الفصل الخامس والأربعون

79 4 0
                                    

تنهدت بوجوم حزين غشى نظراتها وهي تقف خارج حدود الغرفة مستغرقة بمشاهدة الجالسة فوق السرير تبدو طبيعية جدا بهدوئها المستكين وبنظر الجميع ولكن من يعرفها جيدا يعلم بأن بها عطب او كسر جعلها تعيش صدمة طويلة المدى غيرها لذاك الكائن القابع بسكون ينتظر مرور الايام فقط او انقضاء الوقت ، وهذا ما اثار فضول وقلق باقي افراد العائلة بحالتها التي لم تمر على البشرية ارهقت الاطباء والمعالجين النفسيين الذين حاولوا معها بشتى الطرق ليخرجوها من سكونها ويجدوا العلاج لمشكلتها الغريبة ، ولكن لا شيء من هذا كان يجدي نفعا معها وهي لا تتقدم اي خطوة نحو العلاج مع كل الوسائل التي استخدموها معها يعجز العلم عن تفسيرها حتى استسلموا بنهاية المطاف وتركوا الامر لقدرتها الخاصة على التجاوز والإرادة ليطول الامر شهر كامل على تلك الحالة !
بالسابق كانت تنزعج كثيرا من نوبات بكائها وشكواها بكل مرة تعود بها من منزل زوجها تحمل هموم جديدة ومشاكل صغيرة تهولها حتى تصبح اكبر من الحجم الطبيعي وتعطيها قيمة اكثر مما تستحق ، وكأنها بالهروب من منزلها والشكوى والبكاء على اصغر الامور قد تنحل عندها المشاكل بأعجوبة ولن يبقى شيء يعيق علاقتها الزوجية التي راهنت دائما على فشلها ، ولكن بهذا الوضع الراهن فهي حقا لا تطيق سكونها البالغ الذي طوقت نفسها به وكأنه لا وجود لها بالمنزل لا صراخ ولا همس ولا بكاء تكاد لا تشعر بوجودها البتة ! والآن فقط قدرت النعمة التي كانت تعيشها مسبقا عندما كانت شقيقتها تعبر عن مشاعرها ببكائها وهذيانها افضل حالا من سكونها الحالي فهناك دائما شيء اقل بلاءً من الآخر ولو كرهت نفسها الاثنين .
شددت بيدها على إطار الباب وهي تسبح بدوامة الاسى التي ترافقها بكل مرة تراها بتلك الحالة المأساوية ، فهي رغم معرفتها الاكيدة وتيقنها بحدوث هذا الانفصال حتى انه لم تفاجئ عندما سمعت بالخبر ولكنها مع ذلك تشعر بالحزن يضيق بأنفاسها والكآبة تتآكل بداخلها ، فلم تظن بأن حدوثه واقع امامها سيكون بكل هذا الألم عليها وعلى صاحبته والتي فقدت شخصيتها بسبب عواقب افعالها وهي تتلقى جزاء ذنوبها .
استطالت برأسها قليلا وهي تراقب والدتها تحاول تشجيعها على الطعام كما تفعل كل يوم بدون اي كلل او ملل ، وبالنهاية تستسلم لعنادها وتترك الطعام عندها لتتناول منه عندما تجوع وتنهشها معدتها لترضخ لغريزة العيش ، وقد حاولت مرة من المرات التكلم معها وإخراجها من حزنها ولم تجني منها سوى تعليق جاف انتشلها من صمتها مؤقتا
(لا احتاج شفقتك)
ابتلعت ريقها بجمود وهي ترجع رأسها ما ان استقامت والدتها ويبدو بأنها حصلت على فشل جديد مع عناد ابنتها الصامتة ، لتتجه بعدها نحوها وهي ما تزال تنظر لابنتها بحزن عميق حفر تقاطيع على ملامحها المترفعة ، وما ان مرت بجانب ابنتها الثانية حتى قالت بأمر لا يقبل النقاش
"اتبعيني اريد التكلم معكِ"
اومأت برأسها بدون ان ترى حركتها فقد كانت تبتعد عنها وهي تتجه للسلالم مباشرة ، لتلقي نظرة اخيرة على الساكنة بمكانها بدون ان تعرف إلى متى ستطول حالتها هكذا ! فهي منذ كلامها معها آخر مرة وردها الجاف امتنعت عن محاولة التقرب منها او مواساتها لكي لا تتلقى جرح آخر منها قد لا تستطيع احتوائه ، وهذا ليس غريب عليها فهي لم تعتبرها يوما اخت او صديقة او داعمة ودائما ما تقصيها بعيدا عن حياتها لذا لن تفاجئ بأي فعل حاد يخرج منها .
اتجهت للسلالم بسرعة وهي تنزلها بصمت حتى وصلت عند مكان جلوس والدتها بغرفة المعيشة ، لتجلس بعدها على الاريكة المقابلة لها وهي تضم يديها بحجرها تشاهد شرودها الحزين الذي سيكون موجه لحياة ابنتها المطلقة التي تم طلاقها بأول جلسة وبسرعة قياسية بدون تدخل احد من الافراد ، وهذا يعني بأن زوجها حقا قد ضاق ذرعا منها بعد ان وصل الحد الاخير بعلاقتهما .
"كيف هي حياتك ؟"
اتسعت حدقتيها بانتباه وهي تنظر للتي تكلمت لأول مرة بدون ان تخرج من هالة شرودها ، لتهمس بعدها بخفوت متوجس تتأكد من فحوى سؤالها السابق
"ماذا ؟"
نظرت لها بملامح هادئة وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها قائلة بتصلب جاد
"كيف هي حياتك ؟"
ابتلعت ريقها بارتباك وهي تشدد على كفيها بحجرها بعد ان وضعت تركيزها على حياتها وخرجت من حياة ابنتها الأولى ، لتهمس من فورها بابتسامة مفتعلة بطبيعية
"جيدة ، كل شيء على ما يرام ، ولكن ما سبب هذا السؤال المفاجئ ؟"
عقدت حاجبيها بجمود وهي تقول بهدوء صارم
"لقد تجاهلتكِ طويلا وتوقفت عن السؤال عن حياتك والمستجدات بها ، فقد شغلتني مسائل شقيقتك وحياتها التي تداعت وانتهت ، وانستني تماما طبيعة وضعك والاطمئنان على استقرار حياتك بما انكِ ما تزالين حديثة زواج"
اخفضت رأسها للأسفل تخفي تعابيرها التي قد تفضحها وهي تهمس بخفوت رقيق
"لا داعي للقلق الزائد يا امي فقد استقرت حياتي بالفعل ، لذا اطمئني من هذه الناحية ولا تشغلي بالك بأمري كي لا يرتفع ضغطك اكثر ، فأنا الآن افعل كل شيء نزول على رغباتكم ببناء عائلة مع الرجل الذي تم اختياره زوج لي"
عضت على طرف لسانها كاذبة بعد ان ألفت الجمل التي ستقولها لوالدتها ، فهي حياتها ليست افضل حال من شقيقتها المطلقة منذ تلك الحادثة الشنيعة التي كسرتها من الداخل بقوة ! وحتى بعد مرور شهر كامل ما تزال تشعر بنزيفها وكأنها بالأمس تركت لها ذكرى سيئة عن اول ليلة تجمع بينهما ، لتتحول العلاقة بينهما لجفاف قاحل اسوء من حادثة تدمير العقد وخاصة من الناحية العاطفية وهو يتجنب التكلم معها او النظر لها او التواجد معها بنفس المكان حتى شعرت بنفسها تعود مراهقة وحيدة تخرج من المنزل للجامعة وتعود بمنتصف اليوم للمنزل لتحبس نفسها بغرفتها بين المذاكرة والشرود بفراغ حياتها ، وهذا الحال استمر معها شهر كامل بدون اي تطورات او جديد بحياتها التي عاشتها بهذا الاسلوب على مدار سنوات عمرها ، ولكنها لن تنكر بأنه ايقظ بها رغبة جامحة كانت غشيمة عنها بدأت تهفو لتلك اللحظات التي تجمع بينهما والتي تدل على وجود قلب ما يزال يرغب بالحصول على الحب !
انتشلت نفسها من ذكرياتها السحيقة ما ان وصلها صوت والدتها وهي تقول بتشكيك
"هل انتِ متأكدة ؟ أليس هناك اي مشاكل تريدين ان تطلعيني عليها او ترغبين بمشاركتها معي ؟"
حركت رأسها بالنفي بدون ان ترفع نظرها عن يديها وهي تهمس بخفوت واثق تحشرج بصوتها
"اجل كل شيء على ما يرام ، اريحي نفسكِ وثقي بابنتك وبقدرتها على الحفاظ على زواجها"
ارتسم الجمود على ملامحها وهي تقول بحزم اكبر بدون اي تراخي
"سوف احاول الوثوق بكِ بالوقت الحالي رغم معرفتي بعدم رضاكِ التام بهذا الزواج والذي كنتِ تقتنصين به الفرص لإفساده ، واتمنى حقا ألا تخيبي ظني بكِ لأني عندها لن اتسامح معكِ وستكون العواقب وخيمة"
حركت (غزل) رأسها جانبا وهي تتمتم بخفوت ساخر
"ولماذا افعلها الآن بعد مرور شهر من زواجي ؟ لو كنت اريد افساده لفعلتها قبل ان يتم الزفاف ، ولكن يبدو بأنه لم يكن لدي فرصة لفعلها"
ردت عليها والدتها بقوة باستنكار عابس
"لقد سمعتكِ يا غزل ، واشكري الظروف التي نمر بها الآن وألا لما كنت مررت كلامكِ بدون عقاب او تقريع !"
ابتلعت ريقها بتشنج وهي تهمس بخفوت مستاء
"امي ماذا تريدين مني ؟"
ارجعت ظهرها باستقامة وهي تعود لجلسة التحقيق قائلة بقوة بدون ان تتنازل عن سبر اغوار ابنتها
"اريد ان اعرف كل تفاصيل حياتك ، كيف هو التوافق بينك وبين زوجك ؟ هل كل اموركما تسير بخير ؟ هل لديكِ اي اخبار او مستجدات تريدين قولها لي ؟"
زمت شفتيها بضيق من كم الاسئلة الذي تسقطه فوق رأسها بدون رحمة وكأنها مدانة ويحاولون ممارسة الضغط عليها لأخذ الحقيقة منها ، لتقول بعدها بصوت حاد بلمحة استنكار
"امي انا لست سلوى !"
تجهمت ملامحها بغضب افترسها وهي تقول بلحظة باستهجان غاضب
"يا للوقاحة ! وما دخل ان لم تكوني سلوى ام لا ؟ انتما الاثنتان ابنتاي واهتم بحياتكما وبكل شيء يخصكما بنفس القدر والاهتمام ! وانتِ لا تختلفين عندي عن سلوى إذا كان بالسؤال عنها والتعمق بحياتها الخاصة ، لذا لا تحاولي المراوغة بالكلام واجيبِ على قدر السؤال"
اشاحت (غزل) بوجهها جانبا وهي تتمتم ببرود جليدي
"بل هناك اختلاف كبير بيننا"
قاطعت (جويرية) افكارها وهي تقول بصوت ارتفع بنفاذ صبر
"توقفي عن التكلم بالسر وتكلمي معي ، اعلم بأنه امر سابق لأوانه ولكني اريد ان اعرف منكِ ، هل هناك اي بشارة او جديد منكما ؟"
رفعت رأسها باستغراب وهي تهمس بعدم فهم
"ماذا تقصدين يا امي ؟"
ضربت بقبضتها على ركبتها وهي تقول بضيق حانق
"يا لكِ من بلهاء حتى بعد زواجك ما تزالين جاهلة ! انا اسألكِ إذا كان يوجد حمل ام لا ؟ ما هو الذي لم تفهميه ؟"
اخذت منها لحظات استيعاب قبل ان تتسع حدقتيها العسليتين بصدمة متأخرة وهي تتشرب بملامحها بحمرة قانية بآن واحد ، لتهمس بعدها بسرعة وهي تعض على لسانها بفرط انفعالها
"ما هذا السؤال يا امي ؟ لا يزال الوقت مبكر على حدوثه ! ام تظنين بأنني سوف اكون افضل من سلوى واسبقها بمراحل !"
ادارت وجهها بعيدا بإيباء وهي تقول بهدوء مترفع
"ما هو المخجل بالسؤال ؟ انا فقط اطمئن عليكِ واسألك عن اخبارك من باب الخوف عليكِ لا اكثر ، فأنا اريد ان اتأكد من بناء عائلتك ومستقبلها"
اسندت يديها فوق ركبتيها وهي تتقدم بجلوسها قائلة بمواجهة صريحة
"امي انتِ فقط تريدين الاطمئنان على سلامة زواجي والذي قد ينهار بسبب موضوع الإنجاب ، وتخافين ان ينتهي مصيري كما حدث مع سلوى !"
