الفصل الخامس والعشرون

60 5 1
                                    

خرجت من بوابة البناية بخطوات قوية وهي تشد المعطف الشتوي حول جسدها بدون ان تدع شيء يحيدها عن طريقها المستقيم ، ولا سماع اصوات الخطوات المتربصة لها على الدوام بكل يوم ودقيقة وهي تترقب كل حركاتها بشكل يدعو للاستفزاز بدون ان ينجح شيء من تهديدها وتحذيرها لصاحب الخطوات والذي تجاوز بعناده كل توقعاتها !
تنهدت بغضب على وشك الفوران بداخلها والتسرب ليتحرر من اسرها ، وهي تتجاهل تماما سماعها لتلك الخطوات التي تبعد مسافة كبيرة عنها ومع ذلك تشعر بها قريبة جدا منها تكاد تلامس خطواتها الثابتة على الارض الوعرة ، وهذه الحالة اصبحت تلازمها منذ ما يقارب الاسبوع من رؤيتها له عندما كان جالسا على طرف الطريق الفارغ بمنتصف الليل ، كانت حينها تخرج اكياس النفايات لتلقي بها بالحاوية الموجودة بنهاية الطريق ، وما ان انتهت من مهمتها حتى عادت بنفس الطريق لتراه عندها بتلك الحالة الهائمة البعيدة عن الواقع ، وبدون ان تمنع نفسها قالت ببرود وهو تسير بجوار مكان جلوسه
"اخبرتك ان تتوقف عن الجلوس قريب من مكان سكني ، انت هكذا تجلب لي الشبهة"
مرت لحظات قبل ان تسمع الصوت البارد بخواء غريب
"لقد رأيت شقيقي اليوم ، وهو ما يزال يكرهني ولا يطيق النظر لي"
زمت شفتيها بارتجاف قشعرت بدنها بلمحة خاطفة من الجو الشبه بارد والذي اخترق كيانها بخواء كلماته ، لتتنفس بعدها بجمود وهي تحاول تحجير صوتها هامسة بسخرية واضحة
"هل هذه كذبة جديدة لتحاول الحصول على شفقتي ؟ فأنا لم اعد استطيع تصديق اي شيء تنطق به بخصوص حياتك التي تبين بأنها كلها كذبة نسجها خيالك لتصل بها لمآربك !"
صمت للحظات طويلة لا يقطعها سوى صوت صفير الهواء البارد بمنتصف الليل تسرب بثقوب ارواحهما الخاوية ، لتسمع بعدها صوته مجددا بنفس البرود مع لمحة تعجب
"هل تظنين حقا بأن كل ذلك كان كذبة ؟"
فغرت شفتيها لوهلة وهي تطبق على اسنانها بقسوة لتستدير بعدها للجهة الأخرى بإيباء ، قبل ان تنطق بهدوء ظاهري بدون ان تبالي بنظراته والتي ارتفعت نحوها
"غادر من هنا يا اوس ، وفكر بكذبة جديدة تقنع بها نفس الفتاة والتي صدقت كذباتك على مدار شهور وانطلت عليها الحيلة"
ما ان خطت خطوتين بعيدا عنه حتى سمعت صوته هذه المرة بنبرة حزن تخللت بين تيارات الهواء الهائمة من حولهما
"لقد كانت هذه الحقيقة يا سيدرا ، فأنا لم اكذب عليكِ بأي شيء اخبرتكِ به عن حياتي الشخصية ، كل ما فعلته هو اخفاء حقيقة والدي عنكِ وسجل اعماله ، وهذا لا يعد كذبا فقد كنت احاول الحفاظ عليكِ لا اكثر ! اعتذر على هذا يا سيدرا"
انتفضت لا شعوريا وهي تفيق من دوامة افكارها والتي غرقت بها مثل كل مرة تنعزل بها مع نفسها ، لتلتفت بعدها بوجهها بعد ان حادت عن طريقها لأول مرة منذ بداية مسيرها على مسمع بوق سيارة اصم اذنيها واخترق هالتها لوهلة .
توقفت بمكانها بتصلب وهي تنظر للسيارة التي استقرت بمحاذاتها ليطل بلحظة رأس صاحبها من النافذة وهو يرفع نظارته الشمسية عن عينيه قائلا بدهشة مبتهجة
"صباح الخير يا سيدرا ، يا لها من صدفة رائعة ! وانا الذي كنت اقول لما الصباح جميل ومشرق اليوم ؟"
عقدت حاجبيها بوجوم وهي تشك بكلامه بهذا الجو البارد والذي يميل للكآبة بدون اي نسمة صيف رحلت عنه منذ زمن بتقلب الأحوال الجوية ! ولكنها مع ذلك فقد تجاهلت التعقيب على هذا الكلام ورميه بتعليق لاذع اعتادت على فعلها بلسانها الحاد امام هذا النوع من الظرافة ، لتقول بعد عدة لحظات بابتسامة جميلة استطاعت اتقانها على مدار اعوام بعملها بدون اي ملل
"صباح النور يا سيد عمير ، النهار قد اشرق برؤيتك ايضا يا سيدي"
اتسعت ابتسامته بتمايل وهو ينظر لها عن كثب قبل ان يقول بمرح منشرح
"كم مرة اخبرتكِ يا سيدرا بأني لا احبذ الألقاب بيننا ! فهي تشعرني بأني عجوز اكبر منكم بعشر سنوات ولا انتمي لعالمكم"
حافظت على ابتسامتها باتزان بدون ان تعلق على كلامه كما تفعل دائما مع كل مجاملاته ومزاحه معها إذا كان مقصود او غير مقصود ، بينما نسيت العينين المتربصتين لها والخطوات التي توقفت على بعد امتار منها بسكون ينبئ عن الكثير من المشاعر المطمورة بداخل صاحبها ، وهو ينتظر فقط إشارة منها لينقض على كليهما ويحرق السيارة ومن فيها وهو يتعرف مسبقا على شكل السيارة وصاحبها بداخلها .
قال (عمير) بابتسامة جانبية بدون ان يبعد نظراته عنها
"انتِ ذاهبة للعمل صحيح ؟ تعالي لأوصلكِ معي فنحن ذاهبين بنفس الطريق"
حركت يدها بارتباك وهي تهمس بلباقة مهذبة
"لا شكرا سيد عمير ، فأنا اُفضل الذهاب للعمل سيرا على الاقدام ، فهي رياضة جيدة لي وتريحني اكثر"
حرك رأسه بتفكير وهو يقول باستياء خافت
"ولكن الجو بارد الآن ! وانا ارى بأن الذهاب معي سيكون افضل بكثير من التعرض للبرد والاصابة بالمرض ، ويمكنكِ ممارسة الرياضة بوقت آخر يكون به الجو افضل"
زمت شفتيها بامتعاض وهي على وشك القول بأنه الآن كان يقول الجو مشرق وجميل فكيف اصبح بلحظة الجو بارد وليس جيد ممارسة الرياضة به ؟ لتقول من فورها بدل ذلك بابتسامة صغيرة بامتنان
"شكرا على عرضك حقا يا سيد عمير ، ولكني مع ذلك اُفضل الذهاب سيرا للعمل ، فقد اعتدت على فعل هذا كل صباح ، ولن يشكل عندي فارق تقلب الجو اليوم فهو اجمل بكثير من التعرض لحروق الشمس وخاصة بأنه اجمل فصول السنة ، لذا عذرا منك"
عبست ملامحه بسكون للحظات قبل ان يقول بجدية هادئة
"هل لهذه الدرجة لا تحبين الذهاب معي يا سيدرا ؟"
تلجلجت بمكانها بتوتر لبرهة وهي تجيب بسرعة بلطف باسم
"لا ليس هكذا هو الأمر يا سيد عمير ! فقط لا اريد ان اتعبك معي دائما بإيصالي للعمل ، بينما يمكنني الذهاب بمفردي ، لذا ارجو منك ان تتفهمني"
عادت الابتسامة لتغزو ملامحه وهو يقول بمزاح
"لقد كنت امزح معكِ يا سيدرا ، وانا اتفهم موقفك تماما ، ولكني لا اجدها جميلة ان اترككِ بمنتصف الطريق تذهبين للعمل وحدك بينما نحن نعمل معا بنفس الشركة وطريقنا واحدة ! وانا لا امانع ابدا ان اوصلك للعمل كل يوم بما ان السيارة ذاهبة معكِ وبدونكِ ، وألا ما رأيكِ انتِ ؟"
قبضت على يديها بقوة وهي تشيح بنظراتها جانبا هامسة ببهوت
"انا اعتذر يا سيد عمير ، ولكني لا استطيع الموافقة !....."
قاطعها بهدوء بدون ان يفقد ابتسامته بوقار
"لا بأس يا سيدرا ، لن اصر عليكِ اكثر إذا كنتِ غير موافقة ، فأنا لا احب ابدا ان اعرضكِ للضغط الشديد بهذا الأمر ، ولكن تذكري بأني دائما موجود بجواركِ مهما كان الوقت الذي تحتاجين به للمساعدة"
غامت ملامحها بثواني وهي تقبض على يديها بعزم ، لتقول بسرعة بخفوت محرج
"سيد عمير انا......"
تسمرت بمكانها بوجل ما ان شعرت بالخطوات المقتربة من مجالها وكلمة واحدة قطعت سير افكارها بلحظة
"سيدرا"
اتسعت عينيها بتوجس وهي تلتفت باتجاه الذي وقف بالقرب منها بلحظات بملامح باردة اكتسحت محياه بجمود ، لتنتفض برأسها للأمام ما ان قال الذي ما يزال يراقب الوضع بريبة هامسا بجمود
"من انت يا سيد ؟"
ما ان كان على وشك اجابته بقتامة سوداء تجلت بنظراته حتى قاطعته التي امسكت بذراعه وهي تهمس بعملية مرتبكة
"هذا يكون قريبي اوس ، وهذه اول زيارة له بهذه المدينة"
اومأ (عمير) برأسه بتفهم وهو يقول بهدوء غريب
"حقا هذا جيد !"
بينما كان (اوس) شاردا بملمس يدها القابضة على ذراعه بقوة غير مقصودة وبدون ان تدرك ما تفعله ، ليعود بنظراته بقتامة ناحية الذي قال بترحاب وهو يبتسم باتساع بشوش
"مرحبا بك يا اوس ، تشرفت بالتعرف عليك ، واهلا بك بيننا"
شقت ابتسامة باهتة طرف شفتيه استطاع استجلابها بصعوبة شبيه بتجعد اقرب من ابتسامة ، ليهمس عندها بكل ترحاب لا يمت بالود بصلة
"اهلا"
كان ينظر له بابتسامة غامضة للحظات ليوجه بعدها نظراته للواقفة بجواره وهو يقول لها بإشارة بيده بمودة
"حسنا عليّ الذهاب الآن ، سأكون بانتظاركِ يا سيدرا فلا تتأخري بالمجيئ"
اومأت برأسها باهتزاز هامسة بكلمة واحدة باختصار
"حاضر"
غادرت السيارة بعيدا عنهما وهي تتابع اثرها بابتسامة سرعان ما احتضرت لتتحول لتجهم غاضب بلحظات ، استدارت بسرعة للجانب الآخر وهي تنطق من بين اسنانها بشرار حاقد
"انت كيف تتجرأ !......"
قطعت كلامها بلحظة وهي تتابع مسار نظره نحو يدها التي ما تزال تمسك بذراعه بقوة ، لتخفض يدها بسرعة بتخبط مرتجف سرى على طول ذراعها مثل المخدر السام ، وهي لا تصدق ما فعلت قبل لحظات وكيف واتتها الجرأة لتمسك بذراعه وتعرفه بذلك الرجل بهذه البساطة ؟ وكل ما كان يخيفها ان يكتشف ما كان يربط بينهما ؟ ولكن أليس لم يعد هناك شيء يربط بينهما بعد الآن ! ام انه الخوف الدائم من طبيعته الشرسة والتي تتحكم بها مبادئ الملكية والتي كانت تسبب لها المشاكل بعلاقتهما فيما مضى ؟
تنفست بقوة وهي تدس خصلات شعرها بطرف وشاحها لتلهي نفسها بعيدا عن تلك الافكار ، قبل ان تهمس بشراسة خافتة غاب عنها الغضب
"إذاً ما هو الذي كنت تفكر بفعله بهذا التصرف ؟ ألم انبهك ألا تقترب مني مجددا !"
حرك رأسه بابتسامة جانبية وهو يهمس بسخرية
"ولكني لم افعل شيء انتِ التي تصرفتِ من تلقاء نفسك !"
نفضت ذراعيها للأسفل بغضب وهي تنظر له بتهدج هامسة باستياء حانق
"ولكنك كنت على وشك فعلها ، أليس هذا صحيحا ؟"
ارتفع حاجب واحد بجمود وهو يهمس بخفوت غامض
"وكيف تعرفين هذا ؟"
ردت عليه باندفاع لا إرادي وهي تلوح بذراعها بسخط
"لأن هذا ما كنت تفعله دائما طول مسيرة علاقتنا ، بالرغم من اني انبهك دائما بمحاولة كبح غضبك بعيدا عن الآخرين"
صمتت بامتقاع ما ان ادركت الغباء الذي كانت تنطق به بدون ان تشعر بمجريات الاحداث بينهما ، لتتسع مقلتيها البندقيتين بلمحة حزن ما ان قال بابتسامة واثقة بهدوء
"اعلم هذا جيدا ، وهو ما منعني عن تلقين ذلك المتبجح درسا لن ينساه بحياته ، فأنا اتناسى كل شيء ألا ما علمتني إياه على مدار سنوات يا سيدرا"
ارتفع حاجبيها بسكون هائم طاف على ملامحها الباهتة لبرهة ، لتتلبس ملامحه قناع العبوس بلحظة ما ان تابع كلامه بجفاء ساخر
"لم ارى بحياتي شخص لحوح ومزعج مثله بدون ان يستسلم لرفضك ! كان عليكِ ان تضعي له حدا لكي لا يتمادى مجددا كما فعل الآن"
ضمت شفتيها بحنق مشتعل وهي تتمتم من بينهما بانفعال مكبوت
"توقف عن مثل هذا الكلام يا اوس ، فأنت لا تختلف عنه بصفة الالحاح وعدم الاستسلام بل اراك اسوء منه بهذه الميزة ، حتى انك قد تجاوزت كل الحدود والتي وضعتها لك بإصرار مزعج حتى فقدت الأمل منك"
عقد حاجبيه بتفكير حتى برزت الندبة بمنتصف الجبهة قائلا ببهوت
"هل تظنين هذا حقا ؟"
حركت رأسها بيأس وهي تتأفف بنفاذ صبر لتستدير بلحظة للخلف ، قبل ان تهمس ببرود جليدي وهي تشد المعطف حول خصرها مكملة طريقها المستقيم
"غادر من هنا يا اوس ، وإياك واللحاق بي مجددا فهذا قد بدأ يضايقني"
قال بسرعة من خلفها بخفوت بارد ارهبها
"لقد كنتِ على وشك الرضوخ له والذهاب معه بسيارته !"
سكنت بمكانها للحظات قبل ان تتابع طريقها وكأنها لم تسمعه ، وبثواني كانت تسمع صوت خطواته وهي تعود لاتباعها وكأنه ليس لديه شيء يفعله سوى اللحاق بها والحوم من حولها مثل حيوان ملتصق بصاحبه يهاجم من يقترب منه ويتبع خطواته دائما بدون ان يتخلى عن رفقته ، وهي تفكر بكلامه الاخير بخصوص الذي كانت تود قوله لذاك قبل مقاطعته لها والذي كان عكس تفكيره تماما
(سيد عمير انا اعتذر ولكني اريد منك ان تتوقف عن المرور بمنطقة سكني ، وهذا الشيء الوحيد الذي تستطيع مساعدتي به ، واعتذر على الإزعاج)
_________________________________
كانت تسير بطريق الممر الطويل وهي تتمعن بأوراق الملف بيدها ، لتتوقف بعدها لوهلة ما ان سقطت ورقة هاربة من الملف تسربت منه بدون ان تشعر ، انحنت على ركبتيها وهي تحاول الوصول للورقة قبل ان تسبقها يد اخرى بالوصول لها وهي تلتقطها قبلها ، لترفع بعدها رأسها بعلامات الحيرة التي اعتلت وجهها وهي تنظر للتي وقفت امامها تمد لها بالورقة بابتسامة بريئة تحمل رجاء خفي خلف مظهرها اللطيف الجميل .
اعتدلت بوقوفها وهي تضيق عينيها بمغزى قائلة بجمود خافت
"إذاً ماذا هناك ؟ ماذا تريدين ؟"
زمت شفتيها بامتعاض وهو تلوح بالورقة هامسة بعبوس
"ماذا سيكون هناك مثلا ؟ فقط اردت مد يد المساعدة لكِ"
حركت رأسها بقوة وهي تسحب الورقة منها بلمح البصر هامسة بوجوم
"هل هذا كل شيء حقا ؟ ألم ترتكبِ اي مصيبة جديدة وتنتظرين مني حلها لذا تحاولين التملق عليّ !"
شهقت بتمثيل وهي تضرب بقبضتها على صدرها هامسة بثقة مسرحية
"كيف تتهميني مثل هذا الاتهام ؟ تعلمين جيدا مدى اجتهادي ومثابرتي بالعمل بدون ان اسمح لأي اخطاء بأن تفسد سجل عملي بهذه الشركة"
لوت شفتيها بسخرية وهي تدس الورقة بالملف هامسة ببرود
"اشك بأن يكون هذا صحيحاً ! على كل حال إذا لم يكن لديكِ اي مشكلة فأنا ذاهبة ، وحظا موفقا بالعمل يا مجتهدة"
انتفضت بسرعة وهي تمسك بذراع التي استدارت هامسة لها برجاء
"انتظري يا سيدرا ، انا احتاج لمساعدتك"
توقفت بمكانها للحظة قبل ان تقول بجفاء بارد بدون ان تستدير لها
"بماذا تريدين مني مساعدتك يا بيان ؟ وما هو نوع المشكلة التي تسببتِ بها اليوم ؟"
عبست ملامحها بلحظة وهي تهمس بخفوت يائس
"ليس هناك اي مشاكل من اي نوع ، ولكني اريد منكِ التحدث مع المدير واقناعه بأن يعطيني إجازة من العمل لفترة من الزمن لأن زفافي سيكون بنهاية الاسبوع ، واحتاج لأيام للتجهيز قبل زفافي ولا استطيع فعلها مع العمل المتراكم عليّ ، لذا ارجوكِ ان تقدمي هذا المعروف لي ، ولن اطلب منكِ بعدها اي شيء بحياتي"
تنفست بجمود للحظات قبل ان تسحب ذراعها بعيدا عن يدها وهي تستدير امامها لتهمس بعدها بهدوء جاد
"ولما لا تفعلين هذا بنفسكِ ؟ ما دخلني انا بمواعيد انشغالك وتجهيزاتك لزفافك !"
رفعت قبضتيها امام صدرها وهي تهمس برجاء متوسل
"لا تقولي هذا الكلام يا سيدرا ، فأنا خائفة من ان يرفض طلبي او ان يوبخني بسبب تقصيري الدائم بالعمل وسجلي الغير مشرف عنده ، لذا إذا طلبتي انتِ منه قد يوافق وخاصة بأنكِ مقربة منه ولديكِ منزلة....."
