الفصل الثالث والأربعون

70 2 4
                                    

دلفت للغرفة بصمت وهي تشاهد الذي كان يوليها ظهره امام النافذة يبدو مشغول بالتفكير العميق ، اخذت عدة لحظات بالتأمل قبل ان تتجه لخزانة الملابس مباشرة وهي تفتحها بصمت ، لتنحني بعدها على ركبتيها وهي تخرج حقيبة الملابس من الاسفل بهدوء بحركات باردة وكأنها تقود نفسها بسيطرة غريبة ، لتقف باستقامة وهي تنتشل ثيابها من العلاقات لتلقي بها بداخل الحقيبة بتلقائية وكأنها تفعل ما يلزم عليها فعله .
تباطأت حركاتها لوهلة ما ان سمعت صوته يتردد بالمكان لأول مرة قائلا بكلمة واحدة ضربت كيانها برمح طائر
"انا اعتذر يا روميساء"
شددت بيدها على ثيابها وهي تتابع عملها بحركات اكثر قوة ، وما ان غيم الصمت من جديد حتى قال مجددا بصوت اكثر خفوتا بحرقة الندم التي تستطيع سماعها بصوته العميق
"لم اعلم بكل ذلك ، ارجو ان تسامحيني على كل خطأ اقترفته بحقك ، انا اعتذر منكِ"
تابعت عملها بحركات هبط مستوى اتقانها وهي تركز مدار عينيها الواسعتين على ما تفعله بدون ان تنتبه للجراح التي لامسها وشوشت رؤيتها ، لتتجمد اطرافها ببرودة غريزية ما ان قال بهدوء اشتد بنبرته بقتامة
"لماذا انتِ صامتة ؟ ألا تستطيعين ان تسامحيني على اخطائي ؟ هل هي كبيرة عليكِ لدرجة لا تريدين التجاوز عنها ؟ اخبريني بما يتوجب عليّ فعله لنقلب كل شيء حدث بهذه الصفحة السوداء وننسى ما فات"
التفتت بوجهها نحوه بشحوب وعينيها الباهتتين تتابعان حركات ظهره الصلب بدون اي معنى ، لتهمس بعدها بشبه ابتسامة بهدوء خاوي
"ماذا تريد مني ان اقول ؟ هل تبقى شيء عليّ قوله ؟ هل تظن الغفران والتجاوز سهل الحدوث ؟ لقد انتهت صفحة الغفران وانقلبت صفحتنا كذلك ، فقد نفذت جميع فرصنا بهذا الزواج"
تصلبت فقرات ظهره وهو يستدير باللحظة التالية قائلا بوجوم حائر
"ماذا تعنين بكلامكِ ؟ هل تريدين......."
توقف عن الكلام بمنتصف الحديث ما ان تلقى الصدمة التي بعثرت افكار عقله وانظمة الكلمات بقاموسه ، ليعلو التجهم ملامحه بلحظة واحدة غاب الألم والأسى عنه وهو يقول بجمود وعينيه متسمرتين على حقيبة ثيابها
"ماذا تفعلين ؟ وما لذي تخططين لفعله بحقيبة ثيابك ؟ هل انتِ بكامل قواك العقلية يا روميساء ! هل اعيد ضبط اجهزتك العقلية برأسكِ لتستطيعي العودة لطبيعتك ؟"
اشاحت بوجهها بعيدا وهي تكمل نقل ثيابها بالحقيبة قائلة بعملية جادة وكأنها تتعامل مع الوضع بمنطقها
"يبدو بأنك قد نسيت الامر تماما يا احمد ، ولن ألومك بعد كل المشاكل التي واجهتها وحدثت بحياتنا ، ولكن دعني اذكرك لقد اخبرتك من قبل بالحرف الواحد بأنه ما ان تخرج براءتي وتثبت إدانتي فأنا لن اكون بجانبك حينها لأني عندها سأبتعد عنك واخرج من حياتك ولن تراني بعدها مجددا ، وهذا ما سيحدث اليوم فقد انهيت كل شيء بيديك وقدمت عرضك بالفعل وحان الآن دوري لكي اكمل النصف الآخر من العرض"
تجمدت ملامحه بقسوة حتى بانت الخطوط بعمق موازي لخطوط الدماء التي تجري بعروقه بهياج نابض ، ليتجاوز المسافة بينهما بلمح البصر بثلاث خطوات فقط قبل ان يكبل ذراعها ويديرها نحوه بعنف ليمسك بحقيبتها بيده الاخرى وهو يلقي بها بعيدا ، لتتسمر بعدها بمكانها وهي تنظر له بملامح باردة ما ان قال بغضب هادر وهو يهزها بقسوة
"إياكِ يا روميساء ! إياكِ والتفكير بهذا ! خروج من هذا المنزل ممنوع ، والابتعاد عني غير مسموح ، ماذا تظنين نفسكِ فاعلة وانتِ تتخذين هذا القرار من رأسك ؟ كل الكلام والحوارات التي حدثت معنا بالسابق كانت بنوبات غضبنا ولم نقصد قولها ، لقد خرجت منا بدون إدراك بسبب الجروح التي غرسناها ببعضنا وتألمنا بسببها ، ولكن الآن فقد مضى كل هذا ، لذا ما لمانع من فتح صفحة جديدة والبدء من جديد ؟ ويمكننا ايضا تعديل وتصحيح كل تلك الاخطاء بتعويضها بأمور اخرى واستبدالها بسعادتنا وراحتنا ، ونحن نملك هذه الفرصة بما انه لم ينتهي كل شيء بعد ، ألا توافقيني الرأي ؟ ألا تريدين ان يعود كل شيء كما بالسابق ؟"
عبست ملامحها ببطء بخطين متساويين وهي تهمس بأسى خافت وكأنها تحاكي الحزن الساكن بقلبها منذ شهور
"لم ينتهي شيء يا احمد ، بل الآن قد بدأ كل شيء ، ألا تفهم عن ماذا اتكلم ؟ لقد اكتشفت اليوم بأنه قد تم اضطهاد وظلم ابني والذي لم تسمحوا له بأن يعيش ! لقد اكتشفت بأنني اكبر غبية وساذجة بالحياة حتى كنت غافلة عن جريمة قتل طفلي ! لقد انتزعتم مني روح بداخل احشائي ! هل تدرك حجم هذه الجريمة ؟ هل تدرك مدى الألم الذي شعرت به حينها ؟ لا احد يستطيع الشعور بألم الأم لأنها التي خسرت جزء من نفسها ، لأنها التي ودعت جنين لم يكتمل له الحياة بداخلها ولم تكن له الملجئ والسكن الآمن ، كيف يحدث كل هذا وانا لا اعلم ؟ كيف تفعلون هذا بي وتذنبوا بحقنا هكذا ؟ من اين لكم بكل هذه القسوة وانعدام الضمير والرحمة ؟ ماذا فعل لكم ابني لتعاقبوه بهذه الطريقة ؟ هل كل هذا لأنني والدته ؟ لأني انا التي سوف تنجبه......"
غصت بكلماتها بألم فاق حدود مقدرتها الطبيعية وهي تحاول السيطرة على انضباط نفسها التي غرقت ببحيرة يأس وندم تخللت بصميم روحها ، ليفلت بعدها ذراعها ببطء شديد وكأنها قد اطلقت رصاصات حارقة اصابت فؤاده وجمدت حركاته بذنب ما يزال يتوسع بداخل صدره وبكامل انحاء جسده ، ليقول بعدها بهدوء جاف وهو يحاول ان يحجم مشاعره
"افهم شعوركِ تماما ، وانتِ ليس لكِ اي ذنب بما حدث بسبب تلك المجنونة التي قتلت طفلنا ، فأنا ايضا قد خسرت الكثير بسبب هذا الامر ، لقد كدت اخسر زوجتي بتلك الموجة التي مررنا بها افقدتنا كل قوانا ، هل تتوقعين بأنه كان من السهل عليّ تقبله ؟ انا ايضا قد تألمت مثلك ، لقد تألمت عندما علمت بالطريقة التي خسرنا بها طفلنا وكيف خسرت زوجتي بعدم ثقتي بها......"
قاطعته (روميساء) بقوة وهي تنفض دوامات الضعف والألم عن كيانها قائلة بضراوة لبؤة
"تقول بأنك تألمت حقا ! تألمت على ما حدث لنا ولطفلك ! لو كان كلامك صحيحاً لما لم تخبرني بالبداية عن سبب موتي طفلي ، لما لم تصرح بهذه الحقيقة منذ البداية ؟ لما جعلتني اعيش اللوم والندم بداخلي وانا ألقي المسؤولية على إهمالي واستهتاري بقتل طفلي ؟ وبالواقع كان الامر عكس ذلك تماما ، ألم تسمح لك كرامتك وغرورك ان تخبرني بالأمر قبل الجميع ؟ ان تريح ضميري المعذب منذ ذاك اليوم ، ألم يرأف لك حالي ولو قليلا بالبوح لي بتلك الحقيقة ؟ كيف تقول عن نفسك بأنك تتألم وانت لم تحاول على الاقل ان تكون صادق معي بمواساتي ومداواة جروحي....."
صرخ من فوره وهو يمسك بكتفيها لكي يوجه جسدها نحوه ويرغمها على الاستماع له
"لم اكن اعلم يا روميساء ، لم اعلم بالأمر سوى مؤخرا ، ألم تسمعي ما قلته لكم امام الجميع بالأسفل ؟ لقد صرحت امامكم بأنني قد علمت بالأمر عند سماعي الحوار الذي كان يدور بين سلوى ووالدتها ، وبعدها فكرت بأن الحل الافضل من اجل كشف ألاعيبها هو بجمع كل افراد العائلة ومعرفتهم بكل فضائحها على العلن ، لكي يكون افضل عقاب ودرس قيم لها يجعلها تندم طول حياتها القادمة على ما اقترفته واجرمت به بحقنا ، هل تظنين بأنني تعمدت اخفاء الحقيقة عنكِ والتستر عليها ؟ لقد كنت فقط اجهز الفخ لها لكشف كل شيء وانهاء كل ما بدأته !"
غامت ملامحها ببرود وهي تمسك بيديه لتلقي بهما عن كتفيها بمنتهى البساطة ، لترفع بعدها يدها وهي تشير بأصبعها نحوه قائلة باتهام صريح بصلابة
"انت تكذب ، انت تكذب يا احمد ، لقد كنت تعرف عن السبب الحقيقي بموت طفلي ، لقد كنت تعلم بأن الامر لم يكن مجرد حادث ، هل كنت تظن بأنك ستخدعني مرة اخرى وتنطلي عليّ الكذبة ؟ لقد كانت ماسة شكاكة كثيرا ودائما ما تخبرني بحدسها نحو سلوى وهي تتهمها بقتل طفلي ، وبسبب ذلك الامر لقد دب الشك والخوف بعقلي ، لذلك ذهبت بالنهاية لاستشارة الطبيب الذي اهتم بحالتي بعد ان اجهضت الطفل ، وهناك كشفت الحقيقة المريعة التي قلبت حياتي تماما وادركت ما كنت اعيشه كل هذه الشهور والايام ، ولكن لماذا اخفيت عني الحقيقة يا احمد ؟ هل كنت تعاقبني برؤيتي اتعذب امامك بتأنيب الضمير ولوم نفسي ؟ هل استمتعت وانت تراني بتلك الحالة ؟ هل حصلت على انتقامك مني ؟"
اتسعت عينيه بصدمة وهو يمسك بيدها التي كانت تشير له قائلا باستهجان
"هل بدأتِ تهذين الآن ؟ عن اي انتقام تتكلمين ؟ ولماذا انتقم منكِ ؟ انتقم من نفسي ولا انتقم منكِ ، انتِ ام اولادي ، انتِ زوجتي ، انتِ مسكني وعالمي ، انتِ حب حياتي ، كيف تفكرين هكذا ؟ ألم تعودي تعرفين زوجكِ ! ألا تعرفين بأن زوجك يموت إذا اصابك مكروه بقصد او بدون قصد !"
ردت عليه من فورها ببرود جليدي
"إذاً ما هو سبب اخفاء الحقيقة عني ؟"
ابتلع ريقه بصعوبة وهو يضم يدها بين قبضتيه قائلا بهدوء جاد يحاول نقل شحناته العاطفية نحوها
"لقد كنت قلق من ردة فعلك ، لقد كنتِ حينها متعبة وغير طبيعية وتعانين من عطوب وجروح ، وقد خفت ان ازيد حالتك سوءً عندما تعلمين بأن موت طفلك لم يكن حادث ، بل كان دافع مقصود من احدهم يعيش معنا بالمنزل ويبث سمومه بيننا ولا يتمنى لكِ الخير ، وعندها قد تخسرين الثقة بنفسك وبالعالم من حولك وتخسرين قلبكِ المحب ويمتلأ بسواد الحقد والانتقام ، لقد كنت اريد ان يعود كل شيء كما كان وان تتعافين بنفسكِ وتصلحين من حالكِ بنفسك ، انتِ اهم شيء بحياتي وكل شيء يدور من حولك ويؤدي إليكِ يكون اهم اولوياتي ومن اسمى اهدافي !"
كانت تنظر له بعينين خضراوين باهتتين بدون اي مشاعر وهي تستل كفها من بين يديه بهدوء ، لتقول بعدها بصوت حزين يحمل عتاب قاتل
"ولكنك لا تنكر رغبتك بمعاقبتي والاقتصاص مني ! لقد كانت لديك فرص كثيرة لكي تخبرني عن حادثة موت ابني بعد تصالحنا الاخير وانحلال كل المشاكل ، ولكن يبدو بأنك قد تراجعت واستخدمت هذه الطريقة بعقابي منذ لحظة قدومك لمنزل يوسف وتزعزع الثقة بيننا وانت تقسو عليّ بكل يوم يمر علينا ، لا اصدق بأنكم تملكون مثل هذه القلوب بداخلكم ! لا اصدق بأن هناك بشر سوداوية وحقودة يعيشون بالعالم ! ولم اصدق ألا عندما عرفت عائلتكم ودخلت لها ! انتم حقا كما قالت ماسة عنكم وحوش بشرية شياطين بهيئة بشر ، واكثر شيء نادمة عليه هو دخولي لهذه العائلة والانتساب لها !"
كانت تتنفس بقوة ويدها تتحرك بعشوائية وكل جزء بجسدها يتفاعل مع هياج نبضاتها الثائرة ، لتخفض بعدها ذراعيها على جانبيها بانخماد وهي تلتفت لتلتقط حقيبتها من جديد وهي تكمل عملها بتعبأتها بثيابها ، ليفيق بعدها من سباته اللحظي وهو ينقض على ذراعها مجددا ليديرها بقوة اكبر قبل ان ينتشل الحقيبة منها ويرميها هذه المرة بأقصى ذراعه .
قال (احمد) بعدها بهجوم مفترس وهو يقربها منه بكلتا ذراعيها اللتين احتجزتا بقبضتيه
"لا تستطيعين قول هذا الاتهام الكبير والهروب ! اجل لقد كنت انوي معاقبتك بالفعل وحبسك بحجرة لا يصل لها النور لكي لا تستطيعي التمرد على اوامري وتجاوزي ، كنت اريد معاقبتك بشدة لكي تعرفي من هو زوجك والذي يحق له النظر لكِ وكسب ثقتك وان يكون محور حياتك ، فأنا بالنهاية قد تألمت كثيرا منكِ ، لقد تألمت لدرجة لم اعد اشعر بها بشيء سوى بالكره الذي امتلأ بقلبي ناحيتك ، لقد اخطئتِ كثيرا يا روميساء ، اخطئتِ منذ اكتشافي بالمعرفة التي تجمع بينك وبين رجل غريب ! اخطئتِ بمحاولة التقرب من ابن ذاك الرجل والاهتمام بمهمة تعليمه ! لقد اخطئت عندما فضلته على زوجكِ وحاولتِ المقارنة بيننا بمعادلة غير منصفة ! هل تظنين بأن كل هذا سهل عليّ تقبله والتعامل معه وكأنه شيء لم يكن ؟ انتِ ايضا مخطئة يا روميساء ، وخطئكِ اكبر من خطئي بأضعاف ، لذا لا تمثلي البراءة وانتِ جزء كبير من سبب كل ما يحدث معنا"
ارتفع حاجبيها بدهشة مزيفة وهي ترسم ابتسامة باردة على محياها ، لتهمس بعدها بصوت فاتر يحمل حزن دفين
"هل اصبحت المذنبة الآن ؟ هل انا مخطئة بنظرك فقط لأنني احببت طفل تعرفت عليه بفصلي ؟ هل اذنبت عندما توليت رعاية طفل يتيم الأم يعاني من احتياجات هامة بحياته ؟ اعلم بأنني ابالغ بهوسي بالحرص على العناية بالأطفال وحبهم الغير مشروط ، فقد كانوا بالنسبة لي الدواء الذي احتاجه والطفولة التي فقدتها بسن معينة لأحمل مسؤوليات اكبر من كاهلي واوفر الحياة السعيدة للجميع مقدمة اهتماماتهم قبل اهتماماتي ، انا هكذا منذ مراهقتي ولن اغير نفسي من اجل اي احد فقط لأنه يرى بأن هذا نقص او عيوب بي ، ولن اهتم برغبتك الانانية بلوم طفل صغير متعلق بي فقط من اجل ان تخرجني مذنبة بحقك ، وإذا كنت ترى ذلك ذنب او خطأ مني فهذه مشكلتك وحدك ، فأنا رأيك وتعليقاتك كلها لا تهمني ، لا تهمني بتاتا !"
نفضت ذراعيها ما ان انهت موشحها الكلامي وهي ترفع رأسها بقوة ، لتضم بعدها يديها وهي تصنع دائرة بهما قائلة بشرح عملي وكأنها تشرح درس مهم عن مبدأ علاقتهما
"انا وانت من عالمين مختلفين ومكانين متناقضين عن بعضهما ، نحن لدينا مفاهيم ونظرات بحياتنا تختلف كل منا عن الآخر ، وهذا الذي يسبب سوء التفاهم وانعدام الوفاق بيننا ، فأنت قد عشت وتربيت ببيئة مختلفة عني تتشكل بمكان منغلق بدائرة زجاجية ترى العالم من خلالها ولكن لا تستطيع رؤية حقيقة الظلم والاضطهاد والمعاناة التي تمر بها البشر يوميا لأنك محمي بداخلها ، اما انا فقد عشت بمكان مفتوح لا يوجد به قواعد او قوانين ولا جدران او حصون تحميني وترشد طريقي ، فقد كنت اعايش واتكيف مع ذلك الظلم والذي كنت اراه يحدث امامي يوميا حتى اصبح جزء متغذي مني ، وهذا ما اعطاني الحرية المطلقة الغير متوافرة بحياتك والتي جعلتني امرأة مستقلة بتصرفاتها ومبادئ حياتها التي وصمت بها ، وهذا الاختلاف ولد بيننا تناقض الآراء وطرائق الحياة ، فأنت ترى بأن المرأة حدودها هي زوجها ومنزلها والاهتمام بمحيط عائلتها ، وعملها خارج ذلك يعد اكبر خطيئة بحياتها ، واما بالنسبة للمكان الذي جئت منه فقد كان عمل المرأة هي قوتها ومصدر رزقها ، وتعليمها هو سلاحها الابدي بوقت الحاجة عندما يتخلى الجميع عنك وتصفى وحدك بالحياة ، ولكي لا تكون عالة على المجتمع بل مساندة قوية ترفع به عالمها بتحقيق اهدافها وطموحاتها وتفخر بنفسها بصنع المجد لها ، هذه هي الاختلافات بيننا والتي اعاقت بين عالمينا ، واعتذر لأنني لست المرأة التي تناسب مستواك العقلي والشكلي وطبيعة نسبك ونشأتك !"
كان ينظر لها بملامح مكفهرة وهو لا يستطيع جلب الرد او التعليق المناسب على كلامها المنطقي الذي اخرج كل حقائق وفروقات عالمهما ، وما ان شعر بها تنسحب من امامه حتى كان يكبل ذراعيها بلمح البصر وهو يقول من فوره بانفعال مضطرب يحاول اتخاذ الحجج لكي يبقيها بجانبه
"لا تقولي هذا يا روميساء وتعلني الانسحاب هكذا ، انا اعترف بأنني قد اخطئت واذنبت مرات عديدة بحقك ، انا لست انسان كامل الاوصاف ولست ملاك طاهر بل رجل مليء بالعيوب والسلبيات والكثير من العقد ! استطيع احيانا ان اكون معطاء مثلكِ ولكني مع ذلك افضل الاخذ والسلب اكثر من العطاء ! هذا ليس شيء افتخر به وارغب فيه ولكن طبيعة تربيتي علمتني ذلك وغرسته بداخلي ، وانا اريد منكِ ان ترشديني وتعلميني ، اريدكِ ان تكوني معلمتي بكل اساليب الحياة وتعطيني النصح والرشد ، احتاج إليكِ لتكوني دوائي وعلاجي من كل هذه النواقص التي اعاني منها ، نحن الاثنين بحاجة لبعضنا البعض ، فكما انا بحاجة للعلاج والمرهم منكِ انتِ بحاجة للحياة بسكينة والحصول على الحب والرفاهية التي حرمتي منها بطفولتك ، يعني نحن نكمل بعضنا البعض يا روميساء ، لا تكوني السبب بافتراقنا هكذا !"