نظرت لها بسرعة بلمعة حزن امومي اسرت عينيها ويدها تستقر فوق صدرها بتأوه متعب ، لتقول بعدها بشرود مرير وهي تدور حول حياة ابنتها المنهارة
"سلوى ! لو كانت فقط انجبت طفل واحد على الاقل لما استطاع زوجها وعائلته الاستغناء عنها بهذه السهولة بدون اي اعتبار لرباط او شراكة او عشرة ، لكانت وضعت ذاك الزوج تحت الامر الواقع وربطته بطفل يكون هو الحل والسبيل بالجمع بينهما ، وحتى لو كانت قاتلة ومذنبة بحق الجميع فلن تتغير حقيقة بأنها والدة ابن احمد الفكهاني ، ولكن يا حسرة حتى هذه الحسنة لم تستطع الحصول عليها او إدراكها ، يا حزني عليكِ يا وجع قلبي !"
غامت ملامحها بسحابة ضبابية وهي تقول بجدية عابسة
"هذا الكلام لا يجوز يا امي ! فهذا هو قدرها المكتوب لها ، ألم تكوني تخبريني دائما بأن علينا ان نتعايش مع اقدارنا ولا نتخاصم او نضعف امام المصاعب التي توضع امامنا ؟ وانتِ هكذا تأملين نفسكِ بلا فائدة وتتعبين صحتك كذلك بدون ان تجني شيء"
رفعت يدها وهي تمسح اسفل عينيها بصمت تحافظ على مظهرها لتكتف بعدها ذراعيها من جديد وهي تقول بأمر حاسم
"إذا بقيت على حالتها هذه فقد نضطر لإرسالها لمنزل خالتها ياسمين فهي تملك اكبر منتجع صحي بالمدينة قد يعطي فائدة او نتيجة لها ، وهي بكل الاحوال تحتاج لرحلة ترفه بها عن نفسها تنسيها بعض من آلامها وتخرجها من صدمتها ، ولا ضير من المحاولة وخوض هذه التجربة فقد تعود إلينا شخص طبيعي بعد ان ترد الروح لها وتستعيد رغباتها بالحياة وجوانب شخصيتها ، وارجو حقا ان يفيد كل ما نفعله من اجلها"
اومأت برأسها بشرود بدون ان تشاركها رأيها بالفكرة وهي تهمس بخفوت ممتقع
"لقد عشت مكانها كثيرا ولم اشعر بكل هذا الدعم المقدم لها ، هل لأن حالتي مختلفة عنها ولم تكن تستحق الاهتمام ؟"
ارتفع حاجبيها بدهشة جذبت انتباهها وهي تقول بوجوم مستنكر
"ماذا تقصدين بهذا الاتهام يا غزل ؟ هل تقولين بأنني كنت اميز بينكما ؟ ولم اعدل بمعاملتي بينكما عندما كنتِ بنفس حالتها !"
انتفضت بقوة وهي تنهض عن الاريكة لتضرب بقبضتيها على جانبيها وهي تصرخ بقهر وكأنها تفضي ما تكدس بقلبها لسنوات
"اجل انتِ تميزيين بالمعاملة ، ولم تعدلي بيننا يوما ، هل سألتي عني عندما كنت طفلة اخضع لكل تلك الفحوصات اليومية وحدي ؟ هل سألتي عني عندما كنت اموت بغرفتي من الوحدة القاتلة مع طاقم اطباء ومعلمين جالسوني اكثر من عائلتي ؟ هل حاولتِ يوما اسكات الكلام الجارح الذي كان يقال عني بجلسات المعارف والاقارب ؟ هل سألتي يوما عن حياة ابنتك بالجامعة او بحياتها الشخصية او بحياتها خارج محيط العائلة ؟ هل سألتي إذا كانت تتألم وحدها ؟ ان كانت تحتاج لأذن تصغي لشكواها او همومها ؟ انتِ لم تحاولي فعل اي شيء من هذا ! الاهتمام الوحيد الذي قدمته لي عندما سرقتي مني فرصتي بعيش الحب ودمرتها ، وتقولين بأنكِ كنتِ تعدلين بيننا ! لقد حصلت شقيقتي سلوى على كل شيء كنت اريده وينقصني بالرغم من انكِ تحكمت بحياتها بشكل مبالغ به حتى تدمرت على يديكِ ، انتِ قاسية يا امي ، قاسية بالمعاملة ، وقاسية بالتفريق بين اولادك ، لم اكن اريد الكثير منكِ كنت اريد فقط ان يسأل عني احد ! هل هذا كثير عليكم ؟ هل هذا كثير......"
قاطعتها وهي تنهض عن الاريكة بقوة صارخة بصرامة قاطعة بعد ان اكتفت من الاستماع
"اخرسي يا غزل ، واحترمي نفسكِ ، واعرفي مع مَن تتكلمين بهذا الاسلوب المتحرر !"
ضمت شفتيها بارتجاف مر على كامل جسدها والذي خمدت نيرانه بلحظة ولم يبقى سوى الرماد يلسع عينيها بغشاء الدموع الباهت ، لتلبس بعدها قناع الصلابة وهي تلتفت على جانبها لتلتقط حقيبتها من على الاريكة وهي ترتديها فوق كتفها ، لتقول بعدها بخفوت جاف وهي تستدير بعيدا عنها
"لقد اخطئت بالمجيئ بهذه الزيارة ، فيبدو بأنه لا احد يريد استقبالي من اهل المنزل ، لذا سوف اودعكم الآن فقد لا اعود مجددا ، واتمنى الصحة والعافية لابنتكِ الغالية سلوى"
شحبت ملامحها بصدمة اكبر ما ان غادرت بعيدا باتجاه باب المنزل ، لتربت بعدها على صدرها المثقل وهي تحاول استعادة اتزانها وسيطرتها بعد كل ما مرت به من حياة ابنتيها قطع قلبها لإشلاء صغيرة وكأنهما يأكلان كل مرة جزء منها .
_______________________________
خرجت من بناء المدرسة وهي تلوح بيدها لطلابها الصغار الراكبين بحافلة المدرسة والتي اجتازت البوابة الخارجية وهي ما تزال تسمع صوت ضحكاتهم وهتافهم ، لتتنفس بعدها بقوة وهي تخفض يدها بصمت بعد ان عادت لقناع البرود القاتل حجمت المشاعر الضئيلة بداخلها ، وما ان نزلت عتبات سلم المدخل حتى تجمدت بمكانها لوهلة وهي تحدق بأوسع عينيها صوب الواقف اسفل السلم لم تنتبه لوجوده بالبداية ، لتتابع بعدها نزولها باتزان بدون ان تتعب نفسها بالتفكير او إطالة النظر وهي تتجه مباشرة بطريقها خارج اسوار المدرسة ، وما ان اجتازت الواقف بطريقها حتى هتف بسرعة باسمها بتردد واضح
"روميساء استمعي لي ، رجاءً فقط دقائق"
انتصبت بمكانها لوهلة وهي تأخذ عدة انفاس طويلة قبل ان تقول بمهنية
"لقد انتهى دوام الطلاب وغادر سامي بحافلة المدرسة ، لذا وجودك الآن لم يعد له داعي ويعيق فقط سير عمل الإدارة"
تجمدت ملامحه بتصلب وهو يقول من جديد بإصرار اكبر
"امنحيني فقط فرصة واحدة بالتحدث ، واعدكِ لن يستغرق الامر اكثر من دقائق ، وإذا لم يكن من اجلي فمن اجل خاطر الايام القديمة التي كنت انقذك بها من متسكعين الحارة ومن عقوبات رئيسك بالعمل"
غامت ملامحها ببهوت لبرهة وهي تتراجع عدة خطوات قبل ان تنظر له بطرف حدقتيها هامسة بخفوت جامد بدون ان تتنازل بمواجهته مباشرة
"سوف اعطيك خمس دقائق بما تريد قوله لي ، لذا ابدأ بسرعة وقل ما عندك بدون اي تأخير او مماطلة"
تنفس بهدوء وهو يعبأ صدره بالهواء ليقول بعدها بصوت خفيض وهو يتأمل جانب وجهها البارد
"اعلم بأنكِ تمرين بظروف عصيبة مؤخرا وليس لكِ مزاج بالحديث او الاستقبال ، وقد سمعت ما حدث مع عمك قيس رحمة الله عليه الذي كان مسجون ولقى حتفه هناك ، واقبلي مني تعازي الحارة وعدم مقدرتي على حضور ايام العزاء ، فلم يكن لا الوضع ولا الحال مناسبا لحضوري إليكِ وتعزيتك شخصيا او الوقوف بجانبك ! وقد انتظرت كل تلك المدة لانقضاء تلك المحنة وتجاوزها حتى استطيع الكلام معكِ والتقرب منكِ مجددا"
كانت ملامحها باردة بصلابة وهي تشدد على حزام حقيبتها هامسة بجفاء بدون اي تعبير
"جزاك الله خيرا ، ولا تقلق فلم اكن انتظر منك شيء ولا من غيرك فقد اعتدت على هذا الوضع وتأقلمت معه منذ سنوات حتى اكتشفت بأن الاعتماد على نفسك هو خير عون لك"
ابتلع ريقه بجمود وهو يشعر بنفسه مذنب بكلامها ويحمل الخطأ على عاتقه بدون ان تشير إليه مباشرة ، ليقول بعدها بعزم وهو يحاول ضبط جماح مشاعره الداخلية
"اعتذر حقا على تقصيري وإهمالي نحوك ، ولكني اعدكِ ان اقف معكِ دائما من هذه اللحظة متى ما احتجتِ لمساعدة او يد تساندك ، سأكون دوما حاضر من اجلك......"
قاطعته (روميساء) بصوت حازم وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها بجمود
"يوسف ادخل بالموضوع مباشرة ، فقد بدأ وقتك ينفذ بالفعل"
اشتدت خطوط ملامحه وهو يستعيد قوة شخصيته ليقول بلحظة بصوت جاد
"لقد سمعت بأنكِ قد رفعتِ دعوى طلاق على زوجك ، وهذا بعد ان طلق زوجته الأولى التي سببت لكِ كل تلك المشاكل بحياتك ، هل هذا الكلام صحيح ؟"
زمت زاوية شفتيها برجفة مريرة ما ان تطرق لهذا الموضوع الذي يسبب لها كل تلك الهواجس والتفكير به ليل نهار حتى كاد عقلها ينفجر ، لتقول بعدها بصوت جامد بدون ان تظهر اضطرابها الداخلي وهي تجيب بمنطقية
"اجل لقد رفعت دعوى طلاق بالمحكمة على زوجي ، هل هذا غريب بنظرك ام نادر الحدوث ؟ ألا يسمح للمرأة بالمطالبة بحقوقها بطلب الانفصال عن زوجها وتحرير قيدها ؟ فليس الزوج الوحيد الذي يملك هذا الحق !"
اومأ (يوسف) برأسه بتأكيد وهو يقول بابتسامة عميقة بدعم معنوي
"اجل لديكِ كل الحق بالمطالبة بحقوقك ، ولكن هل انتِ متأكدة بثقتك بالفوز بهذه القضية ؟"
نظرت له هذه المرة بكامل وجهها المرسوم بمعالم قاسية وهي تهمس بعبوس طفيف
"هذا ليس من شأنك"
عبست ملامحه بإحباط ما ان ادارت وجهها من جديد ليقول بعدها بنبرة صادقة بعد ان اكتفى من تحمل خصامها
"اعلم بأنكِ تحمليني كامل اللوم والمسؤولية وتضعيني بين الاشخاص الذين دمروا حياتك ، ولكني حقا مظلوم ولم افعل اي شيء يمسكِ بأذى او يضر حياتك ، بل على العكس كنت احاول تجنب كل شيء يؤذيكِ واتجاهل كل المؤشرات والمغريات التي كانت تستدرجني نحوك ، لقد حاولت كل جهدي ألا اكون السبب بدمارك وعدم الرضوخ لحيل ضرتك الماكرة ، ولكن عندما بدأتِ باتهامي اعترفت لكِ بكل شيء اعرفه عن ضرتك لكي تفتحي عينيكِ على الحقيقة وتستيقظي من غفلتك ولم اقصد منها اي سوء او مصلحة !"