قاطعتها فجأة باستنكار غاضب وهي تمسك خصرها بيدها الحرة بتحفز
"ماذا قلتِ يا بيان ؟ مقربة منه ومنزلة خاصة ! هل جننتِ ؟"
ردت عليها بسرعة وهي تلوح بكفها بتبرير
"لا يا عزيزتي ليس هذا ما كنت اتكلم عنه ! انا قصدت بأنه يفضلك عن باقي الموظفين عنده بسبب مثابرتك بالعمل وجديتك به وصفاتك الحسنة والتي يحبها كل مدير ان تكون موجودة بموظفيه ، وليس لشيء آخر مثل انكما مقربين من بعضكما كثيرا كالعشاق....."
عادت لمقاطعتها بنفير انفاسها الشرسة ببؤس
"كفى يا بيان ، لا اريد سماع المزيد عن هذا ، واخبرتكِ بها من قبل ليس هناك اي شيء يربط بيني وبين المدير غير العمل ، سمعتي ؟"
اومأت برأسها باهتزاز وبابتسامة ظريفة بوداعة ، لتتنهد بعدها بتعب وهي تستدير بعيدا عنها قائلة باقتضاب
"سأحاول التكلم مع المدير بخصوص مشكلتك العويصة فأنا الآن ذاهبة إليه ، وبعدها لن اتدخل إذا رفض طلبكِ او لم يتجاوب مع مشكلتك ، فهذا اقصى ما استطيع تقديمه لكِ"
همست بسرعة بابتسامة متسعة بسعادة وببريق امل جديد احتل محياها
"شكرا جزيلا لكِ يا سيدرا ، واعدكِ بأن تكوني اول المدعوين بحفل زفافي ، وهذا سيكون شيء بسيط ردا على كل ما قدمته لي"
اومأت برأسها ببهوت وهي تكمل طريقها على طول الممر المؤدي لمكتب المدير ، وهي تشعر به اطول عن السابق بدون نهاية واضحة له ذكرتها بحياتها الباردة بدون ان تحدد مكان نهايتها ومحطتها القادمة بعد ان وصلت لعمر منتصف العشرين من شبابها الراحل ، وقد اصبح ذلك الحلم والذي تملكه غالبية الفتيات بالعالم بخصوص الزواج من اميرها مجرد سراب لا معنى له بحياتها ، وبعد ان فقدت الأمل بإيجاد ذلك الامير والذي تحول بلحظة لكابوسها الذي يطاردها بأحلامها وحاضرها ومجرم قتلها بسكين حقيقته !
وقفت امام باب المكتب وهي تطرق عليه بأدب للحظات ، لتفتح بعدها الباب امامها ما ان سمح لها بالدخول ليطل عليها بلحظة مكتبه الانيق بديكور الغرفة الفاخرة التي تليق بمدير الشركة .
وقفت بمكانها ما ان قال الجالس خلف المكتب بابتسامة بشوشة بترحاب
"اهلا بوصولكِ يا سيدرا ، لم تتأخري على موعدك بالعمل ، وهذا هو المتوقع منكِ دائما"
اومأت برأسها بابتسامة طفيفة وهي تتجاهل تلميحه عن سبب تفكيره بتأخرها عن العمل اليوم وما حدث بالصباح ، لتتقدم بعدها عدة خطوات وهي تقول بعملية جادة بدون اي مرح
"لقد جهزت لك اوراق الحسابات والميزانية بالشركة وقد تأكدت منهم بنفسي ، وهي تحتاج لتوقيعك وختمك عليها ، فهل انت متفرغ لها الآن ؟"
تقدم بجلوسه وهو يشير بذراعه لتقترب كما يفعل معها دائما قائلا بابتسامة جانبية بجدية
"تعالي واريني الاوراق لننتهي من امرها بما انكِ قد تأكدت منها ، فليس هناك داعي للانتظار اكثر"
عقدت حاجبيها بتفكير وهي تقول بحيرة خافتة
"ألن تتأكد منها ايضا يا سيد عمير ! فقد يكون هناك شيء ينقصها...."
قاطعها بابتسامة واثقة وهو يفرد كفه امامها بقوة
"ولما التأكد بما انكِ قد فعلتي هذا قبلي ؟ وانا واثق بكِ وبقدرتك بالعمل اكثر من اي موظف آخر عندي ، فأنتِ بطلة هذا القسم يا سيدرا"
اخفضت وجهها ببعض الحياء والذي تشرب بملامحها بلحظة خاطفة لم تشعر بها منذ زمن ، لتمسك بطرف وشاحها بارتباك وهي تهمس بامتنان شديد
"شكرا لك سيد عمير ، هذا من دواعي سروري ان احصل على كامل ثقتك بي ، فهذا الكلام بالنسبة لي ميزة افتخر بها"
صمت للحظات وهو يراقبها عن كثب بدون توقف مستغلا لحظة خجلها السريع والذي لون بشرتها السمراء بتورد لطيف ، ليقول بعدها بابتسامة جادة بدون ان يبعد ناظريه عنها
"إذاً هل ستعطيني الملف الذي يحوي الاوراق ؟ فقد تخدرت يدي وهي ممدودة هكذا"
انتصبت بمكانها وهي تتقدم بسرعة بخطواتها امام المكتب قبل ان تسلمه الملف بيده بإحراج على وشك الفتك بها ، لترفع بعدها رأسها بتذكر وهي تقول بجمود بارد
"اريد ان اتكلم معك بأمر ، الحقيقة لقد طلبت مني بيان ان اخبرك بأن تعطيها اجازة فترة ايام قبل موعد زفافها بنهاية الاسبوع لتستطيع التجهيز له ، فهي تقول بأنها لن تقدر على فعل هذا بجانب العمل بالشركة ، وهذا كل شيء"
كان يمسك بالقلم ليوقع به على الاوراق قائلا بتعجب جاد
"حقا ! تريد اخذ اجازة اخرى غير التي اخذتها من اجل حفل خطبتها ؟"
عضت على طرف شفتيها بامتقاع وهي تهمس بخفوت
"اجل يا سيدي هذا ما طلبته مني ان اوصله لك"
اكمل توقيع الاوراق وهو يقول بجمود مريب
"ولماذا لم تأتي بنفسها لتطلب مني هذا الأمر ؟"
ردت عليه من فورها بتفكير بارد
"ربما لأنها تخاف من مواجهتك بعد كل هذا الكم من الاخطاء والذي ارتكبته بعملها وافسد صورتها بنظرك وبسجل عملها !"
ردّ عليها ببساطة وهو يمسك بالختم بجوار الاوراق
"ومن اجل هذا السبب هل تتوقعين مني ان اوافق على طلبها فقط لأنها استخدمتكِ وسيلة للحصول على ما تريد ؟"
اتسعت عينيها بدهشة وهي تقول من فورها باستنكار
"ماذا تقصد يا سيد عمير ؟ هل تظن بأني احاول استغلال مكانتي لأحصل على موافقتك من اجلها ؟ هناك فرق بين مد يد العون لها وبين محاولة استغلال مكانتي !"
رفع رأسه نحوها بقوة نفذت لكيانها وهو يقول بابتسامة غامضة بهدوء
"ليس هناك فرق بينهما ، ولكني مع ذلك سأوافق على طلبها بشرط ان تخبريني بطبيعة القرابة التي تجمعك بذلك الاوس !"
فغرت شفتيها بأنفاس ذاهلة للحظة قبل ان تطبق عليهما بعبوس مرتجف لتهمس بعدها ببرود منقبض
"ماذا يعني هذا ؟"
تراجع بجلوسه وهو يعود لابتسامته المتسعة ببشاشة قائلا بمرح مزيف
"لقد كانت مجرد مزحة ، لما تأخذين كل شيء على محمل الجد ؟ وبالمناسبة اشعر بالفضول لمعرفة قرابتكِ بذلك الرجل الغريب فهو لا يبدو من معارف العائلة المقربين ! واتمنى ألا يزعجك فضولي بهذا الأمر ، فكل شيء يخص موظفين شركتي بحياتهم الشخصية يهمني من اجل ان ادونه بسجلهم"
غرزت اسنانها بطرف شفتيها لا شعوريا وهي تخفض نظراتها بهدوء لتهمس بلحظة بخفوت شارد
"هو ليس قريب جدا من العائلة وما يربطنا به بعيد جدا بعلاقة معقدة لن تستطيع فهمها ، وليس مهم ان تتعرف عليه فهو لا يشكل بحياتي اي شيء"
حدق بها بغموض للحظات قبل ان يعود لملامحه الهادئة وهو يرفع الملف امامها قائلا بابتسامة جانبية بقوة
"إذا كان هذا رأيكِ فلا بأس بذلك ، المهم هو مجهودك بالعمل واخلاصكِ بما تقدمينه من ثمرة لهذه الشركة"
اومأت برأسها بعيدا عنه بتفكير شارد اخذها على حين غفلة ، لتعود بنظرها له ما ان قال بجدية وهو يلوح بالملف امامها
"لقد انتهيت منه ، إذا كنتِ ما تزالين تذكرين امره !"
ابتسمت باضطراب وهي تتناول الملف منه بهدوء ، لتقول بعدها بلحظة بتردد خافت
"وماذا بخصوص طلب اجازة لبيان ؟"
ضم يديه فوق سطح المكتب وهو يقول بابتسامة مائلة بمغزى
"انا موافق على اعطاءها اجازة ولكنها ستكون مهلة يومين فقط قبل زفافها ، وليس من اجلها هي بل من اجل صديقتها والتي تتستر دائما على مصائبها ، ما رأيكِ الآن ؟"
اعتلت بسمة هادئة محياها اظهرت غمازات خديها باحمرار طفيف خجول ، لتهمس من فورها بامتنان خافت بود
"شكرا لك يا سيد عمير ، سأعمل على إيصال رسالتك لها ، والآن اعذرني"
استدارت من فورها وهي تسير مباشرة باتجاه باب المكتب وابتسامتها تتألق على محياها بسعادة نادرا ما تظهر عليه وهي تنتظر بفارغ الصبر لتوصل لتلك المزعجة رسالتها والتي سوف تجعلها تطير من السعادة ، بينما النظرات ما تزال تلاحق خروجها بهدوء جمدت ابتسامته وكل شيء يحوم من حوله لتظهر وجهه الحقيقي المخفي عنها وهو يردد بهمس خافت بقهر مدفون
"إلى متى يا سيدرا ؟ إلى متى ستعاندين ؟ لقد بدأت افقد صبري عليكِ وهذا ليس جيد لكِ يا سيدرا !"
______________________________
كان يقود سيارته الفارهة على الطريق السريع المزدحم بالسيارات وهو يكاد يطير بها بعيدا عن الطريق ليوصله لوجهته والتي يشعر بها ابعد نقطة من بقاع الأرض ، وكل شيء يدور من حوله اصبح يتحد ويتعاون ضده ليفسد عليه رحلة وصوله لذلك المكان الذي اصبح مجرد الوصول له حلم بعيد المنال ، وهو لم يتمنى بحياته شيء بهذه الشدة كما يتمنى الآن ان تنتهي هذه الطريق وتختصر عليه رحلته العصيبة والتي توشك على تدمير ما تبقى لديه من اعصاب انهارت بعد آخر ما تلقت بتلك الرسالة القصيرة والتي تعبر عن كل شيء حدث بغيابه .
شدد اكثر على عجلة القيادة بقوة اكبر حتى ابيضت مفاصل اصابعه وهو لا يشعر سوى بالطريق يميد امامه على ذكرى تلك الرسالة والتي تداخلت بعقله وهو يعيد تكرارها على اسماعه بدوامة اهلكت تفكيره المشتت بنقطة واحدة تشكلت على هيئة صوتها الحزين
(انا احتاجك بشدة ، ارجوك لا تتركني انت ايضا ! انا وحيدة !)
تنفس بتعب تجلى على خطوط محياه بوضوح لأول مرة عوضت عن كل سنين العمل بكل مراحل حياته المثالية ، ليكون اليوم عبارة عن سيل من المشاعر الهادرة والآلام المعنوية مرت على ذهنه وحياته بلحظات خاطفة وبلمح البصر فقط من دقائق من رؤيته لتلك الرسالة القصيرة ، وهو ما يزال يذكر بتلك اللحظة الحاسمة بعد خروجه من غرفة الاجتماعات ليخرج حينها هاتفه من جيب سترته وهو يلمح قائمة من الاتصالات الطويلة وكلها من نفس المتصل ، وما ان تأكد من هوية المتصل حتى اتجه مباشرة للاتصال على نفس الرقم بدون اي انتظار ، ولكنه لم يسمع اي اجابة من الطرف الآخر وهو يصدر طنين خافت قبل ان يقفل الخط نهائيا .
اخفض الهاتف عن اذنه وهو يشتم بغضب ليتغضن جبينه بلحظة وهو ينظر للرسالة الفائتة والتي لم ينتبه لوجودها للوهلة الأولى ، ليفتحها من فوره بقلب متوجس يشعر به يكاد يخرج من صدره بوجل مما ينتظره ، وما ان فتح الرسالة امامه حتى تسمر للحظات طويلة شعر بها اطول فترة تمر عليه بسنوات حياته كاملة ، ولم تأخذ منه سوى ثواني معدودة حتى كان يجري اتصال آخر من قائمة الارقام عنده ، ليضع بعدها الهاتف على اذنه وهو يجيب بنبرة صخرية تحمل الخوف من المجهول
"صباح الخير يا سندس ، لقد اتصلت لأسألكِ عن حال روميساء فهي لا تجيب على اتصالاتي"
تجمدت ملامحه بدون اي شعور وهو يستمع للصوت الخافت بوجل واضح وكأنها قد رأت شبحا للتو
"صباح النور سيد احمد ، السيدة روميساء قد غادرت منذ فترة ، انا اقصد بأنها قد نقلت للمشفى وهي الآن غير موجودة لتجيب على اتصالك"
مرت لحظتين قبل ان يقول بهدوء جاد بدون ان يظهر شيء مما يجيش بداخله وبدأ يتوسع هناك
"ما لذي تتفوهين به يا سندس ؟ كيف ذهبت للمشفى ؟ ولماذا ؟ اريد ان اعلم بكل شيء حدث بغيابي !"
اجابت بسرعة بتهذيب متوتر وهي تكاد تتعثر بكلماتها
"الذي حدث يا سيد احمد بأن روميساء قد تعثرت بأول درجات السلم وغابت عن الوعي ، وما ان لمحها الخدم بتلك الحالة حتى اتصلوا مباشرة بالمشفى ليصلوا لنا بدقائق وينقلوها معهم ، وهذا كل ما حدث يا سيدي"
اخذت انفاسه بالتخبط بتسارع طفيف وهو يهمس فجأة بذهول قاتم
"هل هذا يعني بأنه لم ينتبه لها احد بوقت سقوطها على السلم ؟ لم يكن هناك احد معها بذلك الوقت !"
ردت عليه الخادمة بخفوت متوجس
"لا يا سيدي ، لم يكن هناك احد معها ، ولم ينتبه لها الخدم سوى بعد سقوطها على السلم وغيابها عن الوعي"
قبض على يديه بلسعة خاطفة آلمت فؤاده الذي يكاد ينفجر من فرط شعوره الآن وهو يهمس بذهول اكبر انهى آخر ذرة صبر لديه
"ماذا تقصدين ؟ أليس هناك احد بالمنزل معها ! اين ساكني المنزل عنها ؟ اين كنتم انتم عنها ؟ كل هذا العدد من الخدم بالمنزل ولم يراها او ينتبه لها احد ؟"
ردت عليه من فورها بتبرير مضطرب
"لا لم يكن هناك احد متواجد من ساكني المنزل بتلك اللحظة ، والخدم كانوا مشغولين بالعمل على مائدة الطعام من اجل امسية الليلة للضيوف المهمين وكل ما طلبه منا السيد الكبير ، لذا لم ينتبه احد لوقوع السيدة روميساء عند درجات السلم....."
قاطعها بصوت قوي النبرات بصرامة بدأت تنفذ بصوته بغضب متقد
"كفي عن هذه التبريرات الفارغة ، اخبرتكم من قبل ان تنتبهوا لها اكثر وتحرسوا على رعايتها بما انها تحمل ابني وحفيد العائلة ، ولكنكم بدلا عن ذلك تهتمون بأمر امسيتكم الغبية والتي لا تساوي شيئاً امام حياة زوجتي ، ولكن لا بأس سأتعامل معكم ما ان اعود للمنزل ، الآن اخبريني بأي مشفى نقلوها ؟ وبأي ساعة نقلت بها ؟"
اجابت الخادمة بصوت يرتجف بتلعثم مثير للشفقة بعد ذلك التوبيخ القاسي بعث كل ذعر بروحها لأول مرة يخرج من ابن العائلة الهادئ الرزين
"لقد نقلوها لمشفى المدينة المركزي من الساعة العاشرة تقريبا...."
قال من فوره وهو يعود لهدوئه الصارم الذي يحمل الكثير من الاهوال
"حسنا فهمت ، فقط سؤال اخير اين هما ماسة وسلوى ؟ ألم يكونا معها بتلك اللحظة !"
ردت عليه بالطرف الآخر بلحظات بتهذيب
"السيدة الصغيرة ماسة خرجت من المنزل منذ الصباح الباكر ، واما سلوى فلم ارها تخرج من غرفتها منذ مغادرتك للمنزل"
اومأ برأسه بجمود بدون ان يفكر بالأمر كثيرا وهو يتمتم ببرود
"حسنا ، هيا اغلقي الخط الآن ، وإذا عرفت اي شيء بخصوص روميساء لا تنسي ان تعلميني به !"
اغلق الخط وهو يزفر انفاسه باضطراب متهدج يشعر به بدأ يؤلم رأسه ويتسرب بأنحاء جسده مثل السم القاتل والذي لا فرار منه ، لينطلق بعدها بثواني باتجاه الممر المؤدي للمكتب الكبير ، وما هي ألا لحظات فاصلة حتى اصبح امام الصرح الشامخ والذي كان يجلس خلف المكتب وهو يقول له بكلمات موجزة باختصار
"انا ذاهب للاطمئنان على روميساء بالمشفى ، فقد نقلوها هناك منذ ساعة ، لذا عذرا على ترك العمل فهذه حالة طارئة !"
تجهمت ملامح والده وهو يرى ابنه على وشك المغادرة ليقول بلحظة بصوت جهوري آمر
"انتظر هنا يا احمد ، ماذا تقصد تريد ترك العمل ؟ هل تظن نفسك تلهو هنا وتستطيع الانسحاب عن العمل بالوقت الذي تشاء ؟ لا تنسى منصبك بهذه الشركة والذي اصبحت تحتله هنا بموقع المدير المرتقب ، لذا حاول انجاز عملك المنطوي عليك بأكمل وجه وبعدها فكر بالأمور الثانوية"
قطب جبينه لوهلة وهو ينظر له باستهجان عابس قائلا باقتضاب
"ولكنني اخبرتك بأنها حالة طارئة وليست من الامور الثانوية ! وبعد ان انتهي منها سأعود لإنجاز العمل على المشروع ، ولا تنسى بأن اليوم كان من المفترض ان يكون عطلة لي...."