ضيقت حدقتيها الخضراوين بقسوة وهي تحصر الدموع والمشاعر بهما لتهمس بعدها بقوة وهي تعلن التمرد على قلبها المحاصر بنيران الحب
"انا اعتذر يا احمد ، ولكني قد توقفت عن هذه العادة منذ زمن ، لقد توقفت عن مهمة تكريس حياتي للآخرين والتفكير براحتهم على حساب سعادتي الخاصة ، فقد عانيت بسبب هذا الامر كثيرا بالماضي ولن اعيدها الآن ، لذا يمكنك معالجة نفسك بنفسك بإرادتك وبدون الاعتماد عليّ ، فقد سحبت نفسي منك ومن حياتك بأكملها ، ومن الآن وصاعدا سأعيش من اجلي فقط وليس لأحد آخر وسأكون القوة بنفسي وليس من قوة احد آخر ، هذا ما سيكون عليه الوضع"
قطب جبينه بجمود عصف على ملامحه وهو يمسك بذراعيها بقوة يثبتها امامه تماما ، ليصرخ بعدها بوجهها بهياج غاضب ثارت البراكين بداخله
"لا تحلمي ان يتم الامر بالطريقة التي تعجبك ! ليس لكِ الحق باتخاذ كل شيء يخصنا وان تقرري مصيرنا على هواك ، دائما انتِ كريمة ومعطاءة بمشاعرك مع الجميع وتسامحين بسهولة لكن عندما تصلين لزوجك تصبحين قاسية وانانية والمسامحة صعبة الحصول ! لماذا عندي انا فقط ؟ لماذا لا تكونين عادلة معي ؟ ألا استحق الإنصاف منكِ !"
تلوت بين ذراعيه بعنف وهي تقول بخفوت شرس
"اتركني يا احمد ، ليس لدي شيء اخبرك به اكثر ، وقد اكتفيت من الكلام معك ، والآن اتركني ارحل بسلام ولا تصعب عليّ مهمة مسامحتك !"
حرك رأسه بقوة وقد تلاعبت افكار الشيطان بعقله واصبح التمرد يتوهج بعينيه من بين سحب دخانية قاسية ، ليقول بعدها بشبح ابتسامة بجمود
"لن ادعكِ ترحلين ، لن يحدث بهذه السهولة ، فأنتِ ما تزالين زوجتي المطيعة وستخضعين لرغباتي"
اتسعت مقلتيها بوجل من نبرة صوته الخطيرة التي تسمعها منه لأول مرة ، ليستغل سكونها اللحظي وهو يحمل جسدها عاليا بين ذراعيه بثواني ، وما ان افاقت على نفسها وهو يتحرك بها حتى صرخت من فورها بجموح وقبضتيها تضربان على كتفيه بعشوائية
"ماذا تفعل ؟ هيا انزلني ، انزلني حالاً......"
شهقت بفزع ما ان شعرت بنفسها تطير بالهواء قبل ان تهبط فوق اقمشة الفراش الناعم الذي تكفل بتخفيف قوة السقوط والتربيت عليها حتى رفع اطراف قميصها لأعلى خصرها ، وما ان تنهدت براحة مؤقتة حتى حاصرتها انفاسه وهي تلفح وجهها بقرب شديد لا يفصل سوى سنتمترات ، لتسمع بعدها صوته العميق وهو يهمس بمشاعر الوله والعشق
"انا احبكِ يا روميساء ، لذا سامحيني !"
لم تستطع النطق بكلمة واحدة فقد كان ينقض على شفتيها بقبلات جائعة بقسوة وبعواطف هادرة تستطيع الشعور بالتملك بحرارة مشاعره المندفعة لها بكل جزء منه ، وحتى عندما حاولت رفع قبضتيها برفض صامت كان يكبلهما بيد واحدة ويرفعهما لفوق رأسها على ملاءة السرير ، وما ان حرر اسر شفتيها قليلا يسمح لها باستيعاب موجة مشاعره المجنونة واعادة ضبط تنفسها ، حتى همس بصوته العاشق حد النخاع واصابعه تحفظ طريقها بإكمال اجتياحه بفك ازرار قميصها
"اشتقت لكِ يا فاكهتي الحلوة ، والتي مهما بلغت مدى مرارتها ستبقى حلوة بكل نكهاتها ، وحتى لو اضرمتِ نيرانا من حولك سوف اخترقها واحرق نفسي بها بسبيل الوصول لقلبك !"
كانت هذه الكلمات الاخيرة التي ينطق بها وتسمعها منه قبل ان يكمل اغتيال عواطفها معري كل اسلحتها وإرادتها والتي بدأت تخبو وتضعف لتخلي له طريق الوصول إليها بتلاقي كليهما عند نفس الهدف وهو الاحتياج .
___________________________
كانت تسير بخطوات تفقد اتزانها لأول مرة بظلام المكان الموحش وكأنها قد دخلت لبؤرة سوداء حالكة تسكن بها ذكرياتها ومخاوفها واحزانها...وقدميها تقودانها بطريق محفوظ بدون مرشد او مسلك فقط عقلها المغيم هو الذي يتحكم بمصير الطريق....وكأنها قد اصابت بعمى سواد الظلام الذي غطى بصيرتها وكل الاعتماد على ذاكرتها بحفظ الطرق والبصمات بقلبها النابض بحياة وعقلها المستذكر الماضي .
كانت تقف امام الغرفة الصغيرة التي وصلت لها بمنزلها القديم الذي عششت به كل عتمة سواد حياتها بكل جدار عتيق وركن ضيق ، لتدلف بعدها للغرفة التي تضم فراشين مهترئا الاقمشة ما يزالان على حالهما بصمود شامخ ، وخزانة عتيقة بخشب متآكل عند الزاوية ونافذة صغيرة تملئها الاتربة والغبار .
وصلت برحلة استكشافها لمنزلها القديم والذي بدأت تتعرف عليه لأول مرة ، لتتسمر بعدها امام النافذة وهي تشرد بالعالم الخارجي السابح بالظلام والسكون وهو موعد سبات الظالمين بحياتها ورقودهم بنوم عميق وسكينة وطمأنينة ، بينما المظلومين امثالها يعيشون كل المعاناة بنومهم وصحوتهم بدون وجود اي سكينة او طمأنينة تريح قلوبهم التي ذاقت من الويل والهوان الكثير .
تنفست بتهدج تشعر بانطباق شديد بصدرها من تكتلات الذكريات على قلبها السابح بدوامة الحياة ، لتستدير بعدها تعطي ظهرها للنافذة قبل ان تنزلق تدريجيا على الجدار وهي تستقر جالسة على ارض الغرفة بهدوء بعثرت بعض ذرات الغبار المنتشرة بالمكان ، لتضم بعدها ساقيها بتكور بعادتها القديمة التي لا تفارقها عندما تحاصرها الظلمة والوحدة وتبقى الوحشة انيس عالمها وكل البرودة تجتمع بقلبها الجليدي حتى اصبحت لديها مناعة قوية ضد كل انواع البرد مهما كانت درجة برودته .
اغمضت عينيها بشدة تكاد تمزق جفنيها من الضغط عليهما وهي تحاول محو الصور والذكريات عن ذهنها وهي تسقط بنفس الهوة السوداء ، ليخترق سمعها صوت انين طفولي يمزق نياط القلب محصور بزاوية معتمة ومغلق عليها من كل الجهات
(انا خائفة ، لا اريد البقاء بالوحدة ، لا اريد البقاء بالظلمة ، اخرجوني من هنا ، اكاد اموت من الوحدة ! اكاد اموت من الخوف !)
شهقت بخوف دفعتها لفتح ستار عينيها على كامل استدارتهما باهتزاز انتشر بكامل جسدها وبرق بعينيها الجاحظتين بوجع ، لتخفف بعدها من مشاعرها التي اكتسحتها بدون سابق إنذار على وطأ اجواء المنزل والذي يبعث لها بكل انواع الألم والخوف حتى اصبح مثل الوباء يشل اجهزتها الحسية ويغرق قلبها بسموم المآسي والآلام .
ادارت وجهها جانبا وهي تستغرق بالنظر بعيدا حتى وقعت عينيها على طرف بالخزانة متآكل بوضوح وبلون مختلف عن باقي الاجزاء ، لتتحرك بعدها ببطء تدريجي وهي تزحف على ركبتيها نحو الجزء الذي جذب نظرها واهتمامها ، وما ان استوت جالسة امامه حتى مدت يدها وهي تدخلها بالفتحة المأكولة بجرأة علها تجد ما يثير الاهتمام ، ولكن بلحظة كانت الفتحة تكبر وتشكل فجوة بشكل سداسي ما ان اخرجت يدها قطعة خشب كبيرة من الخزانة والتي تبدو مثل الدرج السري .
تغضن جبينها بحيرة اكبر وهي ترمي قطعة الخشب بعيدا ، لتعود بعدها لإدخال يدها بالفجوة وهي تمسك دفتر متوسط الحجم ملقى بالداخل ، وما ان اخرجته امام نظراتها التي ازدادت غرابة حتى مسحت غلافه من التراب بيدها الاخرى وهي تحاول التعرف على هوية صاحبه وعمله ، لتتسع بعدها حدقتيها بصدمة اكبر وهي تلمح اسم صغير مكتوب على زاوية الغلاف تعرفت عليه فورا
(مايرين الفكهاني)
ابتلعت ريقها برهبة وهي لا تذكر بوجود شيء مثل دفتر او مذكرات تخص والدتها ، لتعود بعدها للزحف للخلف عدة سنتمترات حتى استندت على الجدار وهي تطالع الدفتر بشرود غائم ، اخذت لحظات وهي تأخذ انفاسها بالتدريج وكأنها تجهز نفسها للدخول بهذا الباب والذي اكتشفته حديثا والذي يخبئ جزء كبير من حياة والدتها الغامضة .
فتحت اول ورقة بالدفتر والتي كتب عليها المعلومات الشخصية لحامل الدفتر ومنها الاسم والعمر والوظيفة والهواية ، عقدت حاجبيها بتركيز ما ان علقت عند الهواية والتي كتب عندها الرسم ، فهي لم تكن تعلم بأن والدتها تجيد الرسم وتمارسه مثل (روميساء) والتي يبدو بأنها قد نقلتها بالوراثة .
انتقلت للصفحة التالية والتي بدأت بشرح تفاصيل حياتها الاولى قبل الزواج
(انا مايرين الابنة الصغرى لعائلة الفكهاني ، الدلال والترفيه من اهم اساسيات حياتي ، ولكن التمرد والعصيان من اهم مميزاتي والتي اكتسبتها مع مرور الوقت والاحداث ، لقد كنت النقيض عن باقي افراد عائلتي وبالمعنى الحرفي كنت المادة السيئة عديمة التهذيب وبؤرة المشاكل حتى اصبح اسمي الشائع قطة العائلة الشرسة ، اكثر الاشياء التي كرهتها بحياتي العائلية هي الالتزام بالمبادئ والقوانين واتخاذ الاعراف والتقاليد طريق للوصول للسعادة الابدية وتحقيق الاستقرار بالحياة)
غامت ملامحها بصمت وهي تتخطى الصفحات الاولى حتى توقفت بمنتصف الاوراق ، لتعود بعدها للقراءة من جديد بعد ان تغير مجرى الاحداث
(اليوم مختلف عن كل الايام فقد وقعت بالحب ، ذلك الشعور الجميل الذي يتغلغل بالروح وينشط نبضات القلب بحيوية مفعمة بالطاقة ! هذا ما كنت اشعر به كلما مررت بجانبه او دخلت معه بحديث او تلاقت العيون مصادفة بين بعضها ليصمت الكلام وتتحدث القلوب ، لقد عرفت عندها بأنه سيكون رجل حياتي الابدي والشريك المقدر لي والذي ارتسم بمخيلتي واحلامي ، وحتى لو اخذ مني الامر ان اضحي بالكثير واخسر كل ما املك فسوف افعل كل ما يطلب مني بدون ادنى تردد او تفكير ، وهل هناك تفكير عندما يستحوذ سلطان الحب على الانسان ؟ وخاصة على شابة فاتنة مثلي اكثر ما تجيده هو كسر القواعد وفعل كل ما هو معاكس بطبيعتي !)
ارتفع حاجبيها بتركيز وإمعان وهي تقلب صفحات اخرى تخطت ثلاث اوراق ، قبل ان تعود لملاحقة الكلمات وهي تقرأ من جديد بانجذاب ونهم اصبح يقيدها بإثارة
(هذه كانت نهايتي المدروسة والتي تجهزت لي ! الجميع حكم عليّ بالموت بإبعادهم عن حب حياتي وتقييدي بقواعدهم واعرافهم البالية ، وكلما اعلنت تمردي اكثر زادت القيود والاصفاد من حولي حتى لم يعد هناك من يقف بصفي وينجدني بحالتي التي اصبحت صعبة حتى على الحيوانات عندما تنفر منك كل المخلوقات وتعزلك بقفص منيع ، ولكن هذا لا يضاهي تصرف افراد عائلتك الذين تربيت معهم سنوات تحت سقف منزل واحد ! عندما يسقط الانسان للحضيض واسوء وتتخلى عنك الايدي حتى عائلتك لا تعترف بك ، هذا هو حال مراتب العائلات التي تأخذ المراكز المهمة بالعالم وتملك العلو والثروة وكل منهم فقط يؤكل ويفترس بأخيه من اجل الحصول على الثروة والمجد والقوة حتى تتناسى اهمية الروابط والعلاقات بداخل العائلة وتتمزق مئة قطعة !)
تنفست ببعض الضيق بصدرها وهي تعاود تقليب الصفحات بخوف بادئ على ملامحها مما هو قادم ، لتتوقف بعدها بصفحتين بهدوء وعيناها تطاردان الكلمات بقراءة ذهنية تستطيع الوصول لأعماقها
(اليوم هو الاسوء بحياتي ! فقد اصدر والدي قراره القاسي بحقي وساقني لحبل المشنقة ، لقد حبسني بغرفة مع مجموعة اطباء مختصين بالأمراض العقلية وكأنني حالة نفسية صعبة واحتاج ليعاد تأهيلي واصطلاحي ، اجل لقد اصبح ابي يعاملني على اساس اني مجنونة واحتاج إلى اطباء يهتمون بحالتي ! لدرجة بأنه قد عزلني بغرفة بالمنزل الكبير بعيد عن كل انواع الحياة والبشر وكأنني وباء لا يسمح لأحد بالاقتراب منه او ملامسته ، وبطبيعة الحال لا احد يتجرأ على عصيان او مقاومة اوامر كبير العائلة والذي كان من الجبروت والعظمة حتى تخاف منه اقوى المخلوقات !)
قلبت الصفحة التالية بأصابع مرتجفة وهي تتابع القراءة من اول السطر بتركيز بدون توقف وكأنها تعايش تلك الحياة بكل تفاصيلها ومشاعرها
(لقد ظننت بأنها النهاية الوشيكة لي ، ولكن قدري ابى ان يتركني اعاني بتلك الحياة ، فقد وجدت طريقة للهروب والتسلل خارج المنزل بمعاونة ممرضة كانت تحمل طيبة قلب غير موجودة بأفراد عائلتي المقربين مني بالدماء وبنفس الروح ، وعندما تحررت وكسرت قيودي وجدت ملاذي واماني واستقبلني شعاع الشمس من جديد واستطعت العودة للحياة بقلب جديد وحياة طويلة مستقلة ، واهم ما في الامر بأنني اجتمعت اخيرا مع حب حياتي واعلنت عن ولادة انتصار شخصي لأعيش الحياة التي تمنيتها واردتها منذ زمن ، بدون اي قوانين او شروط تحدني وبدون اي اوامر او عواقب تردعني !)
زفرت انفاسها بنشيج وهي تمسح وجنتها الباردة التي سالت عليها دمعة لم تشعر بسقوطها بخضم مشاعرها المتداخلة وحواسها التي لم تكن بكل هذه الحساسية ، لتتمالك بعدها نفسها بصعوبة وهي تأسر انفاسها واحزانها بصلابة تحسد عليها ، لتتابع بعدها تقليب الصفحات وهي تتوقف على صفحة بعد مرور احداث الزواج ودخولها بحدث زمني يشمل ولادتها
(ما اجمل هذا اليوم والنهار ! بالرغم من كل الظروف والصعاب التي اتحداها يوميا لقد رزقت مجددا بطفلة ثانية من ثمرة حبي ، وهكذا اصبحت عائلتي كاملة بطفلتين جميلتين انشطرت قطعتين من عائلتنا ، ولكن هل استطيع تأمين كل الحماية لهما بهذا العالم القاسي الذي لا يرحم مخلوق ؟ ربما لن استطيع ! وربما اخسر من جديد ! واعلن انهزامي واستسلامي ببؤرة الحزن التي ترافقني دائما ! ولكن بما ان زوجي وجبلي الشامخ يقف بجواري فلن اتراخى او استسلم ولن ازعج نفسي بالتفكير بالمستقبل البعيد ، فأنا سأبقى شامخة صامدة لكي استطيع تأسيس حياة مثالية لنا ولأطفالي ولكي انتصر على كل الصعاب ، واتمنى ألا يختبرني القدر بعائلتي ويدخلني بمحن جديدة انا ليس لي مقدرة على هزيمتها ، فلم يعد لدي القدرة الكافية والعزيمة على المجابهة !)
تسارعت انفاسها بنشيج خانق واصابعها تتجمد على الصفحة والتي تحمل مشاعر لم تتوقعها اغرقت مجاديفها ، لترفع يدها بسرعة وهي تمسك انفها بأطراف اصابعها بقوة تحبس انهارا فاضت بمنابعها وهي ترتجف بلسعة سريعة مرت على طول ظهرها وكأنها تشعر لأول مرة بالبرد والخوف الحقيقي يتربص بها ، لتخفض بعدها يدها وهي تركز ذهنها بالدفتر الموجود بين يديها حاكى كل الآلام بحياة والدتها المخبئة تحت الستار .
قلبت عدة صفحات وهي تنتقل للحدث الذي تدمر به سلام حياتهم واختل بتوازن العائلة الصغيرة عند وفاة رجل المنزل ، عادت للقراءة من جديد بعينين مغرورقين بالدموع تدفقت بهما بحرارة المشاعر التي تسربت بذكريات هذه الصفحة
(هنا كانت نهاية حياتي المسالمة ، لقد توفي الحب الاسطوري ومعه السلام والامان وصمود عائلتي وكأن الجدران قد سقطت لتبقى هي واطفالها بالعراء ، اجل هذا ما حدث بالفعل بعد اعلان خبر وفاة زوجي ووالد اطفالي والسبب الوحيد بثباتي لهذه اللحظة ، لقد دخلت بدائرة بؤس وحزن وكأني جسد بلا روح تعمل بلا هدف او طموح ، وماذا كان بإمكاني ان افعل غير العمل بجهد اكبر عن السابق وبتوفير الرزق والمنزل الذي يحتوينا جميعا ؟ بالرغم من انني بأحيان كثيرة كنت اغضب من زوجي واتمنى له الموت والعذاب ولكني سرعان ما اعود للبكاء واسحب كل ذلك الكلام بالدعاء له بالصحة والقوة ، وبعد تلك الحادثة فقد اصبحت نوبات الغضب تنتابني بالتفاوت بين الحين والآخر وتزيد تفاقم حالتي ، إذا كان بسبب ضغط العمل المتراكم عليّ ام بسبب ذكرى حزينة عن حياتي وما آلت لها ! حتى اصبحت حياتي بالنسبة لي الجحيم الذي انتظر ان يحرقني حية ويأخذني للموت ارحم لي من كل ما اعايشه !)
ابتلعت غصتها بمرارة بدون بكاء فقط حرقة تلسع قلبها بشهب نارية ما تزال تتهافت عليها ، لتقلب صفحات اكثر وهي تقف بلحظة عند الحدث السوداوي والذي حصر الدموع الندية بزاوية بقلبها المظلم عندما اقتحم زوج والدتها سرب ذكرياتها
(واخيرا حان الوقت لتعود البهجة والسعادة لتدق بابنا بعد شهور خلت فقدت بها معنى الحياة ! لقد وجدت الرجل الذي يمكنه ان يحل مكان زوجي الراحل ويكون العوض لنا واللطف بحالنا ، اعرف ذلك لأنني اشعر به بقرارة نفسي واستطيع ان اضمن السعادة والراحة بحياتنا المقدمين عليها ، وهكذا استطيع تقسيم الحِمل بيننا ورفع المسؤولية التي اتعبتني كل هذه الشهور ، والاهم بأن اطفالي لن يكونوا بدون اب بعد الآن وسيجدون من يستندون عليه ويستمدون منه القوة والعون لينجدنا من الغرق بمستنقع الحياة ، وهذه ستكون بداية جديدة اخرى بحياتي اعيشها مع ملجئ وسكن آمن لتستطيع عائلتي الصغيرة الاستقرار بحياتها بدون اي مطبات او صعاب)
تحجرت ملامحها بشحوب صقلت مشاعرها وهي تقلب بالصفحات بسرعة كبيرة تختصر عليها كل تلك الذكريات والفصول التي تخص ذلك الرجل كان له الفضل الاكبر بتدمير حياتها ، ليقع بعدها الدفتر منها من انفعال وشدة اصابعها حتى استقر على الارض وهو يكمل تقلب الصفحات وحده ليصل للورقة الاخيرة بالختام .