ادارت مقلتيها الخضراوين نحوه بشحوب وهي تهمس بابتسامة مندهشة بلمحة سخرية
"هل ما تزال تتكلم عن نفس القصة التي مر عليها اكثر من شهر ؟ هل هذا هو موضوعك المهم الذي كنت تريد مني سماعه ؟ ماذا بقي نتكلم عنه بعد حدوث كل هذا ؟ هل تظن بأنه بكلامك هذا سوف تنصلح الامور وتعود لمجراها ؟ لقد ظننت بأن موضوعك سيكون غاية بالأهمية ، ولكنه تبين بأنه لا يستحق الاستماع له او الوقوف عليه ! والآن بما انه قد انتهى وقتك المحدد توجب عليّ الرحيل"
ارتفع حاجبيه بصدمة ما ان تحركت من امامه بخطوات واسعة سريعة ، وقبل ان تخرج من البوابة الخارجية كان يسحبها من ذراعها وهو يديرها نحوه مباشرة قائلا بجدية محاولا إقناعها بكلامه
"انا لم اقصد كل هذا يا روميساء ، فقط كنت اريد ان اشرح لكِ الحقيقة وابرر نفسي امامك لكي تتوقفي عن رؤيتي بموضع المتهم ، اريد ان تصدقيني وتمنحيني الثقة فأنا لا اكذب بكلامي !"
ردت عليه بانفعال مكبوت وهي تنفض ذراعها بعنف
"انا لم اطلب منك اي تبرير ، ولا اريد شيء من احد ، جميعكم مثل بعضكم ، تسيرون فقط نحو مصالحكم وتفعلون ما يرضي اهدافكم ومآربكم ، وانا فقط الشخص المتألم والمكسور بكل هذا لأنكم ببساطة لا تهتمون بأذى احد ولا ترون ما ينعكس عليه من ضرر !"
امسك بكتفيها بسرعة يضبط جماحها وهو يقول امامها بكل قوة بدون اي تفكير اطلق العنان لمشاعره
"بالتأكيد اهتم بتبرير نفسي امامك ، واهتم بكل ما يضرك ويؤذي...لأنني احبكِ وارغب بالزواج منكِ ، هل تقبلين الزواج مني يا روميساء ؟"
انفرجت شفتيها بذهول وهي تتوقف عن الحركة تماما تحاول استيعاب المصيبة الجديدة التي سمعتها للتو ، لتبتلع انفاسها بصعوبة وهي تهمس بصوت متحشرج بتوجس
"ماذا قلت للتو ؟ ماذا تريد ؟"
ربت على كتفيها بحركة عفوية وهو يقول بتصميم اكبر بدون اي مجال للشك
"هل تقبلين الزواج مني بعد انتهاء عدة طلاقك ؟"
انحنى حاجبيها السوداوين بحزن يائس وهي تزيح يديه عن كتفيها بضعف ، لتتراجع بعدها خطوات للخلف وهي تلوح بيديها برفض هامسة بخفوت متعب حد الهلاك
"ليس انت ايضا يا يوسف ! لا تفعل هذا بي ! لا تكون ضغط جديد عليّ ، توقفوا جميعكم عن الضغط عليّ ، توقفوا ارجوكم ، لقد تعبت منكم ، اقسم بالله تعبت"
قطب جبينه بعذاب وهو يقول بابتسامة هادئة بروية يحاول ان يخفف عنها
"لا بأس يا روميساء ، لا بأس ، يمكنكِ ان تأخذي كامل وقتك بالتفكير والهدوء ، وانا لن اجبرك اكثر او افرض هذا الزواج عليكِ ، وحتى ذلك الحين سأكون بعيدا عنكِ لكي لا اشكل هم جديد او ضغط عليكِ ، والآن طاب يومك"
شاهدته بحدقتيها الزائغتين وهو يغادر من البوابة الخارجية بصمت ، لترتمي يديها على جانبيها بخواء وهي تهمس بقلب مذبوح بقهر
"ماذا افعل بنفسي ؟ يا الله انجدني من هذا الابتلاء !"
________________________
اشعلت الموقد وهي تحرك الحساء بالقدر فوق النار بالملعقة الخشبية وعقلها شارد بعالم آخر بعد كل احداث الصباح ، لقد تعبت من التفكير الطويل حتى اصبح رأسها بحجم الكون بدون ان تتخلص من الافكار التي تراودها بكل ثانية ودقيقة تدخلها بكل مرة بموجة مختلفة عن الاخرى ، ولن تنسى قضية الطلاق المعلقة تحت وقف التنفيذ بعد تلك الجلسة البائسة لتضطر عندها للانتظار للجلسة التالية والتي لم يتحدد موعدها .
كانت تحرك القدر باستمرار ولم تنتبه لارتفاع مستوى السائل والرغوة ألا بعد ان سمعت صوت هتاف تحذير مثل جهاز الإنذار
"روميساء احذري !"
رفعت رأسها بانتباه وهي تلتفت نحو التي وصلت لها بلحظات وكفها تمتد للموقد لتطفئ النار حتى خمدت رغوة الحساء قبل ان تخرج من القدر ، لتتنفس بعدها الصعداء وهي تبعد كفها هامسة بعبوس متذمر
"ماذا بكِ ؟ لقد كدتِ تسببين لنفسكِ بحروق بسبب شرودك وعدم انتباهك !"
حركت رأسها بعيدا وهي تشرد برغوة الحساء التي هبطت لتهمس بعدها بخفوت مدرك وكأنها ببعد آخر
"اجل صحيح ، لم انتبه ، من الجيد بأنكِ لحقتي بها بسرعة"
عقدت حاجبيها باستغراب وهي تميل بالقرب منها تتأمل ملامحها الشاردة لتهمس بعدها بخفوت متوجس
"ماذا هناك يا روميساء ؟ هل انتِ بخير ؟ تبدين اليوم غريبة على غير طبيعتك"
اشاحت بوجهها جانبا وهي تهمس بوجوم قاتم
"ومنذ متى لم اكن غير طبيعية !"
زمت شفتيها بتفكير وهي تميل على كتفها اكثر لتهمس بابتسامة طريفة تحاول تحسين مزاجها
"انتِ دائما غير طبيعية ولكنك اليوم اكثر درجة بمستوى الغير طبيعية"
تجهمت ملامحها وهي تدفعها بكتفها بقوة لتبتعد عنها لتقول لها بنظرات حازمة
"لقد تركنا الطبيعية لكِ يا ملكة السخافة"
ضحكت بمرح وهي تعتدل بوقوفها بعيدا لتستند بعدها بظهرها على رخام المجلى وهي تقول بابتسامة متلاعبة
"شكرا لكِ على الإطراء"
تنفست بضيق وهي تتجه للخزائن لتخرج منها الصحون والأواني قائلة اثناء عملها بنبرة جادة
"اين كنتِ غائبة طول اليوم ؟ هل ما تزالين تدورين بين الوظائف الشاغرة ؟ ألم تملي من هذه المهمة ؟"
اخفضت رأسها للأسفل وهي تعيد بعض الخصلات المتحررة خلف اذنها قبل ان تهمس ببساطة
"لقد كنت افعل ذلك قبل ايام ، ولكني قد توقفت لأنني بالواقع قد وجدت وظيفة وبالمكان الذي يناسب مجال دراستي ، وغدا سيكون يومي الأول بالعمل"
صمت صوت تحريك الاواني وهي تخفض ذراعيها لوهلة قبل ان تلتفت نحوها هامسة بدهشة
"حقا ؟ هل حصلتِ على وظيفة بمجال دراستك ؟ ام هذه مزحة سمجة منكِ من اجل ان تختبري ردة فعلي !"
رفعت رأسها عاليا وهي تقول بابتسامة شقت محياها بثقة وكأنها حققت اكبر إنجاز بحياتها
"بل هذه الحقيقة كاملة يا روميساء ، واخيرا حققت شقيقتك الصغرى حلمها وسوف تعمل بوظيفة مرموقة ومحترمة وتدخل مورد لهذا المنزل ولن تكون عالة عليكِ بعد الآن"
زفرت انفاسها بقوة وهي تضع الصحون على سطح المجلى بقوة اصدرت رنين عالي بالمكان ، لتوجه بعدها نظرات صارمة نحوها وهي تقول بهدوء صلب
"ما هذا الكلام يا ماسة ؟ انتِ لم تكوني يوما عالة على احد ! وهذا الاتفاق تعاهدنا عليه بيننا منذ طفولتنا بأنني سأكون لكِ المنزل والعائلة واحقق لكِ كل امنياتك المستحيلة بالحياة ، لذا حتى لو حصلتِ على وظيفة مرموقة او حصلتِ على ثروة كبيرة واصبحت اثرى الاثرياء فلن اسحب مسؤوليتي عنكِ ولن اتنازل عن الطفلة التي تعهدت بالاهتمام بها منذ كانت رضيعة بلفافة الولادة ، هل تفهمين هذا ؟"
اعتلت ملامحها ابتسامة رقيقة قشعت الضباب عن قلبها وهي تهمس بخفوت مبتهج
"لقد تحققت كل امنياتي بالحياة بالفعل ، واصبح كل شيء خيال حقيقة امامي ، لذا انا شاكرة جدا بوجودك بقربي وسعيدة لأنني املك شقيقة مثلك"
اتسعت ابتسامتها بحنان حتى تغضنت زوايا حدقتيها الخضراوين بدفء ، لتنفض كل هذا بلحظة وهي تلتفت لعملها وتمسك بالصحون لتنقلها للسفرة الصغيرة لتقول بجدية عادت لتقمصها
"لقد سعدت حقا بحصولك على العمل وتحقق حلمك فلم تذهب سنوات الدراسة هباءً ، ولكن لم تخبريني كيف استطعتِ الحصول على الوظيفة بدون وجود خبرة او شهادة ؟ هل استخدمتِ طرق ملتوية للوصول لهدفك ؟"
عضت على طرف شفتيها وهي تراقبها تتحرك بسرعة حول المائدة قبل ان تقول بابتسامة مرتبكة تحاول تشتيت جواب سؤالها
"لقد حصلت عليها بطريقة ما فقد اكتشفوا مهاراتي العلمية ومدى ذكائي عندما قدمت على اختبار خضته بنفس اليوم ، واصلا الوسيلة التي استخدمتها غير مهمة جدا المهم هي النتيجة والنجاح الذي حققته ، لذا لا تعطي الامر اهتماما كبيرا وركزي فقط على سعادتي"
حدقت بها بحاجبين معقودين وهي تتقدم نحوها حتى وقفت امامها قبل ان تكتف ذراعيها فوق صدرها قائلة بهجوم غير متهاون
"هيا قولي يا ماسة ، كيف حصلت على هذه الوظيفة ؟ فأنا لا احب المراوغة بالإجابة على السؤال ، ولن تستطيعي خداعي بهذه السهولة لأني اعمل بهذه الوظائف منذ كنت بالخامسة عشرة من عمري ، ولا تدفعيني لاستخدام اسلوب القسوة بالكلام معكِ لتبوحي بالحقيقة كاملة !"
استقامت بمكانها وهي تضم يديها خلف ظهرها قائلة بتمرد
"أليس لدي حق بالحصول على بعض الخصوصية ؟ فليس كل شيء استطيع البوح به ! وهناك اسرار اريد الاحتفاظ بها لنفسي بمساحتي الخاصة"
نفضت ذراعيها للأسفل وهي تقول بحزم اكبر بدون ان تدع لها مجال للنقاش
"كلا غير مسموح لكِ بإخفاء هذا السر عني بمساحتك الخاصة ، فهذا ليس سر تخفينه وانتِ مضطرة للبوح لي ، وألا اقسم بالله لن تخطي بقدمك خارج المنزل بصباح الغد إذا لم تعترفي بالحقيقة !"
