسلط على الحكم ، بدون ان يشبع من القليل ليغتنم من الكثير والذي حرم منه طيلة حياته وساقه القدر إليه ، ليكون الجبر والعوض والترميم بحياة اسودت وانهارت بظلمات الناس قبل ان تشرق من بعدها شمس الصباح ليأخذ كل منهم جزائه من الحياة....

نهاية الفصل الأخير......

بحر من دموع Opowieści tętniące życiem. Odkryj je teraz