قاطعه بجمود قاسي بدون ان يتأثر بكلامه
"العمل بمنصب الرئيس لا يأخذ إجازات او عطل ، وقد اخبرتك بذلك مسبقا من اجل ان تصل لمركز الرئيس بشركة حوت الفكهاني عليك بذل مجهود مضاعف لتحصل عليه بعيدا عن العواطف وحياتك الشخصية"
ارتفع حاجبيه ببعض الدهشة بخضم مشاعره الثائرة باللحظات السابقة ليقول بعدها باستنكار متعجب وهو يحاول الحفاظ على ثبات شخصيته امامه
"هل تقول عواطف وحياة شخصية يا ابي ؟ لقد اخبرتك بأنها قد نقلت للمشفى بدون اي رفيق معها ! وانا اريد الاطمئنان على حالتها وعلى سلامة ابني ، هل اخطئت بطلب هذا ؟"
ساد الصمت بينهما طويلا بقسوة النظرات الرمادية والتي كان يتبادلها بعضهما للآخر ، ليقطعها الصوت الجهوري بقوة صارمة بدون اي رأفة بحاله
"وانا اخبرتك بأن منصب المدير ليس مزحة ولا يتحمل اي اهمال او استهتار من قبل علاقاتك الشائكة والتي قد تؤثر بسير العمل ، ولا تقلق على حال زوجتك فهي موجودة بأفضل مشفى بالبلد سيعرفون جيدا كيف يتعاملون مع مشكلتها ويهتمون بأمرها ، ولا ارى هناك اي داعي لتواجدك معها والذهاب لها قد تعرقل سير عمل الاطباء هناك ! وانا متأكد بأنها مجرد نكسة تمر بها كل امرأة حامل لا تحتاج ان تقطع العمل من اجلها !"
تصلبت خطوط زوايا شفتيه ببهوت بانت تعب العمل بوضوح على وجهه وهو يتذكر كلمات تلك الرسالة الصغيرة والتي تبين مدى الألم والذي واجهته قبل غيابها عن الوعي ، وليس ألم السقوط عن السلم او اعراض الحمل بل ألم عدم وجود احد بجانبها بتلك اللحظات اليتيمة !
قال بعدها بلحظات وهو يستدير بنصف جسده بوجوم اكتسح ملامحه كما كيانه
"افعل ما تريد يا ابي ، ويمكنك ايضا خصم رتبتي بالشركة او حرماني من منصب المدير ، فأنا مع كل ذلك لن اتخلى عن روميساء ولن اتوقف ساكنا واتركها تعاني وحدها بالمشفى ، فقد قررت ان تكون روميساء زوجتي من اجل ألا تأتي اللحظة والتي تعود به من جديد وحيدة كما تخلينا عنها بالسابق"
افاق من افكاره القاتمة ما ان وصل امام مدخل المشفى الكبير بدون ان يشعر بالوقت الذي مر بسرعة وانتهت به رحلته العصيبة ، وبعدها بثواني انطلق راكضا بين الممرات بالمشفى بعد ان استعلم عن مكان غرفتها وهو يشعر بها تتيه منه كلما اقترب اكثر من المكان المقصود .
وقف بعدها امام الغرفة المحددة وهو لا يقوى على الاقتراب منها وانفاسه تخرج بتسارع بدون توقف بسبب جريه الطويل على السلالم عوضا عن استخدام المصعد ، ليتراجع بعدها تلقائيا ما ان خرجت الممرضة من نفس الغرفة ، لتوجه نحوه نظرات حائرة وهي تهمس بتفكير عملي
"هل انت من اقرباء الآنسة روميساء الفاروق ؟"
اخذ عدة انفاس وهو يومأ برأسه بالإيجاب ليقول بعدها باضطراب مشتت وانظاره معلقة على باب الغرفة
"اجل انا زوجها احمد الفكهاني ، هل هي بخير ؟ كيف حالتها ؟"
ارتبكت ملامحها بشحوب بعثت الخوف بقلبه الذي يكاد ينفجر بأي لحظة ، وقبل ان تقول سبقها بانفعال مكبوت بدون ان يمنع نفسه
"صحيح ، كيف حال الطفل ؟ هل هو بخير ووالدته ؟"
قالت بسرعة بابتسامة جادة يشوبها بعض الأسف
"اعتذر على هذا يا سيد احمد ، ولكن زوجتك قد وصلت لنا بحالة حرجة جدا ، وخاصة بأنها قد خسرت الكثير من الدماء وكانت تعاني بنزيف حاد بمكان موضع الجنين ، ونحن قد بذلنا كل ما بوسعنا لإنقاذ الأم فقط وتركيز عملنا على مساعدتها ، فهي بهذه الحالة العصيبة كنا على وشك فقدان كليهما معا ، وبفضل الله ورحمته علينا استطعنا ابعاد الأم عن وضع الخطر بمجهود طاقم الاطباء لدينا والذي لم يتوقف عن العمل لثانية حتى تأكد من سلامتها واستقرار حالتها ، لذا عليك ان تحمد ربك بما حدث يا سيد فكهاني فنجاتها من هذه المحنة تعد وحدها معجزة !"
كان يتابع كلامها بتركيز تشتت لوهلة لم يستطع ان يلتقط منه سوى بضع كلمات مهمة اوضحت كل شيء غامض بعقله الشارد ، ليمسد بعدها على جبينه بأصابعه للحظات قبل ان يقول ببعض التفكير الذي ما يزال يتحلى به للآن
"هذا يعني بأن ابننا انا وروميساء قد مات ! صحيح ؟"
اومأت برأسها بهدوء مريب وهي تهمس بمواساة
"اجل هذا ما حدث يا سيدي ، ولكن كن واثقا بأن الله سيرزقكم بغيره الكثير ، لذا كن شاكرا بنعمة نجاة زوجتك من هذه الحادثة"
تنفس بقوة اكبر وهو يشعر بشح الهواء بداخله ليهمس بعدها بكل ما يقدر من ثبات مهتز
"هل استطيع رؤيتها الآن ؟"
حركت رأسها بأسف وهي تهمس بخفوت عملي
"لن تستطيع الآن يا سيدي ، فهي ما تزال تحت العناية ولم ننتهي بعد من نقل الدماء لها والتي فقدتها بجسدها ، انتظر حتى تستعيد وعيها بالكامل بعدها يمكنك رؤيتها ، والآن عذرا عليّ الرحيل"
اومأ برأسه بجمود وهو ينظر للممرضة التي غادرت بعيدا عنه بلحظات ، ليشعر بتعب بأنحاء جسده وبقواه تخور فجأة ، وما هي ألا لحظة حتى ارتمى جالسا على مقاعد الانتظار بقوة هزت الأرض من حوله بعد محاربة استغرقت طول الساعات الماضية مع كل آلامه المدفونة لكي لا تظهر على العلن ، والآن فقط يشعر بالوهن يسيطر على كامل جسده وبكل آلامه تتسرب للخارج بعد حبسها بداخل روحه المذبوحة ، بدون ان يبارح كلام تلك الممرضة تفكيره والتي قضت على كيانه وارتشفت آخر ذرات هدوء حياته وسعادته الجديدة والتي اثمرت مع زوجته لتعود لتسرق منه وتنهب بطريقة لم تخطر على باله ابدا !
رفع رأسه عاليا فجأة وهو يسنده بظهر الكرسي بملامح سكنت عن الشعور ما ان علق ذهنه بأهم نقطة غفل عنها عندما ذكرت الممرضة حالة (روميساء) الحرجة وما كان سيحدث من احتمالية فقدانها مع الطفل ، ليشعر بالألم يتوسع بداخله بخواء وبمهمة ضخ الدماء لقلبه اصبحت اكثر صعوبة عن السابق ، وهو يتخيل فقط حياته كيف ستكون بدون (روميساء) ؟ كيف ستكون بدون ان يتذوق من تلك الفاكهة والتي اضافت من حلاوتها لحياته مكونا كان ينقصه ؟ وكله بسبيل انجاب طفل لن يكتمل وجوده اساسا بدون تلك الشجرة والتي اثمرت منه لتذبل بعدها مثل كل شيء يفقد جذوره واصله بالحياة ! وهذا حاله تماما فهي التي تسقي ثماره وبدونها ستذبل حياته مثل روح فقدت خافقها !
______________________________
كانت تسقي الازهار بمرشة الماء اليدوية بالتتابع وهي تدندن بلحن ما منسجم مع حركاتها الرشيقة مثل كل مرة تنساب بها مع الاجواء التي تخلقها من حولها بمحيط جديد بدأت تستعيد به روحها المفعمة بالتفاؤل والحياة وهي تعود للفتاة الحالمة المبتهجة....ولكن بدون ان تستطيع كسر حلقة الحزن والتي قيدت حياتها وغيرت من تفاصيلها منذ فترة قصيرة...وهي تحاول بكل جهدها الحفاظ على جانبها الجديد والذي صنعته من كل جوانب شخصيتها العاطفية والمكسورة لتخلق من بينهما شيء جديد تأقلمت معه وتناسب مع الأجواء التي اصبحت تحوم من حولها مؤخرا ...
تباطأت حركاتها قليلا بدون ان تتوقف عن رش قطرات الماء فوق الازهار الصغيرة والتي بدأت تتفتح ببراعم صغيرة اطول عن السابق ، وهي تتنهد بابتسامة ناعمة بشرود متأملة مجموعة ازهارها الرائعة وصغارها المفضلين والتي تمثل كل واحدة عندها مكانة خاصة بقلبها الوسيع والذي يتسع لملايين من هذه الازهار وكأنها حديقة غنية تسكن بأعماق قلبها ، وهذا كان ينطبق على البشر كذلك وكل من سكن بقلبها بدون اي شروط ليرحل ببساطة عنه وينزع جذوره من ارضه ليترك الاثر العميق من حوله بدون ادنى تفكير بصاحب ذلك القلب الوسيع والذي استقبل وجوده ذات يوم .
رفعت مرشة الماء بهدوء وهي تتوقف عن هدر المزيد من القطرات للحظات ، لتنظر بعدها عاليا ما ان عادت خيالات ليلة امس لتسوير عقلها مجددا بتلك اللحظات اليتيمة والتي قضتها مع زوجها لأول مرة مثل اي زوجين طبيعيين فرض عليهما الزواج من بعضهما لحل الخلاف بين حقد وموت احد بنات العائلتين ، ولكنهم بالحقيقة عكس ذلك تماما فلا احد منهم ارغم على الآخر ولم يذكر احد امر الحقد بينهما بسبب موت غير مقصود لابنة عائلتهم ! ما تزال تذكر من حينها بعد الانتهاء مباشرة من تنظيف سفرة طعام العشاء وغسل الصحون والاطباق ، لتسير بالرواق بهدوء حتى تقابلت معه وهو يقف بنهاية الممر بجمود ملامحه المرتسمة فوق وجهه وكأنه كان ينتظر قدومها منذ ساعات ، لتبتلع بعدها ريقها بتأهب منقبض ما ان بدأ بالتقدم نحوها عدة خطوات ثابتة كانت تزيد من انكماش جسدها لا إراديا ، وما ان وصل امامها اخيرا حتى مال بجذعه فجأة بحركة سمرت عضلات قلبها وكل عضو ينبض بجسدها وهو يبعد عن وجهها شعرة ليهمس بخفوت بارد بأمر
"اريدكِ ان تكوني بغرفتي بغضون دقيقتين ، فقد حان الوقت لتلقي العقاب على افعالك ، وإذا فكرتِ بالهروب فلن اتوانى عن اللحاق بكِ لغرفتك وتعرفين الباقي جيدا !"
اتسعت عينيها العسليتين بجمود اكبر وهو كل ما استطاعت فعله بلحظة تهديده المبطن وقد نسيت امر عقابه تماما ، ليعتدل بعدها باستقامة وهو يستدير بلحظة ليسير مباشرة باتجاه الممر المؤدي لغرفته وبصمت قاتم .
زفرت انفاسها بتسارع وهي تمسد على صدرها بكفها مستشعرة كل نبض يصدر من قلبها الملتاع ومن التفكير بنوع العقاب والذي ستتلقاه الآن على يديه ، فيبدو بأنه لم يكتفي بعد من مهمة تعذيبها بكل يوم يمر عليها بهذا الزواج ليكون اقسى من الذي قبله ! فما لذي ينتظرها الآن مع مصير مجهول وقدر بائس لم يقف بصفها يوما ؟ وكله بسبب لسانها الاحمق وما يحمله من تهور سيقضي على آخر نفس بحياتها !
طرقت على باب غرفته بتردد لثواني قبل ان تفتح الباب ما ان سمح لها بالدخول ، لتتلقى بداية نظراته السوداء المسلطة عليها بتلك الطريقة والتي تكشف كل جزيئات جسدها وكل ما هو مستور عن العين وهو فقط مستند بطرف إطار مكتبه ، لتنطق بعدها بلحظة اخرى استهلكت كل طاقتها المختزنة هامسة بوجوم متعثر
"ها انا قد اتيت لغرفتك كما طلبت ، ماذا تريد مني الآن ؟"
تلبدت ملامحه بدون اي تعبير قبل ان يحرك رأسه بقوة وهو يتمتم بعمق
"اقتربي"
عبست ملامحها بشك من نواياه نحوها وهي تلوح بيدها هامسة باستياء
"لا بأس ، يمكنك التكلم معي وانا هنا ، فأنا لا اعتقد بأنه من الجائز الاقتراب منك....."
قاطعها بصرامة اكبر بدون ان يهتم لكل كلمة نطقت بها الآن
"قلت لكِ اقتربي"
تقدمت بسرعة بخطوات واسعة بانصياع تام ، لتقف بعدها على مقربة منه وهو ما يزال ينظر لها بنفس الطريقة المسلطة والتي تتعب كيانها دوما ، لتسمع صوت خطواته وهي تتراجع بلحظة بعيدا عنها ليتبعها باللحظة التالية عودة الخطوات لموقعها السابق وقبل ان يتغلب عليها فضولها وترفع رأسها قصف صوته بقوة وهو يضرب رأسها بملمس شبيه بالورق
"امسكِ هذا يا صفاء"
رفعت رأسها بارتجاف سرى على كامل اطرافها وهي تنظر بحيرة لمجموعة الاوراق بيده بدون ان يدخل كلامه عقلها بطيء الاستيعاب ، لتنتفض بلحظة على مسمع صوته الصارم وهو يتمتم بضيق واضح
"ما بكِ تجمدتِ هكذا ؟ اخبرتكِ ان تمسكِ بالأوراق وليس ان تتأمليها ببلاهة !"
انفرجت شفتيها عدة مرات بذهول قبل ان تتناول منه الاوراق بسرعة هامسة بإحراج خجل
"اعتذر ، لم انتبه"
حدق بها بغموض للحظات طويلة قبل ان يقول بجدية وهو يدس يديه بجيبي بنطاله بتحفز
"حسنا لننتقل الآن للموضوع الاهم ، اريد منكِ ان تختمي هذه الأوراق جميعها من الألف للياء بدون ان تنسي حرف ، وهذا اكيد سيكون طريقة للتكفير عن ذنبكِ وعقوبة من اجل نطقك بذلك الكلام ، واعدك بأنها إذا تكررت مرة اخرى فلن اضمن لكِ ردة فعل طبيعية كما الآن ، فهمتِ ؟"
ارتفع حاجبيها بدهشة شتتت انظارها لوهلة لتهمس بعدها بوجوم مرتبك
"هل هذا كل شيء ؟ حقا !"
عقد حاجبيه بتفكير لبرهة وهو يتمتم بهدوء
"ماذا ؟ ألم يعجبكِ هذا العمل ! هل تريدين تجربة عقوبة اخرى غيرها ؟....."
قاطعته بذعر وهي تحرك كفيها هامسة بابتسام طفيف
"لا كل شيء بخير ، وانا سعيدة جدا بهذه العقوبة"
اومأ برأسه بجمود وهو يلتفت جهة المكتب لينشغل بترتيب بعض الاوراق ، لتعقد بعدها حاجبيها بتوجس غزى ملامحها وهي تهمس بخفوت
"حسنا ، ومتى يمكنني ان انجز هذا العمل ؟"
ردّ عليها ببرود بدون ان ينظر لها
"ستعملين عليها الآن وتنهينها قبل بلوج ضوء الفجر"
فغرت شفتيها بارتعاش مشدوه لوهلة قبل ان تهمس باستنكار خافت
"ولكننا قد اصبحنا الآن بمنتصف الليل ! كيف لي ان انهي ختم كل هذه الاوراق والتي تحتاج الليل بطوله لفعلها ؟"
حرك رأسه ببرود وهو يلوح بذراعه قائلا بجفاء
"لا بأس فقد اعتدتِ على فعلها بمكتب والدك فيما مضى ، واكيد قد كسبت الخبرة والسرعة بهذا العمل ، أليس كذلك ؟"
زمت شفتيها بامتعاض وهي تضرب بظاهر كفها على الاوراق هامسة بقنوط
"هذا ليس سببا مقنعا لتستخدمه ضدي وتجعلني انجز اعمالك المتراكمة بحجة العقاب !....."
صمتت بوجل ما ان التفت نحوها وهو يوجه لها نظرات ساكنة اوصلت الرسالة لها بدون كلام مترافق مع التخبطات والتي احتلت دواخلها بلحظة ، ليقول بعدها بحاجبين معقودين بتصلب بدون ان يترك نظراتها
"هل تريدين مني ان اضاعف العقوبة لكِ على هذا الكلام ؟ فيبدو بأن هذه العقوبة لم تفي بالغرض المنشود !"
حركت رأسها بالنفي بقوة حتى آلمت عنقها من تشنج الخوف الذي اسرها بهالة نظراته ، لتعتلي ابتسامة باهتة محياه وهو يضع امامها على طرف المكتب اوراق اخرى قائلا بحزم
"هذه اوراق اخرى اضيفيها مع قائمة الاوراق معكِ عقوبة لكِ على تذمرك الآن ، ومع كل تذمر او تكاسل بالعمل ستزيدين عليكِ رصيد عملكِ المبذول والذي لن تنتهي منه لليوم الثاني او ما بعده"
اتسعت حدقتيها العسليتين بصدمة وهي تنظر لكمية الاوراق امامها بالإضافة للأوراق بحوزتها والتي كانت مهمة انتهاءها منها مستحيلة ! فكيف الآن مع كل هذه الكمية من الاوراق ؟
همست بعدها بلحظات بعبوس بائس
"هذا ظلم بحق البشرية !...."
عضت على طرف شفتيها بجزع وهي تتدارك نفسها هامسة بتعديل مرتبك
"اقصد هذا رائع ويسعدني ان انجز هذا العمل المستحيل ، فهو يبدو لي مثل الاختبار والغير مستحيل"
ارتفع حاجب واحد بحدة لوهلة قبل ان تعتلي شبه ابتسامة على طرف شفتيه وهو يحاول ان يكتمها بأسنانه ، وهو ما دفعها لتتسمر بمكانها بصدمة وعينيها تتبع خطوط ابتسامته الصغيرة والبعيدة عن كل ملامح السخرية وكأنه يستمتع بما يفعله بها ولثاني مرة ترى تلك الابتسامة !