تبرمت شفتيها بعبوس وهي تشيح بوجهها بعيدا هامسة بتشدق
"يا لكِ من عنيدة ! ولكن عليّ ان انبهك بأن ما ستسمعينه الآن لن يعجبك بتاتا"
ضاقت حدقتيها الخضراوين بتصلب وهي تهمس بخفوت مهدد يحمل وعيد
"تكلمي يا ماسة"
تنفست (ماسة) باستسلام وهي تحرك كتفيها ببرود قائلة ببساطة
"لقد طلبت المساعدة من صديق قيس المقرب وهو قدم لي واسطة تستطيع ان توظفني بالشركة التي اختارها ، وانا اخترت وهو وظفني وبالمكان الذي تمنيت الوصول له دائما"
ارتفع حاجبيها باستيعاب تدريجي وهي تحك جبينها بتفكير لبرهة قبل ان تقول باستنكار غير مصدق
"هل طلبتِ المساعدة من رجل غريب من اجل ان يوظفك ؟ وايضا وافقتي على مساعدته وجعلته يقودك كما يشاء ! وكيف تعطيه كل هذه الثقة العمياء من اول مقابلة ؟ هل تثقين بأي شخص امامك قال بأنه سيساعدك ؟ ما هذا الذي فعلته بنفسك ؟"
حركت يدها بتبرير وهي ترفقها بالكلام بتملق
"ليس رجل غريب بل هو صديق عمي قيس ، انتبهي جيدا لكلامك"
صرخت (روميساء) فجأة بغضب جامح وهي تلوح بسبابتها نحوها
"هذا ليس وقت مزاحك السخيف ، ألا تدركين حجم مصيبتك ؟ ألم تفهمي بعد تفكير العالم بكِ وبالنوايا السيئة المطمورة بالبشر ؟ هل انتِ حمقاء تماما ؟"
كورت شفتيها بامتعاض وهي تدير مقلتيها بعيدا هامسة بعدم اهتمام
"لقد اخبرتكِ بأن الامر لن يعجبك ، وهذه النتيجة التي احصل عليها"
تنهدت بتعب وهي تخفض سبابتها لتقول بعدها ببعض الرأفة بدون ان تخفي غضبها المسيطر عليها
"عليكِ ان تفهمي مدى خطورة هذا العالم يا ماسة ، لقد ارتكبتِ خطأ كبير بالتصرف من رأسكِ واعطاء ثقتكِ لرجل مجهول غير معروف بعد هدفه وغايته منكِ ، انا احاول بشتى الطرق حمايتك بكل المستطاع بعد كل ما جرى معنا ومررنا به سابقا ، وانتِ بكل غباء تستنجدين من اول رجل غريب مد يد المساعدة لكِ وتظهرين له جهل وغباء لم اتوقعهما منكِ ! هل تختبرين صبري بتحمل المصائب ؟ هل تريدين تدمير سلام حياتنا بعد ان استقرينا اخيرا ؟ متى ستتوقفين عن تقديم مثل هذه المجازفات بحياتك ؟"
تنفست بتسارع طفيف وهي تراقب الساكنة امامها والتي لم تظهر اي ردة فعل على كلامها سوى التواء بسيط بشفتيها شكلت ابتسامة حالمة ، لتقتنص بعدها اللحظة وهي تصل لها بخطوتين واسعتين قبل ان تحيط كتفيها بذراعها وتقف بجانبها ، لتقول بعدها بابتسامة جانبية بلطافة لا تظهرها ألا عندما يظهر الطرف الآخر الحب لها
"يا روميساء انا الآن بعمر يسمح لي باتخاذ قراراتي وحدي وبعقل امرأة راشدة تجاوزت اختبارات الحياة بكل جولاتها ! ما لذي تخافين من حدوثه لي وانا التي حاربت اسوء المخلوقات بالعالم تجسدت بحياتي منذ كنت بالعاشرة من عمري ؟ انا ارى بأن خوفك هذا مبالغ به بعض الشيء ، فإذا لم تتركيني اخوض بطرقات الحياة وحدي وبإرادتي فلن اتعلم ابدا وسوف ابقى محجوزة بدائرة الخيبة واليأس ، لذا اسمحي لي بالتمرد على حواجزك قليلا ومواكبة المخاطر الخاصة بي ، واعدك ان اعود إليكِ عندما اشعر بالخطر الشديد وبحاجتي ليدك لتخرجني من مصيبتي"
التفتت بوجهها نحوها وهي تهمس بابتسامة طفيفة بعطف بعد ان سلمت امرها
"عديني بأنكِ ستبقين آمنة وتبتعدين عن كل ما يؤذيك"
رفعت يدها بأصبعها الخنصر وهي تقول بوعد
"انا اعدك"
ادارت وجهها بابتسامة انغرست على طرف شفتيها قبل ان تقتلها التي سحبت ذراعها وهي تقف امامها مباشرة قائلة بهجوم وهي ترد لها ضربتها بأخرى
"لقد تكلمنا كثيرا عن حياتي ، حان الآن الشوط الخاص بكِ والذي تعترفين به بأسرارك ، هيا اخبريني ما سبب شرودك الغريب الذي انساك نار الموقد وجعلك مستهترة هكذا !"
ابتلعت ريقها بارتعاش مر على طول عنقها وهي تدير وجهها بعيدا هامسة ببرود تحاول التهرب
"هذا ليس وقته الآن ، فليس لي مزاج او رواق للحديث عن اي شيء ، وقد حان وقت طعام العشاء......"
قاطعتها (ماسة) بقوة وهي تمسك خصرها بيديها تستخدم طريقتها باستجوابها بعد ان قلبت الطاولة
"لا ليس هناك اي هروب او مراوغة ، ألم تقولي الآن بأنه غير مسموح بالخصوصيات والاسرار بيننا ؟ ويمنع اخفاء اي سر عن بعضنا مهما كان صغيرا ، هل نسيتِ كل هذا الكلام ؟ ام انتِ الوحيدة التي يسمح لكِ باستجوابي والتحقيق معي ؟ ماذا الآن يا اختي ؟"
زفرت انفاسها بضيق وهي تلوح بيديها باستسلام هامسة ببرود مرهق
"حسنا كفي عن الإلحاح ! فأنا اساسا اعاني من الضغط بسبب هذا الموضوع والتفكير به ، لذا لا تزيدي عليّ اكثر"
ابتسمت بانتصار وهي تقف بتأهب لتأخذ وضعية الاستعداد لسماع سرها ، قالت بعدها التي مالت برأسها جانبا وهي تدس خصلات خلف اذنها بأصابع شاردة
"هل تذكرين الرجل الذي حدثتك عنه يملك ابن اقوم بتدريسه بفصلي ؟ لقد طلب مني الزواج صباح اليوم"
اتسعت حدقتيها الزرقاوين بصدمة وهي ترفع يدها لتضمها امام شفتيها هامسة بذهول
"هل هذا معقول ؟"
اومأت برأسها للأسفل بحالة انهيار صامت وهي تقول باستياء بائس
"اجل هذا ما حدث ، وانا اتمنى لو مت على ان اعيش تلك اللحظة !"
تغضن جبينها بتركيز وهي تدور بعينيها حولها هامسة بابتسامة خبيثة
"هذا مذهل يا روميساء ! لقد جذبتِ اول عرض زواج قبل ان يتم طلاقك رسميا ! ماذا ينتظرك يا ترى بعد الطلاق ؟ لن استغرب لو رأيت غدا الخاطبين يدقون باب منزلنا"
نظرت لها بصدمة مختلفة تماما عن صدمتها وهي تتحول بلحظات لغضب تفجر بأوردتها وليس بوجهها الذي احمر مثل الجمر المحترق ، لتضرب بعدها بقبضتها على وركها وهي تقول بانفعال ضاري
"ما لذي تقولينه يا قليلة التهذيب ؟ هل هذا كلام يقال ؟ انا الآن افكر بشيء وانتِ اين طار تفكيرك ! حقا انتِ لا تملكين عقل او فهم"
عضت على طرف ابتسامتها بشقاوة وهي تلوح بيدها لتتابع كلامها الوقح قائلة بمكر
"ولكني لا افهم هذا حقا ، لما دائما تجذبين هذا النوع من الرجال ؟ ما هذا الحظ الذي تملكينه ؟ اولاً مطلق والآن ارمل ! هل تتعمدين فعل هذا لكي تستطيعي مساعدتهم ومداواتهم من عقدهم الحياتية ؟"
قبضت على يديها بغضب ثار بدمائها وهي تهمس من بين اسنانها المطبقة بخفوت خطير
"ماسة هل تبحثين عن طريقة موت سريعة لكِ ؟"
ضمت شفتيها بخوف حقيقي وهي تشاهد شقيقتها تحاول السيطرة على اعصابها بشق الانفس وهي تكاد تمزقها نصفين ، لتحرك يديها امام وجهها بطبيعية وهي تقول بهروب سريع
"حسنا يا روميساء اهدئي ، انا سوف اذهب لغسل يديّ والاستعداد لتناول العشاء ، يعني تعرفين من اجل ألا نتأخر على موعد العشاء اكثر ويبرد الطعام ، فكما تقولين بوقت الطعام ممنوع ان تجعل شيء يشغلك ، انا ذاهبة الآن"
هربت (ماسة) بسرعة وهي تجري خارج المطبخ بثواني ، وما ان تنفست الاخرى بتعب حتى عادت لتطل برأسها مجددا عند باب المطبخ وهي تقول بابتسامة شقية
"هل تفكرين بجدية بعرض الزواج يا اختي ؟ ولكن انظري للمميزات بهذا العرض ، سوف تصبحين ام الطفل الذي تحبينه وتعلقتِ به وتهتمين بتربيته بنفسك ، أليس هذا ما تريدينه ؟"
التفتت نحوها بملامح مشدوهة وهي تصرخ بلحظة بصرامة
"ماسة ايتها الوقحة....."
قطعت ضحكتها كلامها وهي تتبعها بخطواتها التي جرت على طول الممر نحو غرفتها ، لتتنهد بعدها بإجهاد وهي تتقدم ناحية الموقد لتتمسك بحافته وهي تحاول استعادة تركيزها الذي تشتت لوهلة ، لتمسد بعدها بألم على بطنها من الجانب الايمن والذي اصبح ينتابها مؤخرا وكأنه يتفاقم ويشتد مع مرور الأيام ، وكلما بذلت مجهود اكبر زاد الألم معه وكأنه يترافق مع كل حركاتها لكي يضعفها اكثر ويلفت انتباهها ، وهذا يعني بأنه لابد لها من زيارة عاجلة للطبيب ليرى وضعها ويفحص لها سبب الألم عله يعطيها علاج يزيل الألم جزئياً إذا لم يكن كاملا .
_______________________________
كان يسير بمرآب الشركة وهو يتجه نحو سيارته المصفوفة ويدندن مع نفسه بلحن موسيقى غربية ، وما ان وصل لها حتى اخرج المفتاح من جيبه وهو يستمر بالتلحين على نفس الترنيمة بأعصاب باردة كالجليد ، وبلحظة كان يسقط المفتاح من يده وهو ينحني على ركبتيه ليحاول التقاطه من اسفل السيارة ، ولكن ما لم يتوقعه هو صوت زناد المسدس والذي لامست فوهته رأسه يتبعها صوت رجل خشن يأمره بجفاء
"ارفع يديك وقف بمكانك باعتدال ، وإياك وان تصدر اي صوت لكي لا افضي طلقات المسدس برأسك"
ابتلع ريقه بخوف وهو يرفع يديه عاليا ويقف على قدميه باستقامة ، ليقول بعدها بصوت خفيض بذعر وبأول ما خطر بذهنه
"انا لا املك اي اموال بجيوبي ، لو تركتني افتح السيارة قد اجدك لك بعض المال الذي تريده لتخلي سبيلي"
ألصق فوهة المسدس برأسه وهو يقول من بين اسنانه بشراسة ناقمة
"لا اريد شيء من اموالك الكريهة ، بل اريد منك شيء آخر مختلف"
تغضن جبينه بارتياب وهو يشعر بنفسه قد سمع هذا الصوت من قبل ومر على ذاكرته ، ليثبت له الصوت مجددا صحة ظنونه ما ان قال بحقد تعبأ بالألم
"لقد سرقت مني حياتي التي وهبني إياها القدر ، ولم تكتفي بذلك فقط بل تعاملها بسوء وتقسو عليها ، من تظن نفسك لتفرض سيطرتك عليها ؟ كيف واتتك الجرأة على اذيتها ؟ كيف لم تفكر بعواقب فعلتك الدنيئة ؟"
اعتلت ابتسامة شامتة ملامحه وهو يستدير من مكانه بهدوء حتى اصبح يواجهه تماما ، ليقول بعدها بسخرية بعد ان تأكدت ظنونه ويديه بالهواء
"هذا انت إذاً ! وكنت اتساءل اين سمعت هذا الصوت والنبرة ؟ لقد فاجأتني بالفعل بطريقة ترحيبك ، ولكن هذا ليس غريب على رجل تربى ببيئة كل افرادها من المجرمين والقتلة !"
شدد على المسدس فوق رأسه وهو يقول بفحيح انفاسه التي فقد السيطرة عليها كما جماح غضبه
"إياك وقول كلمة اخرى سخيفة لكي لا تكون نهايتك على يديّ ، فأنا لم ابدأ بالترحيب بك بعد وما ينتظرك ما يزال طويل ، وإذا تعجلت على مصيرك هكذا فلن تسمح لنفسك بالعيش لدقائق اضافية"
رفع عينيه للمسدس بنظرات باردة وهو يعود بنظره للمجرم امامه ليقول بعدها بهدوء متسلي وكأنه يتعمد اللعب بأعصابه
"هل تهددني بالقتل ؟ ولكن يتوجب عليّ تحذيرك بأنك لن تجني شيء من قتلي ، ولن تستطيع كسب اي ارباح من هذه اللعبة التي تخوضها ، فأنت بهذه الطريقة ستحكم على نفسك بالموت وبدخول السجن مدى الحياة ، وسيبقى العشيقان منفصلان ولن يجتمعا لا بحياتهما ولا بموتهما ، والأهم من كل هذا بأن صورتك سوف تسود بعيني حبيبتك وستكرهك طول حياتها ولن يبقى شفاعة بقلبها عندما تدرك بشاعة من وقعت بحبه"
تسارعت انفاسه بحريق نشبه بقلبه وهو يزيد من الضغط على المسدس بتعرق شديد ليقول بلحظة بكلمات بطيئة بعدائية
"لست انت من تقرر مصير علاقتنا ، انا هنا الذي يحدد القوانين ومجريات الاحداث التي سنخوضها ، فأنت قد اصبحت الآن تحت سلطتي وحياتك كلها ملكي وبحركة منك سأنهي عليها ، لذا التزم حدودك وفرصك المتوفرة لك واترك النصائح بعيدا ولا تخاف من التفكير بمستقبلي فلن يكون اسوء من مستقبلك !"