ضمت اصابع قبضتيها بتصلب وهي تريح مرفقيها على ركبتيها ويديها على جبينها بارتخاء شل حركة عضلاتها لثواني ، لتهمس بعدها بأنين معاتب وبصوت منكسر وكأنها تهذي ببعد آخر
"انتِ مذنبة يا امي ، لقد اذنبتِ بحقي منذ ولادتي ، اذنبتِ بحب رجل محرم عليكِ ، اذنبتِ بجعلي اعاني كل هذه المرارة والمعاناة ، اذنبتِ بجعلي نسخة اخرى عنكِ ، اذنبتِ بتكرار خطأك واعادة تجربة الزواج مع رجل آخر ادخلته بحياتي بدون استئذان ، لماذا عليّ ان اتلقى عواقب افعالك ؟ لماذا عليّ ان اكون نتيجة تجاربك ؟ جميعكم مذنبون ومجرمون ! جميعكم اذنبتم بحقي ، لهذا انا اكرهكم ، انا اكرهكم جميعا ، اكرهكم واكره نفسي التي ولدت بينكم"
كانت تحاول تلقف انفاسها بشح الهواء من حولها وضيق بضربات قلبها الذي يقصف بصدرها بدون توقف ، لتخفض بعدها يديها وهي ترفع وجهها لتستمد الهواء اللازم للحياة وهي تريح مؤخرة رأسها على الجدار البارد .
اخفضت رأسها ببطء وهي تحدق بالدفتر المتوقف عند الصفحة الاخيرة وهناك شيء صغير مغروس بين الورقة والغلاف ، لتمد بعدها يدها بإجهاد وهي تمسك بالدفتر بحذر لتقربه منها بهدوء ، وضعته امامها بصمت وهي تنتشل الصورة العالقة والتي تجمع افراد العائلة بصورة فتوغرافية صغيرة ، وبالرغم من ان زواياها ممزقة ومهترئة ولونها يميل للاصفرار ولكنها تحمل حنين تلاعب بقلبها بشوق غادر .
حفرت بسمة طفيفة على محياها وهي تتأمل الصورة التي تجمع والديها اللذان ربطت بينهما قصة حب اغرب من الخيال عارض عليها القريب والبعيد حتى اصبحت من المستحيلات تحقيقها....وهناك تظهر شقيقتها (روميساء) بجانب والدها يضع يده على كتفها وكأنه يقول لها بأن تميل عليه بكل قوة ولا تخاف من شيء...وهذا واضح من وجهها الباسم بسعادة بإشراق توهج بعينيها الخضراوين بغابتين من المشاعر الفياضة...وكم كانت شبيهة بوالدها بتلك اللحظة وهما يملكان نفس تلك الهالة العفوية والدافئة وكأنها استنساخ صغير عنه....لتصل بالنهاية للطفلة الاخرى التي كانت محمولة فوق ذراعيّ والدتها وهي تضحك بملء ثغرها الزهري الصغير بدون اي سبب معلوم...وربما يعود السبب لذلك الامان والحب الذين شعرت بهما تلك الطفلة بين محور عائلتها والتي احتوتها بالكامل واستطاعت ان تقطف لحظاتها السعيدة من بين صعوبات ومشاكل الحياة .
نقلت عينيها للدفتر المفتوح بحجرها على الورقة التي كانت تخفي الصورة ، لترفعه بعدها بصمت وهي تتابع المكتوب على الورقة باهتمام شديد اثار بها مشاعر دفينة اختلطت بداخل وعاء ذكرياتها
(ابنتاي الصغيرتان ، وثمار حب حياتي ، انا اعتذر بشدة على كل لحظة تقصير ونقص شعرتما بها بسببي ، اعتذر على كل معاناة اضطررتما للمرور بها بسببي ، واعتذر على قسوتي وتفريغ غضبي بكما بأوقات يأسي وحزني ، ولكنها امور خارجة عن إرادتي فأنا كنت اتحمل تراكمات وضغوط صعبت عليّ الحياة ولم يكن هناك غيركما استخدمه ببث غضبي واحزاني . اعلم بأني قد ظلمت حياتكما فقط بإنجابي لكما بهذا العالم المؤلم والسوداوي ، ولكني سعيدة بأنني استطعت ان اقدم افضل ما عندي لتأمين حياة سوية لكما لا تحتاجان بها لمد يد المساعدة لمخلوق وبالحفاظ على رأسكما مرفوعة الهامة دائما بكرامة وشموخ ، فهذه اكثر المبادئ التي تربيت عليها وحاولت غرسها بكما . اعذراني على تقصيري الامومي والتربوي بحقكما بسبب انشغالي الكثير عنكما ، واعذراني بعدم اهتمامي وانغماسي كما يجب بحياتكما الشخصية والاجتماعية ، ومع ذلك اعلم بأنكما اكثر من قادرتين على إدارة حياتكما بأنفسكما والمحاربة والقتال بحياتكما بدون مرشد او خبير يوجه طريقكما . اولاً سوف اتكلم عن ابنتي الكبرى روميساء هي القلب الحنون والعطوف والصارمة عند اللزوم ، تعرف جيدا ما عليها ويفيد مصلحتها وكيف تتصرف بالمواقف ، عندما انظر إليك ارى والدك يسكن بشخصيتك اشعر بالشجاعة والقوة فقط بالنظر إليكِ ، واعلم بأنكِ ستفتحين آفاق وطرق بحياتك وبحياة الغير لن يردعك شيء عن الوصول لهدفك مهما كلفك الثمن ، فأنتِ هي قلب والدك وقوة والدتك ، واتمنى ألا يستغل احد تلك القوة التي تحملينها بداخلك . والخطاب الثاني من اجل ابنتي الصغرى ماسة هي العفريت المشاكس الذي لا يعرف الهدوء وكثير الحركة والمرح ، تستطيع ان تجذب الانظار وتسحرها اينما ذهبت وحلت ، تستطيع الدفاع بشراسة عند ملامسة ممتلكاتها وتخدعك بلطافتها عندما تجد من يثيرها ويحبها ، بالرغم من ان شخصيتها عنيفة لا تعرف اللطف او المراعاة ولكنها تحب بقوة عندما يبدي احدهم لها الحب . اعرف ذلك جيدا لأنكِ اخذتي نفس شخصيتي باختلاف بسيط ، عندما انظر إليكِ اشعر بالألم الغريزي وبأنك ستعانين نفس معاناتي وتمرين بمواقف قد تسقطين بها بهوة اليأس والحزن ، ولكني مع ذلك متأكدة بأنكِ ستكونين اقوى مني بأضعاف واذكى من ان تخدعي بسهولة ، فأنتِ لم تأخذي جزء من شخصيتي وحسب بل اخذتي قوة وجبروت عائلة الفكهاني ببعض السمات الداخلية ، ولكن هذا لا يخفي بأنكِ تملكين من حنان والدك ذاك الذي ينبع منكِ بلحظات الحزن والعطف على احبائك ، انا اعلم كل هذا عنكما لأنكما ابنتاي اللتين خرجتما من روحي قبل جسدي .
وهذا اهداء خاص لكما ، احبكما دائما ، من والدتكما مايرين الفكهاني)
عضت على طرف شفتيها المرتجفتين تغصب شهقات قلبها بالصمت حتى هزت كامل جسدها بحزن اسير ، لتعيد بعدها الصورة لمكانها وهي تغلق الدفتر عليها بهدوء وكأنها تقفل على باب الذكريات ، وما هي ألا لحظات حتى احتضنت الدفتر بداخل صدرها بلا وعي وهي تجهش ببكاء عالي شبيه ببكاء الاطفال وكأنها عادت سنوات للوراء لتخلق تلك الطفلة البكاءة التي كانت تستخدم البكاء سلاح لتتقرب من الكبار وتحصل على عطفهم واهتمامهم ، وبعد التفكير بجوانب حياتها مع والدتها فهي ما تزال تذكر الشيء الوحيد الذي شعرت به بأمومة المرأة التي انجبتها عندما تدخل على غرفتها ليلاً فقط لكي تتأكد من كامل تغطية جسدها باللحاف بسبب حركتها الكثيرة اثناء نومها ، ولكن ما لا تعلمه بأنها كانت تتعمد ألقاء اللحاف بعيدا عنها لكي تعود والدتها وتهتم بتغطيتها مجددا حتى اصبحت تناوب كل يوم على فعلها ، وهذه هي المشاعر الوحيدة التي كانت تكنها لتلك المرأة التي اخذت مكان والدتها وعرفتها منها واحبتها بقلبها الاسود !
_______________________________
تغضن جبينه بضيق غزى محياه وهو يستطيع سماع اصوات همسات ناعمة اشبه بأنين حزين ليتحول بلحظة لصراخ ضرب عقله بقوة بأسلاك حامية....ليفيق بعدها من نومه دفعة واحدة شغلت اجهزته الحسية بلحظة وهو يتنفس بتهدج خفيض ضرب اذنيه بطنين عالي التيار...ادار عينيه من حوله بتخبط شل حركة عقله قبل ان يلتقطها جالسة امامه بسكون وشعرها الاسود الطويل الناعم مسترسل على كامل ظهرها يثير به كل انواع الهوس والجنون بمدى نعومته وكم يستطيع الغوص بستاره بطول الليل الحالك .
استقام قليلا على مرفقيه حتى استند على ظهر السرير وهو ما يزال يجول بنظره على ظهرها المغطى بستارة شعرها ، ليقول بعدها بتثاقل شديد وهو يرسم ابتسامة متزنة على حافة شفتيه
"صباح الخير ، اراكِ قد استيقظتِ قبلي !"
ساد الصمت بينهما بسحابات مشحونة بمشاعر باردة وبفتور واضح ، لتعلو علامات التجهم محياه وهو يمد يده لكتفها قائلا بوجوم
"روميساء هل تسمعيني ؟ روميساء......."
تشجنت كل اجزاء جسدها بموجة نفور واضحة وهي تنفض كتفها بعيدا عنه بدون ان تلامسه بحركة مقصودة ، ليقبض بعدها على يده بجمود وهو يخفضها بدون اي تعابير او شعور جمدت العلاقة الحميمية بينهما وحجمت المشاعر ، ليتنفس بعدها بهدوء وهو يحاول ضبط زمام الامور قائلا بجدية
"اعذريني على اسلوبي القاسي معكِ بفرض مشاعري وعواطفي عليكِ ، ولكنكِ السبب بكل ما آلت له علاقتنا ! لو انكِ لم تعاندي ولم تهدديني بالرحيل لما حدث شيء من هذا......"
ابتلع باقي كلماته بتحجر لا إرادي ما ان وقع اسير عينيها الجميلتين واللتين لأول مرة يلمح الحزن والعتاب يتوهج بخضارهما الباهت مثل غصون متكسرة ذبلت جذورها ، ليهبط بعدها عند شفتيها المنفرجتين بارتخاء وهي تهمس من بينهما بخفوت متخاذل وكأنها تخرج من شظايا قلبها
"وماذا بعد ذلك ؟ هل سترغمني دائما على تقبل علاقتك بكل مرة اتمرد بها واكسر حدودك ؟ هل ستعاملني على هذا الاساس وكأنني مجرد اداة بتفريغ الغضب ؟"
تجمدت ملامحه بغيوم ضبابية اسرت عالمهما وهو يتقدم بجلوسه ببطء ويحني ركبتيه تحته بدون ان يقطع تواصل العيون المؤلم بينهما ، ليأخذ بعدها عدة انفاس نفخت صدره بتحشرج داخلي قبل ان يقول برفق خفيض يحاول إيصال مشاعره لها
"بالطبع الامر ليس هكذا ! انتِ اغلى من اي شيء بحياتي ، ألا تفهمين مدى اهميتك بحياتي يا روميساء ! انتِ لست فقط الشخص الذي علمني الحب والعطاء بإخلاص وتفاني وكل انواع المشاعر الانسانية التي كانت تنقصني طول تلك السنين ، لقد اصبحت اهميتكِ تعلو الجميع وكل من مر وتعايش بحياتي ، حتى اكثر من مرتبة والدتي التي ظننت بأنني لن اجد من يحبني ويعطف عليّ بالعالم اكثر منها ! ولكنك قد تجاوزتها واستحوذتِ على قلبي وكياني بدون مجهود يذكر ، فهي بالنهاية كان الجميع بقلبها ولم اكن المفضل والأول عندها ، بينما انتِ مختلفة فقد اريتني بأنه لا احد بقلبك غيري واغرقتني بحبك الذي كان نهر متدفق جعلني مهووس هواكِ ! وقد عرفت كل هذا بالفترة الاخيرة واكتشفت كل ذلك عندما اوشكت على خسارتك ، هل هذا كافي لكي تسامحيني على اخطائي ؟"
كانت (روميساء) تحدق به بتلك العينين الكبيرتين اللتين تجردتا من العطف والرحمة والذي كانت تغدقه به سابقا ولكل احبائها ، لتهمس بعدها بكلمة واحدة بنفي قاطع لا يعرف الشفقة
"لا"
اتسعت حدقتيه باستيعاب مصدوم وكأنها تلكمه بتلك الكلمة بأشد قوتها بدون ان يرف لها جفن ، لتتابع بعدها كلامها بدون ان تعطيه الفرصة للملمت شتات نفسه وهي تقول بابتسامة متزنة بجمود
"يبدو بأنك انت الذي لا تفهم الامر يا احمد ! لقد انتهى كل شيء ، وانت الذي انهيت الامر من عندك ، وانا سأكون عند كلامي ولن اتراجع فقط لأنك ادركت قيمتي بعد ان هدرتها امام الجميع وامام نفسك !"
تغضنت زوايا عينيه بجمود بهتت العواصف بهما حتى بانت التجاعيد من حولهما ، ليحاول بعدها جمع كلماته من جديد لولا التي اشاحت بوجهها بعيدا وهي تسحب نفسها خارج السرير بهدوء ، كان يراقبها بصمت وهي تجمع ثيابها المتناثرة بالمكان وتلف نفسها بغطاء السرير بتشبث وهي تتحرك مثل الدمية المكسورة التي اجاد طعنها اكثر من مرة حتى جردها من روحها العطرة ومن طيبة قلبها المحب .
وما ان لمحها تجر خطاها هذه المرة بطريق الحمام المرفق حتى نهض بسرعة عن السرير بطاقة دبت به بحيوية فجائية ، ليسير بخطوات متسارعة نحوها مثل انقضاض الفهد حتى اوقف طريقها بآخر لحظة ، تلجلجت بمكانها بوجل من اندفاعه الخاطف وهي تتشبث بطرف الغطاء على صدرها وتحتضن ملابسها بين ذراعيها ، وما ان اوشك على الاقتراب منها حتى صرخت بفورة غضب جائحة وهي تتخذ وضعية الاستعداد
"إياك وان تقترب اكثر ، اقسم إذا اقتربت مني مجددا ان اتقيأ عليك ! ولن اتردد عن فعلها إذا فكرت بالاقتراب اكثر ، وهذا تحذيري الاخير لك !"
تسمر بمكانه بصدمة فاقت كل حدود المعقول فجرت براكين عقله وليس بسبب معنى كلامها وما توحي إليه وحسب بل بسبب وضعيتها الحمائية وكأنها تخاف على نفسها منه ، كيف حدث هذا ؟ هل هي حقا تخاف على نفسها منه ؟ ألم تكن بالسابق تخاف عليه من نفسها ؟ لا ليس صحيحاً ! فقد كانت هكذا دائما تخاف على الجميع وتجعلهم يحتمون بها مثل الجدار الشامخ ، ألا هو فقد كانت تدفعه للأمام وتجيد إيلامه بكل مرة اكثر واكثر ! والآن فقد زادت مرتبته سوءً عندما اصبحت تخاف على نفسها منه ! ماذا يريد اكثر من هذا بعد ان اسودت صورته بعينيها بالكامل ولم يبقى مجال لتحسينها ؟
اخفض عينيه بهدوء معذب بعد ان اكتفى من مواجهة قسوتها الحسية والكلامية والتي اودته قتيلا ، لتستغل بعدها جموده وهي تتحرك من امامه لتتجاوزه بلمح البصر شعر بهواء الغطاء الذي يلتف من حولها مثل غمامة نشرت عطرها الفواح الخاص بها ، ليغمض عينيه بشدة ما ان سمع صوت صفق الباب من خلفها لتنهي كل تلك الحروب بعواطف دمرت تواصل القلوب واراقت مكنوناتها .
تنفس بقوة وهو يمسح بيده على صدره العاري بحرارة المرجل وكأن سيخ حامي غرسته بقلبه وهربت ، ليبرد بعدها بلحظات وهو يجثم عليه بكرات ثلجية اذابت المشاعر واطفئت الحرائق التي شبت بقلبه ، استدار بعدها وهو يعود للسرير ليلتقط ملابسه المبعثرة وهو يرتديها بحركات آلية مجردة من الشعور والمنطق ، وبلحظات كان يخرج من الغرفة بأكملها وهو يصفق الباب بقوة هزت اركان المكان بعد ان تركوه مقلوب رأسا على عقب بمشاعر ضارية خلفوها من حولهما ، بينما كانت التي تسترق السمع على باب الحمام تنشج ببكاء صامت وهي تعانق نفسها وتداري جروح قلبها بعد ان قست عليها الحياة وبالمقابل قست على نفسها وعلى كل من حولها وخسرت شخصيتها خلف نيران الهوى .
_______________________________
تقلبت بالفراش الناعم وهي تشعر بدفء غريب غير معلوم يشمل كامل جسدها والذي كان منذ وقت مثل قطعة جليد باردة حد الصقيع ، لتفيق بسرعة من سباتها وهي تفتح عينيها على اقصى استدارتهما لتواجه سقف الغرفة المتقشر دهانها حتى سقطت بعض القطع الرخوة عنه بسبب الرطوبة والزمن .
تغضن جبينها باستغراب وهي تمسك بطرف الغطاء الذي لم يكن موضوع عليها سابقا ! لتحاول بعدها الجلوس على الفراش بإنهاك شديد وهي لا تذكر بأنها قد نقلت نفسها للفراش بعد قضاء طول الليل تبكي وترثي ذكريات الماضي الذي حجزت نفسها به !
توقفت اطرافها بتجمد ما ان حطت حدقتيها الزرقاوين على الكائن الواقف امام النافذة يوليها ظهره ، لتهمس بعدها باسم واحد حمل حنين غادر تاقت له
"روميساء !"
استقام ظهرها بثبات وكأنها تعيد نفسها من شرودها لتستدير بعدها من فورها وهي تستقبلها بابتسامة مفعمة بالحنان والشوق زينت اطراف حدقتيها الخضراوين بتلك الطريقة التي تخصها بها وحدها ، لتقول بعدها بتفكير خافت وكأنها معزوفة شروق الشمس
"صباح الخير ، لقد تأخرتِ قليلا بالاستيقاظ"
ارتبكت ملامحها وهي تخفض نظراتها لطرف الغطاء هامسة بوجوم خافت
"اجل ، ولكن كيف نقلت هنا ؟ لا اذكر بأنني نمت على الفراش ! هل حدث هذا بدون وعي مني ؟"
انحنت حدقتيها بحزن خاطف وهي تتقدم خطوتين بعيدا عن النافذة لتقول بعدها بابتسامة ممازحة
"بالطبع ليس هذا ما حدث ، فأنتِ لم تغيري عادتك القديمة بالنوم ارضا بدون ان تبالي ببرودة الجو وآثاره على جسدك وصحتك ! لذا نقلتكِ للفراش بنفسي ووضعت الغطاء عليكِ لكي لا تصابي بنزلة برد"
شردت ملامحها بحزن عميق وهي تغمغم بخفوت مضطرب
"كما كانت تفعل امي"
ارتفع حاجبيها السوداوين بدهشة سرعان ما مزجت بمذاق من المرارة وهي تهمس بعطف
"اجل صحيح ، يبدو بأنكِ ما تزالين تذكرين بعض التفاصيل عن ذاك الماضي بالرغم من صغر سنك حينها"
افاقت من دوامة افكار الماضي التي ما تزال تراودها بسبب احداث البارحة ، لتقول بعدها بهدوء تحاول تقمص البرود القاسي
"لقد تذكرت للتو فقط ، فأنا لا انسى شيء حدث معي بالماضي ، فقط اتظاهر بالنسيان للمضي قدماً بحياتي"
تعقدت ملامحها تحاول تفسير كلامها المبهم وهي تقول بابتسامة هادئة وكأن لا هموم بقلبها
"ماذا يعني هذا ؟"
عضت (ماسة) على طرف شفتيها بعصبية وهي تقول من فورها بتشدق
"لا شيء ، لا تشغلي بالك بالأمر"
ضاقت حدقتيها باستغراب وهي تنظر لها عن كثب لتسبقها الاخرى بالكلام وهي تقول تغير مجرى الحديث الذي بدأ يرهق اعصابها
"بالمناسبة ماذا حدث مع تلك التي لا تسمى ؟ هل عادت لمنزل عائلتها ام ما تزال تنشر سمومها بحياتك ؟!"
تصلبت ملامحها بلمحة مسحت كل المشاعر عنها وكأنها لوحة رسمت من الاسى والألم وغضب جامح بينهما ، لتقول بعدها بصوت طبيعي بعملية وكأنها تشحن الكلام بالكراهية التي اندلعت بجوفها
"لقد جاء والدها واخذها معه ، ولا اعتقد بأنه سيكون لها مكان للعودة مجددا ، فأنا وهي اصبح من المستحيل ان نجتمع معا ، ولو اضطررت واجتمعت معها بيوم من الايام فلن اضمن نفسي عندها ولن اوقفها عند حدها بسبيل الاقتصاص لابني !"