افاقت من شرودها ما ان ابتعد من امامها وهو يدور حول المكتب ليجلس بلحظة على مقعده قائلا بجدية صارمة
"هيا لا تتجمدي هكذا ببلاهة ، فهذا ليس وقت احلام يقظتك ! فأنتِ عليكِ ان تنهي هذا العمل قبل بلوج الفجر ، هل هذا مفهوم ؟"
عقدت حاجبيها بضيق وهي تنظر له يجلس بكل عنجهية وملوكية خلف المكتب وكأنه زعيمها والذي يحمل كل سمات الزعماء الظالمين ، جلست على الكرسي امام المكتب بهدوء وهي ترتب الاوراق فوق بعضها البعض بحرص ، لتمسك بعدها بالختم بجوارها والذي وضعه مع الاوراق وهي تبدأ بختم الاوراق به بسرعة متمهلة كما اعتادت ان تفعل بمكتب والدها مثل آلة طباعة .
تجمدت اصابعها على طرف الورقة وهي تتابع ختم الاوراق بحركة اصبحت تتباطأ تدريجيا ، بدون ان تشعر بهالة الحزن والتي احاطت عقلها لوهلة ما ان تذكرت تلك الايام البعيدة والتي كانت تقضيها مع والدها بمكتبه لتساعده بأعماله وتهتم بصحته حال تدهورت بأي لحظة ، ولم تفكر بأنها ستصبح مجرد ذكريات منسية رحلت مع اصحابها ومع اقرب الناس لها ولقلبها المفطور بهم والذي قدم الكثير بسبيل الحصول على رضاهم وحبهم ، فهل يا ترى ما يزال والدها يفتقد وجودها بتلك الذكريات ام انها وحدها من تشعر بذلك الحنين والذي لطالما طوق حياتها الحالمية والمعلقة بالجميع ؟!
انتفضت لا شعوريا وهي توقع الختم من يدها ما ان قصف صوت الجالس امامها مخترقا هالتها
"صفاء هل تسمعين ما اقول ؟"
رفعت يدها بارتجاف وهي تدس خصلات شعرها خلف اذنها هامسة ببعض الوجل
"اعتذر لم اسمع"
قطب جبينه بضيق وهو ينحدر بنظراته للختم الذي انحدر على قميص منامتها ليلطخه بالحبر قبل ان يستقر بجانب الاوراق ، ليقول بعدها بعبوس وهو يعود بنظره لرأسها المنكسة بهدوء
"هل انتِ سعيدة يا بلهاء ؟ لقد شوهتي قميصك بالحبر ، اخبرتكِ ان تختمي الاوراق وليس القميص !"
حركت رأسها بإيماءة طفيفة دفعت خصلات غرتها للانسياب فوق ملامحها المخفية وهي تهمس بخفوت مشتد
"اعتذر حقا على هذا ، يبدو بأنني قد فقدت المهارة بإرضاء الآخرين بعملي معهم ، فأنا لم اعد تلك الطفلة المرضية والمطيعة والتي تملئها العاطفة والشغف لإسعاد الآخرين دائما على حساب سعادتها"
تغضن جبينه بوجوم لبرهة وهو لا يعلم لماذا رأى انعكاس صورته بداخلها وما يوحي به شكلها المنكسر والذي يراه لأول مرة ؟
اعتدل بجلوسه باستقامة وهو يقول بأمر ناظرا لها بعيون صقرية
"صفاء قفي امامي"
وقفت امام المكتب بهدوء ساكن وهي ما تزال منكسة الرأس بصمت ، ليقول بعدها بصوت اكثر خشونة بأمر
"ليس هنا ، تعالي قفي امامي مباشرة"
اخذت لحظات استيعاب قبل ان تتحرك وهي تدور حول المكتب لتقف بعدها امام مقعده تماما ، استدار بجسده نحوها بإمارات صارمة ما تزال تحتل محياه ، ليقول بعدها بصوت اخفض قليلا بدون ان يحيد بنظراته عنها
"ارفعي رأسكِ وانظري بعيني مباشرة"
رفعت رأسها كما طلب وهي تنظر له بتلك الأحداق الواسعة بلون عسلي غائم بدون اي شعور يختلف عن كل حالاتها السابقة ، ليدس بعدها يده بجيب بنطاله قبل ان يرفعها نحوها هامسا بخفوت اجش
"خذي وامسحي بقع الحبر عن قميصك"
نظرت بانشداه للمنديل النظيف بيده لتتناوله بعدها بارتجاف طغى على مفاصل اصابعها وهي تحاول مسكه بقدر المستطاع بأطراف اصابعها بحذر خوفا من ان يفعل معها كما فعل سابقا عندما ناولته كأس الماء ، ولكن لم يحدث ما كانت تتمناه وهو يقبض على اصابع يدها بكفه القوية اخترقت كيانها ، وبلحظة كان يسحبها من نفس الكف للأسفل بلمح البصر ليصبح بعدها وجهها امام منحنيات صدره الصلب وساقيها اسفل المقعد ، وقبل ان تتدارك وضعها كانت تشعر بملمس قبلته القاسية على شفتيها المرتجفتين وذراعه تطوق خصرها وترفعها امام جسده بقوة طاحنة كسرت عظامها الهشة بحرب عاطفية اعطت مذاق جديد لحياتها الحالمية .
تمسكت تلقائيا بياقة قميصه وهي تتنفس بتسارع يكاد يخرج نبضات قلبها من قفصها الصدري وقبلاته تنشر على بشرة وجهها برقة لم تسبق ان جربتها معه ، ليتغضن جبينها بلحظة مع اتساع مقلتيها العسليتين بتموج ذهبي من تدفق المشاعر على سطح محياها ، وهي تشعر بتصلب جسده المفاجئ والذي ابتعد عنها وارتخاء ذراعيه عن خصرها معلنا توقف الحرب الحميمية بينهما .
اخفضت يديها عن ياقة قميصه وهي تتراجع لا إراديا لتجلس على ارض الغرفة امام مقعده بسكون ، بينما كان (جواد) يعدل من وضع جلوسه وهو يريح مرفقيه فوق ذراعي المقعد وكأنه يحاول استعادة اتزان صلابته والتي كان على وشك فقدانها من لحظة كادت تدمر كل شيء .
انحنت زاوية من شفتيها بحزن وهي تحدق بالمنديل والذي وقع منهما بدون ان يدرك كليهما ذلك ، لتلتقط بعدها المنديل بهدوء وهي تقف على قدميها باتزان بقدر استطاعتها ، وما ان فعلت حتى قالت بخفوت حزين وهي تشيح بنظراتها جانبا
"اعتذر حقا على الاقتراب منك ، واعدك بأن احاول ألا اتجاوز حدودي مجددا"
التفت نحوها بهدوء وهو يضيق عينيه السوداوين بلحظة قبل ان يتمتم بجمود جاف
"انا الذي دفعتك للاقتراب مني ، لذا لا داعي لتجميل صورتي وألقاء باللوم على نفسك ، فيبدو بأنني انا الذي اصبحت اتجاوز حدودي بدون ان ادرك ذلك"
نظرت له بسرعة بعينين متسعتين بصدمة وهي لا تصدق ما سمعته اذنيها الآن باعتراف لم ينطق به من قبل ! ام تراها ضربت رأسها واصبحت ترى احلام يقظتها متجسدة امامها حقيقة ؟
تشنجت اطرافها لوهلة ما ان لمحت طرف ابتسامته والتي تظهر على محياه لثالث مرة وهو يتابع كلامه قائلا بخفوت شارد
"انتِ فتاة خيالية لديكِ طاقة سحر كبيرة ينبغي ان نحتاط منها ، وهذا ما كان عليّ فعله قبل ان اقع صريع هواكِ ويفوت الآوان على النجاة !"
رفعت قبضتها وهي تريحها فوق صدرها النابض بنشيج خافت تشعر بخفقات قلبها وصلت لطنين اذنيها بنغمة صاخبة غيرت مجريات حياتها ، وهي تستمع لاعتراف كبير من زوجها الجليدي والذي ظنت بأنه لا يكن لها سوى الكره والحقد ليغير كل شيء باعترافه الآن والذي يوحي بأنه قد وقع بحبها او شيء من هذا !
شددت بعدها على المنديل والذي عصرته بداخل قبضتها بتوتر قبل ان تهمس بخفوت متلعثم بحياء
"انا ، انا الآن عليّ انهاء عملي قبل انبلاج الفجر ، لأنه....."
قاطعها بهدوء جاد وهو يحيد بنظراته نحوها بتصلب
"ليس هناك داعي لإكمال العمل على الاوراق ، يمكنكِ الذهاب الآن وتبديل قميصك الملطخ بالحبر والخلود للنوم ، وانا سأكمل ما تبقى من عمل"
عقدت حاجبيها بحيرة وهي تهمس بتوجس
"ولكن هذا عملي انا ، وايضا لن تستطيع انهاءه وحدك....."
قاطعها بصرامة اكبر وهو ينظر لها بقوة
"ماذا قلت لكِ يا صفاء ؟"
عضت على طرف شفتيها بحياء وهي تشعر بنغمة نطق اسمها على اذنيها خافتة بلذة جديدة مع تشديد آخر حرف ، لتنتفض بعدها لا شعوريا ما ان قصف صوته بخفوت عميق مع حاجبين معقودين بقلق
"صفاء ما بكِ ! هل تسمعين ما اقول ؟"
اومأت برأسها بسرعة وهي تهمس بابتسامة صغيرة ببعض السعادة
"اجل بخير ، كل شيء بخير"
زفر انفاسه بجمود وهو يعود للعمل على الاوراق امامه ، لتقول بعدها بتردد وهي تضم قبضتيها معا
"هل هذا يعني بأني لست معاقبة ؟"
رفع رأسه بعيدا عن الاوراق لوهلة وهو يقول بابتسامة جانبية ببرود
"اجل لستِ معاقبة يا صفاء ، ويمكنكِ اعتبار نفسكِ حرة وقد افرج عنكِ زعيمك الظالم"
عضت على طرف ابتسامتها بوجل وهي لا تصدق مدى مقدرته على قراءة افكارها والتي جعلته يكتشف اللقب والذي اطلقته عليه بمخيلتها ! لتستدير بسرعة بعيدا قبل ان تكشفها ابتسامتها وهي تتجه من فورها لخارج الغرفة ، قبل ان تتوقف بآخر لحظة عند باب الغرفة وهي تلتفت بنصف وجهها هامسة بخفوت مرتجف
"صحيح لقد كنت على وشك قول شيء قبل ان اوقع الختم على ملابسي ! ماذا كنت تريد ان تقول ؟"
نظر لها بجمود لبرهة وهو يعقد حاجبيه ببطء ليقول بعدها بلا مبالاة وهو يعود للنظر للأوراق بيده
"لا تهتمي لهذا فلم يكن بالأمر المهم على كل حال"
افاقت من ذكريات الامس وهي تعود للنظر للأزهار الصغيرة امامها ، لتجثو بعدها على ركبتيها وهي تبتسم بنعومة رقيقة لترفع كفها بسلاسة قبل ان تلامس بأصابعها بتلات الازهار الملونة ، لتهمس بلحظة بنفس النعومة وبنبرة حائرة بخفوت
"يا ترى ماذا كان يريد ان يخبرني بذلك الوقت ؟ وهل كان صادقا بقول تلك الاعترافات ؟ كم يخيفني ان اكتشف الحقيقة واكون فقط اعيش على الوهم والذي ينسجه خيالي دائما كما كان يحدث منذ طفولتي !"
مالت عينيها بحزن عميق وهي تشرد بلمساتها على بتلات الازهار لثواني ، لتضم بعدها كفيها بين ركبتيها ببرود مفاجئ وهي تهمس مع نفسها بنبرة اكثر حزنا وبوجع واضح
"لم يتبقى سوى عشرة أيام على انتهاء عقد زواجي ، فهل هذه ستكون نهاية آلامي بالحياة ام ستكون بداية كل ألم جديد زرعته بيدي وبخيالات الماضي والتي نشبت عنها منذ زمن ؟"
_______________________________
كانت تريح ذقنها فوق ركبتها بسكون وهي تنظر امامها بشعور بالخواء والذي يصيبها دائما عندما تختلي مع رفيقتها الوحدة....ولكن هذه المرة مختلفة فقد ظهر هناك دخيل اخترق عالمها واخذ مكانه بينهما بدون سابق إنذار او تنبيه....وهي ليس عليها سوى الخضوع لوجوده والذي سيطر على جليد واقعها وتسرب بثقوب ماضيها بشعور بالحياة والتي لم تجرب خوضها يوما .
زفرت انفاسها ببطء شديد وهي تستعيد القليل من جموح كيانها والتي لم تهدأ بعد كل شيء ، لتهمس بعدها بخفوت باهت بعد صمت دام لدقائق طويلة
"هل ما تزال هنا يا شادي ؟"
مرت لحظات اطول مما يحتمل صبرها الضيق وهي تنتظر اي بادرة تدل على وجوده من حولها ، وما ان يأست من سماع الاجابة حتى همست بعبوس سيطرت عليها رجفة خاطفة
"شادي ؟ انت هنا ؟ شادي !......"
تنفست الصعداء ما ان وصلها الصوت الخافت مخترقا الفاصل الخشبي الذي يسندهما وهو يهمس ببطء عميق
"انا هنا يا ماسة ، كيف تريدين مني ترككِ بهذه السهولة ؟"
اغمضت عينيها بهدوء وهي تهمس بشبه ابتسامة ساخرة
"يمكنك الذهاب إذا كنت قد مللت من الجلوس هكذا مثل حارس البوابة ، ولكن لا تنسى العودة ما ان تنتهي فترة ادانتي والتي حددتها بنفسك"
ابتسم بميلان متسلي بدون ان تراه وهو يهمس بتفكير مستاء
"كنت اود حقا الذهاب وترككِ لوحدكِ لارتاح من عنادك وصلابة رأسك ، ولكني لن اقدم على فعل مثل هذه الخطوة المتهورة بترك المنزل بين يديكِ ، فأنا اتوقع منكِ كل شيء ولو حرقتِ المنزل ومن فيه فلن افاجئ ابدا ! فبعد ما فعلتي بنفسكِ بالجناح بأيام بداية زواجنا اصبحت اعرف جيدا اي نوع من الفتيات انتِ وكيف يجري تفكيرك !"
امتعضت ملامحها وهي تفتح عينيها بألوان قاتمة عادت لتموج على سطح روحها ، لتهمس بلحظة من بين اسنانها باستهزاء شرس
"هل تراني مختلة عقلية حتى اقدم على مثل هذا التصرف ؟ لا تقلق يمكنك الوثوق بزوجتك وتركها مع نفسها وهي تعدك بأنها لن تؤذي نفسها ولن تقدم على اي حماقة بغيابك ، فهي ما تزال تملك عقل بكامل قواه بعد كل شيء !"
تنهد للحظات قصيرة وهو يهمس بوجوم غامض
"لن افعل هذا ، لأني اعرف جيدا بأنكِ اكثر شخص مهمل بالعالم بالاهتمام بنفسه وبالحفاظ على حياته ، فهو ينسى دائما بأن حياته بأكملها لم تعد ملكه وحده"
عضت على طرف شفتيها بضيق وهي تتمتم من بينهما بانفعال
"أليس لديك ولو بعض الثقة بحماية زوجتك لنفسها ؟ ام انها انعدمت منذ ذلك الوقت بجناح شهر العسل ؟"
غيم الصمت بينهما لوهلة قبل ان تسمع صوته بانخفاض تستطيع به الشعور بابتسامته الواثقة
"بالطبع انا اثق بزوجتي ولكن مشكلتي مع تفكيرها وعقلها الاحمق والذي يتوقف عن العمل ما ان يجتاحه الغضب ليصبح بحجم عقل النملة"
انفرجت شفتيها بأنفاس ذاهلة ممزوجة بالغضب المتهدج والذي تفجر بأوردتها ، لتنصب رأسها عاليا وهي تديرها للباب بجوارها بلحظة قبل ان تضرب ظهرها بكل قوة حتى هزت خشب الباب بينهما هامسة بعنف تلون ببحة الغضب بصوتها
"ماذا قلت عني الآن يا احمق الفكهاني ؟ سأريك من هي التي تملك عقل نملة يا متشدق !"
ضحك بانخفاض طفيف وهي تستمع لكل حركات وذبذبات صوته عبر البوابة الفاصلة بينهما والتي ترسل الرعشات لكل منهما ، ليقول بعدها بابتسام ساخر بهدوء
"هذا ما كنت اتكلم عنه ، لهذا اخبرتكِ بأنني لا اثق بعقلك الجامح والذي يفقد سيطرته ما ان يشعر بعجز صاحبه ، صحيح ؟"
ادارت وجهها للأمام وهي تتنفس بحدة بدون ان تعلق على كلامه ، لترتخي بعدها مفاصلها وهي تريح ظهرها لباب الغرفة بخمول تام ، لتهمس بعد عدة لحظات بملامح جليدية بدون شعور
"لقد قلت بأنك تعرف جيدا اي نوع من الفتيات انا ، هل هذا يعني بأن لديك خبرة واسعة بأنواع الفتيات واللواتي قابلتهن بحياتك ؟"
سكنت ملامحه للحظة قبل ان يريح ظهره للباب كما تفعل قائلا ببرود جاد
"حسنا لدي بعض الخبرة بالفتيات من ايام الجامعة ، فقد كنت اجذب جميع الانواع والذي كان يحوم من حولي مثل النحل ، ولكن لم يكن هناك تجارب ناجحة فقد كانت جميعها تبوء بالفشل وتعطيني بعض الدروس القيمة بالحياة لكي لا تثق بأي مخلوق كان قبل ان تلوج بأعماقه وتعرف ما هو معدنه حقا ، وهذا الحال استمر معي حتى نهاية مسيرتي بالجامعة والتي حملت معها بجانب شهادة التخرج شهادة تخص تجارب الحياة"
حركت رأسها بشرود بدون اي تعبير يسكن محياها البارد ، ليصلها سؤاله بلحظة وهو يقول بهدوء جاد
"وماذا عنكِ يا ماسة ؟ أليس لديكِ اي تجارب او خبرات بالجامعة !"
شقت ابتسامة باهتة تقاسيم ملامحها بسخرية وهي تتبعها بالهمس ببرود جليدي بدون اي حياة
"لم يكن هناك مجال لأخوض تجارب بالجامعة فقد كانت حياتي بأكملها عبارة عن تجارب واختبارات منذ مولدي لهذه اللحظة ، لذا منذ دخولي للجامعة كان كل شيء بسيط بالنسبة لي ولا يقارن بما تعلمته سابقا وصنع مني انثى لا تميل للعب بالعلاقات الاجتماعية ومكتفية بما تحمله معها وما بقي راسخ للآن"
كان يستمع لها بهدوء تام وهي تخرج له جزء من شخصيتها المختبئة خلف رداء الثبات والقوة ، ولكنها بالحقيقة مجرد انثى ضعيفة تكسرت اجنحتها منذ ولادتها لتصبح على هذه الصورة المشوهة تفنن الجميع بقتلها بدون ان يعدلها احد او يغير من اصلاح كسورها المغمورة بصميم روحها .
عقد حاجبيه بجمود ما ان سمع صوتها الخافت يصله ببحة حزن باردة
"هل تراني كائن مجنون ومنفر يا شادي ؟ بعد ما اقترفته بأيام الفندق وجعلك تغير نظرتك كاملة نحوي وتخاف من اي شيء قد اؤذي به نفسي !"
تغضن جبينه بقتامة لبرهة قبل ان ينطق بابتسامة اتسعت برفق
"ما يزال تفكيرك احمق كما هو يا ماسة ، كل ما اتمناه ان تفكري بقلب عقلك وتشعري اكثر بأحاسيس الآخرين وكل ما يلوج بدواخلهم ، قد تستطيعين عندها تعديل نظرتك للآخرين وعدم طرح مثل هذه الاسئلة الغبية امامي مجددا !"