ارتفع حاجبيه باستهانة وهو يخفض يديه ليكتف ذراعيه بهدوء قائلا باستهزاء
"ما لذي تحاول فعله بهذه التهديدات الفارغة ؟ ألم تفهم الامر بعد ؟ لقد تمت الخطبة بيننا وعقد القران كذلك ، ولم يتبقى سوى حفل زفاف وليلة الدخلة وعندها سأكون قد كتبت صك ملكيتها وصبغت العقد بيننا بعلاقة ابدية ، وكل هذه التصرفات التي تفتعلها وترتكبها بكل طيش وغباء الحب لن تغير من وضعك الحالي ، لذا استسلم وسلم للأمر الواقع فأنت بكل الاحوال منتهي"
كشر عن انيابه وهو يقبض على ياقة قميصه بيده الاخرى ليقول بوجهه بانفعال حارق بعد ان صهر قلبه بكلماته
"ماذا تظن نفسك فاعل ؟ ليس لك الحق بالتكلم عنها ! ماذا فعلت من اجلها ؟ ماذا فعلت كي تستحقها ؟ انت فقط تعرفها منذ عدة اشهر والتي لا تعادل السنوات التي عرفتها بها وتعايشتها معها ! انا اعرف كل شيء عن حياتها وكل تفصيل دقيق يخصها من احلامها وطموحاتها ومكنوناتها ومشاعرها ، ماذا تعرف انت عنها حتى تتبجح بكل غرور بأنك تملكها ؟ ما انت ألا حشرة صغيرة دخلت لحياتنا عنوة ونشرت قذاراتها ومكروباتها بالمكان ، وما يمنعني عنك لهذه اللحظة ليس القانون ولا السجن ولا الموت شنقا وانا الذي رأيت الموت مقبلا عليّ اكثر من مرة ، بل صورتي امامها وشعورها وخوفها هو الذي يقيدني ، وحتى لو كانت تحبك الآن واختارتك زوجا لها وفضلتك عليّ ، فلن اتدخل برغباتها فكل ما اتمناه ان تكون بخير....."
قاطع كلامه بضحكة صاخبة اقرب للسخرية القميئة جمدت حركة الواقف امامه وهو يصوب المسدس فوق رأسه بدون الإتيان بحركة ، وما ان توقف عن الضحك وهو يتبعها بسعال طفيف حتى قال من فوره بمعالم جامدة باستنكار ساخر
"رغباتها ! حقا حالتك مزرية تماما ومدعاة للسخرية ! لدرجة بأن تصدق تلك الكذبة السخيفة المتعلقة برغبتها بالزواج مني واقصائك من حياتها ، وهي بالواقع تتزوج من اجل إنقاذ حبها القديم من مصيره الاسود الذي ينتظره ، لتضحي بنفسها وتقبل بالزواج المدبر والذي تساق به لحبل المشنقة ، ويبدو بأنها تودع ايامها السعيدة معك بدون ان يكون بيدها شيء لأنها من اختارت إنقاذك على حساب سعادتها"
اتسعت حدقتيه السوداوين بصدمة حتى تغضن جبينه بحدة وظهرت الندبة واضحة بالمنتصف ، ليقول بعدها بأنفاس احتدت بعنف وهو يكاد يضغط على زناد المسدس
"ماذا تقصد بكلامك ؟ هيا وضح بسرعة المقصد من كلامك ! وبماذا ضحت ؟ وما علاقتي بالتضحية ؟"
رفع يده وهو يشير له بسبابته على صدره قائلا بنبرة استفزاز واضحة
"انت هو الذي ضحيت من اجله ، لقد اختارت الزواج مني عندما علمت بأني املك ادلة تدمر سمعتها وسمعتك بالصور التي التقطتها لكما معا ، وبالحقيقة بأنها لم تركز على حياتها وسمعتها كما ركزت على حياتك انت ، لقد ظنت المسكينة بأنها ستحميك لو قبلت بشروطي وتزوجت مني ، ولكنها لا تعلم ابدا بالحيلة التي لفقتها لها وصدقتها بكل سذاجة بخصوص مقطع الفيديو والذي يظهرك مجرم وقد كان كله فبركة وتأليف مني ، وكما يقال تماما الحب يعمي البصيرة والعقل !"
اشتدت خطوط ملامحه بشراسة هجمت على احشائه بمخالب صقر حتى اصبح ضبط جماحها مهمة مستحيلة ، ليلصق المسدس بجانب رأسه وأصبعه السبابة على الزناد قائلا بحقد اسود تغلغل بروحه الاسيرة
"لقد حفرت قبرك بيديك هذه المرة ، لن تفلت بفعلتك يا حقير ، لن اسامحك على كل اذى سببته لها ، لن اسامحك على التلاعب بحياتنا ، اقسم ان اقتلك ! سأقتلك بيديّ !"
اضطربت ملامحه ما ان شعر ببوادر الجنون بعينيه وكأنه لم يعد يرى امامه ، ليبتسم بعدها بارتباك غزى التعرق جبينه وهو يقول بروية قلبت شخصيته
"هل تفكر بقتلي ؟ انت ترتكب خطأ كبير بما تنوي فعله ! انبهك ما تفعله سيعود عليك بالضرر والسوء ! وستندم بعدها اشد الندم......."
قرب وجهه منه وهو يشدد على ياقة القميص حتى تمزقت ازراره الامامية ليقول له بكل الشر المطمور بداخله
"لقد ندمت كثيرا بحياتي ، ولن تكون هذه اول مرة افعلها"
تسارعت انفاسه بتعاقب وهو يغمض عينيه يخفي ذلك المشهد الدموي عنه بخوف حقيقي ، لتسكن بعدها ملامحه لبرهة قبل ان يدفعه بكل قوة على جانب سيارته التي اصطدم بها ، ليلقي نظرة كريهة عليه وهو يتمتم بنفور جامد
"حيوان مثير للشفقة"
تحركت خطواته بعيدا عنه سنتمترات قبل ان يشعر به يهجم عليه من الخلف ويقيده بذراعيه وهو يحاول استلال المسدس من يده ، ولكنه بسرعة بديهة ومن خبرته بهذا المجال كان يمسك بذراعيه ويديره دورة كاملة حتى اصبح يقف امامه ، ومع ذلك لم يعلن الآخر استسلامه وهو يمسك بالمسدس بين يديه ويقاتله بسلبه منه بحرب من الاقوى ، لتنتهي المعركة بطلقة نار خرجت من المسدس وجمدت كليهما عن الحركة واخذت لحظات صمت استيعاب بفراغ المكان الذي يسمع به حركة حشرات الليل .
انكشف بعدها متلقي الإصابة الخاطئة التي اصابت الرصاصة ذراعه ولم يكن سوى (اوس) ، ليمسك بعدها بموضع الألم الذي اخترق لحمه وخرج من الجهة الاخرى ليترك الدماء تسيل عليه بغزارة ، بينما الطرف الآخر من الجريمة كان يمسك بالمسدس بيده وهو يحاول إدراك وضعه الحالي وما ارتكبه الآن بغفلة منه ، ليدفعه بعدها بحركة سريعة بضربة بقبضته على صدره اوقعته ارضا بعد ان استنزف قواه بالإصابة ، ليرفع بعدها المسدس امام نظره باهتزاز وهو يقول بتفكير خبيث وبمهرب سريع
"لن ادعك تحملني عواقب هذه الجريمة ، إذا كنت ستذهب للمشفى فأنا ايضا سأذهب معك ، المهم بأنني سأنجو من كل هذا ونكون معا بنفس المصير"
شدد على اسنانه وهي تصطك ببعضها بخوف بادي على ملامحه وهو يوجه فوهة المسدس لطرف كتفه لكي لا يسبب إصابة كبيرة له ، وبلحظة كان يضغط على الزناد للمرة الثانية خدشت الطلقة كتفه ومرت منه بإصابة سطحية لا تقارن بإصابة الاول ، ليلقي بعدها بالمسدس بعيدا حتى استقر بجانب المستلقي على الارض ، ليغادر بسرعة من امامه وهو يمسك بكتفه المصاب قبل ان ينحني امام سيارته وهو يحضر المفتاح ، وبغضون ثواني كان يرى سيارته وهي تخرج من المرآب بعد ان تركه جثة هامدة مصابة الذراع ومجروح القلب النازف الذي غطى على نزيفه الخارجي ، والآن فقط ولأول مرة يشعر بالألم الحقيقي خارج جدران قلبه وروحه وهو يستطيع لمسه وتجسيده لأنه حدث بالخارج وليس بالداخل .
_________________________
رمت كيس القمامة بالحاوية وهي تعود بطريقها اتجاه المنزل وتدس يديها بجيوب قميص بيجامتها ، لتتباطأ بعدها خطواتها تدريجيا وهي تلمح الجالس بجانب بوابة بناية سكنها ، وما ان تعرفت على هويته حتى توقفت بمكانها بتجمد على بعد مترين منه وهي تنشج بأنفاسها بصدر متألم وكأنها تراه للمرة الأولى بعد مرور شهر كامل على غيابه توقف به عن دور المتعقب والتابع بحياتها ، لتتحجر ملامحها خلف قناع البرود وهي تكور قبضتيها بجيوبها قبل ان تهمس بخفوت مستاء بصلابة
"ماذا تفعل هنا ؟ ألم تكتفي بعد ؟"
ساد صمت كاتم بينهما بظلام المكان المسور حولهما وكأنها مقبرة اموات ، لتبتلع ريقها بصعوبة وهي تعود للسير بحركات آلية هامسة بجمود
"ارحل من هنا ، بقائك هنا لن يفيدك بشيء"
تسمرت عن الحركة تماما ما ان وصلها صوته الضعيف بتحشرج تردد بظلام الليل الموحش
"سيدرا"
تنفست بارتجاف وهي تلتقط صوته مثل رسالة مضمونها اكبر بكثير من مجرد نطق اسمها والذي حفظته منه بنبرة مغايرة ومختلفة عن الجميع ، لتلتف بسرعة بوجهها وهي تراه منكس الرأس بدون اي حراك وصوت لهاث انفاسه الواضحة تنبأ بالخطر مثل شخص غير طبيعي وكأنه يحتضر .
شهقت بجزع وهي تلمح الدماء التي كانت تقطر من قميصه على جانب ذراعه ، لتخرج يديها من جيوبها وهي تقترب منه بسرعة قبل ان تجثو على ركبتيها بجانبه وتمسك برأسه بحذر ، وما ان رفعت وجهه عاليا حتى اخافها منظر ذبول ملامحه وقطرات العرق تلمع من ضوء القمر ومنظر الدماء التي تسيل من ذراعه وفوق قميصه لتتسابق بسقوط قطراتها على الارض ، لتمسك بسرعة بيده التي تضغط على الإصابة الغير معروف مدى ضررها وهي تهمس بخفوت مذعور بدون ان تستطيع تجميع كلماتها
"ما هذا ؟ ما لذي حدث معك ؟ ومن الذي فعل بك هذا ؟ كيف تأذيت هكذا ؟"
تغضن جبينه بألم شديد وهي يريح رأسه على الجدار قائلا بأنفاس ذاهبة
"لقد تعرضت لطلق ناري بذراعي ، ولكن لا تقلقي فهذا يحدث معي كثيرا ، وقد تكون هذه آخر مرة لي بعيش هذا الشعور ، فقد انتهى طريقي بهذه الحياة"
فغرت شفتيها بأنفاس متلاحقة استحضرت غلالة الدموع بعينيها المهتزتين بأمطار غزيرة على وشك قصف نبضات قلبها ، لتحرك رأسها بالنفي بعنف وهي تشدد من إمساك إصابته هامسة بخفوت مستنكر
"ماذا ؟ طلق ناري ! لا يجوز ترك الامر هكذا ! سوف تسوء حالتك اكثر ، يتوجب عليّ الاتصال بقسم الطوارئ لنقلك للمشفى بأقصى سرعة......"
قاطعها (اوس) بصوت منهك وهو يمسك بيدها على جرحه بكل قوة حتى امتلأت بالدماء
"كلا لا تفعليها ! لا استطيع الذهاب للمشفى بهذه الحالة فقد يتم التحقيق معي هناك ويستدعون الشرطة من اجلي ، ولا استطيع مواجهة الشرطة ، إياكِ واستدعاء احد من الشرطة ، إياكِ يا سيدرا !"