شددت (ماسة) على طرف الغطاء بقوة وهي تدور بأمواج مشاعرها والتي تستطيع ان تصلها بوضوح توقد الغضب والحزن بآن واحد وكأنها تعايشها ، لتهمس بعدها بصوت حزين خرج من جوف الوجع الذي ذبح روحها بسكين بارد
"انا اعتذر"
نظرت لها بسرعة بحدقتيها اللتين استبدلتا الغضب بحزن عميق لمس اعماقها ، لتقول بعدها بابتسامة طفيفة تحاول تمثيل القوة
"لماذا تعتذرين ؟ هل اخطئتِ بذنب وتريدين طلب السماح مني ؟"
زمت شفتيها بارتجاف ملسوع وهي تستصعب الحديث لأول مرة بحياتها ، لتقول بعدها بخفوت مرير حصر الهواء بحنجرتها
"انا اعتذر لأنني لم اكن بجانبك بتلك اللحظات ! اعتذر لأنني كنت بعيدة عنكِ عندما احتجتِ لي بأصعب اوقاتك ! فقد كنت انانية وجاحدة بأقصائي نفسي وعدم السؤال عنكِ ، وانتِ التي كنتِ دائما تسألين عني ولم تتركيني للحظة واحدة ، ولكن فقط بخصام واحد حدث بيننا ابعدت نفسي عنكِ وبنيت الحواجز بيننا !"
كانت (روميساء) تحدق بها بعينين مصغيتين وملامح متشربة بالحنان قبل ان تحرك كتفيها برشاقة وهي تقول بلطف متدفق بسخاء
"لا بأس يا عزيزتي ، فهذه ليست اول مرة تفعلينها بحياتك ، لقد تذكرت تلك الايام عندما ترتكبين الاخطاء والذنوب وتخاصميني لتعودي بعدها بيومين وتطلبي السماح مني ، لقد كنتِ تبكين بشدة لكي اقبل سماحك واعفو عنكِ مثل المتهمة التي تنتظر العفو من المحكمة !"
ارتجفت يديها وهي تترك الغطاء لترفع بعدها وجهها نحوها بعيون ماطرة خلف زجاج شفاف تحاكي الكثير ، لتهمس بعدها بتأنيب صامت وكأنها تعود تلك الطفلة المذنبة التي تعترف لها بكل اخطائها
"ولكن اخطائي هذه المرة قد كثرت ولم تعد تغتفر ! لقد اخطئت كثيرا بحياتي يا روميساء ، حتى لم اعد اعرف كيف السبيل للتكفير عن كل هذه الذنوب ! لقد تعبت من حمل تلك الذنوب وحدي ، تعبت كثيرا !"
اتسعت حدقتيها الخضراوين بلمعان وجل وهي تقترب منها بسرعة لتجلس على طرف الفراش ، لتمسك بعدها بجانب وجهها بحنية وهي تهمس بابتسامة متكسرة بأسى
"ما هذا الكلام يا صغيرتي ؟ انا من عليها الاعتذار منكِ وليس انتِ ! انا التي اخطئت بحقكِ عندما رفعت يدي عليكِ وصفعتك بدون اي سبب ، لقد اذيتكِ بتلك اللحظة وجرحتك فقط لكي ادافع عن تلك المرأة التي سمحت لها بتفريقنا وافساد العلاقة بيننا ! سامحيني على تلك الفترة التي قاطعتكِ بها ولم اسأل عنكِ ، سامحيني لأنني لم استطع ان اكون اختكِ المثالية التي تقتدين بها وتثقين بقوتها على مساندتك ومعاونتك ، انتِ لست فقط شقيقتي الصغرى بل انتِ ابنتي وكل عائلتي وكل شيء املكه ، ولن اسامح نفسي ابدا لو اصابكِ مكروه او اذى بسببي !"
امسكت بيدها على جانب وجهها وهي تحتضنها بين كفيها حتى سالت دموعها على وجنتيها بسيول صغيرة وكأنها تفيض بالحياة التي انبعثت منها إليها ، لتحرك رأسها بالنفي باهتزاز وهي تهمس بوجع تحرر من بؤرتها السوداء
"انتِ لم تخطئي بشيء ، انتِ بريئة ، انا المذنبة الوحيدة بكل شيء يحدث ، انتِ دائما ذات روح نقية وقلب معطاء وتقدمين افضل ما لديكِ بصدق وحب لكي تكوني محبوبة بين الجميع ، ولكن انا لا استطيع ان اكون مثلك ، لقد حاولت من قبل ولم استطع ذلك ! انا صاحبة قلب اسود وضمير ميت طول حياتي كنت احصد كل شيء بدون ان اقدم شيء ، لقد جعلت الجميع يكرهني حتى اصبحت كائن غير مقبول بالعالم ، لقد اصبحت شخص سيء ومؤذي بنظرهم ونسخة شريرة عن امي ، لذا لا احد يحبني يا اختي ! لا احد يريدني بعالمه ! لا احد !"
برقت الدموع بمقلتيها الواسعتين بغابتين مطريتين وهي تستمع لكلامها المنكسر واكثر النقاط التي تضعفها وتحزنها تسمعها منها لأول مرة ، لتمسك بسرعة بجانب وجهها بيدها الاخرى تحاول احتوائها بقدر المستطاع هامسة بحنان امومي
"ما كل هذا الحزن يا صغيرتي ؟ ماذا تحملين بقلبكِ الصغير ؟ اخبريني بما يزعجك ويعكر مزاجك بهذه الدرجة ! افصحي بأسرارك الدفينة واحزانك ! انا موجودة هنا بجوارك ولن اترككِ مهما حدث ، افتحي لي المجال والطريق للوصول إليكِ ، فأنتِ منذ وفاة والدتنا وانتِ تبنين الحصون والحدود بيننا وتبعدين عنكِ اميال ، متى ستفرجين عن نفسكِ وتخرجيها من هذا القفص ؟"
رفعت وجهها الغارق بدموع فاضت واكتسحت شاطئ محياها لتهمس بعدها بجرح عميق وهي تفتح ابواب موصده منذ سنوات
"انا مجرمة يا روميساء ، انا مجرمة ، لقد كنت اعاون زوج والدتي بمخططاته الاجرامية للحصول على المال من خلالي ، وقد كان يستخدمني الوسيلة لفتح كل تلك الآفاق بخبرتي الواسعة باختراق الانظمة وتدمير اقفال السر المنيعة ، لقد استخدم عقلي بمآربه ومسعاه للوصول لأهدافه ، لم يكن الامر بيديّ ! لم يكن بإرادتي ! لقد كنت مجبرة على الرضوخ والقبول من اجل ألا يلفظنا من حياته كما فعل الكثير من غيره ، لقد قدت نفسي للهلاك حية وانا اتركه يتحكم بحياتي بذلك الشكل الفظيع والمريع ، لقد كنت اشاهد اناس يقتلون وناس تتهدم حياتهم بدون ان يحرك بي ساكن ! لقد كنت مثل الدمية بأيديهم مسلوبة الإرادة والقوة بدون ان يكون لي الحق بقيادة نفسي ، لقد دمروا حياتي يا اختي ، لقد ادخلوني بسواد وذنوب وخطايا امتلأت بحياتي حتى لم يعد لي القدرة على العيش بسلام لقد اخذوا مني حب الحياة بكل ما فيها ! لقد كنت اتمنى فقط ان اموت بسلام وان يغفر لي كل اعمالي واخطائي بالحياة ، لقد طلبت العفو والسماح من ربي مئات المرات ! ولا اعلم إذا كان سيأتي اليوم الذي تمسح به ذنوبي من سجلي وتطهر روحي من السواد"
قست ملامحها بشحوب وهي تخفض جفنيها تحصر الدموع بهما بشق الانفس بعد ان افضت شقيقتها بكل ما يعتمل بصدرها وقلبها تثاقل عليه لسنوات ، لتفتح بعدها عينيها ببطء كشفت غابات احترقت بمشاعرها وسقطت دمعتين ثقيلتين على خديها ، لتأخذ بعدها انفاسها بقوة تمنح نفسها الاتزان وهي تهمس بقوة كاشفة الجزء الثاني من اسرارها
"هل تظنين بأنني لم اكن اعلم بكل هذا ؟ لقد كنت اعلم بكل شيء يحدث تحت سقف المنزل من خفايا واسرار خطيرة ، هل كنتِ تظنين بأنني لا ارى ولا ألاحظ تصرفاتكِ الغريبة والغير طبيعية اتجاه قيس ؟ هل تظنين بأنني لم اكن ارى تلك الجروح والحروق التي كنتِ تخفينها عني متعمدة وتتوارين عن الانظار ؟ لقد شككت بأمركِ منذ انعزالك وانطوائك على نفسكِ وانقلابك بتلك الصورة ، كيف تفكرين بأنني لست على علم بكل تلك الاحداث ؟ لقد كنت فقط انتظر الفرصة التي تزيلين بها كل تلك الحواجز الوهمية وتفصحين لي بهمومك واسرارك"
ابتلعت ريقها بغصة مستعصية ارتجفت بطريقها لحنجرتها وظهرت بوضوح بعنقها ، لتهمس بعدها بصوت متحشرج وهي تحاول فهم الموضوع الذي تعقد عليها
"هل كنتِ تعلمين بكل شيء ؟ حقا !"
اومأت (روميساء) برأسها بهدوء وهي تتحس على وجنتيها بأصابعها تمسح الدموع عنها ، لتقول بعدها بهدوء واثق بقوة شحنت نفسها بها
"ما بكِ يا ماسة ؟ هل نسيتِ بأننا قد تربينا معا بنفس البيت والعائلة وطبيعة النشأة ؟ يعني كل شيء يؤلمك ويقض منامك استطيع الشعور به بدون ان تتكلمي او تنطقي فقط بنظراتك وبحركاتك اكشفك ، وألا كيف استطاعت يد العدالة الامساك به هو وكل افراد عصابته ؟ من تظنين بأنه قد اوصل لهم اخبار القبض عليهم جميعا وعدم الابقاء على واحد منهم ؟"
اتسعت مقلتيها الزرقاوين السابحتين ببحار متلاطمة قد فقدت المنارة بهما ، لتخفض بعدها يديها بهدوء وهي تهمس بتفكير منطقي وما توصلت له بعقلها المشوش
"انتِ التي اوصلتِ تلك الاخبارية للشرطة ! انتِ التي فتحتِ ذاك الصندوق وافرغتِ محتوياته ! لماذا ؟"
اقتربت منها اكثر وهي تشدد من احتضان وجهها قائلة بابتسامة كبيرة بغريزة الامومة الحمائية
"من اجلك انتِ يا صغيرتي ، لقد فعلت هذا لكي انقذكِ من ذاك المستنقع الذي غرقتي به ، كيف تريدين مني ان اراكِ تتدهورين وتذبلين امامي يوم بعد يوم بدون ان افعل شيء ؟ لقد كنت انتظر الفرصة الحاسمة التي اكشف بها كل افعاله وجرائمه ويتلقى حساب ذنوبه واخطائه بحياتنا ، لقد كنت اريد ان اخلصك من شرور ذاك الرجل والذي سلب منا طفولتنا وشبابنا واحلامنا وحياتنا ، لقد اخبرتكِ بها من قبل ما دمت موجودة بجوارك لن ادع مكروه يصيبك او اذى يطالك ، ومن يحاول اذيتك واهدار دموعك بأي طريقة فهو سيلقى عقابه ويدفع ثمن كل افعاله ، ولو كرهكِ الجميع ونفر منكِ فسوف تبقى شقيقتك تحبك ، تحبكِ بعدد نبضات قلبها وبعدد النجوم بالسماء ! فأنتِ هي حزن وفرح هذه العائلة !"
احنت حدقتيها الزرقاوين بألم مكبوت تخطى سواحل قلبها وهي تضم كفيها بحجرها باستكانة ، لتقول بعدها بمرارة تتابع افراغ محتويات قلبها بأحزان بحجم الكون
"عندما كنت صغيرة واسبب المتاعب والمشاكل بحياتي كنت اجري إليكِ واحتمي بكِ ، فقد كنتِ حينها جداري المنيع والشامخ الذي يمنع عني كل اذى العالم ، لذا كنت دائما بمأمن وحماية بعيدا عن كل الشرور والاذى الذي كان يترصد من حولي ، حتى عندما كنت اختلق خلاف مع عمي قيس او مع والدتي نفسها كنتِ تدافعين عني بضراوة وتحميني خلف جدارك ، لقد كنت سعيدة جدا بوجودك امامي دائما وبدعمك الكبير لي بدون ان تسمحي بضرر ان يصيبني . ولكن كل هذا قد تغير تماما وانقلب بعد وفاة والدتي وتحول حياتنا للأسوء ! لم تعودي موجودة بعالمي كما بالسابق ! لقد اختفيتِ وذهب معكِ ذاك الجدار الذي كان يفصلني عن الاذى والضرر ، لقد تجرعت كل انواع الألم وتذوقت شتى انواع العذاب حتى تمنيت الموت ارحم لي من تلك الحياة ! لقد استنجدت بكِ ليالي وايام ! لقد احتجت لحمايتكِ لي ودفاعكِ عني . لقد كنت ألفظ انفاسي الاخيرة وانا انادي عليكِ واهتف باسمكِ بدون ان يسمعني احد ، حتى تأقلمت بالنهاية مع الوضع الراهن وتوقفت عن المقاومة والبحث عنكِ ، لقد اصبح لدي مناعة وفتور ضد كل انواع التعذيب صقل شخصيتي بصلابة وجردني من الحياة ، لهذا كنت ابتعد عنكِ واتجنبك باستمرار فقد صنعت مسافة تبعدني عن كل من حولي وتعزلني مع نفسي بتلك المنطقة المحصورة بي ، ولكن اعتقد بأن هذا كان اكثر شيء له السبب بتدمير نفسي وتجريدي من مشاعري الانسانية !"
كانت (روميساء) تحدق بها بعينين شاحبتين هطلت بعض القطرات على محياها بعد ان فقدت القدرة على ضبطها ، لتسحبها بعدها بهدوء وهي تحتضنها بين ذراعيها بكل قوة تكنها لها وكأنها توديها كل مشاعرها الداخلية علها تجبر كسورها التي ظهرت للعيان ، لتربت بعدها على شعرها الطويل بنعومة وهي تطبع قبلتها على رأسها هامسة بندم شديد
"انا اعتذر يا حبيبتي ، اعتذر على كل لحظات إهمالي نحوكِ ، لم اكن اعلم بكل ما تمرين به وتعايشينه كل يوم ! لم اكن اظن بأن ما مررت به بكل هذه القسوة ! لقد كنت غافلة تماما عما تعانيه ! ولكن لا بأس فأنا الآن معكِ وبجانبكِ وامامك وخلفك ، ولن اترككِ مهما حصل ويحدث ، فأنتِ ستبقين تحت حمايتي طول العمر وللأبد"
رفعت يديها الصغيرتين وهي تشدد على ظهرها كذلك قبل ان تمسح دموعها بكتفها وهي تتابع بكائها الناعم هامسة بحزن بعمق المحيط
"لا تتركيني مجددا ، لا تتركيني للوحدة ، الوحدة قاتلة ، لا اريد البقاء بالوحدة ، لا اريد الموت وحيدة ، اريد ان تحميني من الوحدة ، لقد افتقدتكِ يا اختي ! افتقدتكِ بشدة ، لا تتركيني بحياتك !"
زادت من احتضانها اكثر واكثر وكأنها تنجدها من الغرق والضياع مع كل كلمة مكسورة تخرج منها تصيب جزء من قلبها وتخدشه بقسوة ، وهي تستمر بمسح شعرها باطمئنان تبث لها بعض الامان والسكينة والتي تلاشت من حياتهما منذ سنوات واصبحت مجرد كلمات غير معروف معناها تحت سقف بيت وعائلة لم تعرف طعم الراحة يوما حتى نقلوها قسرا لأطفال تلك العائلة والذين كانوا نتاج اخطائهم .
_______________________________
كانت تمسح على رأسها المرتاح فوق الوسادة وهي تدندن بتهويدة ما قبل النوم ، بينما النائمة فوق الفراش العتيق تغمض عينيها على صوت الانشودة الهادئة التي كانت عبارة عن معزوفة موسيقية من ايام الطفولة الغادرة والخالية من كل الشوائب والهموم ، ولم تكن تعلم بأن ذلك الصوت والفراش قد نقلها ببعد آخر مختلف عن الوقت الحالي عندما كانت اكبر سعادتها تتمحور حول جنيات الامنيات والساحرات اللطيفات واكبر همومها هي كيفية الوصول إليهن وتحقيق احلامها المستحيلة بالحياة الصعبة ، تلك الحياة التي كانت تفتقر لكثير من الاساسيات والكماليات والاحتياجات الناقصة بعالم ظالم كل شيء يسير ويدار بالمال والثروة والمكانة العالية المرموقة .
فتحت عينيها السابحتين بزرقة حزينة مثل مياه البحر المالح وهي تهمس بأسى حزين
"هل تذكرين عندما قدم لنا قيس خيارات العيش ؟ لقد خيرنا بين العيش تحت رحمته والعيش بالملاجئ ، لقد كان اختيار صعب علينا بذلك السن الصغير وكأننا اصبحنا بدون احد !"
صمتت صوت النغمة وتبدلت لهدوء شديد وهي ما تزال تمسح على رأسها بنفس الترنيمة ، لتقول بعدها بهدوء حفر الألم بابتسامتها الهادئة
"اجل كيف لي ان انسى تلك الاوقات ! لقد كان من اصعب لحظات حياتنا التي تمر علينا ونمتحن بها ، ولم يكن من السهل تجاوزها وتخطيها والمرور بها ، ولكن الحمد لله على كل شيء فقد كانت نجاتنا من تلك الصعاب اعجوبة نحسد عليها !"
رفعت رأسها قليلا وهي تحدق بوجهها هادئ التعابير وهو يعلوها وصوت انفاسها التي فقدت اتزانها تصل لها بوضوح ، لتهمس بعدها بابتسامة مالت بمرارة وكأنها تتعاطى من رسوم ملامحها
"لقد سألتني ذات يوم عن رأيي بالسكن الذي ارغب به وخيرتني بين السكن بالملاجئ وبين السكن بمنزل عمي قيس ! ولكني اجبتكِ حينها بأنني اذهب للمكان الذي تذهبين له واعيش بالمكان الذي تختارينه لي ، لأن المكان ليس الذي يحدد عالمي بل وجودكِ هو الذي يحدد المكان الذي ارغب بالعيش به"
اخفضت نظرها نحوها حتى مالت زوايا عينيها بحنان متدفق توهج بأعشاب ندية تحت ضوء اشعة الشمس ، لتقول بعدها بابتسامة حنونة وهي تمشط شعرها بأصابعها الرقيقة
"اجل اذكر ذلك جيدا ، فقد كنتِ طفلة شديدة التعلق بي وتتبعيني اينما ذهبت مثل ظلي ، ومع ذلك فلم استطع البقاء معكِ دائما كما وعدتك فقد شغلتني امور الحياة الصعبة وتوفير العيش الهانئ لنا تحت نظام العيش الذي رسمه لنا قيس بدون ان يكون بيدنا الخيار !"
ابتلعت ريقها بصمت حزين لوهلة قبل ان تهمس بشبه ابتسامة نحتت على محياها بصفاء
"ولكنكِ ما تزالين معي ولم تتخلي عني ، وهذا هو كل ما يهمني"
اتسعت ابتسامتها بإشراق شغوف وهي تهمس بمودة ويدها ما تزال تلعب بخصلات شعرها السوداء
"وهل هناك ام تتخلى عن صغارها ؟"
ارتاحت ملامحها وهي تستمتع بتلك اللحظات الجميلة بعد جفاف وظمأ سنوات وكأنها ترتوي بمشاعر ادفئت حنايا قلبها الجليدي ، لتقاطع الصمت التي قالت باستغراب بنبرة صوتها الحانية
"لم تخبريني عن سبب مجيئك لمنزل قيس بليلة البارحة ! لقد ظننت بأنكِ قد عدتِ انتِ وشادي للسكن بمنزلكما المنفرد ، ولم اتوقع ان اجدكِ هنا !"
عادت للنظر لها بعينين كبيرتين بعمق آسر وهي تهمس بخفوت واجم
"لا اعلم حقا ، فقد شعرت برغبة مُلحة لزيارة منزلنا القديم واستعادة الذكريات به ، لقد فكرت بأنني قد اجد غايتي بهذا المكان وقد يلملم الحفرة التي اتسعت بأعماقي !"
تنهدت بشرود وهي تنظر بعيدا عنها هامسة بخفوت مرتخي
"ربما لن نستطيع إيجاد غايتنا من الحياة بالنهاية"
ضاقت حدقتيها الزرقاوين بجمود وهي تهمس بهدوء جاد بدون ان ترفع صوتها
"ولكن ماذا عنكِ ؟ لماذا جئتِ لمنزلنا القديم ؟ هل جئتِ لاستعادة ذكريات ام لغاية محددة ؟"
زادت غمامة ملامحها السابحة بالفضاء لبرهة قبل ان تحرك كتفيها ببرود وهي تهمس بعدم اهتمام
"انا بنفس حالتك لا اعلم حقا ، ربما اردت العودة للماضي لأعرف الاخطاء التي ارتكبتها بحياتي ! او ربما هي تلك الغريزة الطبيعية التي تعيدك لنقطة البداية للتفتيش عن نفسكِ التي تركتها هنا وغادرتِ !"