ردت عليه من فورها ببهوت جامد
"هذا ليس جواب السؤال يا شادي !"
اخفض رأسه قليلا وهو يتنفس للحظات ليهمس بعدها بصوت اجش خافت وصلها بوضوح عبر ذبذبات الباب الخشبي
"لقد شعرت بخوف من تأذي الكائن الاغلى على قلبي بلحظة تهور منه وغفلة مني ، وهناك فرق بين شعور الخوف وبين شعور النفور منه ، هل فهمتِ الآن يا مجنونة ؟"
اشاحت بوجهها جانبا وهي تضرب بقبضتها على الباب برفق هامسة ببأس
"مزعج"
ارتخت ابتسامته بلحظة ما ان اخترق رنين هاتفه الاجواء المحصورة بينهما ، ليتأفف بعدها بضيق وهو يخرج الهاتف من جيب بنطاله قبل ان يجيب من فوره هامسا بهدوء
"نعم مرحبا !"
ارتفع حاجبيه بدهشة لحظية غيرت ملامحه بتوجس وهو ينهض بلحظة من مكانه باستقامة ، ليقول بعدها بارتباك واجم بدون ان ينتبه للإذن والتي كانت تسترق السمع على كل حركة صدرت منه
"ماذا تقول يا احمد ؟ وكيف حدث هذا ؟ هل هي بخير ؟"
تجمدت ملامح (ماسة) كما جسدها وهي تترجم كلامه بعقلها السريع والذي ربط كل شيء بشخص واحد ، لتبتعد ببطء عن سطح الباب ما ان سمعت آخر مكالمته وهو يهمس بكلمات موجزة
"حسنا يا احمد ، سنحاول ان نكون عندك بدقائق"
اخفضت نظراتها بتلبد طاف على سطح حياتها للحظات ، وبدون ان تسمع صوت قفل الباب وهو يفتح ليتبعها بإدارة المقبض قبل ان ينفتح تدريجيا امامها بثواني ، رفعت حدقتيها الزرقاوين بتشوش لحظي وهي تنظر له باهتزاز ضائع تسرب منه إليها ، وبلحظات كانت تهجم عليه بخطوتين لتتمسك بقميصه بتشبث وهي تصرخ بفورة الجنون بطريقة تختلف عن جنونها السابق فقد تخلل بها بعض الاهتزاز
"ماذا حدث لروميساء يا شادي ؟ وماذا اخبرك احمد ؟ هيا تكلم ماذا فعلتم بشقيقتي ؟......"
توقفت عن الكلام باهتزاز الدموع بحدقتيها المحتدتين وهي تهمس فجأة بتذكر مرتبك
"ماذا حدث للطفل ؟ هل هما بخير ؟ لا تبقى صامتا هكذا !"
امسك بكتفيها بقوة تخللت لعظامها الهشة وهو يدنو بوجهه امامها هامسا بروية وهدوء
"اهدئي يا ماسة ، وانا اعدك بأننا سنعلم بكل شيء ما ان نصل للمشفى"
نظرت له بتشتت زادت من غلالة عينيها المتسعة وهي تهمس بانشداه منفعل
"مشفى ؟ هل روميساء بالمشفى ؟"
عض على طرف شفتيه وهو يلعن نفسه مئة مرة عما تفوه به امامها ، ليشعر بعدها بارتخاء يديها بعيدا عن قميصه ناقضت توقعاته او هكذا يخيل له ؟ وهو يحدق بسكونها المريب وكفها تمسح تلقائيا على خديها الحمراوين بقوة من حبس الدموع ، قبل ان توجه له نظرات باردة اكتسحت محياها بلحظة وهي تهمس بخفوت محتد بجوف روحها
"لن اسامح أياً منكم إذا اصاب مكروه شقيقتي ، سمعتم يا عائلة الفكهاني !"
ارتفع حاجبيه باستهجان وهو يتابع التي غادرت من امامه بلمح البصر بعد ان ألقت برسالتها الغامضة تلك والتي تحمل الكثير ، ليكور قبضته بلحظة وهو يضرب جبينه باجتياح استبد به وبعد ان ضاق الوضع به مجددا ، وها هو يحاصر بعقبة جديدة مجهولة المصدر والمصير عليه إيجاد حل لها والتخلص منها قبل ان تنفذ تهديدها ابنة الفاروق المجنونة !
___________________________
كان يقود السيارة بهدوء تام طول طريق العودة بدون اي صوت سوى بعض اصوات ابواق السيارات من حولهما قاطعة رحلة الصمت والتي اختلقوها بينهما ، حانت منه التفاتة نحو الجالسة بجواره وجهها للنافذة وظهرها مقابل له بسكون مريب عبث بأوتار اعصابه بطريقة مختلفة عن رحلة الصمت بذهابهما ، وهو اكثر شيء اصبح يكرهه بحياته مؤخرا هو محاولة قراءة صمتها والذي تتقن كتمانه بطريقة لا تستطيع على اكبر الخبراء فك رموزه المعقدة ! وهذا الأمر هو الذي يحيل دائما بتقدم علاقتهما والتي لا تكد تتقدم قليلا حتى تعود للرجوع للوراء !
قطب جبينه وهو يلمح قبضتها تضرب على ركبتها بحركة رتيبة تبين مدى التوتر الذي تعايشه بهذه اللحظات ، فهي رغم تمثيلها الجمود والثبات بدور الفتاة الصلبة والتي لا تسمح لشيء بالتأثير عليها فقد نسيت بأنه لم يغفل عن الارتجاف الذي داهمها بلحظة اخبارها عن تواجد شقيقتها بالمشفى والذي ظهر باهتزاز تلك الاحداق الزرقاء بجنون ، وهو ما جعله يجزم بأنها تكاد تموت من الخوف لمعرفة اي شيء عنها من نظرة واحدة لتلك العينين الغائمتين ببحر احزانهما واللتين لا تستطيع السيطرة على مشاعرهما الثائرة !
رفع يده بهدوء وهو يقبض بلحظة على قبضتها المتصلبة بقوة نخرت مفاصلها بدون ان يسمح لها بتحريرها بممانعة واضحة منها ، لتسكن بعدها للحظات وهي تعود لهدوئها بدون ان تصدر ممانعة اخرى سرعان ما ستخبو بصميم روحها الباردة ، ليتنفس عندها الصعداء وهو يعود للقيادة بتركيز اكبر بدون اي مشتتات منها او قلق عليها .
بعد عدة دقائق كان يوقف السيارة امام بناء المستشفى الحديث ليفلت عندها قبضتها على مضض ما ان احتاج لكلتا يديه بمهمة ايقاف السيارة بالشكل الصحيح ، ولم يكد ينتهي من ايقاف السيارة حتى خرجت الجالسة بجواره باندفاع وهي تنطلق بعيدا عنه باتجاه مدخل المشفى ، ليزفر بعدها انفاسه بغيظ وهو يحك جبينه بقوة من كل شيء يتعرض له ، وبلحظات كان يلحق بها على نفس المسار الذي كانت تسير به ، وما ان اصبح بداخل بهو المشفى حتى كاد يهتف باسمها وهو يلمحها تكمل طريقها بعيدا عنه ، ليتوقف بآخر لحظة ما ان غيرت مسارها فجأة باتجاه مكتب الاستقبال القريب من المدخل ، لتجري بعدها حديث سريع مع رئيسة الاستقبال لم يدم سوى لثواني قبل ان ترحل بعيدا عنها باتجاه السلالم المؤدية للطوابق العليا .
ابتسم بميلان حفر بتقاسيم ملامحه وهو يقول بخفوت مرتخي
"يبدو بأنها ما تزال بعقلها بعد كل شيء"
ليعض بعدها على طرف شفتيه بضيق وهو يلمحها تصعد السلالم عوضا عن المصعد ليهمس بلحظة ببؤس
"ولكنها ما تزال حمقاء بعقل نملة !"
وصلت (ماسة) للطابق المطلوب وهي تسير بالممر الطويل بخطوات سريعة متجاوزة كل ما قد يؤخرها عن الوصول ، وهي تشعر بالطريق تمتد امامها بدون ان يظهر لها وجهة نهايتها شبيه بحياتها المفتوحة مجهولة النهاية والمصير ، حتى لمحت بنهاية الرواق من دفعها لتسرع بخطواتها اقرب للجري وهي تنطلق نحوه مباشرة ، وما هي ألا لحظة حتى انقضت عليه بلمح البصر وهي تمسك بياقة قميصه بكلتا يديها صارخة به بعصبية مفرطة اصبحت تتشبه بعصبية والدتها
"اين هي روميساء ؟ ماذا فعلت بها ؟ ألم تكن امانة بعنقك ! كيف تتجرأ على تعريضها لكل هذا ؟"
امسك بيديها الذي افاق من صدمته من هجومها الضاري وهو يحاول تهدئة ثورة غضبها هامسا برفق اقرب للترجي
"اهدئي يا ماسة ، فكل هذه العصبية الآن لن تجدي نفعا ، صدقيني لا شيء سيساعدها اكثر من الدعم المعنوي والمساندة بمثل حالتها....."
قطعت سير كلامه بهجوم اكبر وهي تهز ياقة قميصه بدون ان تجدي طريقته معها وهي تصرخ بنفس الغضب الهائج الذي تحول لاهتزاز لا إرادي
"ماذا تعني بهذا الكلام يا احمد الفكهاني ؟ هل حدث مكروه لها او للطفل ؟ كيف وصلت للمشفى ! تكلم ماذا حدث لها بغيابي ؟"
تجمدت يديه فوق قبضتيها بتسمر على ذكر امر الطفل حتى مرت سحابة داكنة طافت فوق ملامحه للحظات غادرة ، لتشدد اكثر على ياقة قميصه برعشة خاطفة وهي تشعر بشيء مسنن يجثم فوق صدرها بقوة ، قبل ان تزيد من ضغط اسنانها على طرف شفتيها ومن تسارع انفاسها وهي تهمس بلحظة بوجوم حاقد لون مقلتيها بدموع القهر
"لقد حدث مكروه للطفل صحيح ؟ وانت لا تستطيع الكلام لأنك عاجز عن مواجهة حقيقة فعلتك !"
قابلت الصمت التام من جهته وهو ما دفعها بثواني للصراخ بتهدج وهي تهز ياقة قميصه بهستيرية الغضب
"لا تبقى صامتا هكذا ! تكلم هل كلامي صحيح ؟ هل انت المتسبب بحالتها ؟ تكلم....."
انتفض وهو يمسك بذراعيها ليبعدها عنه بالقوة قائلا بغضب فقد زمامه بلحظة جنون
"كفى يا ماسة ! توقفي عن لومي ! فأنا لم افعل اي شيء لتلوميني هكذا"
سكنت بمكانها ما ان قصف صوت آخر بنبرة جليدية
"احمد اترك ماسة الآن"
ارتجفت قبضتيه فوق ذراعيها لوهلة قبل ان يفلتها بسرعة ما ان تدارك نفسه ، ليمسد بعدها على جبينه بارتباك وهو يشيح بوجهه جانبا هامسا بهدوء متوتر
"اعتذر ، يبدو بأنني قد فقدت اعصابي قليلا"
تلبدت ملامحها ببرود حاقد وهي تمسح على ذراعيها بارتجاف طغى على مفاصلها ، لتلتفت من فورها بتأهب باتجاه باب الغرفة والذي فُتح بلحظة لتخرج منه الممرضة المسؤولة عن حالتها ، ولم تشعر بعدها بنفسها وهي تخطو نحوها بخطوتين لتعيق طريقها وهي تمسك بذراعها بحركة مفاجئة لتهمس لها بجدية يشوبها بعض الخوف
"ماذا حدث لروميساء الفاروق ؟ وهل هي والطفل بخير ؟"
اومأت الممرضة برأسها بتوجس وهي تحاول التكلم بعملية جادة
"اجل يا آنستي روميساء الفاروق قد اصبحت الآن بحالة مستقرة وستستطيع استعادة وعيها بغضون دقائق ، ولكنها للأسف قد اجهضت الطفل بسبب حالتها الحرجة والتي وصلت بها للمشفى ، وحمد لله على سلامتها"
اضطربت ملامحها بغمامة ظهرت على تقاطيع بشرة وجهها الجليدية وهي تلتقط المقطع الثاني من كلامها هامسة بارتعاش عابس
"الطفل قد رحل !"
عقدت حاجبيها بتوجس اكبر وهي تربت بكفها على كتفها هامسة بمواساة وكأنها تتعامل مع مريض
"لا بأس يا آنستي ، فأنا متأكدة بأن الله رزقه كبير وسيعوضها بغيره الكثير"
ارتمت كفها بجانب جسدها بسكون هيمن على كيانها بخواء توسع بمحيطها بلحظات ، لتنسحب بعدها الممرضة من امامها وهي تكرر على اسماعهم نفس العبارة العملية
"حمد لله على سلامتها"
بينما الشخص الثاني الذي صدم بالخبر كان يوقف الممرضة وهو يقول لها بهدوء جاد
"هل نستطيع رؤيتها الآن ؟"
حركت الممرضة رأسها بالنفي وهي تقول بحزم
"لا عليكم الانتظار حتى تستعيد وعيها بالكامل ويسمح لكم بالدخول ، غير هذا لا استطيع مساعدتكم"
اومأ برأسه بتفهم وهو يراها تغادر بعيدا عنهم ، ليوجه بعدها نظراته لشقيقه الهادئ بدون اي انفعال او لمحة تدل على وجوده معهم قبل ان يتنحنح بجمود وهو يقول بهدوء جاد
"هلا اخبرتنا ما حدث مع زوجة شقيقي ؟ وكيف وصلت للمشفى ؟"
اخذ عدة لحظات قبل ان يقول بجمود باهت
"لقد اخبروني بالمنزل بأنها قد وقعت على اول درجات السلم وغابت عن الوعي ، ولا اعلم حقا كيف حدث هذا معها فقد وجدوها ملقاة على اول درجات السلم بعد فوات الآوان !"
تغضن جبينه بارتباك وهو يشعر بأجواء خانقة اصبحت تحوم حول ثلاثتهم بمشاعر مفرغة ، ليقول بعدها مجددا بلحظات بحاجبين معقودين بتفكير واجم
"واين كنت بذلك الوقت يا احمد ؟ أليس اليوم عطلة عن العمل ؟"
قبض على يديه بقوة المشاعر المتضاربة بجوف روحه وهو يجيبه بهدوء بارد
"لقد كان لدي عمل طارئ اليوم واضطررت لمغادرة المنزل من الصباح الباكر"
شحنت الاجواء بينهم ببرودة المكان الساكنين به للحظات فاصلة ، وهي كل ما احتاج من صاحبة الملامح الجليدية والتي كانت تعصر قبضتيها لتصقل بها سطح روحها الثائرة ، لتعود بثواني للانقضاض السابق على نفس الشخص وقبل ان تدركه كان الآخر يكبل ذراعيها من الخلف بدون ان يسمح لها بالوصول له ، لتحاول عندها الرفس والمقاومة وهي تصرخ بجنون محدق استبد بها بثورة متوحشة
"لن اسامحك يا ابن الفكهاني ، لن اسامحك على تعريضها لكل هذا الاذى ، لقد كانت امانة بعنقك ، كيف تجرؤ على الافراط بها وبالطفل الذي كان من المفترض ان يكون بداية سعادتها ؟ وكله من اجل الذهاب لعملك تركتها تعاني كل هذا الاذى !"
قاطعها بغضب الذي كان يشدد على ذراعيها بضراوة وهي تكاد تفلت منه صارخا بها بحزم
"توقفي عن هذا يا ماسة ، وألا سنطرد من المشفى إذا بقيتِ على هذا الغباء !"
لكنها لم تصغي له وهي تصم اذنيها عن سماع صوته مقاومة تقييده لذراعيها صارخة بالواقف امامها بشراسة دموية برزت الدموع الندية بمقلتيها الواسعتين
"لقد كانت سعيدة ، كانت سعيدة بذلك الطفل ، ما كان عليك ان تدمر تلك السعادة ! فهي قد عانت كثيرا من قبل وتستحق ان تحصل على تلك السعادة ، لما لم تحاول الحفاظ على سعادتها اكثر ؟ لما عليكم ان تكونوا دائما سبب كل اذى ومعاناة لنا بالحياة ؟ إذا لم تكن بقدر هذا الحِمل ما كان عليك منذ البداية ان ترتبط بها وتعيشها بكل تلك السعادة ؟!"
صرخ (شادي) بقوة اكبر وهو يكبل كتفيها هذه المرة بذراعيه خدرت اطرافها المنتفضة بذبذبات غضبها التي خرجت عن السيطرة
"اخرسي يا ماسة ! ألم تسمعي ما اقول ؟ احمد ليس له علاقة بما حدث مع روميساء ، فهو كان خارج المنزل ولم يكن يعلم بأن كل هذا سيحدث معها"
تنفست بارتعاش وهي تنفخ على خصلات شعرها الطويلة بثورة لم تخبو ولو قليلا ، لينطق بعدها الواقف امامهما بعد صمت دام طويلا وهو يقول بهدوء جاد بدون اي حياة
"انتِ على حق بكلامكِ ، يبدو بأنني بالفعل لم اكن بقدر هذا الحِمل بحماية زوجتي وطفلها ، حتى ضاع منا الطفل والذي لم يكد يظهر بحياتنا سوى من ايام قليلة ، وبدل ان اهتم بها بشكل اكبر واكون بجانبها بتلك اللحظات المهمة تخليت عنها ورحلت للعمل بأكثر فترة احتاجتني بها حتى فقدنا بالنهاية طفلنا بدون ان اكون معها"
هدئت الاجواء بينهم لثواني على وقع كلماته الباردة مثل وصمة ألم طبعت بداخل كل منهم ، ليقول (شادي) من فوره بملامح صارمة بعتاب
"ما هذا الذي تتفوه به يا احمد ؟ هل هذا الكلام يخرج منك حقا ! انت تعلم جيدا بأن هذا هو قدرها ولم يكتب للطفل عمر ليعيش به وكان عليه ان يرحل باكرا كما هو مقدر له ، لذا عليك ان تدعو ربك ان يرزقك غيره بدل هذا اللوم الفارغ"
رفع (احمد) رأسه بهدوء نحوهما وهو يبتسم ببرود مريب هامسا بشرود خاوي
"ولكني بكل الأحوال ملام لأني لم اكن بجانبها عندما احتاجتني ، فلو بقيت معها اليوم كما هو مخطط او اجبت طلبها بسرعة لكان موت الطفل اخف وقع عليها عندما اشاركها حزنها بتلك اللحظات بدل ان تتجرعها وحدها ، يعني تركها وحدها كان اشد قسوة من موت الطفل نفسه !"