عقدت حاجبيها بضيق مشتت وهي تهمس بعبوس حانق
"ما هذا الجنون ؟ هل تريد مني ان اتركك تنزف هكذا حتى تموت بمكانك ؟ محال ان افعل هذا ! لن اسمح بحدوث هذا الامر لك !"
شهقت بغصة دموع خانقة ما ان شدد بالضغط على يدها فوق الجرح النازف ، ليقول بعدها بلهاث طفيف تقطع بصوته الاجش العاشق
"بقائكِ هنا يكفيني ومشاعرك تشفيني ، لا اريد شيء من هذه الحياة اكثر من البقاء بقربك ، هذه آخر امنياتي من الحياة ، انتِ هي الهدية التي وهبني إياها القدر بوقت كانت التعاسة هي عنوان حياتي ، وكل ما اريده حالياً هو الموت بسلام بين يديكِ فقد تستطيع طهارتك وعفتك ان تمحو من ذنوبي واخطائي وتحررك من سوادي"
عضت على طرف شفتيها بشهقات اصبحت تذبح قلبها وتؤلمها مع كل نفس يخرج منه ، لتقول بعدها بقوة وهي تنفي كل كلامه
"توقف عن الكلام بهذه الطريقة ، توقف عن الكلام تماما ، انت تؤذي نفسك اكثر وتقتلني معك اكثر ، لماذا تصر على قتلي بكل مرة ؟ لماذا انت بكل هذه الانانية ؟"
اجهشت ببكاء منتحب وهي تغطي شفتيها بظاهر يدها بعد ان فقدت السيطرة على وتيرة اعصابها المشدودة والتي حرقها حية ، ليخفف بعدها من الضغط على يدها الاخرى فوق الجرح وهو يهمس بعبارة واحدة بإعياء
"اعتذر يا سيدرا ، سامحيني"
رفعت رأسها بسرعة وهي تخفض يدها هامسة ببحة باكية
"كلا لن اسمح لك ، انا سوف اساعدك ، سوف تنجو ، بإذن الله سوف تنجو"
امسكت بطرف وشاحها وهي تهمس بخفوت مهتز عازم
"هذا امر ملزمة بفعله ، اعفو عني ياربي"
نزعت الوشاح عن رأسها بقوة حتى كشف عن شعرها المعقود فوق رأسها ، لتلف بعدها وشاحها الابيض حول ساعده وبمكان الإصابة وهي تحاول الضغط عليه بكلتا يديها ، وما ان انتهت حتى وضعت يده فوق وشاحها المربوط لتترك له مهمة الضغط عليه وهي تقول بقوة مهزوزة
"لا تتركها يا اوس ، اضغط عليها بكل بقوة ، انا سوف اذهب لطلب المساعدة ، انتظرني هنا ولا تتحرك من مكانك"
اومأ برأسه بردة فعل متأخرة بين امواج غيابه عن الوعي وهو يفقد شعوره بالواقع ، لتسحب بعدها يديها عن الإصابة بارتجاف متردد حتى استوت واقفة على قدميها ، لتتحرك بسرعة داخل البناية وبجري منطلق وكأنها تجاري سباق الحياة ، وبعد مرور دقائق شعر بها دهور وهو ساكن بمكانه بالعراء قبل ان يشعر بذراعين تسندانه من الجهتين وتوقفانه على قدميه حتى انسدل الوشاح المربوط على إصابته مرتخي للأسفل .
بعدها بسير مهلك طويل اخذ دقائق اطول عن السابق حتى استوى بالنهاية ممدد على السرير الواسع ، ليقول بعدها (معتز) بنبرة عملية جادة
"احضري الضمادات واكياس الثلج بسرعة ، وكل ادوات الإسعافات الاولية ، لا تبقي واقفة مثل الصنم تحركي بسرعة"
اومأت (سيدرا) برأسها بانصياع وهي تخرج من الغرفة بجري لتجلب كل ما طلبه منها بحركات لا روح بها وبقلب ينزف دماً ، وما ان عادت له ووضعت كل الاغراض فوق الطاولة الصغيرة وهو مشغول بالتكلم على الهاتف مع صديق يعرفه يدرس بمجال الطب ، حتى كان يخفض الهاتف عن اذنه وهو يلقي عليها نظرة صارمة قائلا بأمر نافذ
"اخرجي من الغرفة واغلقي الباب خلفك"
ارتجفت شفتيها بارتعاد والدموع تغرق ملامحها بشحوب قبل ان تهمس بصوت مختنق برجاء
"ولكن ماذا عنه ؟ هو الآن......"
قاطعها بأمر اكثر صرامة وهو يشير بذراعه اتجاه الباب
"هيا يا سيدرا اخرجي واغلقي الباب ، تحركي"
هزت رأسها بالإيجاب وهي تلقي نظرة اخيرة على المسجى على السرير بين الصحوة والنوم ، لتركض بعدها بسرعة خارج الغرفة وهي تغلق الباب خلفها بكل قوة وجسدها مستند عليه ، لتنزلق بعدها بانهيار صامت وهي تعانق صدرها المتألم بذراعيها وكفيها تلوثان قميص بيجامتها ببقع الدماء الحمراء وهي تتنفس بشح هواء وكأنها تحتضر ، ودعاء واحد يتردد بقلبها الملتاع بخوف لم تشعر به بحياتها
(يارب لا تعاقبني به ، يارب لا تجعله يُعاقب على ذنوبه ، اللهم انك العفو الكريم تحب العفو فأعفو عنا !)
_______________________________
كانت تعدل ياقة القميص بأصابعها الرشيقة وهي تنظر للمرآة امامها بتركيز وتمعن شديدين ، وما ان انتهت حتى اخذت نظرة شاملة على شكلها الجديد بثياب انيقة تناسب مديرة اعمال او شابة حديثة الثراء وهي تواكب الموضة لأول مرة او جزء من الموضة ، فقد كانت ترتدي بنطال اسود مخملي بحزام فضي عريض حول خصرها المستدير ويعلوها قميص ناصع البياض يرافقها سترة قصيرة سوداء بدون اكمام تحدد صدرها الصغير بشكل القلب بياقة واسعة مثلثة ، بينما عقدت شعرها الطويل بشكل ذيل حصان اعلى رأسها مثل النافورة انسدلت الخصلات منها على كتفيها وجانبيها بانسياب ونعومة بدون ان تنصاع بعض الخصلات التي التفت وحدها بتمرد تعطي نفسها التميز ، ولم تضع اي زينة او إكسسوارات على وجهها وحول عنقها ما عدا قرطين من اللؤلؤ الصغير حصلت عليهما بطقم مجوهرات زفافها ، وتركت وجهها خالي من مستحضرات التجميل والتي تتلف بشرتها الرخامية ذو السمات الطبيعية بإظهار جمالها ونضارتها بدون اي عيوب وهي صفة تميزت بها فاتنات عائلة مايرين غير العيون الملونة ولكن اي منهما لم يقدرا على وراثة شعر والدتهما البني الذي يميل للأشقر الفاتح والتي كانت النغمة الشاذة بعائلتها بأكملها .
اسندت يديها فوق سطح طاولة الزينة وهي تحدق بنفسها عن قرب وتراقب المد القادم بعينيها الزرقاوين بصفاء المحيطات تحت شعاع شمس الصباح ، لترسم بعدها ابتسامة انيقة على محياها وهي ترفع انفها المستقيم بشموخ هامسة باستعداد عازم
"هل انتِ مستعدة يا ماسة ؟ لقد بدأت جولتكِ الاخيرة بخوض حلمكِ الذي جاهدتِ وحاربتِ من اجله طويلا وسيكون ثمار تعبك ومجهودك والذي تحديتِ به كل المستحيلات والصعاب ، انا الآن فقط اصبحت امرأة مستقلة ماديا ومعنويا وتملك عمل محترم وحياة بيضاء نظيفة ولن تسمح لأحد بتلويثها بعد الآن ، فقد انتهى عهد الفتاة الدمية وحلت مكانها الفتاة الحرة"
ابتعدت عن المرآة بانتصاب ما ان تردد صوت صارم بالمكان وصاحبته تقف عند إطار الباب
"هل انتهيتِ من تجهيز نفسكِ يا مهندسة ماسة ؟ ام انتظر بالخارج شهر آخر حتى تنتهين من الثرثرة مع نفسكِ !"
التفتت بوجهها للخلف وهي تتلبس ملامح العبوس هامسة بقنوط ممتعض
"لماذا لم تطرقي الباب قبل دخولك للغرفة ؟ هل كنتِ تتنصتين على كلامي ؟"
تنهدت بملل وهي تبتعد عن إطار الباب قائلة بعدم اهتمام
"ولماذا قد اهتم للاستماع لثرثرتك الفكاهية ؟ فأنا مزاجي معكر بالفعل منذ الصباح ولا ينقصني تفاهاتك !"
تبرمت شفتيها بعبوس اكبر وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها هامسة بتفكير مستاء وهي ما تزال تحقق بالأمر
"هذا يعني بأنكِ كنتِ تسترقين السمع عليّ ! وألا كيف تنعتين ثرثرتي بالفكاهية إذا لم تكوني تعرفي !"
زفرت انفاسها بغضب وهي تضرب الحقيبة بجانب خصرها لتقول بعدها بصوت مغتاظ
"حقا يا ماسة ! هل هذا كل ما يشغل تفكيركِ ؟ انا اريد الخروج للعمل منذ ساعة ولكن من اجل المدللة الصغيرة انتظرت كل هذا الوقت ، ألا يمكنكِ اعطائي بعض الاعتبار وتعجلي بالخروج من هنا ! لقد تبقى فقط ربع ساعة على بداية الدوام ، لماذا لا تقدرين قيمة الوقت ولو قليلا ؟"
اتكأت بظهرها على طاولة الزينة وهي تمسك بخصلة منسدلة على جانبها لتلفها حول اصبعها هامسة بخفوت جليدي
"لماذا كل هذه العجلة يا روميساء ؟ الحياة قصيرة جدا وعلينا باستغلال لحظاتها بكل ما نستطيع ، لكي لا نندم بعدها على امور فوتناها من بين ايدينا بسبب انضباطنا وخوفنا من المستقبل"
شددت على اسنانها بغضب وهي تقدح بحدقتيها الخضراوين بتوهج خاطف لتقول بعدها ببوادر فقدان السيطرة
"ماسة تحركي وانجزي ، إذا لم تخرجي الآن معي بغضون دقيقة واحدة فأنا عندها سوف اذهب وحدي بالسيارة ولن اسأل عنكِ"
حركت كتفيها باستخفاف من تعرف شقيقتها حق المعرفة وهي تهمس بتشدق
"لن تفعليها بي ، فأنا شقيقتي التي اعرفها لا تترك شقيقتها الصغرى خلفها وترحل"
ارتسمت ابتسامة متملقة على محياها وهي تستدير بكامل جسدها قائلة بثقة
"حسنا كما تشائين ، انا الآن ذاهبة لترك شقيقتي الصغرى تدبر نفسها بأي مواصلة نقل غيري ، وداعا يا حلوتي"
انتفضت (ماسة) واقفة وهي تلوح بيديها بضحكة نادمة
"انا اعتذر يا روميساء ، حسنا ، حسنا انتظريني فقط دقيقتين وسأخرج لكِ على الفور ، فقط امنحيني دقيقتين"
التفتت لها بنصف وجهها بنظرات باردة وهي تقول بهدوء حاسم
"فقط دقيقتين ، وهذه آخر فرصة لكِ ، لا تنسي يا آنسة فتاة حرة"
شهقت بغضب وهي تراقب ظهرها بعد ان خرجت من الغرفة ببساطة ، لتصرخ من خلفها بهياج غاضب تشرب بها بحياء
"لن اسامحكِ يا روميساء ، لن اسامحكِ على استراق السمع !"
تنفست بثورة وهي تستدير امام المرآة من جديد حتى ضربت خصلاتها الطويلة خديها بصفعات لطيفة ، لترمش بعينيها عدة مرات بإفاقة تلونت بأمواج تسونامي وهي تضرب خديها بيديها هامسة بقوة تكمل دعمها لنفسها
"عليكِ فعلها يا ماسة ، لقد حان الوقت لكي تقتحمي ذلك العالم وتثبتِ قوتكِ وجدارتكِ به ، وانتِ اكثر من قادرة على ذلك ، وليس انتِ من عليها الخوف منهم بل هم من يتوجب عليهم الخوف منكِ ومن مهاراتك"
تنفست الصعداء من بين شفتيها المتكورتين وهي تناظر احمرار وجهها المتوهج من الإثارة والاستعداد ، لتخفض بعدها يديها ببطء وهي تنحرف بنظراتها للجارور الوحيد بطاولة الزينة ، لتفتحه بعدها بهدوء وهي تخرج بيدها الاخرى خاتم الزواج الألماسي والذي افتقدته طول هذه المدة وبتوق للقاء صاحبه ، لتدخله بعدها بأصبع يدها اليسرى حتى استقر بها وهي تفرد باقي الاصابع امام المرآة ، لتهمس بعدها بابتسامة طريفة وهي تحدق بألماسة الخاتم
"دعواتك يا زوجي العزيز"
اخفضت يدها بسرعة وهي تسمع النداء الطارئ خارج الغرفة الذي يعلن عن انتهاء الوقت المحدد ، لتلتقط حقيبة اليد السوداء من فوق الكرسي والتي تتوسطها قطعة ألماسة كبيرة تشابه خاتمها وهي تخرج من فورها وتغلق الباب خلفها .