احنت نظراتها للأسفل بوجوم وهي تسبح بتلك الزاوية المعتمة من جانب حياتها ، لتطرأ بعدها ذكرى طارئة على عقلها وهي تحاول النهوض قائلة بتشتت واضح
"اين هو ؟ اين هو الدفتر ؟ اين هو دفتر الذكريات يا اختي ؟"
نظرت (روميساء) لها بقلق وهي تهمس بتفكير عابس
"ماذا ؟!"
تسمرت حدقتيها عليها وهي تتنفس بتسارع طفيف ظهر بوضوح بخفقات صدرها ، لتهمس بعدها بشرح متخبط الافكار
"اقصد الدفتر الذي كان بحوزتي ، دفتر مذكرات امي"
عقدت حاجبيها بجمود بعد ان فهمت تلميحها وسبب تخبطها المفاجئ ، لتلتفت بعدها على الجانب الآخر وهي تمسك الدفتر لتعود لها وهي تلوح بالدفتر بيدها ، اعتلت ابتسامتها بارتجاف متلهف وهي تختطف الدفتر منها بلمح البصر لتتمعن بالنظر له وكأنها تتأكد من وجوده !
قاطع رحلة تأملها صوت شقيقتها وهي تقول بابتسامة لطيفة بمحبة
"يبدو بأنه مهم جدا بالنسبة لكِ ! ولكن الذي يحيرني كيف وجدته ؟ فقد بحثت عنه كثيرا بعد انتقالنا لهذا المنزل ولم استطع إيجاده بأي مكان ، لقد ظننت بأنني قد فقدته للأبد !"
نظرت لها بعينين مشدوهتين وهي تهمس بصدمة
"هل كنتِ تعلمين بوجوده ؟ ولما اخفيته عني كل هذه المدة ؟"
ارتفع حاجبيها بدهشة لم تستغرق طويلا قبل ان تضحك بمرح وهي تربت على كتفها هامسة بخفوت مبتهج
"لست انا من اخفيته بل هو من اختفى من تلقاء نفسه ، لقد كانت امي معتادة على كتابة مجريات احداثها المهمة بدفتر مذكراتها ، وقد وصتني عليه دائما واخبرتني ان احافظ عليه كأمانة لها ، وبعد وفاتها اخذته واحتفظت به بين اغراضي ، ولكن بعد انتقالنا لهذا المنزل بمدة وجيزة اختفى الدفتر ولم استطع ان اجد له اي اثر ! ولم اتعمد اخفاءه عنكِ كما تظنين يا بلهاء !"
اومأت برأسها بصمت وهي تمسح على غلاف الدفتر بكفها الشاردة قبل ان تهمس بخفوت مشتد
"لم احاول البحث عنه ، لقد رأيت شق صغير بالخزانة وقد ظننته من تآكل الخشب المهترئ ، ولكن ما ان حاولت مد يدي بالشق حتى انكسر باقي الخشب وخرج هذا الدفتر منه ! هل كنتِ تعرفين عن هذا المخبئ يا روميساء ؟"
ادارت مقلتيها بتفكير لحظي قبل ان تقول بابتسامة هادئة بتحليل منطقي
"اعتقد بأن الدفتر قد وقع بشكل ما بداخل شقوق الخزانة وبقي عالق بها ، لذا لم استطع إيجاده طول تلك الفترة ، هذا التحليل المنطقي لكل ما يحدث"
ابتسمت بهدوء حتى ظهرت زوايا حول شفتيها الجميلتين وهي تهمس بتملق
"لقد اصبحت منطقية جدا !"
ردت عليها من فورها بابتسامة رقيقة
"هل سامحتِ والدتنا ؟"
حركت كتفيها ببرود وهي تهمس بنبرة شاردة غير معبرة
"اعتقد ذلك"
تنفست بهدوء وهي تنهض عن الفراش بجانبها ببطء حتى استقامت بهدوء ، لتلتفت نحوها وهي تقول بابتسامة جانبية بطرافة
"حسنا يا آنسة كئيبة ، انا سأذهب للبحث عن الطعام بالمطبخ وتحضير الفطور لنا ، فقد بدأت اتضور جوعا من كل هذه الذكريات السوداوية ، وانتِ لا تتحركي من مكانكِ حتى اعود"
رفعت رأسها بسرعة وهي تراها تغادر المكان لتقول من فورها بتطوع
"هل استطيع مساعدتك ؟"
قالت بكلمة واحدة بحزم وهي تخرج من الغرفة
"لا"
عضت على طرف ابتسامتها وقد كانت تتوقع سماع مثل هذه الاجابة والتي لم تفاجئها مطلقا ، لتعود بعدها للشرود بالكتاب بصمت عميق وكأنها تحمل ماضي مختلف بداخل صفحاته السجينة منذ اعوام .
رفعت رأسها بسرعة ما ان اخترق صوت الهاتف سحابة صمتها ، لتدس بعدها يدها بجيب سترتها وهي تخرج هاتفها منها ، ليتغضن جبينها بارتباك غزى محياها ما ان ظهر لها رقم مجهول ، ولم تتردد بعدها بالرد عليه وهي تقول بعملية
"مرحبا ! من معي ؟"
سمعت الصوت من الطرف الآخر بعث القشعريرة بأطرافها وهو يقول بخشونة عملية لا تحمل الرأفة
"هل انتِ ماسة الفاروق ؟"
ابتلعت ريقها بارتعاش وهي تأخذ لحظات قبل ان تجيب بصوت متحشرج بتصلب
"نعم ، من يتكلم معي ؟"
اجابها الصوت الخشن وهو يقول مباشرة بدون اي مقدمات
"انا من قسم الشرطة الجنائية ، لقد اتصلت بكِ لكي اوصل لكِ خبر وفاة السجين قيس حجاج ، فقد تلقى رصاصة بصدره من بين محاولاته الحثيثة بالهروب من السجن وقد قتلته فورا قبل الوصول للمشفى ، لذا اتصلت بكِ من اجل القدوم لاستلام الجثة والقيام بواجب العزاء اتجاهها بما انكِ ابنته الوحيدة المسجلة بين ارقام هاتفه ، واتمنى ان توصلي الخبر لباقي افراد عائلته ، رحمة الله عليه"
ازدادت وتيرة انفاسها الشحيحة حتى اصمت كل الاصوات من حولها بدائرة سوداء لم تعد تبصر غيرها ، ولم تستطع سماع صوت (روميساء) التي عادت لها وهي تقول بعفوية
"اسمعي يا ماسة ، كل ما وجدته هي معلبات منتهية الصلاحية ، وكذلك الخبز والحليب كله متعفن ، لذا ينبغي لي الذهاب للمخبز المجاور وشراء المخبوزات الطازجة ، والمرور على البقالة لشراء الحليب والعصير ، ما رأيكِ انتِ ؟"
تغضنت تقاسيمها برهبة من الاجواء الباردة التي غيمت بالمكان ، لتتقدم بعدها عدة خطوات وهي تهمس بتوجس قلق
"ماسة ! لما لا تجيبين ؟"
ما ان وصلت عندها حتى وقع الهاتف من يدها ارضا اصدر صوتا عاليا ، وليس هذا ما جذب انتباهها بل الصوت الخارج من الهاتف الملقى وكأنه يحاول الوصول لطرف المتصل ، لتنحني بعدها على ركبتيها وهي تلتقط الهاتف بهدوء لتضعه على اذنها ببساطة ، وقبل ان تجيب فاجأها الصوت الذي كان يقول بخشونة هادرة بأذنها
"ماسة الفاروق ! هل تتكلمين معي ؟ هل هناك احد على الخط ؟"
عبست ملامحها وهي تستقيم بهدوء قائلة بمهنية جافة
"نعم ، انا شقيقتها الكبرى روميساء الفاروق ، ماذا تريد منها ؟"
اجابها من فوره بجفاء وكأنه لا يهتم لهوية المتكلم معه
"لا بأس المهم هي نفس الكنية ، لقد اتصلت لأطلب منكم استلام جثة والدكما قيس حجاج فقد مات برصاصة اودته قتيلا ، وهو الآن متواجد بالمشفى العسكري"
انفرجت شفتيها بأنفاس مشدوهة عصرت قلبها بانطباق شديد ، لتهمس من فورها بنبرة جادة بعد ان تخطت الصدمة اسرع من شقيقتها
"متى حدث هذا ؟"
ردّ عليها بلحظة بصوت عملي وكأنه ينقل خبر سياسي عاجل
"لقد حدث ليلة البارحة بمحاولة فاشلة للهروب من السجن كالعادة ، وهناك تلقى حتفه !"
اخذت عدة انفاس تهدئ نفسها من الخبر الذي طرق باب حياتهما بدون سابق إنذار ، ليعود صوت الرجل ليقصف بأذنها بنبرة فظة
"سيدتي عليكم باستلام الجثة من المشفى فهو لن يبقى هناك طويلا ، واعتذر على الإطالة عليكم ، ولكن توجب عليّ إيصال الخبر"
اومأت برأسها برجفة مرت على طول عامودها الفقري وهي تهمس بهدوء ممتن
"اجل سيدي فهمت ، وشكرا لك على اتصالك"
فصلت الخط وهي تخفض الهاتف عن اذنها ببطء شديد وكأنها تستوعب حقيقة ما سمعته للتو ، ولم يوقظها من لوعة افكارها سوى صوت سقوط احدهم ارضا باصطدام قوي .
شهقت بذعر وهي تلتفت من فورها للجسد الذي وقع بجانب الفراش بإغماء مفاجئ وكأنها جثة اخرى فقدت الحياة ، هبطت بسرعة بجانبها وهي تحمل رأسها فوق ركبتيها لتضرب على خدها بقوة تحاول افاقتها برعب دب بأوصالها
"ماسة ! بسم الله عليكِ يا صغيرتي ! استيقظي يا ماسة ، حبا بالله لا تفعلي بي هذا ! استيقظي ارجوكِ ، ارجوكِ"
خفتت آخر كلمة بانتحاب وهي ترفع يدها بارتجاف عن رأسها والتي امتلأت بالدماء من الضربة التي تلقتها بسقوطها ، لتعانق رأسها بين ذراعيها بهلع وهي تجهش ببكاء عالي انتفض بجسدها بألم فاق اي ألم آخر فهذا هو الموت الذي لا تعرف تبعاته ومرارته سوى من جربه ومن رحم الوجع يأتي !
_______________________________
بعد مرور اليومين......
كانت تريح جانب رأسها على زجاج النافذة وهي تشرد بالطريق المتحرك بجوارها بسرعة ثابتة لا تزيد ولا تقل فقط ثابتة ، وهي تشاهد العالم بنظرات فارغة اختلت من كل انواع المشاعر الانسانية والعاطفية وعلقت بين شعورين بدون ان تحدد مكانها بين الفرح والحزن وما بينهما ، حتى اصبحت فقط جسد يحركه دافع داخلي بغريزة العيش التي تأقلمت معها منذ الأزل وقد يكون منذ ولادتها ، وكل هذا انتابها منذ اختبار الموت من جديد ومع قريب مختلف من عائلتها ، ولكن ماذا لو كان ذاك القريب هو الاسوء على الاطلاق ؟ ماذا لو كان سبب دمار حياتها وما آلت لها ؟ كيف سيكون عندها شعورها ؟ هل ستتقبل موته وتحزن عليه وتشفق على نهايته ؟ ام ستضحك بأعلى صوتها وتتشمت به بعد ان انتصرت على وجوده اللعين بحياتها ! لا تعلم كيف ستجسد شعورها ذاك ! ولكن كل ما تعرفه وتستطيع الشعور به بأن الحزن لن يكون موجه نحوه مباشرة بل سيكون موجه على حياتها التي تدمرت بين يديه ليفارق حياته ويتركها تموت بذاك العذاب المسمى القهر والحقد !
تشنجت ملامحها بضعف خفي ما ان وصلها صوت الجالسة بجوارها وهي تقول بهدوء شديد اصبح يتقمصها بالآونة الاخيرة
"لقد تأخر موعد الدفن بسبب اجراءات الشرطة والمشفى واتمام معاملات استلام الجثة ، وخاصة بأنه كان يصعب علينا اثبات القرابة التي تصلنا بزوج والدتنا ، ولا تنسي الديون والمشاكل التي تركنا غارقين بها حتى اضطررنا لسداد كل شيء واقفال كل الحسابات ، ومن الجيد بأن العم جلال قد ساعدنا وتدخل بالأمر ووقف بصفنا بما انه الشقيق الوحيد لقيس ، وهكذا اصبح موعد الدفن بعد يومين من وفاة الرجل"
طرفت بعينيها الزرقاوين بصمت وهي تهمس بخفوت بائس
"انتِ من طلبتِ المساعدة من العم جلال ؟ صحيح !"
اومأت برأسها وهي تتابع كلامها بنفس النبرة المتزنة بجدية
"اجل لقد اضطررت لطلب المساعدة منه باستلام جثة قيس ، فهو شقيقه وستكون الامور اسهل إذا ذهب بنفسه واستلمه ، بالإضافة بأنني كنت بمواجهة كل هذا وحدي فقد كنتِ بحالة عصيبة بعد ان اصبت برأسكِ وغبت عن الوعي ، لقد تعبت من تقطيع نفسي ومطاردة ذاك وذاك واتمام كل شيء ! لقد كانت اسوء ايام تمر بحياتي !"
ابتعدت عن زجاج النافذة ببطء حتى اعتدلت بجلوسها باستقامة ، لتضم بعدها يديها بحجرها وهي تهمس بأسى واضح لم يفارقها لهذه اللحظة
"ألم يقدم لكِ احد المساعدة بهذه الظروف ؟ اقصد عائلة الخال محراب ألم يحاولوا مساعدتك بشيء !"
مسحت ملامحها بشحوب تيبست الدماء تحت بشرتها وهي تقول بهدوء جاف وكأنها ترسم قناع الا مبالاة بإتقان
"لم اخبرهم بما حدث معنا ، ولم احاول التكلم او التواصل معهم ، وايضا من هو هذا الرجل بحياتهم حتى يساعدوني من اجله ! إذا كانوا لم يساعدوا من تقرب لهم بالدماء هل سيساعدون الرجل الذي اهتم بتربيتنا ؟ نحن فقط نقوم بواجبنا اتجاه زوج والدتنا من اجل احتوائه لنا بمنزل وعائلة ، وغير هذا لا نملك فعل شيء سوى التحسر على شبابه وعمره"
رمقتها بطرف حدقتيها المائيتين بأمواج هدرت بالأعماق وهي تهمس بخفوت ساخر وكأنها تواكب الموجة
"كما حدث بالماضي ، لا شيء تغير ابدا ، ولن يتغير مهما كبرنا وتقدم بنا العمر العقلي والجسدي !"
تنهدت (روميساء) بإحباط اصبح يغيم من حولهما بشحنات طردية غير مستقرة ، لتقول بعدها بصلابة تستعيد شخصيتها التي صقلتها الايام
"لا تفكري بكل هذا الآن ، المهم بأننا استطعنا تجاوز كل هذه الصعاب ووصلنا لخط النهاية ، والآن نحن ذاهبون لعزاء زوج والدتنا لذا اظهري بعض مشاعر الحزن والاسى وكفي عن التذمر والتبرم هكذا ، ألا يكفي بأننا قد اخرنا مراسم الدفن يومين ؟ يا لها من حالة غريبة لم تحدث بتاريخ البشرية !"
كتفت ذراعيها فوق صدرها بجمود وهي تقول بابتسامة حجرية غير معبرة
"هذا ليس غريب عن حياتنا ، فنحن نواجه الغرائب منذ ولادتنا !"
لم تعلق على كلامها وهي تنعطف على جانب الطريق ما ان وصلوا امام بوابة المقبرة ، لتطفئ بعدها محرك السيارة والتي كانت قد اخذتها بالإيجار لتنظر للجالسة بجوارها باهتمام وهي تهمس لها بخفوت قلق
"هل انتِ بخير ؟ هل تستطيعين حضور المراسم ؟ لقد كان من الافضل لكِ البقاء بالمنزل واخذ قسط من الراحة ، فأنتِ....."
قاطعتها بقوة وهي تنظر لها بابتسامة عميقة لم تصل لعينيها اللتين اتخذتا ألمهما قوة
"انا بخير يا روميساء ، ولا اريد ان اضيع عليّ حضور مراسم الدفن ، فهذه الطريقة الوحيدة لأتقبل الواقع وادفنه بداخلي للأبد !"
غامت ملامحها بحزن وهي تفهم جيدا مغزى كلامها وهدفها فهي تريد ان تعاند الألم بمواجهة الوجه الآخر للألم لتكون العلاقة عكسية وتقتل محور ذاك الألم ، فكت بعدها حزام الامان وهي تهمس بخفوت يائس بعد ان فقدت الأمل من ردعها
"يا لكِ من مجنونة !"
ابتسمت بهدوء مجرد انشداد بشفتيها تظهر تكبدها والعناء بالابتسام ، لتفتح بعدها الباب بجوارها وهي تخرج من السيارة بامتثال ، رفعت الوشاح الاسود فوق رأسها بحداد مثل ثيابها وهي تتشح بالسواد من رأسها حتى اخمص قدميها .
تنبهت بعدها لصوت شقيقتها التي اصبحت تبعد عنها امتار وهي تقول بصوت صارم
"هيا يا ماسة ، لن ننتظر طويلا هنا حتى ينتهوا من مراسم الدفن"
تحركت بسرعة بخطوات مهرولة ناحية مكان وقوف شقيقتها ، وما ان اصبحت بجانبها حتى امسكت بيدها بحركة تلقائية بالفطرة وكأنها تمد نفسها بالقوة والعون للدخول لذاك العالم والذي صادف دخولهما له لمرتين لتكون هذه المرة الثالثة ، فقد طرق الموت بابهم بأعمار مختلفة كانت بين الطفولة والرشد والآن الشباب ، وكل هذه السنوات تتعاقب عليهما الواحدة تلو الاخرى وتتسابق من منهم تهزم عزيمة الاخرى .
تقدمت بخطوات قوية وهي تشق طريقها تسحب معها الاخرى طواعية والتي تتبع خطاها فقط ، فهي لطالما كانت تتبع تلك اليد التي تشد عليها بكل قوة بدون ان تفلتها خوفا من ان تضيع بسواد ذاك العالم والذي خطف الكثيرين منها ولم يبقي لها سوى القليل منهم ، وفقدان ارواح اخرى تحيط بها يعني الموت وحيدة بالحياة بعد ان تتلاشى عن الانظار وتدفن تحت التراب ، وهذا كان رهابها الوحيد طول تلك السنوات !
وقفت كليهما باستقامة حداد امام القبر المجهز للميت بداخل التابوت ، وكل افراد عائلته من شقيق وحيد واولاده وبنات زوجته مجتمعين من حوله يشهدون على نهاية قصة رجل قضى حياته بفعل الاعمال السيئة وكسب الخطايا والذنوب حتى انتهى به المطاف بنهاية لا يتمناها الاعداء له لتنزل الستارة على قصته .
_______________________________
سارت على محاذاة الطريق العشبي بخطوات بدأت تفقد اتزانها وكأن مهمة السير اصبحت من المهام الصعبة عليها والكفيلة بإرهاقها حد الموت ، وهي تضم ذراعيها امام صدرها تحاول حفظ الحرارة واختزالها بجسدها الذي بدأ يتخشب ببرد صقيعي من تقلبات الجو ، ولا احد يعلم بأن مصدر البرد الحقيقي نابع من اوردة قلبها المتجمدة من كل ما شهد عليه اليوم ، فقد حضرت اليوم مراسم دفن رجل لم تعرفه سوى باسم القرابة التي تجمع بين العائلتين بنفس الكنية ، وباسم القرابة التي جعلته يتزوج من والدة صديقتها المقربة حتى اصبحت فرد من عائلتها بغض النظر عن حقيقة العلاقة ، ولا تعلم لما انتابتها كل تلك المشاعر العجيبة والمختلطة منذ معرفتها بوفاة ذلك الرجل الذي لم يكن يحمل سمات او ذكريات تجعلها تتأثر برحيله بأي طريقة !
تنهدت بجهد وهي تتوقف بمكانها بعد ان شعرت بعدم إمكانيتها على الاستمرار اكثر ، وقد ندمت كثيرا على تركها لهم بمنتصف العزاء واستعجالها الرحيل بسبب تعبها المفاجئ الذي هد مقاومتها على الثبات وكأن الجنين بداخلها يستصعب تحمل كل تلك الاجواء السوداوية والمشاعر السلبية التي جثمت على صدرها بثقل جديد ، وكل هذا بسبب اصرارها على حضور مراسم الدفن بعناد علها تستطيع مشاركة آلام عائلة صديقتها والتي وقفت معها بكل ظرف وبكل موقف صعب .
رفعت رأسها وهي تجول بنظراتها من حولها تبحث عن اي اثر للسيارة التي اختفت من الوجود وكأنها تسير بالعراء بدون اي إشارة حياة ، شددت بذراعيها حول بطنها تضغط عليها بألم مكبوت حرق احشائها الداخلية ، لتنحني بعدها على ركبتيها وهي تحاول تلقف انفاسها الذاهبة بدون ان تأبه بالمكان والزمان فقط تمد نفسها والجنين بداخلها بالأكسجين الذي فرغ منها .