غيم الصمت على ثلاثتهم بدوامة هالكة سوداء ابتلعت اصواتهم ، لم يخرج بعدها من الصمت سوى الذي استدار بعيدا عنهم وهو يهمس بخفوت ثابت
"سأخرج قليلا ، فأنا احتاج بشدة لاستنشاق الهواء"
غادر بعدها على طول الممر بدون ان يسمع اي رد منهما ، لينتفض بعدها الجسد الساكن بمكانه بمبادرة للتحرر وهي تهمس بفحيح خافت بعد ان غاب عنها الغضب
"اتركني ارجوك"
تنفس فوق رأسها بهدوء لوهلة قبل ان يرخي ذراعيه من حولها بصمت ليخفض باللحظة التالية قيوده عنها بثواني ، تحركت من امامه وهي تنفض شعرها الفوضوي بعيدا عن كتفيها حتى ضربت بعض الخصلات وجهه ، لتقف بعدها امام باب الغرفة التي تقبع بها شقيقتها بسكون احتجز عالمها ، وبلحظة كانت تريح جبينها فوق إطار الباب البارد بصمت وهي تنشج بأنفاس مضطربة ازدادت تخبطا بخلجات روحها حتى تحولت لأنين خافت غير مسموع مثل الطنين بأذنيها بلسعة الألم .
ابتلعت انفاسها برجفة غادرة ما ان شعرت بملمس الكف الدافئة وهي تمسح على رأسها بهدوء اخترقت هالة صمتها المحتجزة بأنين جروحها ، لتتمسك بكفيها بإطار الباب بقوة وهي تهمس من بين انفاسها المتسارعة بمرارة بالغة
"لقد كانت دائما بجواري بكل لحظات حياتي ، وعندما احتاجتني لم اكن بجوارها ، اتمنى لو استطيع يوما ان اكون مثلها وافعل كما تفعل معي ، ولكني دائما هكذا ضعيفة بائسة !"
اغمضت عينيها بقوة وهي تعصر جفنيها بحرقة ابت ان تتركها وهي تخرج على شكل دمعة صغيرة تحررت من اسوار مقلتيها لتروي جفاف محياها ، والواقف بجوارها ما يزال يربت على رأسها برفق وهو يمسح على شعرها بدون ان يقدم لها اكثر من هذا وهو اقصى ما كان يستطيع ان يفعله بحياته وكما كانت تفعل معه سابقا زوجة والده الراحلة بكل مراحل سنوات عمره .
______________________________
كانت جالسة على مقاعد الانتظار بسكون وهي تنظر امامها بدون اي حياة تحجرت معها الدموع بمقلتيها الغائمتين بزرقة داكنة لم يخفى عنها لمحة الحزن الجديدة والتي اسرتها ، لتتنفس بعدها بهدوء ظاهري زاد من تخبطات قلبها النابض بقفصها الصدري بقوة وهي تقبض على يديها فوق ركبتيها ببرودة نخرت مفاصلها وسكنت هناك ، وكل هذه الصراعات كانت تحيط بعقلها الباطن وهي تنظر امامها مباشرة باتجاه باب الغرفة الجامد بدون ان تحيد عنه للحظة بحرب عتيدة بينهما .
اتسعت عينيها بانقباض غريزي ما ان فُتح باب الغرفة امام انظارهم المترقبة بانتظار ، لتخرج منه الممرضة ذاتها وهي تتنقل بنظرها بين ثلاثتهم لوهلة قبل ان تومأ برأسها بابتسامة هادئة وهي تقول بعملية
"يمكنكم رؤيتها الآن فقد اصبحت حالتها مستقرة وقد استعادة جزء من وعيها ، ولكن لا يسمح سوى بدخول فرد واحد لها كل مرة ويكون من اقرب الاشخاص لها"
نهضت (ماسة) من فورها وهي تنوي المبادرة بالدخول اولاً قبل ان يسبقها الذي قال بصوت جهوري نافذ
"انا سأدخل لها اولاً فهي تكون زوجتي وانا اقرب الاشخاص لها ، لذا هل تسمحين لي ؟"
التفتت نحوه بلمح البصر وهي تزم شفتيها بامتعاض هامسة من بينهما ببوادر الغضب الذي لم يخمد بعد
"ومن سمح لك بأن تقرر من تلقاء نفسك بأنك من اقرب الاشخاص لها ويسمح لك بالدخول ! هل تظن بأن الامر سيكون بكل هذه البساطة الدخول لها وفعل ما تشاء بها لأنها فقط زوجتك ؟ انت عليك ان تكون آخر شخص يسمح له بالدخول لها !"
نظر لها للحظات صامتة بدون اي تعبير يعلو ملامحه وهو يكرر كلامه قائلا بتشديد
"ومع ذلك انا الذي سأدخل لها اولاً وليس احد آخر !"
عبست ملامحها باستهجان وهي تصرخ من فورها بفورة
"انت ألم تسمع ما قلته لك للتو !......"
قاطعها الذي شدد على ذراعها بلحظة وهو يهمس برفق منخفض
"يكفي يا ماسة ، فأنتِ ستحصلين على دوركِ برؤيتها بعد احمد ، لذا لا تعجلي من نصيبك واتركي احمد يدخل لها اولاً"
ضيقت عينيها بقسوة وهي تشيح بوجهها جانبا بعيدا عنه بدون كلام آخر ، وهو ما اعطاه الفرصة ليقول لشقيقه بابتسامة جادة باتزان
"يمكنك الدخول لها الآن يا احمد"
تدخلت الممرضة بعد ان مللت من انتظار انتهاء حديثهم بالقتال على الدور قائلة بجدية
"ولكن لا تنسوا لديكم فقط عشر دقائق مهلة لرؤيتها لأنها ما تزال تحتاج للراحة وليس من الجيد ان تتعرض للضغط او التعب"
اومأ برأسه بجمود وهو يتقدم بعيدا عنهم باتجاه باب الغرفة والتي تحمل بداخلها كل شيء يخصه بالحياة وكل هاجس حلم به من لحظات ، ليمسك بعدها بمقبض الباب بقوة وهو يدفعه بكل قوة خائرة اضمحلت على مدار الساعات الفائتة لتبقي له فقط جسد فارغ بعقل بعيد وقلب توقف عن النبض .
تسمرت عضلاته بالكامل بتصلب ارتسم على محياه بلحظة وهو يدلف للغرفة بخطوات بطيئة بتثاقل بدأ يتعب قدميه....ليوزع بعدها نظراته بالمكان بضياع مشتت غاب عنه المنطق والعقل باحثا عن طريقه وملاذه بأرضه الوسيعة مثل التائه بطرق الحياة المفترقة والذي اضاع اغلى ما يملك من بين يديه بلحظة غفلة غادرة...قبل ان تفلت منه زفرة مرتجفة شعر بها تخرج من صميم فؤاده المتهدج بألم وهو يلتقطها اخيرا جالسة فوق السرير بسكون هادئ ورأسها متجه للجهة الاخرى المقابل للنافذة بدون ان تظهر منها شيء...وهو يتأمل هيئتها الجانبية والتي كانت بمثابة الحياة بالنسبة له وهي ترسمها بلوحتها الحزينة التي تنبض بها بشعرها الاسود الطويل المتحرر على طول كتفيها وصولا لخصرها لينسدل بالنهاية فوق ملاءة السرير...ويديها الصغيرتين مضمومتين معا عند حجرها برقة مع موصل غذائي رفيع مرتبط بمعصم كفها الايمن ليتتبع مساره للحظات والذي يوصل للعبوة المعلقة بجانب الاسطوانة الطويلة بجوار السرير ليبث لها مكونات حيوية وطاقة لتمدها بجسدها الضعيف .
ابتلع ريقه بثبات وهو يتقدم نحوها عدة خطوات اخرى وبذات اللحظة يستغل الفرصة للشبع من صورتها الجديدة وهو يحاول الوصول بشتى الطرق لتعابير محياها او شحوب ملامحها او خضار احداقها الزاهية وكل ما تاق له بشدة وقتله الشوق لتذوقه ، وما ان اصبح على مقربة من سريرها حتى تنحنح قليلا وهو يجلي صوته والذي خانه من الفرحة الوليدة من مرآها امامه بكامل صحتها وهو يهمس بقدر ما يستطيع من خفوت اجش مبتسم
"كيف حالكِ يا روميساء ؟ هل تشعرين بأنكِ افضل الآن ؟"
تشنجت ابتسامته لوهلة ما ان قابل الصمت التام منها وكأنها لم تسمعه ، ليتنفس بعدها بقوة اكبر وهو يمسد على جبينه لثواني قبل ان يعود للكلام وهو يتمتم بمرح مرتبك
"أتعلمين بأنكِ اكبر ظالمة ! لقد اثرتِ قلق الجميع عليكِ حتى كدنا نتقاتل مع طاقم الاطباء فقط من اجل رؤيتكِ والاطمئنان عليكِ ، فأنتِ إذا لم تكوني تعلمي مهمة جدا بحياتنا يا روميساء واكثر مما تتصورين !"
خرجت عن صمتها الساكنة بمكانها وهي تهمس ببرود مريب
"انا اعتذر"
اضطربت ملامحه وهو يقطب جبينه بتصلب لوهلة ليقول بعدها برفق جاد
"لا يا روميساء ! لا داعي للاعتذار على شيء ! فقط كنت امزح معكِ لأبدل الحزن عنكِ يا عزيزتي والذي لا يليق بكِ ابدا......"
قاطعته بنفس الهدوء البارد وهي تشدد على يديها المضمومتين بانقباض
"لم اكن اعتذر على هذا ، بل اعتذرت عن الذي تسببت به لطفلنا وانعدام مسؤوليتي بحمايته ورعايته بالشكل الصحيح ، انا اعتذر يا احمد"
عقد حاجبيه بضيق وهو يتمتم بعبوس واجم
"ما هذا الكلام الغريب الذي تنطقين به يا روميساء ؟ انا لم اطلب منكِ اي اعتذار على هذا ! وايضا هذا هو القدر المكتوب للطفل فقد كتب له الرحيل قبل ان يولد ، وبإذن الله ربنا سيرزقنا ويبعث غيره الكثير"
مرت لحظات صمت قصيرة قبل ان تعود للهمس بخفوت مرتجف مع غصة حزن واضحة
"ولكنه فرحتنا الاولى يا احمد وثمرة حبنا والتي كادت ان تخرج للحياة ! كيف تريدني ان اتجاهل او ان اتناسى مثل هذا الأمر ؟ لقد كان من المفترض ان يكون التعويض عن كل ما لاقيناه بعلاقتنا وعن كل ما لاقيته بحياتي ! ولكني بكل غباء قد افرطت بهذه الهدية الغالية والتي لن يستطيع اي شيء بالعالم تعويض خسارتها"
غيم الصمت بينهما للحظات اطول قبل ان يقطعه قائلا بحزم جامد
"كفي عن هذه السخافات يا روميساء ، فكل شيء قد حدث وانتهى ، وليس بيدنا فعل شيء ، المهم عندنا هي سلامتك وعودتك لنا بصحة كاملة فهو اكثر ما يهمنا الآن"
شددت اكثر على قبضتيها برجفة مريرة وهي تهمس ببحة الحزن وكأنها تكلم نفسها بدون ان تسمع اي صوت آخر
"اعتذر حقا يا احمد ، لقد قتلت حبنا بذلك الطفل وخذلت الجميع بعدم حفاظي على الامانة ، سيكرهني الجميع الآن لأنني لم احافظ على اول طفل للعائلة ، سيكرهني خالي محراب لأني قد افرطت بأول حفيد له بالعائلة وهو لم يكد اصبح يحبني ، انا لست بقدر هذه المسؤولية لأحمل طفل معي قد يعاني بسبب استهتاري واهمالي....."
امسك بكتفها بقوة وهو يقول بصرامة قاطعة بعد ان ضاق ذرعا من سماع هذيانها
"اصمتِ يا روميساء ، انتِ لست الوحيدة المذنبة بكل هذا ، فأنا احمل جزء من الذنب كذلك لأني لم اكن معكِ بتلك اللحظات وتخليت عنكِ بسبيل اللحاق بالعمل ، لو فقط كنت متواجد معكِ لتغيرت امور كثيرة بتلك اللحظة الفاصلة من خسارة كل شيء !"
انتصبت بمكانها لوهلة قبل ان تلتفت نحوه لأول مرة وهي تنظر له مباشرة هامسة بابتسامة صغيرة بضعف
"لقد كنت وحيدة يا احمد ، وكم احتجتك بجواري !"
تجمدت ملامحه بتشنج وهو ينظر لإمارات الاسى التي تعلو تقاسيم ملامحها الشاحبة باحمرار طفيف شكل ظلال حول عينيها الخضراوين واللتين لم ينطفئ بريقهما فحسب بل فقدتا لونهما النادر الزاهي لتتحولا للون اخضر قاحل قريب من الابيض الشاحب كما عرفها ولمحها بأول ايامها بينهم ، ليخفض بعدها يده عن كتفها ببطء وهو يشيح بوجهه جانبا محاولا السيطرة على الانفعال المتدفق بداخله مثل فوهة بركان ثائر ليقول بلحظة بجمود مضطرب
"انا ، انا اعتذر يا روميساء ، لم اكن اعلم....."
قاطعته من فورها وهي تعود بنظرها للنافذة وكأن شيء لم يكن هامسة بشرود خافت
"لا بأس يا احمد ، ليس هناك داعي للتبرير ، فأنا اتفهمك تماما واقدر ظرفك والذي دفعك للانشغال عني ، انا فقط اصبحت اكثر حساسية وتأثرا لأنني كنت وحيدة بتلك اللحظات ولم يكن هناك احد بجواري ليساندني او ينقذني"
ارتفع حاجبيه بوجوم وهو ينظر لها قد عادت لشرودها السابق متجاهلة وجوده تماما ، ليحاول بعدها الكلام مجددا قبل ان تسبقه صاحبة الصوت البارد وهي تهمس بخفوت
"اريد البقاء لوحدي يا احمد ، لذا رجاءً هلا خرجت ؟"
اتسعت عينيه بدهشة لحظية وهو يسمع نبرتها الباردة وهي تطرده بكل بساطة ، وبدون ان تعطيه الفرصة للكلام تدخل صوت آخر من خلفه يقول بنفس النبرة الباردة مع موجة غضب عارمة
"ألم تسمع ما قالته لك ؟ لقد قالت لك اخرج"
تجهمت ملامحه وهو يستدير نحو الواقفة فوق رأسه لا تريد تركه وشأنه وهي تحشر نفسها بكل شيء يخص زوجته ، ليحاول بعدها تمالك اعصابه قائلا بجدية صارمة
"ما لذي تفعلينه يا ماسة ؟ ألم تخبركِ الممرضة ان تنتظري حتى يأتي دورك !"
تقدمت امامه بخطوات واثقة قبل ان تقف مقابلة له تماما وهي تهمس بخفوت ساخر
"وألم تخبرك الممرضة بأن مدة رؤية المريضة فقط عشر دقائق ! وانت قد انهيت مهلتك بالفعل ، لذا رجاءً هلا تركت وقت لغيرك بهذه الزيارة فهذا الذي تأخذه دوري انا !"
قبض على يديه وهو يطبق على اسنانه بقسوة ليهمس بعدها بوجوم ساخط
"لم انتبه للوقت جيدا ، لذا هلا تركتني بعض الوقت معها ؟ فأنا احتاج للتكلم....."
قطعت كلامه بقسوة صارمة وهي تلوح بذراعها جانبا تدعوه للخروج
"لقد اخبرتك بأن مهلتك قد انتهت ، ونحن لا نريد ان نخالف قوانين الممرضة من اجل صحة شقيقتي ، فأنا ارى بأن محاولاتك كلها لن تجدي نفعا معها فقد رأيت بوضوح نتيجة محادثتك معها يا سيد احمد ، والآن اخرج رجاءً"
زفر انفاسه باقتضاب وهو يحيد بنظراته للساكنة بمكانها بدون اي ردة فعل وهي تعود لوجودها الحاضر الغائب ، لينظر بعدها للواقفة امامه والتي كانت تشير بذراعها باتجاه الباب بدون ان تتزحزح من مكانها وبدون ان تأبه بفارق العمر الكبير بينهما ، تحركت قدميه على مضض وهو يغادر من الغرفة بأكملها بدون ان ينسى ان يلقي نظرة اخيرة متحسرة على زوجته الشاردة والتي لم يطمئن للآن لوضع حالتها جيدا والتي تظهر تدهور كبير بصحتها النفسية والمعنوية .
تنفست (ماسة) ببرود وهي توجه نظراتها للشاردة بالنافذة بحالة من الهدوء والذي يحيط بها بين مقتطفات حياتها عندما يتخلل بها حزنها وانكسارها من شيء ما يخص عالمها الحافل ، جلست بعدها على طرف السرير بجوارها وهي تهمس بخفوت قلق سيطر على غضبها المغمور بداخلها على مرأى شكل شقيقتها الحزين والذي لا يقارن برؤيتها امامها معافى سليمة
"روميساء كيف تشعرين الآن ؟ هل انتِ بخير ؟"
انتصبت رأسها وهي تديرها نحوها ببطء لتهمس بعدها بابتسامة مندهشة بوهن
"ماسة انتِ هنا ايضا ! كيف وصلتِ للمشفى ؟ واين اختفيتِ منذ الصباح الباكر ؟"
زمت شفتيها بارتجاف وهي تهمس باستياء حانق
"هذا ليس الوقت المناسب ولا المكان المناسب لتحقيقكِ يا روميساء ! انتِ التي عليكِ ان تخبريني كيف وصلتِ إلى هنا ؟ اريد ان اعرف كل شيء حدث بغيابي !"
ادارت عينيها الخضراوين بعيدا عنها وهي تهمس بخفوت مبتسم
"لم يحدث شيء اكثر مما تعرفينه !"
احتدت ملامحها وهي تهمس بعبوس غاضب
"هذا ليس جواب سؤالي يا روميساء !"
نظرت لها بحدقتيها الواسعتين للحظات قبل ان تشق ابتسامة باهتة محياها هامسة بأسى
"لقد فقدت الطفل يا ماسة ، كل الآمال والتي علقتها عليه واحلامي قد فقدتها كلها بغمضة عين وبدون ان اشعر بها حتى ، كما سلب مني الجميع سعادتي سابقا وعيش الحياة الهانئة بكنف عائلة تحبني عادوا وسلبوا مني سعادتي بالطفل ، لم اتمنى بحياتي شيء كما تمنيت ان يبقى معي فترة اطول ، اعلم بأنه من الجنون قول هذا ولكني تمنيت كثيرا لو حملته بين ذراعي او مسحت على شعره او شممت من رائحته الزكية لتكون لي ذكريات جميلة معه نصنعها سويا بكل يوم ودقيقة ! ولكن حتى بهذا قد بخلت عليّ جنية الامنيات ولم تحقق شيء من هذا ، يا لجنوني يبدو بأنني ما ازال أهلوس بألعاب وامنيات الطفولة....."