_______________________________
كانت ترفع يدها بتردد وهي تواصل تأملها الصامت للنائم على السرير بسلام غير حقيقي ولم يكتمل للآن ، فهي اكثر من تعرف بأنه يعاني حتى بنومه بطريقة تغضن جبينه المحتد والتي ابرزت الندبة الواضحة بمنتصف عقدة حاجبيه ، فبعد كل المسكنات والمهدئات ما يزال يتألم ويعاند الوجع بكل ما يستطيع من قوة وكأنه لا شيء بالعالم يستطيع قهره ، ولكن هذه المرة قد بالغ بالمخاطرة وعرض حياته وجسده لأكثر مما يستطيع ان يحتمل ويصمد ، حتى اجزمت بأنه قد تم قهره بالفعل ورأى نهايته الحتمية وخاصة عندما حادثها بليلة البارحة وآخر حوار خاضه معها ، وكأنه فضل الموت بين يديها وسماع صوتها كآخر امنية يستطيع تحقيقها قبل رحيله .
قبضت على يدها بالهواء قبل الوصول له والنيل من تقاطيع ملامحه الحادة التي تعصرها بألم وضيق داخلي ، لتفرد بعدها اصابعها وهي تحط بأصبعها الطويل على الندبة التي تحرق بصرها اكثر من اي شيء آخر ، وهي تذكر جيدا عندما صارحته بسؤال عن سبب الندبة بجبينه التي كانت تثير بها كل الحيرة والفضول ، واجابها عندها بابتسامة بلهاء يخفي ألم مغروز بقلبه استشعرت به الآن (لقد حدثت عندما كنت بالإعدادية وتشاجرت مع طالب بنفس فصلي ولكنه اكبر حجما مني ، وقد كانت الغلبة له بالطبع لينتهي الامر بدفعه لي على الارض وفوق الزجاج المكسور وحدث ما حدث) ، حينها تفاجأت من كلامه ومن ردة فعله بالتكلم عن مثل هذه الحادثة الشنيعة بمنتهى البساطة ، ولكنها آثرت الصمت بعدها ولم تعلق على الامر سوى بسؤال واحد تغلب عليها (لماذا تشاجرت معه إذا كنت تعلم بأن الغلبة له ؟) ، بعدها شعرت بشيء يجثم فوق صدرها بضيق ما ان اجابها بعد لحظتين بصوت انخفض بقتامة وكأنه يكره نفسه على القول (لقد نعت امي بالناشزة) ، تذكر بأنها قد فغرت شفتيها بذهول وهي تحاول استيعاب الكلمة الرصاصة التي اطلقت على والدته والتي تسمى للمرأة التي تعصي زوجها وتهرب من بيته ، ولكن كيف تطلق هذه الكلمة على مسامع مراهق بحق والدته مهما كانت مدى مساوئها وافعالها ؟ بأي حق يتكلمون عنها هكذا ؟ او بأي حق يحشرون انفسهم بشؤون الغير وبمصائب الآخرين ؟
تنفست بتحشرج خانق وهي تضم اصابعها بعيدا عنه بعد ان ادركت نصف معاناته بحياته الاكثر سوداوية ، فقد غابت عنها كل تلك الاحاديث التي كان يقصها عليها وتخص تفاصيل حياته وكأنه يشعر بالراحة والاستمتاع بتفريغ كل ما يوجد بتلك البؤرة لشخص يتفهم كل هذا ويكون العنصر المستقبل بينهما ، حتى نسيت كل هذا بخضم الاحداث الاخيرة وبعد لحظة انفصالهما التي قطعت كل الصلات والمشاعر التي كانت تربط بينهما بميثاق قوي غير قابل للكسر .
استعادة قبضتها سريعا ما ان سمعت وقع الخطوات القادمة ناحية الغرفة ، لتمسح بسرعة دموعها المتدلية على رموشها وهي تدس معها الخصلات المتمردة على وشاحها ، لتتوقف بعدها الخطوات لبرهة ما ان اصبحت داخل حدود الغرفة قبل ان يقول بوجوم خافت
"هل ما زلتِ مستيقظة ؟ ألم تستطيعي النوم ؟"
هزت رأسها بالنفي بدون ان تضيف ردة فعل اخرى بعد ان فقدت صوتها من البكاء طول الليل ، لتسمع بعدها خطواته وهي تقترب اكثر ناحية السرير حتى توقف بالقرب منه ، لتضم قبضتيها بين ساقيها بقوة وهي تهمس لأول مرة ببحة خافتة بدون ان تمنع نفسها
"كيف حاله الآن ؟ هل هو بخير ؟"
كان نظره مسلط على الادوية والمسكنات فوق الطاولة الجانبية والتي جلبها من الصيدلية على بزوغ الفجر باستشارة صديقه الذي ما يزال يدرس بمجال الطب ، ليزفر بعدها انفاسه بجمود وهو يقول ببهوت جاد
"ما يزال وضعه مستقر للآن ، فقد حاولت تخفيف الألم عليه بالمسكنات والادوية الحيوية ، وضمدنا جرحه بعدد من الضمادات الطبية بعد تطهيره وتنظيفه ، وهذه كل التعليمات والاجراءات الاساسية التي تلقيتها من الاستشارة الهاتفية ، فهو بالنهاية ما يزال طالب بالجامعة ولم يتخرج بعد من كلية الطب وهذا اقصى ما يستطيع تقديمه لنا بعد الحِمل الكبير الذي ألقيناه على عاتقه !"
ابتلعت ريقها بصعوبة وكأنها غصة مسننة تستطيع شق قلبها لإشلاء صغيرة ، لتقول بعدها بهدوء شديد تكمل حديثها علها تبرد بعض نيرانها
"وكيف شرحت الوضع له ؟ ماذا اخبرته عن المريض ؟"
حرك (معتز) كتفيه ببرود وهو يقول بهدوء شارد
"لقد اخبرته بأن صديق لي تعرض للإصابة بطلق ناري ، ويحتاج للإسعاف الفوري بأسرع ما يمكن بسبب بعد منطقته عن المشافي واستغراقهم الوقت الطويل للوصول إليه"
اومأت برأسها بدون اي تعبير وهي تهمس بخفوت مستصعب
"وهل كان هذا كافي ؟ هل صدق هذا الكلام ؟"
غامت ملامحه بصمت وهو يقول بثقة
"لا تقلقي من هذه الناحية فهو قليل الكلام ويفضل العمل اكثر من طرح الاسئلة ، فهو يحب تقديم المساعدات والخدمات لكل من يحتاج ويلجئ إليه"
تنفست ببعض الراحة المؤقتة من كلامه والذي بعث الطمأنينة بنبضات قلبها الحزين ، لتفيق بعدها على صوته وهو يقول هذه المرة بنبرة اكثر جدية ونظراته على المسجى بالسرير
"ولكننا مع ذلك لا نستطيع الاستغناء عن فكرة نقله للمشفى واجراء الفحوصات الشاملة له ، فنحن لا نعلم للآن نسبة إصابته والضرر الذي تعرض له من الرصاصة التي اخترقت لحم ذراعه ! وهو يحتاج لمعاينة إصابته تحت إشراف طبيب خبير للتأكد بعدم وجود مضاعفات بحالته وبسلامة عظامه إذا كان قد كسر شيء بها ، وهذه الفحوصات مهمة جدا لكي لا يسوء وضعه فجأة او يحدث شيء خارج توقعاتنا ، عندها لن نستطيع احتواء الضرر الذي سينجب عنه !"
نظرت له بسرعة بعيون اغرورقت بالدموع من جديد وهي تهمس برفض شديد بدون الشعور بالنصل الذي غرسه بداخلها
"لا يا معتز ! لا تفعلها ! لقد اخبرني بعدم إيصال خبر إصابته للمشفى التي ستوصل الامر للشرطة بدورها ، ونحن لا نستطيع الاستخفاف بهذا الامر الخطير والحساس ، ارجوك يا معتز لا تخبر احد عن وجوده هنا وبالأخص الشرطة ، ارجوك ان تحتفظ بهذا السر من اجلي"
حدق بها بجمود وهو يلوح بذراعه نحوه قائلا باستنكار عابس
"هل تدركين ما تقولين يا سيدرا ؟ الامر لا يتعلق بوصول الخبر للشرطة فقط بل ايضا بحياته التي اصبحت مهددة بين يدينا ! يعني لو فارق حياته هنا نحن من سيتحمل عواقب هذه الجريمة وستكون عندها الكارثة الكبرى ، هل تدركين بأي مصيبة ستضعيننا بها ؟......"
قاطعته (سيدرا) باندفاع لا إرادي وهي تنهض عن الكرسي بقوة صارخة بصوت اشتد بهياج
"هل هذا كل ما يهمك ؟ هل كل ما يهمك هو كلام الناس ونظرتهم نحونا ؟ وماذا عن حياته ؟ ألا تهمك حياته ولو قليلا ! ألا يهمك مصيره وما سيحول له ! ألم يرأف لك حاله وما وصل له ؟ لماذا جميعكم بكل هذه الانانية لا تفكرون سوى بأنفسكم وما يخدم مصالحكم ؟ لماذا ؟"
كان ينظر لها بصمت لبرهة قبل ان يشيح بوجهه جانبا وهو يقول ببرود جاد
"لقد اسأتِ الفهم فأنا لم اقصد شيء من هذا ، وبكل الاحوال فلا نستطيع تخبأته عنا طويلا ، ولا نستطيع التورط او المخاطرة بوجوده بيننا بهذه الاريحية ، فقد يتحول كل شيء للأسوء لو تم ضبطه من قبل سكان البناية يعيش بمنزلنا !"
توجهت نظراتها نحو وجهه المتألم وهو غارق بالنوم بدون الشعور بالعالم الذي يدور من حوله والحوار الذي يدور عنه ، ليجذب تركيزها صوت شقيقها وهو يقول بتساؤل جاف
"لم تخبريني كيف حدث معه كل هذا ؟"
ارتفع حاجبيها بشحوب غزى محياها وغضن جبينها بألم غير مرئي ما ان طرأت ذكرى عثورها عليه جالس بقرب البناية وحيد ومنبوذ ومصاب مثل كلب جريح تلقى رصاصة من بندقية الصيد ، لتهمس بعدها بابتسامة حزينة وهي تصل بنظرها لذراعه المضمد برباط يلتف حول عنقه
"لا اعلم حقا ، لم يخبرني بشيء ، فقد وجدته هكذا جريح بقرب البناية !"
نقل نظره كذلك للرجل الممدد على السرير وكلاهما يحدقان بنفس النقطة ليقول بعدها يقطع حلقة الوصل بهدوء
"هل تعرفين اي احد من عائلته ؟ او عنوان واحد منهم !"
اتسعت حدقتيها النديتين باستيعاب وهي ترفع رأسها قليلا قبل ان تهمس بعبوس متشنج
"اعرف بأنه يعيش مع والده ، ولكني لا اعرف عنوان منزله"
اومأ برأسه وهي تسترعي انتباهه خاصة بعد ان تابعت كلامها بخفوت جاد وكأنها تعايش ماضيه
"ولكني اعرف عنوان منزل عمه ، فقد اخبرني كثيرا عن عائلة عمه وفضائلهم عليه بعد ان عاش بينهم بسنوات طفولته واهتموا به مثل فرد بعائلتهم ، ولكن شاء القدر ان يتوفى عمه منذ سنوات طويلة ويعود للسكن مع والده ويفترق عنهم"
تصلبت ملامحه وهو يشدد على قبضتيه قائلا بأمر حاسم
"جيد ، إذاً سنأخذه ونوصله إليهم"
نظرت له بسرعة بارتباك وهي تقول بتردد متوجس
"ولكن هل من الصحة نقله من مكان لآخر بوضعه ؟ وايضا لست متأكدة إذا كانوا سيستقبلونه ويتقبلونه بينهم !"
حرك رأسه بقوة وعينيه ثابتتين عليه قائلا بكل تصميم وبقلة حيلة
"لا نملك خيار آخر غيره ، ولا بأس بالمخاطرة وفعلها ، فلن نخسر شيء من هذه التجربة ، افضل من البقاء بمكاننا بانتظار سقوط مصيبة علينا من حيث لا ندري !"