انتفضت برجفة خاطفة سكنت القلب المكسور وهي تستمع لصوت الخطوات المقتربة يتبعها الصوت المألوف الذي لا يغيب عن ذاكرتها
"صفاء"
ابتلعت ريقها بغصة قاتلة وهي تحتضن بطنها بقوة هامسة بدعاء خافت تنفي انتفاض قلبها بأضلعها وكأنه يصرخ بالرحمة
"لا يا إلهي ! لا يمكن ان يكون حقيقي ! ساعدني ياربي"
عاد الصوت مجددا بعد ان اصبح اكثر قربا وكأنه يثبت حقيقة وجوده بالمكان
"صفاء ! هل انتِ بخير ؟ صفاء اجيبِ......"
صمت عن الكلام ما ان انتصبت بسرعة امامه وكأن الحياة قد دبت بها بشكل مفاجئ ، وما هي ألا لحظات صمت زادت وتيرة شحنات قلوبهما حتى تحركت بتلقائية وهي تكمل طريقها المستقيم وكأن الألم هو ما يدفعها للثبات بقوة ، حتى بعد سماع صوته القوي شديد الانفعال تكاد تستشعر انفاسه عبر الهواء المتسرب إليها
"صفاء انتظري مكانكِ ! صفاء !"
شهقت بذعر وهي ترتد للخلف عدة خطوات بتعثر ما ان سد عليها الطريق بلمح البصر ، لتستقيم بعدها بأعجوبة وهي تلهث بخفقات صدرها بتعاقب سريع ، لتخفض رأسها بعنق عنقاء مكسور وهي تطبق اصابعها على ذراعي قميصها الاسود بضغط هائل .
تنفس بانتظام وهو يستعيد حزم زمام الامور بلحظات ليقول بعدها بجدية بدون ان يختفي الانفعال عنه
"هل انتِ بخير ؟ لقد كنتِ تبدين لي متعبة وغير قادرة على السير ، هل تحتاجين للمساعدة ؟"
غرست اسنانها بطرف شفتيها تكتم على مشاعرها بجرح جديد تغلغل بحنايا جسدها الضعيف ، لتحاول بعدها تجاوزه بطبيعية وهي تتجنبه قدر الإمكان ، ولكنه لم يسمح لها بالمرور بسهولة فقد عاد للوقوف امامها مثل الصرح العالي الغير قابل للتحرك او الانصياع للأمر ، لتتنفس بعدها بضيق وهي تكاد تمزق قماش قميصها من اصابعها القابضة بدون رحمة كما ضربات قلبها التي ضربت كل عصب بجسدها .
قال بعدها من جديد بهدوء اكثر جدية وبدون ان يفارق نظره رأسها الهابط وذيل حصانها النائم على كتفها من تحت وشاحها الاسود
"لا فائدة من الهروب هكذا يا صفاء ، فأنا لست وحش اتناول البشر حتى تخاف مني هكذا ! كل ما اريد معرفته هو إذا كنتِ بخير ، اجيبِ يا صفاء !"
ردت عليه بخفوت مضطرب ببحة مرتجفة
"انا بخير ، هل ارتحت الآن ؟"
تصلبت ملامحه بهدوء منحوت من صخر بدون ان يعلق على كلامها ، وما ان حاولت تجاوزه مرة اخرى بسرعة حتى وقف امامها بقوة بدون ان يسمح لها وكأنه يترصد حركاتها بمهارة ، لتتراجع للخلف خطوات مبعثرة وهو يشتت سيطرتها على نفسها وحركاتها ، ليقول بعدها بجمود اكبر وهو ينزع قناع الهدوء عنه
"لماذا تتعمدين الهروب مني هكذا ؟ ماذا فعلت لكِ حتى تعامليني بهذه الطريقة ؟"
تجمدت ملامحها بلمحة غضب نادرة وهي ترفع رأسها هامسة بصوت تشنج بحرارة
"وما زلت تسأل ماذا فعلت !"
شحبت ملامحها الذابلة عندما ادركت تهورها وهي تواجهه بغضب لأول مرة ، بينما كان الآخر مستغرق بتأملها عن كثب بدون ان يعطي كلامها اهتمام بعد ان استطاع اخيرا اخراجها من قوقعة صمتها ولاقى تفاعل منها ، ليستعيد بلحظة تركيزه ما ان اشاحت بوجهها بعيدا وكأنها تنهي الهروب التي ارسلتها بداخله بنظرة واحدة لتلك العينين الهائجتين بانصهار الغضب .
تنحنح (جواد) بعدها بقوة وهو يتابع كلامه من مكان ما توقفت باهتمام بالغ برغبة بالحديث
"اجل وماذا فعلت لكِ ؟ هلا اخبرتني !"
عقدت حاجبيها البنيين ببعض الدهشة وهي لا تصدق بأنه يسأل مثل هذا السؤال الساذج بعد كل ما حدث بينهما وجرى ! لتخفض بعدها نظرها لقدميها المغروستين بين العشب وهي تقول بوجوم حانق
"ما لذي تفعله يا جواد ؟ بل كيف عرفت بمكاني ؟ هل انت تراقبني ؟"
تقدم خطوات يقطع المسافة بينهما حتى ظهرت قدميه بالحذاء الاسود الطويل بمجال نظرها تعادل عن عشرة امتار من قدميها الصغيرتين الملاصقتين بتقلص ، ليخترق صوته غشاء افكارها وهو يقول بخشونة ببحة رجولية
"انا اراقب كل حركاتك وطرقك واماكنك ، واعرف ايضا كل تفاصيل حياتك وما وصلت له من تقدم وتطور كبير مثير للاهتمام ، فأنتِ ما تزالين تحت سيطرتي وليس لكِ الحرية باتخاذ قرارات حياتك بدون ان يكون لي علم بها !"
نظرت له بسرعة بدون ان تعلم بأنها قد وقعت بشباك عينيه الصقريتين وكأنها قد وقعت بالمصيدة ، لتشتد شفتيها بتقوس عابس وهي تهمس بخفوت ساخر اتقنت اظهاره بنبرتها
"حسنا هذا ليس غريب عنك ، فأنت كنت تراقبني هكذا وتتحكم بحياتي من قبل تعارفنا وبكل مراحل سنواتي ، حتى اصبحت مثل الشاة المستهدفة والتي تساق لمصيدتها بكل طواعية !"
تغضنت ملامحه بجمود لحظي لم يدم طويلا قبل ان يتلبس قناع البرود الجليدي وهو يقول بابتسامة طفيفة بهدوء
"لقد اخطئتِ التعبير تماما ، فلم تكوني يوما شاة تساق لمصيدة ، بل كنتِ جنية صغيرة اهتم بحراستها ورعايتها حتى تكبر وتزدهر واستطيع امتلاكها ، لقد كنتِ كل هذه السنوات تحت مسؤوليتي الخاصة بدون ان احصل على الإذن من احد وما تزالين كذلك لآخر يوم بحياتك"
اضطربت ملامحها لا إراديا بتعبير اجتاح كيانها وهي تعلق بدوامة احلام يقظتها التي ظنتها دائما مجرد اوهام حتى اثبت وجوده الحقيقي وهي تكتشف فقط بأن ظله كان مرافق لها طول تلك السنوات منذ كانت بعمر العاشرة وما فوق ، لتطرف بعدها بعينيها بجمود تستعيد شعورها السابق نحوه وهي تهمس بأسى مرير
"ولكن هذا لا ينفي حقيقة بأنك كنت تجهز لاحتجاز تلك الفراشة بقص اجنحتها وألقاءها بعد انقضاء مهلة سجنها بدون اي قلب او روح ، هيا حاول إنكار تلك الحقيقة !"
رفع رأسه قليلا بعد ان ضربته هذه المرة بقوة تسلحت بالحقيقة المريرة حتى شعر بألمها ، ليقول بعدها بابتسامة شاردة ببعض الدهشة
"لقد كان هذا مؤلم بالفعل ، لقد استطعتِ إيلامي اكثر من اي مرة !"
ارتجفت شفتيها من تعبير كلامه وملامحه والذي تلمح الألم بهما لأول مرة ، لتهمس بعدها بجموح وهي تتسلح بالسخرية التي طفت على السطح
"منذ متى تشعر بالألم ؟ انت تجيد فقط إيلام الآخرين اكثر من الشعور بالألم ! مثلا هل تعلم بأن وجودك امامي يؤلمني ؟ هل تعلم بأن اصرارك على التكلم معي يؤلمني اكثر من صمتك ؟"
اخفض وجهه نحوها وهي تلمح السواد بعينيه يزداد عمق واتساع وكأنها هوة سوداء سحيقة سحبت المجرة بأكملها ، لتنجذب بعدها لصوته وهو يقول بتصلب قاتم
"لم اعرفكِ بهذه الشخصية الساخرة ! منذ متى اصبحت بكل هذه القسوة والعنف ؟"
انفرجت شفتيها تأخذ انفاس طويلة لتملئ رئتيها بالأكسجين بعد كل ما حاكى امامها ، لتقول بعدها بابتسامة حزينة حفرت بندوب قلبها
"الألم يغير الانسان ، الألم يغير شخصيته ومشاعره وكلامه وتصرفاته ، وهذا الألم قد غيرني تماما ، لذا لم تعد لك فرصة لاستغلال وكسر هذه الفراشة !"
اشتدت خطوط شفتيه بكبت وهو يقول من بينهما بجمود كاسر وكأنه ينفي حقيقة كلامها
"ولكن هذا الألم لم يغيرني ، فأنا ما ازال هائم بحب تلك الفراشة الكسيرة ، وهذه الحقيقة التي عليكِ تقبلها بكل احوالكِ"
ضاقت حدقتيها العسليتين بسحابة حزينة طافت على محياها ببهوت ، لتنفض رأسها بقوة وهي تندفع بسرعة الطلق هامسة بضيق
"انا قد تأخرت كثيرا ، ويتوجب عليّ المغادرة"
وهذه المرة استطاعت تجاوزه بلمح البصر عبرت حصونه وهي تنطلق تجري بالطريق ، ولكن بعد مسافة قصيرة كانت تترنح بارتجاف وهي تشعر بالعالم يدور بأمواج سريعة حتى طارت قدميها عن الارض وفقدت الشعور بهما ، وقبل ملامستها للأرض شعرت بشيء يسندها ويرفعها عاليا حتى وصلت عنان السماء مثل طائر محلق حر .
استمرت بغيبوبتها بين اليقظة والحلم حتى شعرت بقطرات الماء تسيل على بشرتها الجافة مثل هطول المطر على ارض قاحلة انعشت سطح روحها ، لترمش بعينيها الناعستين عدة مرات بإجهاد حتى استقرت على صورة الصدر الذي كان يحتويها واليد التي تقرب منها فوهة زجاجة الماء ، استغرقت لحظات إدراك قبل ان تفتح فمها الصغير وهي تتلقى انبوب الزجاجة الذي اوصل الماء بداخل حلقها الجاف ومدها بالحياة .
بعدها بلحظات كان يبعد الزجاجة عنها وهو يستبدلها بملامسة اصابعه الطويلة على وجهها ناعم التقاسيم وهو يهيم بجمالها وكأنه يرسم تحفة فنية فوق محياها ، لتغضن جبينها بضيق وهي تستعيد شعورها بالواقع بشكل تدريجي واطرافها الباردة تنتفض بإفاقة بداخل غمامتها الدافئة الحصينة ، ليكون ذلك الشعور المتغلغل بالقلب بتلك القبلة التي حطت مكان اصابعه على شفتيها المنفرجتين بإطباق مشتعل هو ما انتشلها من عالمها .
اتسعت مقلتيها العسليتين بجزع وهي تبتعد عنه لدرجة لم تدرك بأن ظهرها يصطدم بالمقود بداخل السيارة ، تشنجت ملامحها بألم غير مرئي وهو يراقبها بصدمة من اندفاعها الغير واعي ، لتتحامل بعدها على نفسها وهي تنهض بصعوبة من فوق ساقيه التي اتخذت مكان المقعد لتخرج من السيارة بأكملها .
ما ان استوت واقفة على قدميها حتى جرت خطواتها سنتمترات قصيرة ، لتتصلب فقرات ظهرها بارتجاف ما ان وصل لها بلحظات وهو يقول بأمر نافذ
"انتِ لست بخير يا صفاء ، وتحتاجين لرؤية الطبيب بسرعة لمعاينة حالتك وسبب غيابك عن الوعي !......"
قاطعته بسرعة وهي تستدير دورة كاملة حول نفسها لتلوح بيديها بوجل هامسة بإعياء واضح
"لا ، لا اريد رؤية الطبيب ، لا احتاج للطبيب !"
ارتفع حاجبيه باستغراب بعد ان اثارت الشك بقلبه بنفيها للفكرة بقوة ، لتخفض يديها بسرعة وهي تهمس بخفوت مشتت تائه بدائرات تفكيرها
"اقصد بأنني بخير جدا ، ولا احتاج لرؤية طبيب لمعاينة حالتي ، ولا اريد اهتمامك......"
غصت بكلامها بأنفاس مجهدة من ثورة المشاعر التي احتلت قلبها ونشرت الفوضى بداخلها ، لتشعر بدوار آخر يلف عالمها قبل ان يعود من جديد ليعتقل خصرها الغض بذراعه ويقرب جسدها من صدره الصلب ، ليغطي جبينها بيده يقيس حرارتها وهو يتمتم بوجوم
"ما بكِ يا صفاء ؟ انتِ غير طبيعية ! ما لذي تعانين منه ؟"
حركت رأسها بالنفي على صدره وهي تهمس بنشيج خافت تستشعر ضربات قلبه القوي مثل الحياة بجانب اذنها
"ليس هناك شيء ، انا بخير ، فقط متعبة قليلا"
كان على وشك قول شيء لولا الصوت الرجولي القادم من الطريق نفسه يهتف بقوة
"صفاء !"
التفت كليهما نحو مصدر الصوت والذي تلبس ملامح البرود الجليدي وهو يقطع المسافة بينهما بخطوات هادئة بثبات ، وما ان وقف امامهما وصاحب النظرات القاسية ما يزال يعانق جسدها ويكبل خصرها بذراعيه ، حتى قال بعدها بهدوء جاف يتغاضى عن كل ما يراه ويوجه حديثه لشقيقته
"ماذا تفعلين هنا يا صفاء ؟ لقد كنت ابحث عنكِ بكل مكان ، ألم اخبركِ ان تذهبي للسيارة وتنتظريني بداخلها ! ماذا حدث معكِ ؟"
ابعدت رأسها عن صدره بمقاومة وهي تهمس بخفوت مرهق
"اعتذر ، لقد اضعت الطريق للسيارة ، ولا اعلم كيف وصلت هنا !"
اومأ برأسه بدون معنى وهو يمد ذراعه لها قائلا ببرود قاتم يحافظ على انضباط نفسه
"إذاً هيا بنا ، علينا المغادرة من هنا"
ارتجفت مفاصلها ما ان شدت ذراعه على خصرها بإحكام وكأنه يطلب منها البقاء معه ، لتدير بعدها وجهها ناحية شقيقها الساكن وهي تمد كفها لذراعه لتقبض على يده الممدودة بقوة تعطيه الضوء الاخضر ليباشر بسحبها ، وبالفعل كان يسحبها بقوة من بين براثنه حتى اخفض ذراعيه على مضض لتستقر بلحظة بين احضان شقيقها والذي احاط كتفيها بذراعه بإحكام واسند رأسها على صدره .
غادر بعدها الشقيقين امام عينيه السوداوين الحالكتين وكل مشاعره السابقة حشرت بجوفهما ، لتتركه بعدها بتلك الهوة التي ألقته بداخلها بكل قسوة وطلبت المساعدة والنجدة من غيره لينقذها من نفس الهوة التي كان قد سقط بها كليهما بنفس المصير والقدر المحتوم .
_______________________________
كان يريح ظهره على جانب السيارة وهو يشرد بألوان السماء الشاحبة وكأنها تشارك سكان الارض اجوائهم الحزينة بانسجام متناغم ، فهو يعرف جيدا طبيعة هذه الاجواء وتآلف معها كثيرا حتى اصبحت لديه مناعة ضد كل هذه المؤثرات والمشاعر التي تتركها مثل هذه المناسبات والتي تأتي بالتتابع بداية بمراسم الدفن بعدها اصول استقبال التعزية وبالنهاية البقاء وحيدا والتحسر على ما فات والقبول بقضاء الله وقدره ، فهذه هي الحياة كل من عليها فاني وزائل وكلنا ستنتهي طرقنا بهذه الطريقة باختلاف المسببات والموت واحد .
تنهد بهدوء وهو يخفض نظره ما ان التقطها تسير بطريق ثابت بدون ان تعطي اهتمام لما حولها فقط تركز على نقطة بعيدة بفراغ عالمها وكأنها تعيش بظلام غير مرئي ، وهذه طريقتها المعروفة بإخفاء الألم بتلبس قناع من البرود والهدوء تحت غطاء من السواد الشاسع تستطيع الغرق به .
كانت تسير برفقة شقيقتها وهي تسحبها من يدها قبل ان تتوقف فجأة لتدفعها رغما عنها للوقوف ونشل نفسها من شرودها المسور حولها ، رفعت عينيها الزرقاوين وهي تنظر لمسار نظر الاخرى وسبب تسمرها بمكانها ، لترمش بعينيها برهبة ما ان ثبتت على الواقف بجانب سيارته وهو يقابلها بابتسامة هادئة رسمها بحرفية وكأنه يبث مشاعره لها من خلال تيارات تبادل الارسال بينهما .
افاقت على تحرك شقيقتها وهي تسير ناحيته مباشرة بخطوات متزنة بقوة لا تماثل خطواتها المترددة بخوف تعاكس نفسها ، وما ان اصبحت على بعد مسافة قصيرة بينهما حتى نطق اولا الذي استقام بعيدا عن السيارة وهو يقول بابتسامة معزية
"رحمة الله عليه ، البقاء لله"
اومأت برأسها بامتنان وهي تقول بهدوء لبق بدون ان يأثر ما حدث برباطة جأشها
"جزاك الله خيرا"
نقل نظراته باهتمام للواقفة بجوارها بدون اي حركة او صوت وكأنها دمية خشبية مربوطة بحبال وايدي تحركها ، ليقول من فوره بقوة مفاجئة بمحاولة لجذب انتباهها بعيدا عن فراغها
"هل انتِ بخير ؟"
سكنت ملامحها للحظات قبل ان ترفع عينيها بلمحة اهتمام وهي تتأمل تفاصيله بصمت ، لتومئ بعدها برأسها بردة فعل متأخرة وهي تهمس بخفوت
"اجل بخير"
اعتلت ابتسامة مفتونة محياه وهو يضيع ببحار عينيها الساكنتين طاف الألم بهما بزورق ابحر بوسط محيط جليدي ، ليشيح بعدها بنظره عنها وهو يقول للحارسة التي تقودها بهدوء مبتسم
"هل استطيع استعانة شقيقتك هذه الليلة ؟ فنحن الاثنين نحتاج لبعضنا البعض بشدة ، واعدكِ ان اعيدها لكِ سليمة وبأفضل مما كانت عليه"
اكتست ملامحها رداء العطف الغريزي وهي ترمق الواقفة بجانبها بابتسامة حنونة ، لتفلت بعدها يدها وهي تربت على ظهرها بقوة هامسة بابتسامة مفعمة بالقوة والدعم
"موافقة بشرط ان تعتني بها مثل روحك وتضعها بقلبك بالحفظ والصون ، وإذا لم تفعل ذلك فلن اتهاون معك ابدا !"
اومأ برأسه وهو يضرب بقبضته على صدره قائلا بثقة كبيرة بدون ان يتخلل بها الشك
"كوني على ثقة بذلك"
تغضنت زاوية ابتسامته بشغف وهو يثبت عينيه عليها منتظرا دورها بردة فعلها بلهفة غريزية ، لتخفض بعدها جفنيها قليلا تسد البحار بطبقة جليدية قاسية ، حركت بعدها قدميها تلقائيا بخطوات صغيرة تدفعها اليد التي تركتها بمنتصف الطريق قبل ان تصل اخيرا امام الرجل المنتظر بمشاعر جياشة طافت على سطح ملامحه الصريحة ، وبدون ان ينتظر دعوة او سماح كان يحاوط جسدها بذراعيه وهو يحتضنها بين اضلعه بقوة وكأنه يحاول مواساتها بطريقته بالاحتضان بعناق روحي يمد اتصال خفي بين قلبيهما .
رفعت يديها بتردد وهي تمسك ظهر قميصه تتنعم بتلك الاحضان لثواني فاصلة علها تطغى على تلك الاصوات التي ترنو بأذنها بكل دقيقة برنين صاخب موجع ، اخذت دقيقتين قبل ان يبعدها عنه برفق وهو يعيد رفع الوشاح المنسدل فوق رأسها بعناية شديدة ، ليلتفت بعدها على جانبه وهو يفتح باب السيارة بيد ليدخلها بيده الاخرى المستقرة على ظهرها برفق ، لتنتهي جالسة فوق الكرسي بصمت وهو يغلق الباب خلفها بهدوء حتى تأكد من انغلاقه .
ما ان ابتعد من امام الباب حتى اخذت مكانه (روميساء) وهي تقول لها عبر النافذة المفتوحة بابتسامة حانية بمودة
"اعتني بنفسكِ جيدا ، وعندما تشعرين بنفسكِ تودين العودة فأنا سأكون بانتظارك ، رافقتك السلامة"
حانت منها التفاتة نحوها وهي تزرع ابتسامة على محياها الشاحب مثل زهرة تفتحت بين الثلوج التي تراكمت حول قلبها ، وهذه كانت آخر صورة تتجسد بعينيها قبل ان تتراجع خطوتين ما ان تحركت السيارة وهي تشق طريقها بعيدا بعد ان اودعتها كل دعاء بقلبها وبأمان الله...