صمتت بارتجاف ما ان قطع هذيانها الصوت الصارخ ببكاء مكتوم وهي تضرب على السرير بقبضتيها بقوة
"كفى يا روميساء ، توقفي عن التكلم عن الطفل بهذه الطريقة وكأنه قد اصبح كل محور حياتكِ واساسها على حساب حياتكِ انتِ وصحتك ووجودك بالعالم ! فقد نسيت بأن هذا الطفل كاد ان يودي بحياتكِ ويجعلك تتركينها فقط بسبيل احضاره للكون ، فأنتِ قبل كل شيء عليكِ ان تفكري بالناس من حولك وبمشاعرهم المكنونة وبوجودكِ الاساسي بعالمهم ، فهذا الطفل مجرد جنين لم يدرك قيمة وجودكِ بعد وليس فتاة ضعيفة ما تزال تعتمد على وجودكِ معها والنور الاخير المتبقي لها بطريق حياتها ! ارجوكِ فكري بها اولاً قبل ان ترتكبي اي تهور آخر ، ارجوكِ يا روميساء"
رمشت بمقلتيها بارتعاش لحظي وهي تنظر لحالة شقيقتها الصغرى والتي تواجهها لأول مرة منذ فترة طويلة ، وهي تعلم جيدا بأن هذه الحالة لا تلازمها سوى عندما تشعر بالخطر المهدد بحياتها والذي يتشكل بالنسبة لها بخسارة فرد من المقربين لها وهي مجرد فترات قصيرة من الخوف والرهاب قبل ان تعود لما كانت عليه بالسابق لتتأقلم عندها مع الوضع الجديد وشعور الفقد والذي بدأ من وفاة والدتهما ، وبأحيان اخرى كانت تحدث معها بأوقات دوامها بالعمل والدراسة والتي كانت تضطرها للتأخر عن العودة لها والمبيت خارجا بمكان عملها ، وكانت قد ظنت بأنها قد تخلصت من تلك الحالة بآخر فترة لهما بمنزل زوج والدتهما بعد ان تأقلمت على وضعهما الراهن ولم تعد تبالي بوجودها معها !
رفعت كفها الموصل بها الانبوب المغذي بهدوء وهي تربت على رأسها المنخفض بكل حنان تملكه نحوها وبنفس الطريقة ذاتها والتي كانت تستخدمها معها على مدار سنوات من طفولتهما وهي تهمس لها برفق مرح
"يبدو بأنني قد تصرفت بقسوة معكِ عندما فضلت ذلك الطفل عليكِ ، ولكني اعدكِ بألا تتكرر مرة اخرى فلا احد يستطيع ان يحتل مكان بقلبي غيركِ انتِ ، لذا ارجو منكِ ان تعفي عني زلتي يا صغيرتي ، هل تصافينا الآن ؟"
هدئت انفاسها لوهلة قبل ان تهمس بخفوت خاوي بمرارة
"لقد خفت كثيرا ، خفت من خسارتكِ يا روميساء ، ارجوكِ لا اريد ان يحدث معي هذا مجددا"
امسكت بجانب وجهها وهي ترفعه برفق وما ان تقابلت عينيها الدامعتين بعينيها الشاحبتين حتى همست لها بابتسامة رقيقة بمودة
"لا تقلقي يا ماسة ، كل شيء سيكون بخير"
زمت شفتيها بشهيق مكتوم ودموعها تسيل فوق بشرتها الثلجية بغلالة اسرتها بعيدا ، لتهمس بعدها ببهوت ساخر وهي تطبق على اسنانها بشدة
"ما تزالين على نفس العادة ! مهما كان الوضع الذي نمر به دائما تقولين هذه العبارة ، مهما كان مدى الألم او الجرح الذي تعيشين به تقولين لي بكل بساطة كل شيء سيكون بخير ! ولكنه بالحقيقة لا شيء بخير ، فأنتِ تتألمين تحترقين على ابنك الذي مات جنينا بداخلك ولا تقولين تحبسينها وترسمين الابتسامة كما كنتِ تفعلين معي على الدوام ، أليس كذلك ؟"
سحبت يدها عن وجهها بصدمة دامت للحظة قبل ان تنفجر بالضحك إلا ارادي وهي تغطي فمها بكفها هامسة بتعجب مستاء
"يا إلهي حقا انتِ غريبة ! لقد كنتِ تتذمرين من لحظة بسبب حزني على ابني الراحل ، والآن تتذمرين لأني اخفي حزني بداخلي ولا اظهره لأحد ، حقا انتِ غريبة الاطوار يا ماسة !"
كانت تراقبها بهدوء وهي تسعل من فرط الضحك ليرتفع بعدها حاجبيها بانشداه بلحظة ما ان تحول الضحك لبكاء هستيري فقدت السيطرة عليه وهي تغطي وجهها بكفيها بشهيق منتفض بحدة مثل حالة الغريق الذي لا يستطيع العوم ، تنهدت ببطء لوهلة وهي تعانق كتفيها بذراعيها بقوة لتتركها تأخذ فرصتها بتفريغ الشحنات المحصورة بصميم روحها المشروخة بعد خسارة بذرة سعادتها والتي لم تستطع ان تنمو او التبرعم بمكان لم يخلق لها ، وهي تستمع لصوتها المتقطع ببحة البكاء بغصة ذبحت روحها
"لقد رحل يا ماسة ، لم استطع الحفاظ عليه ، لذا رحل وتركني ، هل اخطئت بالتفكير بحمل طفل تبين بأنه اكبر من مسؤوليتي ؟"
كانت تمسح بكفيها على ظهرها وشعرها برفق هامسة بحزن عميق شارد
"اعتذر على عدم مساعدتك عندما كنتِ تحتاجين لي ، اعتذر لأني لم استطع حمايتك والطفل كما وعدتك ، ولكن كل ما استطيع قوله لكِ الآن بأني اعدكِ بأن احميكِ بكل قوتي واكتشف المسبب الرئيسي بحالتك وحينها لن اتوانى عن تلقينه درسا لن ينساه بحياته كاملة ، وهذا وعد حقيقي مني"
_____________________________
جلست على الاريكة بجانب النافذة وهي تشرد بالستائر المتطايرة من نسمات الهواء الموسمية والتي تتقلب بين كل ثانية بأجواء مختلفة حسب مزاج الطقس والذي لا تستطيع التكهن بالطقس الذي سيجلبه معه بالأيام القادمة....ونحن علينا فقط بالتأقلم معه ومجاراة التغيير الجديد بالأجواء القادمة مع الطقس بدون ان يكون لدينا رأي بقراراته او تصرفاته والتي تسير على جميع المخلوقات بالأرض والتي لا حول لها ولا قوة ولا حيلة لها بالمقاومة او الرفض...لأنها ببساطة حتى لو ابدت الرفض فهي غير مسموعة وكلامها سرعان ما سيتلاشى بالمكان مثل الحيوان المحجوز بقفص المبادئ والقوانين والتي حكمته لسنوات...وهذا كان حال حياتها الماضية بمنزل عائلتها والتي قيدت حركاتها وانفاسها منذ ولادتها لهذه اللحظة وهم يزرعون بها ذلك الخوف الغريزي من اختراق مجالهم والذي رحلت عنه وهربت ما ان فاض بها الكيل .
تنهدت بتعب وهي تكتف ذراعيها ببرودة نخرت عظامها من تحت سترتها الربيعية...لترفع بعدها ساقيها لفوق طرف الاريكة وهي تريح جبينها فوق ركبتها المنتصبة بصمت تام غيم على هوة حياتها المظلمة شبيه بسواد الليل الواسع المنتشر بالعالم الآن بوحدة موحشة غاب عنها ضوء القمر ورفيق دربها بالحياة .
لطالما شعرت بالوحدة القاتلة تحاصر حياتها بمنزل عائلتها الكبير والذي لا يقارن بمنزلها الآن بدون اي رفيق معها او قريب بسبب انها الابنة الوحيدة لوالديها...وكل المناسبات والحفلات والتي كانت تقام بعائلتها بين كل فترة واخرى والتي تجمع بها كل افراد وفروع العائلة النبيلة لم تستطع التآلف بها يوما او صنع العلاقات بها بسبب الفارق الكبير الذي كان يحجز العلاقة المبنية بينهما والتي تربطهم بها فقط المصالح لا اكثر....فهي لم تنسى يوما تلك النظرات المستنكرة من اصحاب المقام العالي والذي كانوا يحتلونه كبار العائلة بسبب نسب والدتها المتواضع والذي كان يجلب لها الكثير من النفور بمحيط غير مكانها....لذا لم يكن هناك اي رفيق بحياتها سوى المربية اللطيفة والتي اهتمت بها بطفولتها وصباها حتى اصبحت اقرب صديق لها بالمنزل وبمراحل حياتها المتقلبة...ولكن شاء القدر ان ترحل من حياتها بنهاية عمر الرابعة عشر مثل كل شيء جميل سرق من حياتها بسبب تغير مكان عملها بمنطقة اخرى بعيدا عنها ومن حينها لم تراها او تلمحها بحياتها مطلقا...وحتى رقم هاتفها قد مسح من جهازها بعد ان حرمت من هاتفها من وقت تلك المشكلة والتي دمرت كل كيان كانت تملكه بتلك العائلة .
اضطربت انفاسها بانفعال وهي تعانق ساقيها على ذكرى تلك المشكلة والتي دفعتها لفعل كل ما وصلت له الآن واضطرت عليه...الحقيقة حياتها كانت روتينية اقرب للنمطية قبل وفاة والدتها والتي تحولت من حينها لجحيم متدفق جعلها تتمنى الموت اكثر من مرة وخاصة بعد زواج والدها للمرة الثانية بمن تليق بمستواه والنقيض عن والدتها تماما...لتتشارك مع والدها بجعل حياتها بالخمس سنوات جحيم لا يطاق انهك كيانها واستنزف كل طاقتها ليحرموها من العيش بسلام مثل جميع البشر بالعالم...وكل ما اكتشفته بعدها بأن زوجة والدها تلك كانت تخطط منذ البداية للتخلص منها بالتعاون مع الحاقدين عليها بسبب عدم رضاهم بزواج والدها الأول والذي حدث رغم عن الجميع وكأنها جرثومة او لقيطة بالعائلة الافضل نزعها عنهم قبل ان تتكاثر...وآخر مشكلة سببت المعاناة الحقيقية لها عندما اتهمت بشرفها وبتهمة لم ترتكبها بحياتها وهي ما تزال ترى وجه والدها الصارم والذي تعلو ملامحه علامات الشرر المجنون وهو يقول بصوت هادئ مهيب بحكم مرتبته العالية
"ما هذا الذي اسمعه من الناس يا ميرا ! هل يخرج من ابنة عائلة مونتريال مثل هذه التصرفات الشائنة والتي قد تودي بسمعتنا بالتراب ؟ هل لديكِ تفسير على هذا الكلام يا ميرا !"
تذكر جيدا موقفها امام الاتهام الباطل وهي تصرخ ببكاء بدفاع مستميت بالرغم من انها تعرف جيدا نتيجة كلامها
"كذب يا ابي ! اقسم لك بأن كل هذا كذب ! انا لم ارتكب اي شيء شائن قد يؤثر بسمعة عائلتنا ، حتى انني لا اعرف من ذلك الشاب الذي يتكلمون عنه وانا لم ألمحه ولم اقابله بحياتي ، انا لا اسمح لكم بأن تتهموني بذلك الاتهام الباطل بدون اي دليل يثبته !....."
اغمضت عينيها بقهر وهي ما تزال تسمع صوت الصفعة ترن بأذنيها والتي طبعت على وجنتها بقوة جمدتها بمكانها بثواني وهي تشعر بها مؤلمة اكثر من اي مرة سابقة صفعها بها وهي تصيبها بالصميم ، لتسمع بعدها كلماته القاسية والتي اصابت قلبها برصاصات طائشة وهو يصرخ بها ببوادر الغضب المجنون وهو يخرج كل القهر المكبوت بداخله ناحيتها
"تريدين دليل يا فاجرة ! وما هو تفسيركِ إذاً للرسائل والتي وصلت لهاتفك والصور والتي انتشرت على الصحف والقنوات ! ماذا تريدين ان تثبت بعد ان وضعتي رأسي بالوحل وكل سلالة عائلتك ؟ ولا اعلم ايضا إذا كان هناك المزيد من الخفايا وراء علاقتك المحرمة بذلك الشاب اللقيط ! لماذا فعلتِ هذا ؟ لماذا يا لعينة ؟"
نقلت نظراتها باهتزاز ناحية الواقفة بجواره وسبب الكوارث بحياتها وهي تقول له برقة الافعى والتي تزرع سمها بضحيتها ليصبح طوع امرها ورهن إشارتها
"اهدئ يا عزيزي فكل ما تفعله معها لن يفيد بشيء بعد ان انتشرت الفضيحة وانتهى ، انا ارى بأن الحل الوحيد هو عقد قرانها بذلك الشاب والذي سيزيل الفضيحة عن العائلة ويطمرها بعيدا وكأن شيء لم يكن ، وهذا افضل حل نملكه بالوقت الراهن وبعدها نفكر بالأمور الاخرى التي تخص اتمام زواجها ، فهو بالنهاية اختيارها هي واكيد يتناسب مع مستواها الرخيص"
ابتلعت ريقها بتعثر مرتعب وهي تشعر بقلبها ينشق لنصفين ما ان قال والدها قراره النهائي بحقها والذي كان اقسى من جلد السوط نفسه
"حسنا اسمعوا جميعا قراري النهائي ، نحن سنعقد قران هذه الفاجرة على ذلك الشاب بغضون اسبوع وبالأسبوع الذي يليها ستحلق بأول طائرة لبلد آخر ، فأنا من هذه اللحظة قد سحبت مسؤوليتي كاملة منها ولم اعد اعترف بها ابنة لهذه العائلة والتي لطخت سمعتها ودنستها بفعلتها الحقيرة ، وإذا حاولت العودة او لمحت وجهها بحياتي فلن تتوقع عندها ما سأفعله بها حينها واجرم به ، سمعتِ يا فاجرة !"
شهقت بارتعاش بدون صوت وهي تنشج بمكانها ما ان استوعبت بآخر كلماته بأنه يتكلم عنها هي ليس عن احد آخر فهي ما تزال الابنة الوحيدة لهذه العائلة بعد كل شيء والتي لم تنجب غيرها بروح المعاناة ، وهي تشعر بنظرات تلك المرأة الشامتة والتي وصلت اخيرا لمبتغاها بكل تلك الخطط والتي حاكتها من حولها على مدار خمس سنوات كاملة تجرعت بها المرار والوجع حتى فاضت وامتلت ، ولم تشعر بعدها بنفسها وهي تصرخ لا إراديا بوجع تجاوز احتمالها وضربها بشدة
"انا لم افعل اي شيء خاطئ ، كله من افعال زوجتك الشمطاء والتي تتقصد دائما ان توقعني بالمشاكل ، ولكني لا اسمح لها ابدا باتهامي بشرفي فهذا كثير جدا ويتجاوز مدى احتمالي ! لماذا لا تصدقني لمرة واحدة فقط ؟......"
وهذا كان آخر كلماتها قبل ان تصيبها صفعة اقوى عن السابق ألقت بها ارضا وهي تجثو على ركبتيها بسكون جمدتها الصدمة التي تلي الحادثة ، ليصرخ فوقها بصوت جهوري خشن يتخلل به النفور
"اخرسي يا لعينة ، هذه التي تتكلمين عنها زوجة والدك وبمقام والدتك ! كان عليكِ ان تحترميها ولو قليلا بدلا من اتهامها بفعلتك الحقيرة ! ولكنكِ ستبقين هكذا حقيرة وفاجرة ولا تستحقين ان يشفق عليكِ احد"
انتفضت بقوة وهي تركع امام قدميه بخضوع لتتمسك بقماش بنطاله الفاخر هامسة بتوسل مترجي بحرقة لاسعة
"انا اعتذر يا ابي ، فقط اتوسل إليك لا ترغمني على الزواج من ذلك الشاب ، فأنا لا اريد الزواج منه ، سأفعل كل شيء تطلبه مني وحتى مستعدة لأقبل قدميك فقط لا تخرجني من حياتك بهذه الطريقة ، فلا تنسى بأني ابنتك الوحيدة وليس لك غيرها بحياتك !"
نفض قدميه بعيدا عنها بقوة وهو يصرخ بتسلط قاسي
"اغربي عن وجهي ، فأنا لن اعترف بوجود فاجرة مثلكِ ابنة لهذه العائلة ، وانسي تماما بأنكِ تملكين عائلة تعيش هنا فقد توفيت عائلتك وكل من فيها من هذه اللحظة والتي انتشرت بها فضيحتك والتي لا تدل على انتمائكِ لنا ، لذا استعدي جيدا لرحيلك من هنا مع الشاب والذي اخترته بنفسكِ وحتى ذلك الوقت لا اريد رؤية شكلكِ امامي مجددا"
رمشت بعينيها بدموع خائنة تسربت على محياها بدون ان تشعر بجوف المعاناة والتي عاشتها بتلك اللحظات لتكون مثل وصمة طبعت بحياتها ، لترفع كفها بارتجاف وهي تمسح على خديها المغرقين بالدموع بخواء اكتسح حياتها لوهلة ، اخذت عدة انفاس للحظات وهي تتذكر التشتت والضياع والذي لازمها طويلا قبل ان تلمع بارقة الأمل بحياتها وهي تشق طريقها نحوها ولم يكن سوى شخص واحد لمحته بعزاء والدتها ولم تراه من بعدها مطلقا .
رفعت رأسها بانتباه وهي توجه نظراتها للمنضدة الجانبية والتي تعلوها الهاتف الذي كان يصدر صوت الرنين الصاخب مخترقا عالمها الصامت ، لترفع بعدها كفها وهي تلتقط الهاتف بهدوء لتنظر بعيون متسعة لهوية المتصل والذي بان بوضوح (لينا) ، ولم تأخذ منها سوى عدة لحظات قبل ان تلقي بالهاتف جانبا بدون ان تجيب ، فقد اصبحت بالآونة الاخيرة مهملة بكل شيء يحدث معها وغافلة عن كل الاخطار والتي تحوم من حولها بظاهرة برود تجتاحها لأول مرة بعد ان يأست وتعبت ، واي شيء قد يحدث معها مستقبلا لن يكون بسوء ما سبقه وجربته !
اراحت خدها على ركبتها بجمود وهي تشدد من تطويق ساقيها متذكرة تلك الكلمات الواثقة والتي اخترقت كيانها بسحر وبأجمل ما سمعته اذنيها
(انا اعدكِ يا وفاء بأن اكون السند والصديق والزوج لكِ ، وما دام هناك نفس متبقي بداخلي فأنا باقي على الوعد لآخر رمق ، فقط كوني معي دائما ولن احتاج لشيء آخر بحياتي ، هل انتِ موافقة ؟)
عصرت جفنيها بقوة حتى عادت الدموع للسيلان على خديها المحتقنين وهي ترثي كل تلك الذكريات اليتيمة والتي خدعت بها كذلك ، لتهمس بعدها بشرود واهي افلتت بتعب السنين
"يا ليتني لم اصدقك ، يا ليتني لم ألتقي بك"
______________________________
وقف عند باب المكتب المفتوح وهو يشاهد الجالس خلف المكتب يعمل على الاوراق بين يديه بملامح صارمة تعلو وجهه العبوس ذو التجاعيد النافرة الغير قابلة للين او الارتخاء مع انعقاد الحاجبين المحتدين واللذان لا يتخلل بهما المرح وكأنه قد ولد بهذه الملامح وخلق بها ليرعب كل الكائنات والمخلوقات المتواجدة على سطح الأرض بسطوته وجبروته ، وهذا الامر هو ما دفع نفور الجنس الناعم منه وعدم القبول بالارتباط بكائن مثله اكثر ما يجيده هو الغضب واصدار الأوامر ، وآخر من قبلت به كان اجبار من عائلتها المسؤولة عنها لترغم على الارتباط به بغير رضاها فقط لأنها يتيمة بلا والدين ، لتتلقى على مدار نصف سنة الذل والهوان والتجريح والضرب فوق تخلي عائلتها عنها حتى دفعتها بالنهاية للهروب من الحياة بأكملها بدون ان يحدد احد وجهتها المجهولة وإلى اين آل مصيرها ! وكل ما يعرفه بأنه لم يحاول احد البحث عنها او التفكير طويلا بأمرها بعد اقدامها على هذه الفعلة والتي جعلت الجميع ينفر منها ويقطعون معرفتهم بها كما كانوا لا يعترفون بها قبلا عندما ألقوها لوقر الوحش .