_____________________________
كان يقف مكتف الذراعين وهو يستند بظهره على طاولة الزينة وكل تركيزه يتمحور حول الجالسة على طرف السرير بهالة الصمت المشهورة والملاصقة لدربها ، وهو على هذه الحال الساكنة منذ ما يقارب الساعة وكأنها فقاعة هواء انحبس كليهما بوسطها ولا شيء بها سوى الاكسجين والمتنفس الوحيد لهما ، وهذا منذ وصولهما للمنزل ودخولهما من الباب وهي تتبعه طول الطريق بصمت وطاعة تامة بدون اي شعور او تعبير ينم على وجودها بعالم الاحياء ، ويعلم جيدا بأن هذه الامور التي تحدث معها ليست من صفاتها وسماتها الطبيعية وهي تناقض نفسها الحقيقية ، وعلى الارجح بأنها قناع آخر من الألم عندما تريد اخفاء مشاعرها واحاسيسها الوجدانية تحت طبقة من الجليد القاسية قد نسجتها بقوقعة صمتها المبهم ، وهذا اكثر ما استطاع اكتشافه عنها بمرور الوقت هو مهارتها بممارسة كتم المشاعر والعواطف بإرادة قوية لا احد يستطيع ان يزعزعها تحت اي ظرف كان وكأنها تقود نفسها لحبل المشنقة بدون اي خوف او رهاب لأنها بالواقع فقدت اهم صفات الانسان الحية وهي حب الحياة وعيشها بكل جوارحها وتفاصيلها !
تنفس بهدوء يسحب من الهواء المحاصر حولهما بحلقات الصمت المفرغة وكأن هالة حزنها تبعث على شعور بالاختناق باحتجاز كل الهواء الموجود بخندق مظلم ، ولكن عندما تكون بأكثر حالاتها طبيعية ونشاط ان لم تكن بكامل سعادتها يستطيع الشعور بالهواء يتدفق بقوة وحرية بينهما مثل طائر محلق بسماء واسعة ، وهذا لا يدل سوى على قوة السيطرة التي تملكها تلك الفتاة الصامتة بالتحكم بأجوائه وبالهواء الذي يدخل جسده وليس بحياته وعواطفه التي تتأجج معها فقط ، وكل هذا يحدث بصمتها فقط بدون ان تنطق بحرف ! فماذا سيحدث له لو كانت تنطق على الدوام وتستخدم الكلام وسيلة بمواقفها وحركاتها ؟!
شدد على اسنانه يغرسها بطرف شفتيه وهو يحني تفكيره بعيدا عن كل هذه الافكار التي لو سمعتها لتأكدت بأن هناك بالعالم من هو اكثر جنونا منها ، قال بعدها بلحظات بنبرة صلبة وهو يقطع الصمت الخانق قبل ان يفقده عقله
"هل انتِ بخير ؟"
سكنت حركات اصابع يديها المتشابكين بحجرها وهي تومئ برأسها بحركة صامتة غير معبرة ، ليعلو العبوس ملامحه بلحظة وهو غير مقتنع بتلك الاجابة بحركات الإشارة الصامتة التي لا تحتمل ، ليعتدل بعدها بوقوفه وهو يقول بجمود جاد بدون ان يتخلى عن موقفه بإخراجها من تلك الدائرة
"هل انتِ بخير ؟ اجيبِ يا ماسة !"
رفعت رأسها قليلا وهي تشرد لوهلة قبل ان تعود مجددا للإيماء بإيجاب صامت ، وهو ما دفعه لتلبس ملامح الغضب عند هذه النقطة وكأنها تتعمد استفزازه واضرام نيرانه بدون ان تدرك ، ليقول بعدها بصوت اعلى عن السابق وهو يشدد على الاحرف بحدة
"لقد سألت هل انتِ بخير يا ماسة ؟ هل من الصعب عليكِ ان تجيبِ على مثل هذا السؤال البسيط بدل حركات الإشارة الخرساء ؟"
تغضنت زاوية ابتسامته بإثارة ما ان رفعت رأسها بلمح البصر وهي تصوب نظراتها نحوه بجموح ايقظ القليل من سباتها القاتل ، وهذا افضل بكثير فهو يستطيع الشعور بسمات حياتها الآن وعودتها ولو جزئيا لحالها الطبيعية التي يعشقها ويدمنها ، ويا لغرابة الوضع فهل هناك زوج يحب بزوجته غضبها وجنونها ! هذا بالتأكيد مرض يتوجب معالجته !
عقد حاجبيه بتأهب وهو يتبع حركة شفتيها الجميلتين بعبوس مغري وهي تهمس من بينهما بخفوت جامد
"لقد سألتني هذا السؤال اكثر من مرة ، ألا تستطيع إيجاد طريقة اخرى لكي تقطع بها هذا الصمت بدل هذه الاسئلة الروتينية ؟ هل هذا افضل ما لديك ؟"
ارتفع حاجبيه باهتمام منسجم وهو يدس يديه بجيبي بنطاله قائلا بابتسامة جانبية بثقة غذت ملامحه
"حسنا سوف نغير صيغة السؤال بسؤال آخر ، هل انتِ حزينة ؟"
ضاقت حدقتيها الزرقاوين بألم استطاع ملامسة ظهوره بين امواج بحارها العاتية وكأنه اصابها بضربة مباغتة ، لتخفض رأسها بسرعة بضعف طغى على حركاتها وهي تهمس بصوت اجوف مأسور بحزنها
"حزينة ! هل تقول بأني حزينة ؟ هذه الكلمة تقال للشخص الطبيعي الذي فقد عزيز عليه ترك ذكرى غالية بقلبه ، ولكن هذا الكلام لا ينطبق على حياتي ، ولن ينطبق ابدا !"
غامت ملامحه عندما اختفى صوتها بدوامات سوداوية حبستها بصمت اكثر قتامة ، ليقول من فوره بهدوء جاد يحاول مجاراة حديثها لكي لا تغرق بصمتها
"انتِ شخص طبيعي يا ماسة ، ومن حضرتي جنازته قبل قليل هو بشر مثلنا بغض النظر عن مساوئه وجرائمه بحياته ، ولكنكِ مع ذلك تطمرين نحوه بالمشاعر الانسانية والتي قد تتغلب على الانسان بهذه المواقف والظروف لتكشف لنا جوانب شخصياتنا الجيدة ، وما اريد الوصول له بأنكِ بعد كل شيء تشعرين بالحزن عليه"
شددت على قبضتيها بحجرها لبرهة تكاد تخترق باطن كفيهما قبل ان تهمس بنفس الصوت الاجوف الذي تخلل به بعض الكره الغريزي
"انا لست حزينة ، ولماذا احزن ؟ من اجل رجل كان السبب الرئيسي بتدمير حياتي ! من اجل رجل سرق مني طفولتي وشبابي وشخصيتي تحت جبروته وقسوته ! من اجل رجل لم يرحل ألا بعد ان تأكد من انهيار حياتي وطمس هويتي وانغماسي بآثامه وذنوبه ! ولماذا عليّ ان اظهر الحزن عليه ؟ فقط لأنه اهتم بتربيتي وضمني تحت جناح منزله وحياته ! هذا السبب لا يجعلني اشعر بالامتنان له بل يجعلني اشعر بالكره لكل من ساهم بهذه العلاقة وكره نفسي اكثر للرضوخ له منذ البداية والسماح له بتحويلي لدمية بين يديه"
زفر انفاسه بهدوء وهو يحاول استعادة برود اعصابه بعد ان حولت الموضوع تماما بطريقة سربت مشاعرها السوداوية بحرية ، ليقول بعدها برفق شديد ليخفف من وطأة شعورها
"هذا يعني بأنكِ لست حزينة عليه ! ولا تشعرين بأي ذرة شفقة او حزن عليه ! ولم تتحرك مشاعرك جراء معرفتك بموت الرجل الذي قام بتربيتك لسنوات عديدة اخذ مكان والدك الروحي واكثر من والدك الحقيقي نفسه ، أليس كذلك ؟"
نظرت له بسرعة بعينين جليديتين بقسوة نابعة من قلبها وهي تهمس بكلمات نافرة كل جزء بها يشرحها بدون ان تدع له مجال للشك
"يبدو بأنك قد فهمت الامر بشكل خاطئ ، فأنا لست حزينة عليه ، ولن احزن عليه لأي سبب ، ولن اسمح للشفقة بتخلل قلبي فقد اغلقت عليه منذ زمن ، وليس منذ اليوم....كيف تفكر انت ؟ بأي عقل وقلب تريدني ان احزن عليه وهو الذي جعلني عديمة الضمير والرحمة اتجاه كل من يحاول اذيتي !"
عقد حاجبيه بتصلب وهو يتقدم عدة خطوات نحوها ليقول بعدها بجمود ما ان اصبح يقف بالقرب من السرير
"وما سبب هذا الحزن إذاً ؟ ولا تحاولي قول عكس ذلك وإنكار الحقيقة ، فقد اصبحت افهم تقلباتك المزاجية والشعورية جيدا ، وما تشعرين به الآن هو الحزن ، لذا هلا فسرتي لي سبب هذا الحزن ؟"
زمت شفتيها برجفة واضحة سكنت محياها قبل ان تشيح بوجهها بعيدا تخفي كل تلك الاضطرابات بداخلها ، لتعود بعدها للنظر ليديها بحجرها وهي تهمس ببؤس تغذى بالأسى والقهر بقلبها
"لقد اخطئت بظنونك نحوي ، واخطئت تفسير حزني كما يحدث مع الكثيرين من المقربين مني ، فكل شخص له نظرته الخاصة بي ومعناها الذي يفسره الظاهر له ، واغلب النظرات تؤدي لنفس النتيجة وهي بأني كائن غير سوي وجودي يختل بسلام الكون ، انت الآن تظن بأن حزني نابع من شفقتي عليه وتلك المشاعر الانسانية الصافية التي تذيب السواد والكراهية بقلوب الناس ما ان يشعرون بالخسارة الحقيقية بشعور الفقد ، ولكني لست كذلك يا شادي ، هل تعلم بماذا شعرت عندما وصلني خبر موته ؟ بالغضب والحزن والسواد يملأ قلبي بفجوة كبيرة ، ولكن ليس هناك من بينها حزن على الفقيد بشكل خاص ، بل حقد غذى قلبي بالانتقام والاقتصاص من السبب بخسارة حياتي وهويتي وطمسي بذلك السواد ، لقد انتظرت كل هذا الوقت الطويل يوم بعد يوم املاً بالحصول على انتقامي المنتظر ورؤيته يتعذب ويموت امامي ألف مرة ، ولكن ذلك لم يحصل ولن استطيع بعد الآن تحقيق انتقامي وستبقى روحي معلقة بذاك السواد المتأرجح بين شعور الحزن والخيبة ، فقد مات المحور الاساسي بانتقامي ، وذهبت كل آمالي واحلامي بالحياة هباءً ، مات وتركني هكذا روح بلا هدف وكيان بلا طريق توصلها للسلام الحقيقي بحياتها ، لقد فقدت فرصتي بالحصول على سلامي وبالمقابل الانتقام لنفسي على تلك الايام التي نسيت بها طعم السعادة ، ويبدو بأنني سأبقى هكذا لمدى الحياة ، فكما تعلم فاقد الشيء لا يعطي ، يعني حب الحياة والمشاعر الانسانية قد لا استطيع مبادلتها مع احد او مشاركتها مع البشر ، هذه هي حقيقتي والتي لا مفر لي منها !"
اخفض وجهه ونصف جفنيه يخفي الألم الذي انغرس بباطن قلبه مثل الاشواك الحادة التي تغلف حياتها الغير عادلة ، فماذا فعلت هذه الفتاة التي تسكنها طفلة وحيدة انطوت على نفسها حتى تستحق المرور بهذه الحياة والمشاعر التي غمستها بالسواد والعتمة بين اسوء مخلوقات الارض فقدت كيانها ونفسها بسبيل العيش ؟! بينما كان هناك عائلة واقارب كانوا يستطيعون ضمها لهم واحتوائها بمنزل ومكان مليء بالحب والاهتمام والامان الذي حرموها منه وكتبوا عليها العذاب لإرضاء حقودهم المريضة ! واللعنة على كل قانون ومبدأ كان السبب بإقصاء بنات عمته بعيدا عنهم كل هذه السنوات .
رفع رأسه بقوة وهو يستغفر ربه بصمت ليقول بعدها بجدية وهو يثبت عينيه عليها بقوة
"انتِ لستِ هكذا يا ماسة ، وتعلمين جيدا بأن الانتقام ليس الطريق الصائب للوصول للسلام بحياتك ، بل هو الطريق لدمارك اكثر وخسارة نفسكِ بذاك السواد المعبأ بقلبك ، وكل من يقول هذا الكلام هو بالحقيقة يعاني نقص بالدين ويفتقر للثقة اكثر بقضاء القدر والإيمان بقلبه بأن القادم سيكون افضل ، وما على الميت سوى الرحمة عليه فهو قد ذهب لتلقي عقاب اكبر وعذاب عظيم لن تستطيعي تخيل مصيره هناك ، لذا حاولي مسحه من قاموسكِ تماما واطوي صفحته تلك ولا تعطيه قيمة اكبر منه وسبب جديد لدمارك بعد كل ما فعله بكِ ، واثق تماما بأنكِ قادرة على تجاوزه كما تجاوزتِ امور اكبر واسوء منه بكثير ، وانتِ لست فاقدة للمشاعر الانسانية والحب كما يتوهم عقلك ، وألا كيف استطعتِ مبادلتي الحب بنفس القوة ؟ كيف استطعتِ اظهار كل تلك المشاعر نحوي بكل تلك القوة ؟ إذا كان هذا وانتِ فاقدة للحب ! فكيف ستكونين وانتِ غير فاقدة له ؟"
رفعت رأسها ببطء وكأنه استطاع جذب تفكيرها واهتمامها بنقطة اخرى بأمواج عواطفهما ، لتحني بعدها حاجبيها السوداوين بحزن عميق عبث برسوم ملامحها الفاتنة وهي تهمس بخفوت يائس
"ولكني اصبحت مشوهة بالداخل بمشاعر الانتقام التي غذيتها على مدار سنوات وشهور ، لا استطيع التخلص من وجوده وبصمته بحياتي ، لا استطيع التخلص من ذاك الشعور بالخيبة والندم والخسارة ، كيف تكون هذه نهايته بدون ان يمر بأي عذاب او آلام وبكل ما جعلني امر به طول حياتي ؟ لقد جعلني اتمنى الموت مئة مرة بحياتي ! لقد جعلني اكره نفسي وكل من حولي بشعور بالدونية والانحطاط ! وبعد كل ما حدث يموت هو ببساطة ويتركني انا اموت حية بالحياة مئة مرة بدون ان يرحمني قدري ويخلصني من عذابي ! كيف يحدث كل هذا معي ؟ لماذا لا ينصفني القدر لمرة واحدة ؟ لماذا عليّ ان اعيش هذا العذاب دائما ؟ لماذا ياربي ؟ لماذا ؟!"
تغضن جبينه بألم صامت وهو لا يفارق النظر لعيناها السابحة ببحر آلام فاض عن السيل حتى هطلت قطرة صغيرة حفرت طريقها بوجنتها الثلجية بعد ان تحملت بالكثير ، ليقول بعدها بشبح ابتسامة استطاع رسمها على محياه بصعوبة وهو يكتم بحجر فوق آلامهما الداخلية
"لا تكوني منهزمة هكذا يا ماسة ! تستطيعين تجاوزها والمضي بحياتك ، فأنا اعرفك اكثر من اي شخص آخر ، وألماستي الخاصة بي صعبة الرضوخ والقبول فهي لديها روح ابية تحارب المستحيل وتقف بشموخ وقلب صلب يتحدى القادم والجديد بدون ان يهاب احد ، أليست هذه انتِ ؟"
اهتزت البركتين بعينيها بسكون وهي ترسم شبه ابتسامة على محياها هامسة بضعف وكأنها تطلب العون وطوق النجاة من بحيرتها
"كيف ؟! كيف استطيع تجاوزها ؟ هل تستطيع مساعدتي بهذا ؟ انا احتاج إليك ، ساعدني"
ابتلع ريقه بصدمة اجتاحت كيانه ما ان تلقى ذاك العرض المباشر والذي لا تطلبه سوى عندما تنفذ منها الفرص وتفقد كل شيء ، ليرفع بعدها ذراعيه على جانبيه وهو يقول بابتسامة مسترخية باطمئنان دائما ما يقدمه لها على شكل إشارات عاطفية
"تعالي إلي وانا سأتكفل بنفسي بمساعدتك ، هيا تعالي"
نهضت عن السرير ببطء وهي تحدق به برهبة دائما ما تنتابها كلما ناداها للغوص بعالمه الخاص الذي يختلي من كل سوداوية وسلبيات عالمها ، وما هي ألا لحظات حتى كانت تقطع المسافة بينهما بخطوتين واسعتين اوصلتها لبر الامان الخاص بها والذي لا تجده سوى بتلك الاحضان ، وهي ترمي بنفسها على صدره وتتعلق بذراعيها حول عنقه تكاد تستشعر لهيب دفء مشاعره وضربات قلبه مثل السمفونية الناعمة فوق خفقات قلبها الحزين والمريحة لأعصابها المشدودة بعد كل تلك الاحداث القاسية .
كان يربت على ظهرها بلمسات ناعمة وهو يشعر بتقلصها بين ذراعيه كلما تمسكت به وكأنها تتفاعل مع ذبذبات جسده بطبيعتها الغير مدركة نفسها والمتعطشة لكل انواع المشاعر العاطفية ، وما ان مرت لحظات اطول حتى حاول ابعادها قليلا وهو يشعر بانهزام نفسه امام ذبذباتها الخاصة ، ولكن ما حدث عكس ذلك وهي تتمسك بعنقه اكثر وتشد جسدها عليه وهمساتها تخرج بخفوت حار يستطيع استشعار لهيبها
"اريدك ان تحتضنني اكثر ، احتضنني يا شادي ، امسح عني ذاك الألم ، وبادلني مشاعرك ، انا احتاج مشاعرك ، احتاجك بشدة !"
زفر انفاسه بصدر مرحب بعد ان اعطت موافقتها بشكل غير مباشر نزلت على قلبه اجمل من السحر والملهوف عليها ، ليشب يديه بخصرها بقوة لا ليبعدها بل ليقربها اكثر وهو يهبط بقبلاته على طول خصلاتها الفوضوية الخارجة من الوشاح الاسود يفسد عليه طريقه ، ليرفع يده باللحظة التالية وينزع الوشاح عنها وهو يلقي به ارضا ليكمل الغوص بأمواج شعرها ناعمة الخصلات وعديمة التهذيب وهو يغرق بعطرها الخاص بها وحدها حد الإدمان ، ولم ينتبه بأنه قد وصل بها عند حافة السرير ألا عندما سقط كليهما فوق الفراش بدون ان تترك قبلاته عنقها الطويل من تحت ستار شعرها وكأنه لا يريد فقدان ذاك الاتصال الناعم بينهما وبداية حرب العواطف .
تعلقت به اكثر بذراعيها النحيلين حول عنقه تعطيه الدعم والتفاعل لإكمال حربه بدك حصونها ، ليرفع بعدها رأسه على بعد سنتمترات من وجهها لبرهة وهو يشرف عليها من علو ، ليقول بعدها بابتسامة منفعلة بهدير المشاعر
"هل انتِ متأكدة من قرارك ؟ فأنا كنت اريد ان امنحك الوقت الكافي حتى تتشافين من ألمك وتنتهي ايام الحداد ، ولا ارغب حقا بإجبارك على تقبل علاقتنا باستغلال ألمك"
كانت تحدق به بعينين كبيرتين بتوهج الاحتياج الواضح بحديث صريح ، لترفع نفسها بمساعدة ذراعيها حول عنقه قبل ان تطبق على شفتيه بقبلة قوية تختلف عن قبلاتها الخجولة وكأنها توصل له رسالة جريئة عن مقدار موافقتها بتلك العلاقة سمحت للمشاعر ان تطفو على السطح ، ولم تتوقف حتى شعرت بتفاعله البطيء على قبلتها وهو يشاركها الشغف بسباق قبلات ساحقة سحبت كل الهواء بينهما واشعلت الاجواء بين تيارات جسديهما بتجاذب عالي ، وما ان انتهى من ارتشاف قبلاتها حتى اخفض وجهه لعنقها مجددا بانقضاض وصول حتى نحرها الابيض الناعم وهو يفك ازرار القميص بأصابعه الطويلة وبمعاونة قبلاته التي تلاحق انفتاح الطريق امامه ، بينما غابت الاخرى بعالمهما الخاص بهما وحدهما فقط الذي لا يكون به سوى الشعور بالعاطفة الجميلة وتسرب المشاعر الجياشة التي تقضي على اي شيء خارج حدود تلك العلاقة ، وهذا ما كانت تحتاجه بتلك الاوقات التي لا تريد منها سوى الاستمتاع بالحاضر ونسيان الزمان والمكان برغبة بتذوق طعم السعادة ولو للحظات قليلة .
بعد مرور ساعات طويلة كان يتقلب بنومه على جانبه وهو يستمتع بالراحة السحرية التي يتنعم بها مسحت كل الاتعاب النفسية والجسدية عنه ، ليغضن بعدها جبينه بوجوم وهو يتحسس جانب الفراش الخالي والذي ايقظه من احلامه على الواقع ، ليفتح عينيه باللحظة التالية وهو يصطدم بفراغ الفراش والمكان بعد ان تركته يغط بالنوم لوحده لتتسلل هاربة من عالمه خلسة .