قبض على يديه بتشنج سرى على طول عضلات ذراعيه المشدودتين وعبث اللسعة القديمة بهما ، ليتنفس بعدها بجمود وهو يعود للنظر لذلك الوجه العبوس والذي كان هذه المرة يعبث بهاتفه الارضي بملامح ازدادت شراسة مع ظهور تجاعيد اكثر صلابة افترست وجهه ، بدون ان يدرك احد ذلك الاهتزاز الطفيف بحدقتيه الحادتين والوهن والذي اصبح يتسرب لسطح ملامحه والذي لا يلمحه سوى اقرب الاشخاص له ! ولم يظهر سوى مؤخرا وتحديدا منذ اسبوع من مواجهة ابن شقيقه بمكتبه ، وبالرغم من انه لم يعرف ما حصل بينهما بتلك المواجهة ولكنه يجزم بأنها لم تكن مواجهة ودية بين اي اقارب تربط بينهم المودة والرحمة ! فهو على علم تام بكامل اعمال والده بعائلة (جواد) والذين ذاقوا منه الويل والعذاب كما سبق واذاقه له ولكل من يعرفهم ، لذا هو متأكد تمام اليقين بأنها كانت مواجهة حامية الاطراف كادت تقضي عليهما او تقتل احدهما للآخر ، ولكن كل شيء انتهى بدون اي اضرار او جروح وهذا ما يحيره ويثير ريبته للآن ! ويبدو بأن والده لم ينسى كذلك تلك المواجهة والتي يبدو اثارت غضبه وسخطه بالأيام الفائتة وكأنه قد كبر مئة سنة للأمام او ظهر عجزه النادر امام خصومه !
قطب جبينه بجمود ما ان سمع ذلك الصوت الخشن بنبرة تستطيع ان ترعب اعتى الرجال وهو يوجه الكلام له قائلا بتصلب
"إذا كان لديك شيء قيم تكلم ، وإذا لم يكن كذلك فارحل"
تلبس ملامح الهدوء الجليدي بقناع يخفي به كل انفعالات معالم دواخله وهو يرفع ملف اوراق بيده قائلا ببرود
"لقد وصل هذا الملف مع واحد من رجالك وطلب مني ان اسلمه لك ، فهو يحمل معلومات مهمة قد تثير اهتمامك"
رفع رأسه مثل طلقة الرصاص وهو يصوب نظراته نحوه بجمود ليضرب بلحظة سماعة الهاتف مكانها بقوة ، قبل ان يعتدل بجلوسه قائلا بأمر قاطع
"ضع الملف امامي"
تقدم بخطوات ثابتة بدون ان يأبه بنظراته التي تدل على اهمية هذا الملف بين يديه ، وما ان وقف امامه حتى وضع الملف برفق فوق سطح المكتب بانصياع تام ، ليراقب بعدها الذي امسك بالملف بلحظة وهو يقلب بين اوراقه باهتمام بالغ ، قال بعدها بلحظات وهو يرفع حاجبيه بتفكير ساخر
"لم اكن اعلم اهمية هذه الاوراق بالنسبة لك ! هل هي تخص صفقة جديدة ومعلومات الرهينة القادمة ؟"
حدق به للحظات قبل ان تعتلي شبح ابتسامة ملامحه اظهرت التجاعيد حول شفتيه وهو يهمس بصوت اخفض بفحيح ماكر
"هذه صفقة مهمة يا اوس ، وهي ما تفصلنا عن الانتقام من الخائن المدعو مازن ، وتصفية حساباتنا الاخيرة معه ، ولكي يفكر مئة مرة قبل ان يتلاعب معنا مجددا"
غامت ملامحه وهو ينحدر بنظراته للملف لوهلة قبل ان يتمتم بجمود صخري
"هل هذه المعلومات ستدمر سمعة مازن ؟ ام انها تخص تدمير غيره بسبيل الانتقام منه ؟"
عقد حاجبيه بضيق وهو يتقدم بجلوسه بلحظة قائلا بابتسامة انحنت بشراسة
"يا لك من احمق ساذج ! هل نسيت طريقتنا بالانتقام من اعدائنا وكيفية تنفيذها ؟ إذا انتقمنا منه مباشرة فلن يكون هناك اي متعة او انتصار ، اما إذا حاولنا التحايل والوصول له عن طريق اقرب المقربين منه سيكون انتقامنا آن ذاك اكثر متعة وسنصل لهدفنا المنشود بطريقة اسرع !"
اتسعت عينيه باستيعاب وهو يهمس بوجوم عابس
"هل هذه المعلومات تخص شقيقة مازن ؟ ولكني ظننتك قد ابطلت عن هذه الفكرة واستسلمت !"
ضرب الملف على سطح المكتب بقوة وهو يقول بصوت محتد شرس
"من قال بأني استسلمت او تراجعت عن الفكرة ؟ انا فقط كنت اجهز نفسي للاستعداد للهجوم من جديد فلا تنسى عندما تريد القفز عاليا تحتاج للرجوع خطوتين للوراء لتكون القفزة اعلى ، وايضا انت الذي انسحبت وهربت من اكمال الخطة بجبن تجاوز توقعاتي !"
امتقعت ملامحه بلحظة وهو يشيح بنظراته هامسا بنفور جامد
"اخبرتك بهذا من قبل لن اكون جزء من هذه الخطة الحقيرة والتي تتنافى مع مبادئي ، ويمكنك تسمية انسحابي من خطتك هروب او جبن ، فأنا لن اغير نظرتي نحو هذه الخطة"
ازداد انعقاد حاجبيه بتجهم للحظات وهو يهمس بجفاء بارد
"حسنا يا اوس إذا كنت لا تريد المشاركة فالأفضل لك المشاهدة بصمت والاستمتاع بما ستحول له الأمور بالأيام القادمة ، فهذه الأيام ستحمل لنا الكثير من المتعة والحماس والذين كنا نفتقدهما منذ زمن"
شرد بنظراته بعيدا عنه وهو يتمتم بعدم اهتمام
"وماذا تخطط ان تفعل بها ؟"
ارجع ظهره للمقعد بملامح مسترخية قائلا بجدية
"ستعرف كل شيء بالوقت المناسب ، لذا لا تتعجل وتحلى بالصبر"
حرك عينيه بملل وهو يتمتم بجمود
"لقد تحليت بالصبر طويلا ولن تفرق بضعة أيام اخرى"
انقلبت ملامحه بغموض وهو يتقدم بجلوسه قليلا ليضم قبضتيه فوق الملف بقوة قبل ان يقول بتصلب مريب
"لقد تأخرت اليوم بالعودة للمنزل ! بل بالأحرى انت اصبحت بكل يوم تتأخر فيه بالعودة حتى حلول الليل ! وانا اعلم جيدا بأنك لا تذهب لمقر العمل سوى بالصباح وتغادر منه قبل مغيب الشمس واحيانا لا تحضر مطلقا ، إذاً اين تقضي وقتك بعد المغيب وطول ساعات الليل ؟ هل لديك جواب على هذا السؤال ؟"
حرك رأسه للأمام وهو يتمتم ببؤس
"هل انا ملزم بالإجابة ؟"
تعقدت ملامح والده بجمود وهو يقول بغضب بدأ ينضح بصوته الخشن
"لا تلعب معي يا ولد ! واجبني عن السؤال بكل وضوح ، هل تفعل امور من وراء ظهري لن تسرني ابدا ؟"
مالت ابتسامته ببرود وهو يدس كفيه بجيبي بنطاله قائلا بتمهل شديد
"لا تقلق يا ابي ليس هناك شيء مما تفكر به قد يرتكبه ابنك بفضل تربيتك له والتي لا يحسد عليها ، والتي جعلتني نموذج للوفاء والاخلاص ستدفع كل من اعرفهم للامتثال بي والتعلم من تربيتك"
شدد من القبض على يديه وهو يقول بصوت جهوري قانط
"اسخر كما تشاء ، فأنت لن تغير صورتك الحقيقية والتي زرعتها جينات والدك ، وحتى لو غيرت تربيتك وحاولت التمرد على ذاتك فأنت ستبقى ابن والدك والذي تربيت على يديه ، هل سمعت هذا ؟"
عقد حاجبيه ببطء متوحش وهو يضم شفتيه بكبت ليهمس من بينهما بانفعال هادر
"كم اكره هذه الحقيقة ! واكره صاحبها اكثر"
تغضن جبينه بجمود وهو يقول من فوره باقتضاب
"لم تجيب على سؤالي السابق يا اوس ؟"
زفر انفاسه بضيق وهو يقول بلا مبالاة متعمدة
"ليس بالأمر المهم ، فقط كنت اساعد صديق لي بمنطقة بعيدة بالعمل على مشروع جديد يخص بناء عيادة خاصة بمرضاه بسبب انقطاع الموارد الصحية بتلك المناطق"
ضيق عينيه الصقرية لوهلة وهو يقول بشك
"هل هذه الحقيقة ؟"
حرك رأسه بإيماءة غير مرئية تقريبا وهو يهمس باختصار
"اجل"
قطب جبينه بعدم رضا وهو يقول بلحظة باستهجان
"عليك مساعدة نفسك اولاً بدلا من اضاعة الوقت بمساعدة الآخرين ! فأنت تحتاج لهذا كثيرا"
اومأ برأسه مجددا بدون اي حياة وهو على وشك الرحيل قائلا بجمود
"سأعمل على هذا ، والآن اعذرني !"
قال بسرعة من خلفه وهو يوقفه بإمارات صارمة اعتلت تجاعيد محياه
"متى ستفكر جدياً بحياتك يا اوس !"
سكن بمكانه للحظات وهو يجيب بنبرة خاوية
"عندما تفكر بتركي وشأني"
ضرب على سطح المكتب فجأة وهو يقول بتجهم اكبر
"اوس انا لا امزح معك ! لقد اصبحت بعمر الثلاثين واكثر وانت بلا هدف ولا عائلة تحمل اسمي ، ألا ترى بأنه قد حان الوقت المناسب لتبني لنفسك عائلة ترث مجدي وتكمل مسيرة اعمال العائلة !"
حرك رأسه جانبا وهو يبتسم شبه ابتسامة ساخرة قبل ان يهمس باستهزاء خافت
"احلامك كبيرة جدا يا ابي ! انا ارى بأن تضع هذه الاحلام برجل آخر من رجالك الوفيين ، لكي لا نظلم انفسنا ونتأمل بشيء مستحيل المنال ، فأنا متأكد بأنه لا احد سيقبل بصنع علاقة معنا سوى فاقد العقل او الأهل"
زاد من تقطيب حاجبيه بجمود لبرهة قبل ان يلوح بيده قائلا بجدية
"ولما قد يكون مستحيل او بعيد المنال ؟ وهناك مئات العائلات سيتمنون الارتباط بنا ومن اكبر عصابات البلد ! فقط بإشارة واحدة مني استطيع ان اجعلهن يركعن امامك ليصبحن رهن إشارتك وخاتم بأصبعك ، انت فقط اطلب واختر التي تعجبك وكل شيء مستحيل سيصبح بمتناول يدك"
انحنت زاوية من شفتيه بارتخاء وهو يحاول السيطرة على الوجوم الذي احتل كيانه وتربص بروحه الباردة ، ليهمس بعدها بلحظات بقسوة حجرية سكنت ملامحه
"هل تظنني من الجنون لنظلم معنا فتاة اخرى كما فعلت سابقا ؟"
ارتفع حاجبيه ببطء متمهل اخذ منه لحظات قبل ان يهمس باشمئزاز ساخر ما ان ادرك فحوى كلامه
"هل تظن بأني قد ظلمت معي تلك المرأة العاهرة ؟ لقد كانت مجرد امرأة ضعيفة جبانة لم تستطع تحمل مسؤولياتها الزوجية ورعاية طفل لذا هربت بجلدها ! ولكنها للأسف قد اورثت جيناتها الغبية بابنها ليكون نسخة اخرى تافهة عنها....."
قاطعه بصراخ مفاجئ بمرارة انضحت بصوته بدون ان ينظر له
"كفى يا ابي ، لا اريد سماع اي كلمة تسيء لوالدتي بأي شكل !"
صمت للحظات بملامح متغضنة بجمود ليشيح بعدها بوجهه جانبا وهو يتمتم بجفاء
"يا لك من احمق ! ما تزال تدافع عنها بعد ان تخلت عنك وهربت ! كما كنت تدافع من قبل عن عائلة عمك بعد ان توقفوا عن الاعتراف بك ، حقا ابن والدتك الغبية !"
سكنت انفاسه بضيق منهك وهو يشدد على يديه بجيبي بنطاله ليصلب بعدها جسده بلحظة خاطفة قبل ان يكمل طريقه لخارج الغرفة هامسا بآخر كلماته بنفس البرود الذي عاد لتلبسه
"تصبح على خير"
اكمل طريقه بالممر الطويل وهو يرفع يده بارتجاف ليدلك على ذراعه الآخر بخدر مؤلم عاد ليلازمه من جديد ، ليتوقف بعدها عن السير وهو يريح جسده بالجدار بجانبه بإرهاق استبد به واخذ كل ذرة طاقة بداخله ، لينظر عاليا جدا وعقله يموج بأفكار زرعها والده بداخله مثل السم والذي ينخر جسده على الدوام حتى يخضع لحكمه ويخر صاغرا له ، وكل هذا قد بدأ منذ اللحظة والتي سحبته تلك اليد القاسية وهو يعاندها ويرفسها لتأخذه من البيت الدافئ والذي احتواه يوما بطفولته وهو ما يزال يسمع نداءه الباكي بلهاث انفاسه وتعثر خطواته
"اتركني وشأني ، لا اريد الرحيل معك ، اريد البقاء مع امي ومع اشقائي ، اريد الذهاب لهم"
ولكن صاحب تلك اليد والتي كانت تسحبه بقوة لم يرأف بحاله ولم يهتم لتعثر قدميه اكثر من مرة ، كما لم يهتم للهتاف الباكي من خلفه وتلك الأم تتوسله برجاء مكسور
"اترك الطفل يا متحت ، ما يزال صغيرا على فعل هذا به ! ارحم سنه الصغير !"
وبعدها لم يرى تلك العائلة بحياته وهو يلقى بمكان انعدمت الرحمة والرأفة به وفقد كل معالم الدفء بحياته ببرودة لم يتخلل بها الضوء يوما ، ليتوقف عمره عند العاشرة وتقريبا عند وفاة عمه (مصعب) ليسحب حينها من كنف العائلة والامان ليقضي باقي سنوات حياته بين ضرب وتوبيخ وقسوة حتى صنعت منه تلك الصورة المشروخة والتي وصل لها وزرعت بداخله على مرور الأيام ، ولن ينسى ذلك اليوم المصيري والذي قطع به كل علاقة تربطه بتلك العائلة التي احتوته وآوته يوما ، عندما توفيت ابنة العائلة الصغيرة ورفيقة لعبه وصديقته المقربة وكل ما كانت تمثله بحياته فهي لم تكن فقط ابنة عمه بل كانت افضل شقيقة صغرى من الممكن ان يحصل عليها ، وقد كانت وفاتها صدمة على الجميع وحسرة بقلوبهم المفطورة بها وعلى عمرها الصغير .
حينها بذلك الوقت عندما حضر عزائها ما يزال يذكر نظرات شقيقه الكبير (جواد) والذي كان يشيعه بها ويغذيها بحقد شعر به على بعد امتار بمأساوية اللحظة والتي كانوا يعايشونها بتلك الفترة ، ليتذكر كلماته الخافتة بحقد وكراهية حملهما معا والتي همس بها على مقربة منه ما ان حاول التواصل معهم
"إياك وان اراك مرة اخرى او ان ألمحك بالقرب من عائلتي ، فنحن الآن لم يعد هناك اي صلة تربط بيننا وبين والدك سوى الكره والنفور ، لذا حاول قدر الإمكان صنع المسافات بيننا والبقاء بعيدا عنا ، لأني اعدك إذا رأيتك مرة اخرى بعزاء شقيقتي او بالقرب من امي فلن امررها لك كما الآن ، سمعت يا ابن متحت !"
ما يزال يشعر بانتفاضته بعد كلماته وهو يصرخ به ما ان اعطاه ظهره بقهر مكبوت من حبس الدموع بروحه
"ولكنكم ما تزالون عائلتي يا جواد ! وعمتي هيام تكون امي والتي توفيت هي شقيقتي الصغرى غنوة ! كيف يهون عليك ان تقول مثل هذا الكلام لفرد من عائلتك ولشقيقك ؟...."
قاطعه بصرامة حادة جمدته بمكانه كما كل شيء يدور من حولهما
"لست شقيقي ! ولن تكون انت ابن متحت ! لا تنسى نفسك فقط لأننا اهتممنا بك بفترة انشغال والدك عنك ، فأنت بالنهاية ستعود لأصلك الحقيقي ولجذور والدك المرسومة بخريطتك الوراثية ، لذا لا تحاول اتخاذها ذريعة لتتقرب منا فنحن لم نعد نشكل بالنسبة لك اي شيء ولا عائلة عمك ، والآن اغرب عن وجهي لكي لا اريك شيء لن يعجبك يا اوس متحت !"
بعد تلك الكلمات القاسية رحل الذي كان يحتل مكان شقيقه الكبير بعائلته ومثله الأعلى بالحياة ، وهو يراقب بعينيه الحمراوين بحرقة الدموع الواقف بجانب والدته وهو يعانق كتفيها ويربت على ظهرها ورأسها مدفون بصدره ببكاء ونحيب مذبوح يشعر به ولا يستطيع مساعدتها او مواساتها بسبب الحاجز والذي بنى بينهما ، وهذه كانت آخر مرة يلمح بها تلك العائلة والتي فقد كل الحق بالاحتماء بها او طلب العودة لها .
افاق من افكاره وهو يدس السيجارة الجافة بفمه والتي وجدها بجيب سترته بدون ان يجد القداحة ، وهو يدخن هواء فارغ بدون فتيل يشعله شبيه بحياته والتي فرغت من جميع من تخلوا عنه وخرجوا من دائرة حياته ، ليغمض بعدها عينيه وهو يتذكر كلام والده عن غيابه الطويل بالليل والكذبة والتي نسجها من خياله ، ولكنها بحقيقة الأمر كذبة صادقة فهو حقا يعمل مع صديقه على بناء عيادة والفرق بأنها بمقابل فقد اصبح يعمل بوظيفة عامل مأجور وافضل ما استطاع إيجاده وعمل به لتكون نقطة يستطيع البدء بها وقلب صفحة جديدة بحياته خالية من اي اخطاء او ذنوب من الماضي وندوب من الحاضر ، وكل ما يتمناه ان يكتب له النجاح بهذه الطريق والتي اختارها بعد عناء طويل ، فهل ستكون بداية موفقة ام فاشلة مثل خطأ مجيئه على الحياة والتي لم يكتب له العيش بها بهناء ؟

نهاية الفصل........

بحر من دموع Where stories live. Discover now