استقام جالسا على الفراش وهو يسند ظهره على خشب السرير بهدوء ، ليتنفس بعدها بإحباط وهو يتجول بنظره بجانب الفراش المرتب الخاص بها ، لتقع عينيه بلحظة على الورقة المطوية فوق الوسادة الناعمة وجهت كل تركيزه عليها .
مال بجسده على جانبه وهو يمد ذراعه ليلتقط الورقة المطوية من على الوسادة ، وما ان عاد لجلوسه وهو يفتح الورقة حتى بدأت عينيه تلاحق الكلمات المرتبة من بداية السطر بإمعان واهتمام شديدين
(صباح الخير يا زوجي العزيز ، اتمنى ان تكون تنعمت بنوم هانئ ومريح بعد تلك الليلة الحافلة بضراوة المشاعر والعواطف ، ولم ارغب بإيقاظك من نومك الحالم فقد كنت تبدو غارق بنوم عميق سعيد رق قلبي لك ، وهدفي من هذه الرسالة هو ان اوصل لك مدى سعادتي وامتناني الخالص لك على تلك الليلة ومجهودك الذي بذلته بمساعدتي على نسيان حزني والمضي قدما ، واعتذر على هروبي من عالمك بهذه الطريقة ، فقد توجب عليّ الرحيل الآن لجمع شتات نفسي واصطلاح حالي والتي دمرتها الظروف واحداث الماضي وسواد حياتي ، واعدك عندما اشعر بنفسي اصبحت اقوى واملك القدرة على تجاوز مصاعب الحياة عندها سأعود لك فتاة صلبة خالية من الجروح والحروق وتبادلك الحب والمشاعر بكل قوتها وبكل شغاف قلبها ، وحتى ذلك الحين وداعا يا شادي الفكهاني ، اتمنى لك حياة سعيدة ، واعلم بأنك ترى بي الآن فتاة انتهازية وانانية وجشعة ! ولكني مع كل ذلك احبك يا شادي الفكهاني ، فأنا ألماسة شادي الفكهاني اعلن عن ملكيتي الحصرية بك الآن ولمدى الحياة ! . ملحوظة : احتفظ برسالتي جيدا كما احتفظت برسالتك)
ارتفعت زاوية شفتيه بالتواء ساحر وهو يشعر بشتى المشاعر والاحاسيس بكلمات رسالتها البسيطة والتي عبرت عن المضمون بكل صدق ، وهو الذي كان يفكر البارحة بسيطرة هذه الفتاة بصمتها فقط ، والآن قد رأى سيطرتها بالكلام ايضا عندما تعبر البحار والمحيطات بمشاعرها التي تصل للهدف بنجاح والتي لا تعادل اي اشعار او قصائد وكل الكلام يصمت بعرش جمالها !
ارجع (شادي) رأسه لظهر السرير وهو يضرب الورقة على جبينه قائلا بابتسامة ملتوية بمكر
"لقد فعلتها بنفس طريقتي ، تلك المخادعة الصغيرة ، ماذا تخفي بجعبتها يا ترى ؟"
_______________________________
كانت تسير على غير هدى بوسط غابة موحشة من القبور وكل منها يحمل تاريخ واسم وكنية دفنت تحت الحياة وشهدت على انتهاء قصتها ، ولا احد يعلم عن الاحياء والذين دفنوا فوق الارض بقلب مات مع احبائه ومع هجرانهم له وروح فرغت من كل المشاعر الحية وبقيت موحشة مظلمة مثل البيت المسكون ، توقفت بنهاية طريقها امام القبر الذي يقارب عمره ستة عشر عاما والفيصل والحقبة التي انهارت بها حياتها وتدهورت ، لقد كان هذا قبر والدها الحقيقي وليس والدها المزيف الذي اهتم بتربيتها بزواجه من والدتها واخذ مكان رب المنزل بعائلتها ، وهي تذكر جيدا رفضها العنيف وبكائها الشديد عند تلك اللحظة التي اعلنت بها خيانة والدها تحت التراب والزواج من غيره ، لقد قتلت قلبها الصغير والمتعلق ببطلها الوحيد والدنيا التي تدور من حوله فقط وكل المشاعر الوليدة التي كانت تكنها لرجلها الأول بفعلتها التي لم تغفر لها للآن ، وهذا كان سبب شذوذها ناحية والدتها كل تلك الفترة التي عاشت بها تحت ظل ذاك الرجل الغريب حتى اصبحا اكبر عدوين بحياتها خانوا والدها تحت ترابه ومات قلبها المغدور معه .
تنهدت بصمت وهي تستغفر ربها بقلب اظلم بعد كل ما شاهده واصبح ببرودة الثلج ، لترفع بعدها يدها بحركة عفوية وكأنها تلقي التحية على والدها هامسة بخفوت حاني تحشرج بحنجرتها
"مرحبا يا ابي ، لقد جئت لألقي السلام عليك واطمئن على حالك ، هل ما تزال تتذكرني ؟"
ابتلعت ريقها بغصة نحرت روحها وكأنها تستقبل ألم الحنين والشوق والانكسار برحابة صدر وهي تقبض على يدها المرفوعة بالهواء بقوة ، لتتابع بعدها كلامها وهي تهمس بنفس الصوت المبحوح بأسى ممزوج بالشوق القاتل
"هل ما تزال تذكر فتاتك القوية ؟ هل ما تزال تشتاق لي كما انا اشتاق لك ؟ هل مت بقلبك كما مت بقلوب الاحياء ؟ هل...هل تذكر بطلتك الخارقة التي تتحدى المستحيل وتقاتل بشجاعة ؟ هل تذكر شيء من هذا ؟"
اخذت عدة انفاس بتعاقب وهي تضم قبضتها لصدرها لتضرب عليه بقوة هامسة بحزن عميق انزرع بفؤادها
"انا اتذكر كل شيء ، اتذكر كل تلك الايام التي كنا نقضيها معاً بكل تفاصيلها وذكرياتها ، اتذكر العبارات التي كنت تدعمني وتشجعني بها للتقدم للأمام ، اتذكر احضانك الدافئة التي كنت تستقبلني بها بكل مرة تأتي عائدا من الخارج تشعرني بأن هناك من يحبني بصدق ومن اعماق قلبه ، بالرغم من انشغالك الدائم بالعمل وإهمالك لي ببعض الفترات التي تدخل بها بشجار او جدال غاضب مع امي ، ولكنك لم تشعرني يوما بالغضب او الكراهية نحوي عكس والدتي والتي كانت تراني متنفس لغضبها واستيائها منك ، لقد كانت اجمل ذكريات حياتي واسعدها ، لأنك كنت الجزء الاساسي بتلك الذكريات يا ابي ، لقد كنت الجزء الرائع والجميل بتلك الطفولة التي لن انساها بحياتي ، فهل تذكرها مثلي ؟"
تنفست بتهدج انتفخ بصدرها بقوة وكأن جدرانه لم تعد تتسع كل هذا الكم من الذكريات والبؤس الذي تعايشه منذ فقدانها ذاك الجدار والحصن الذي كان يمثل كل الحماية بحياتها ، لترفع قبضتها بسرعة وهي تمسح دمعة غادرة افلتت من رموشها بتثاقل ، كتفت بعدها ذراعيها فوق صدرها باضطراب وهي تهمس بابتسامة حزينة بمرارة الندم
"اعتذر يا ابي لأنني انقطعت عنك بالزيارة كل هذه المدة ، بالتأكيد اشتقت لسماع احاديثي عن مجريات يومي وكل المستجدات بحياتي ، ومعك حق بالعتاب عليّ ولومي بسبب كل تلك المدة التي لم ازورك بها ، ولكنها لم تكن بإرادتي فكل شيء بحياتي اصبح خارج سيطرتي ! لذا اعذرني على تقصيري نحوك وعدم السؤال عنك ، فأنا بالرغم من انقطاعي الطويل عنك وعدم المجيئ إليك ولكني دائما ادعو لك بقلبي وروحي بكل صلاة ودعاء وبمنامي ويقظتي بأن يشفع الله عن اخطائك ويغفر لك ويرحمك برحمته ، فأنت دائما ستبقى مرتبتك عندي الأولى والتي لا يتخطاها احد"
اخذت انفاس اطول تشحنها بمشاعر اقوى وهي تشوش الرؤية امامها بسحابة الذكريات التي هطلت عليها بأحزانها ، لتهمس بعدها بقوة رغم بحة صوتها الباكية وكأنها تمثال شمع ذاب وتقلص مع الأيام
"اليوم كانت مراسم دفن زوج والدتي ، ذاك الرجل الذي اخذ مكانك بحياتنا ، ولكنه تلقى مصيره بالنهاية ولقى حتفه بطريقة لم يتوقعها احد ، وهي نهاية كل رجل سيء ساهم بتدمير حياته وكل من حوله وكسب من الذنوب والخطايا بحجم مياه المحيطات حتى اصبح من الصعب مسحها من حياته ، وهو الآن قد ذهب لقاضي عادل سيأخذ كل حق المظلومين منه ويقتص كل ذنب واذى اقترفه بنا ويحقق السلام لنا ، ولكن لا تقلق فلن يحدث بينكما لقاء لأنه ذاهب لمكان يناسب كل امثاله من المجرمين والخطائين بالحياة ليلقى عقوبة افعاله"
زفرت انفاسها ببعض الاهتزاز اللا إرادي خرج عن سيطرتها وهي تشدد من ضم ذراعيها امام صدرها تسكت الألم بداخله وتذبحه ، لتحني بعدها حاجبيها السوداوين وزوايا حدقتيها الخضراوين بانحناء حزين وهي تهمس بارتجاف وكأنها تشارك اكبر همومها لأكثر شخص يتفهم آلامها
"لقد دمر حياتنا يا ابي ، لقد تدمرت ابنتاك ولم تعد لديهما القوة على المجابهة والقتال ، لقد قتل قلب وضمير ابنتك ماسة التي كانت تملك اجمل ضحكة واجمل روح على الاطلاق ، هي التي كانت تملئ عالمنا سعادة وبهجة بحركاتها ومشاغبتها ولطافتها وكأنها توهب المكان والموجودين به حياة مفعمة بالحيوية والتفاؤل وتسحر الناظرين لها اينما ذهبت وكأنها مادة نادرة بالوجود ، وقد كنت دائما تخاف وتقلق من عيون الحاسدين والسيئين نحوها من ان تصيبها مكروه او تطالها اذى ، والآن لم تعد صغيرتك المشاكسة كما كانت فقد تغيرت تماما ، لقد دمروها ولم يكن بيدي فرصة لإنقاذها ، لقد ضيعت فرصتي باحتوائها وابعادها عن كل ذلك الاذى والشر ، فقد تمكن منها الجميع وعبثوا بصورتها الجميلة حتى اصبحت سوداوية منغلقة بقوقعة الوحدة بشكل من المستحيل ان تتوقعه او تتخيله ، لقد ظلموها يا ابي ! لقد ظلموا صغيرتاك !"
ارتجفت بشهقة مريرة مرت على كامل جسدها واعضائها الداخلية حتى شعرت بقدميها لم يعودا قادرتين على حملها ، لتحني بعدها ركبتيها اسفلها حتى لامس قماش بنطالها الارض الباردة برطوبة التراب الندي ، لتمسك يديها بالطوب المسور حول القبر وهي تخدشه بأظافرها القاسية قبل ان تهمس بلحظة بخفوت منتحب مكملة صب ينبوع احزانها بقبر انسان فارق الحياة واصبح انيسها الوحيد بكل سنوات عمرها التي تخلى بها الجميع عنها وكشف عن وجهه الحقيقي
"انا فاشلة يا ابي ، انا انسانة فاشلة ، لقد فشلت بتلك المهمة التي اوكلتني إياها ، لقد اوصيتني دائما على حماية شقيقتي ماسة واحتضانها بكل قوة وعدم السماح بأذى ان يصيبها ، لقد اخبرتني دائما بأن ماسة مسؤوليتي منذ كانت بالرابعة بسبب معرفتك سلفا بانعدام انضباطها واستهتارها وبالعالم الذي يقتنص الفرص للحصول عليها والنيل منها ، وايضا بمعرفتك بوالدتها التي لا تتحمل المسؤوليات وليست اهل بالعناية بها بسبب نوبات غضبها وانهيارها الذي يحولها لوحش لا يفرق بين قريب وغريب ، لذا كنت تحملني كل المسؤولية على عاتقي للعناية بها وابعادها عن كل تلك المخاطر ، ولكني بالنهاية لم انجح بذلك ، رغم كل توصياتك وتنبيهاتك لم انجح بشيء ، فقد خسرتها امام عينيّ ولم انتبه لها ! لقد اصبت بتكهناتك وتوقعاتك نحوها فقد تحققت جميعها واصبحت واقع امامي ، فقد كانت تموت امامي حية بدون ان اعرف ، لقد ماتت ماسة عدة مرات ولم افعل لها شيء ، لقد خذلتك يا ابي ، لقد خذلتك بكل شيء ، لم اكن الفتاة القوية التي تتحدي المستحيل ، باتت الفتاة القوية اضعف من اي زهرة ذابلة تكسرت سيقانها ! سامحني يا ابي ، سامحوني على نقض عهودي لكم ، سامحوني على خذلانكم !"
تنفست بتسارع عنيف تحاول تنظيم انفاسها الذاهبة وهي تحف اظافرها على سطح الطوب الذي تكاد تخترقه بقسوة مخالبها ، لتهمس بعدها بابتسامة يتيمة تستعيد ذكريات الماضي الاسير
"هل تتذكر ذاك اليوم يا ابي ؟ عندما احضرت تلك الطفلة الرضيعة حديثة الولادة ووضعتها بين ذراعي وكأنك تنقل كامل مسؤوليتها لي ، لقد حملتني ثقل اكبر من طاقتي بكثير ، اجل لقد كانت تلك المسؤولية تثقل عليّ يوم بعد يوم بدون ان يفكر احد منكما بعمر تلك الطفلة التي لم تتجاوز الخامسة من عمرها ! لقد قلت حينها كلام لم انساه بحياتي عندما ابتسمت لنا الطفلة الرضيعة للمرة الأولى وهي تمسك بيدها الصغيرة خصلات شعري بقوة ، قلت بأن هذه الطفلة هي جوهر العائلة هي فرحهم وحزنهم عندما تفرح وتضحك كل من حولها يفرح وعندما تحزن وتبكي كل من حولها يبكي من اجلها ، لذا علينا بالسيطرة واحتواء مشاعرها ومزاجها وإيصال زورقها لشاطئ الامان ، بذلك الوقت لم اعير كلامك اهتماما كبيرا بسبب صغر سني وفرحتي بشكل ذلك المولود والتي كانت اشبه بدمية صغيرة ، ولكن عندما فهمت معنى كلامك كان الآوان قد فات وضاعت مني للأبد ، فقد حدث ما كنت تخشاه وتحذرني منه يا ابي ، باتت ماسة مجرد دمية فاقدة الروح والرغبة بالحياة ، لقد اخذوها منا وتركوها جسد امرأة تجرد من الحياة والفرح وكل تلك السمات المهمة التي كانت تمتلكها ! وهذا يعني بأن كل العالم وكل من يعيش حولها لن يعرف السعادة ابدا لأن ماسة حزينة وتبكي وحتى تجد سعادتها وفرحها فلن يتوقف الحزن وسيبقى هكذا للأبد"
اخفضت رأسها هذه المرة بانكسار كل العالم وكأن الهموم قد تكدست فوق كتفيها واتعبتها كل تلك الاعوام والشهور بدون ان يرحمها احد او يتشارك معها الحِمل ، لتقبض على يديها فوق الطوب بلحظة واحدة مزقت اظافرها باطنهما بقسوة وهي تهمس بتعب حقيقي تقطع بصوتها بعد ان وصلت على شفة من الموت
"لقد تعبت جدا ، تعبت يا ابي ، تعبت من كل شيء ، تعبت حتى لم يعد جسدي يقوى على المتابعة ! تعبت لدرجة لم اعد اعرف بها كيف يكون طعم الراحة ، لقد تم اغتيال ابنتك ودهس حقوقها وسرقة عمرها بكل الوسائل الممكنة ، لقد عشت طفولة قاسية ومراهقة متعبة وشابة خانوها اقرب الاشخاص منها حتى لم تعد تثق بنفسها وفقدت الإيمان بمن حولها ، لقد نسيت كل ما علمتني إياه عن الصبر والمثابرة بشجاعة والوقوف بثبات ، لقد نسيت كل هذا وكأنني ضربت رأسي بطريقة ما جعلتني اعاني من فقدان الذاكرة ، او بسبب مقدار الألم الذي تعرضت له جعلني اتناسى كل شيء حدث بالماضي وكل تلك الذكريات الجميلة التي اصبحت تنزل على قلبي بمذاق المرارة المؤلمة ، ما عساي افعل وانا التي استغلت وانخدعت اكثر من مرة ؟ كيف استحضر كل تلك المشاعر بعد ان جردوها مني ؟ كيف اقف بثبات واجبر نفسي والجميع يصر على كسري ؟ لقد حاولت يا ابي ، لقد حاولت بكل جهدي ، ولكن ماذا افعل إذا لم اجد القبول والمساعدة من الطرف الآخر ؟ ماذا افعل اكثر من هذا وانا التي نفذت كل الحلول والمقدرة منها ؟ انا لست مذنبة يا ابي ، بل هم المذنبون لأنهم لم يقدرونا بعالمهم وانتقموا منا شر انتقام !"
شهقت بقوة وهي ترفع قبضتها لشفتيها تغطي انهيارها الصامت الذي هز جدران قلبها المنيع ، لتسيل بعدها دموعها من مقلتيها الخضراوين اللتين امتلأتا بذكريات الماضي ومآسي الحاضر حتى اخترقت غشائهما الرقيق وتحررتا على صفحة ملامحها الاكثر هشاشة ، اراحت بعدها جانب رأسها على سطح الطوب الخشن وقبضتها تفردها بجانبها بصمت تتمعن بأصابعها البيضاء النحيلة التي تمسح التراب عن الطوب بحركة وهمية ، لتغمض بعدها نصف جفنيها تحرقهما بحرارة دموعها والتي تتقاطر على الطوب البارد يطفئ لهيبها ويبرد نيرانها .
همست بعدها بلحظات بأنين خافت وكأنها تستجدي الرحمة من الاموات وانفاسها المتلاحقة تضرب التراب وتبعثره بغيوم دخانية
"اشتقت إليك ، اشتقت إليك يا ابي ، كلما مررت بأيام صعبة وخضت بتجارب وظروف ادرك اكثر اهمية الوالد بحياة الفتاة ، وخاصة بحياتي انا والتي تحتاجك بقربها اكثر من اي وقت مضى ، احتاج لأحضانك التي كانت تحتويني طفلة مجروحة وقعت اثناء لعبها بالأرجوحة ، احتاج لكلماتك التي كانت تواسيني وتشجعني عندما اخسر بجولات الحياة ، احتاج لسماع صوتك وانت تقول لي بأن كل شيء سيكون بخير وبأن لكل حادثة ومحنة حكمة لها ، احتاج لسماع ذلك الكلام منك ، احتاج إليك لترشدني وتوجهني بطريقي ، لقد ضعت بدروب الحياة بدونك ، ولم اعد اعرف ما هو الصالح لي وما هو السيء لي ، ابنتك الكبيرة تحتاج إليك ، تحتاج وتشتاق إليك ، ألا يوجد هناك طريقة اصل بها إليك ؟ ألا يوجد طريقة ترحم بها عذابي وتريح قلبي ؟ انا اموت بدونك يا ابي ! اموت بدونك !"
عصرت جفنيها بشدة وهي تنتحب ببكاء صامت فقدت السيطرة على تخبطاته التي تزيد انكماش جسدها الصغير بانفعال وانهيار تراكم عليها ، ولم تسمع صوت الخطوات المقتربة من مكان جلوسها يسير بثبات نحو التي اصمت اذنيها عن كل شيء ما عدا صوت بكائها المكتوم الذي طغى على حواسها ، وما ان غيم الصمت من حولهما لثواني خاطفة حتى كانت تشعر بيدين تمسكان كتفيها تبعدانها عن الطوب برفق قبل ان يديرها ويأخذها بأحضانه التي كانت البديل الافضل عن برودة الطوب وعن القلب الميت وهي تسمع قلبه الحي يسكن بأجراس اذنيها وبصدرها بحياة نفذت لها ، لتتمسك بعدها بتلك الاحضان بتشبث وهي تبكي عليها بشدة وكأنها تعوض عن كل تلك السنوات التي عاشتها بالعراء بدون ظل اب يحميها ويحتويها بداخله ، وهي تجسده على شكل الأب الذي رافق طيفه منامها ويقظتها وماضيها وحاضرها حتى اصبحت تهذي به وتتخيله يحتضنها الآن ويواسيها بكلمات مطمئنة تاقت لها بشدة ، ولكن الواقع مغاير لتلك الاوهام التي نسجها عقلها ولم تدرك بأنه بعيد كل البعد عن والدها الذي احبها كطفلته الأولى بمشاعر اب عطوف حنون بخلاف الرجل الآخر المحتضن والذي احبها وعشقها بكل مراحل العشق ومواسم الحب كطفلة ومراهقة وشابة...وبلا شك هناك اختلاف شاسع بينهما .

نهاية الفصل.........

بحر من دموع Where stories live. Discover now