بينما كانت (سيدرا) الشاردة بمكان لا يوجد به سواهما وهي تتأمل معالم وجهه الحادة والندبة الواضحة والتي اصبحت جزء من شكله ولسانها يهمس بقلب خاوي
(ربما هو كذلك)
_______________________________
كان ينقر برأس القلم على سطح المكتب وهو ينحرف بنظره عن الورقة امامه والتي تخص استمارة معلوماتها ليصل للجالسة فوق الاريكة امام المكتب وهي تتأمل ديكور الغرفة وكل شيء بها ما عداه واصابع يدها تتلاعب بخصلة مموجة من شعرها حول وجهها تختلف عن باقي خصلاتها الاخرى ، وهي تمثل كتلة من الجمال والدهاء غريبة الشكل والافعال تغيرت عن آخر لقاء بينهما وكأنها تتحول حسب البيئة والظروف المحيطة بها لتتأقلم معها بكل سهولة وسلاسة وتدهش الحاضرين من حولها ، وكم اصبح يتوق ويتحمس للتعرف على هذه المادة الغريبة امامه التي سوف تعمل تحت إشرافه وخدمته ، ولنرى مدى ذكائها وبراعتها بالاندماج مع محيط العمل الجديد عليها ! وإذا كانت ستتغلب حقا على جميع الصعاب بهذا المجال من العمل ام ستفر هاربة بالنهاية !
تجمدت حدقتيه على الخاتم الألماسي الذي يحتل بنصر يدها اليسرى بما لا يدعي للشك بأنه خاتم زواج ، ولكن بالتفكير بسنوات دراستها بالجامعة التي شملتها منحة دولية عندما لم يكن هناك اي عائل غيرها ظهرت بمعلوماتها الشخصية فهي تبدو لم يمر الكثير على زواجها ، ومن مكان سكنها الحالي الذي يضمها هي وشقيقتها الوحيدة فيبدو بأنها تعيش بعيد عن زوجها حالياً ، ولن يستبعد لو كانت تجهز للانفصال عنه والاستقلال بمفردها بعد ان ضحكت لها الحياة ، فهذه الفتاة تحمل غموض واسرار بحياتها اكثر مما يظهر شكلها الخارجي المثير من كل النواحي والذي من الصعب فك احجياته وألغازه إذا لم تسمح هي بذلك !
شرد طويلا بتفاصيل خاتمها الغير عادي ويتعدى مجرد خاتم زواج تقليدي ، إلا إذا كان يحمل قصة خلف صناعته الفريدة التي زادتها تألق ونافست برود وصلابة ألماسته !
"هل انتهيت ؟"
رفع نظره نحو وجهها الشارد بعيدا وكأنها ليست من نطقت للتو بعبارتها الباردة التي لا توضح المغزى من سؤالها ، ليتأمل بعدها جانب وجهها عن كثب وكأنه يحاول رسم جوانبها الداخلية من النظر لها وهو يقول باستغراب
"ماذا قلتِ ؟!"
اعادت الخصلة التي كانت تتلاعب بها لخلف اذنها بانسياب وهي تهمس بعملية ما تزال تحافظ على نظرها بعيدا
"هل انتهيت من معاينة استمارة معلوماتي ؟ فقد اخذت عليها اكثر من الوقت الذي تحتاجه لقراءة وتفحص بنودها !"
قطب جبينه وهو يرسم ابتسامة جانبية على محياه بعد ان تلاعبت بأعصابه بمنتهى المهارة بسؤال واحد ليقول بعدها ببساطة جادة
"لقد انتهيت بالفعل من قراءة استمارتك ، ولكني كنت احاول دراسة طباعك وسماتك الخارجية بما اننا قد ألغينا جزء المقابلة الشفهية بيننا"
ادارت وجهها نحوه بملامح ساكنة وهي تهمس بابتسامة مصطنعة حفرت بشق باهت
"وكيف ابليت ؟"
تغضن جبينه بتركيز وهو يتمعن بخطوط ملامحها المنقوشة فوق حجر مصقول لا يظهر اي مشاعر او تعابير ، ليخفض بعدها الورقة من امامه وهو يسحب عينيه بعيدا قائلا باقتضاب
"لا بأس بكِ ، ما تزالين في طور النمو"
حدقت به بصمت قبل ان تدير عينيها وهي تعود للتلاعب بخصلة اخرى تدلت امام عينيها من شعرها المعقود بانعدام انضباط ، ليركز بعدها نظره عليها وهو يقول بتفكير جامد بدون ان يظهر اي مما يجول بداخله
"لقد انتهيت من مراجعة بنود الاستمارة كاملة ، ولكن لدي سؤال صغير خارج سياق هذا الموضوع ، يعني مجرد استفسار بسيط لكي نتلافى عن اي سوء فهم قد يحدث بيننا"
نظرت له بعينين زرقاوين نافذتين وهي تنتظر تكملة كلامه المهم وكأنها تعطيه الإذن بالمباشرة بحديثه ، ليقول بعدها من فوره بجدية هادئة بدون ان يقطع تواصل العيون بينهما وكأنه يحاول تغلغل اعماقها
"هل انتِ منفصلة عن زوجك ؟"
تابع جمود ملامحها بتشكيل طفيف بدون ان تبدل النظرة بعينيها ولا ان تسحب نفسها بعيدا كما يحدث بالوضع الطبيعي عندما تواجه المرأة مثل هذه الاسئلة ، وبدلا من ذلك قالت بعدها بابتسامة باردة وكأنها تواجه مسألة اعتيادية
"هل هذا السؤال متعلق بسجلي بالعمل ؟ هل له تأثير على مجرى عملي ؟"
ارتبكت ملامحه من سؤالها المباشر الغير محسوب وهي تحني تفكيرها عن كل شيء وتركز فقط بأهمية هذا الامر على عملها الجديد ، ليحرك رأسه بالنفي وهو يقول بابتسامة طبيعية يحاول تمثيل المرونة والبساطة
"ليس له تأثير كبير على العمل ، ولكني احب معرفة كل المعلومات الخاصة والصغيرة بكل من يعمل معي ويصبح ضلع بهذا القسم الخاص بي"
حركت رأسها بعيدا وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها هامسة بإيجاز
"جيد ، إذاً لست ملزمة بالإجابة على السؤال"
تراجع بجلوسه وهو يشعر بصفعة غير مرئية وصلت له بأسرع طريقة وبدون ان تحرك اصبع ، وليس هناك تعبير يصف تصرفها معه سوى بالوقاحة الغير متناهية والتي لم يسبق له مواجهتها بهذا المنحى الطويل له بالعمل بهذا المجال ! لتقاطع افكاره وهي تحرك كلا ساقيها بحركة متزامنة قائلة بصوت اشتد بانفعال
"ألن نباشر بالعمل وبالأشياء الروتينية التي تفعلونها مع الموظفين الجدد ؟"
تنفس بجمود وهو يرتب الاوراق امامه قائلا بشخصية عملية
"اولاً اخبريني هل لديكِ اي سنوات خبرة ؟ هل عملتِ بمكان آخر قبل ان تقدمي على هذه الوظيفة ؟"
نقلت (ماسة) نظرها نحوه ببرود وهي تهمس بعبوس مستاء
"اذكر بأننا قد تكلمنا عن هذا الموضوع بأول لقاء بيننا وكشفنا عن نقاط ضعفنا امامك ، فلو اني املك الخبرة بالفعل لما لجئت لاستخدام الواسطة للوصول إليك ، ولو اني كنت اعمل بمكان سابق لما فكرت بتركه للجوء إليك"
اومأ برأسه بجمود وهو يضيف بجانب وقاحتها الصراحة الزائدة بدون الاهتمام لردة فعل الطرف الآخر ولا لطبيعة مشاعره ، ليضع بعدها الاوراق امامه وهو يتمتم بضيق واضح
"لا تملكين شهادة ولا خبرة ولا خلفية عن العمل ، يا لها من بداية مبشرة للدخول بسلسلة من المتاعب مع اقل من مبتدئة وهاوية"
اغتصبت ابتسامة صغيرة وهي تهمس بتملق
"سيكون اختبار جيد لمهاراتك بتعليم هذه المبتدئة بعض اصول العمل ونقل كل خبراتك لها ، لذا املي بك كبير يا سيد إياد ، واتمنى ألا تخيب ظنا كلينا بك وتكون بقدر هذه المسؤولية ، انا الآن تحت حمايتك ورحمتك"
رمقها بطرف عينيه وهي تستخدم لطافتها كسلاح بالخداع للتهرب من الموقف بكل خبث كما فعلت البارحة ، ليخرج بعدها الملف وهو يدس الاستمارة بداخله ويقبس على الاوراق بمقبس المكتب بمنتهى الهدوء ، نهض بعدها عن المكتب وهو يدور من حوله قبل ان يقف امامها ويمد ذراعه اتجاه الباب قائلا بمهنية
"هيا بنا لنرشدك لمكتبك الجديد"
تألقت ابتسامتها بجمال وهي تنهض وتمسك بحقيبتها السوداء الصغيرة التي تناسب مظهرها الجديد ، لتتحرك بعدها امام عينيه وهي تخرج من باب المكتب المفتوح بثواني ، ليخفض ذراعه بسرعة وهو يتحرك كذلك خلفها قبل ان تختفي عن ناظريه .
كان يسير بين اروقة المكاتب وهي تتبعه بصمت يستطيع سماع خطواتها القوية فوق الارض المصقولة بصلابة وكأنها تترك بصماتها بخطواتها وتعلن عن حضورها الطاغي بالمكان ، وما ان وصل امام المكتب المطلوب حتى تنفس الصعداء بعد ان ضاق به المكان الذي تردد به صدى خطواتها وكأنه يسكن بالجدران ، لتقف بعدها بصمت وترقب بدون ان تتفوه بكلمة واحدة وهو يمسك مقبض الباب بلحظة ليدفعه على اتساعه امامها .
دارت بمقلتيها بترصد وهي تتأمل ديكور الغرفة الانيقة والتي تطغى عليها الألوان الداكنة المشبعة بالفخامة والرقي واقل مستوى من مكتب رئيس القسم ، واكثر ما جذب انتباهها هي النوافذ التي تغطي جوانب الجدران من الجهتين بشكل طولي هدفها هي اظهار الإطلالة الساحرة بالخارج ودمجها بمظهر المكتب ، لتعود من تأملها وهي تنظر للواقف بجانبها والذي قال بهدوء عملي يراقب اهتمامها
"كيف هو مكتبك الجديد ؟ هل اعجبكِ ؟ إذا كنتِ تريدين تعديل شيء به او اضافة تغييرات بالمكان يمكنكِ اخبارنا"
اشاحت (ماسة) بوجهها جانبا وهي تهمس بوجوم باهت
"هذا اكثر مما توقعت ، اعتقد بأنك قد بالغت بالأمر بطريقة غير عادلة !"
حرك كتفيه ببساطة وهو يقول بابتسامة جانبية بغموض
"لقد اصبتِ بهذا التوقع ، فنحن قد اخترنا لكِ مكتب من بين افضل المكاتب بالقسم ، وكل هذا من اجل طبيعة الواسطة التي تدعمك من ورائك ، فنحن لا نريد ان نواجه اي تقصير او مشاكل من ناحيتك بعد ان وصانا كثيرا على الاعتناء بكِ وحفظك بأرواحنا ، فيبدو بأنكِ تملكين نفوذ عالية وكثيرة بالبلد"
عقدت حاجبيها بتفكير عند آخر كلامه وهي لا تفهم لماذا ضمن بحديثه نفوذ كثيرة بالرغم من انه شخص واحد من ادخلها لهذا المكان ! هل كان يقصد شيء آخر ؟ ام هي التي اصبحت ترتاب من كل شيء يحدث معها ولا ترتاح ألا عندما تنغص على نفسها ؟
تنفست بقوة وهي تهمس بابتسامة صغيرة بامتنان
"لقد فعلت الصواب ، جزاك الله خيرا"
تقدمت بعدها داخل الغرفة برأس مرفوعة بإيباء وكأنها تعلن ملكيتها على مكانها الجديد والذي ستحقق به كل طموحاتها الشخصية وتصنع هويتها بنفسها وتحمل بالنهاية لقب خاص بها مغاير عن كل تلك الألقاب التي اطلقت عليها تبعا للشخص الذي يرأس خريطة عائلتها ، ليجذبها صوت الواقف عند إطار الباب وهو يقول بهدوء شديد لكي لا يفسد شرودها مع ذاتها
"ببداية الامر عليكِ ان تعلمي بأنه لن توكل لكِ اي مهام بهذا المجال وسيكون عليكِ محاولة التأقلم بمحيطك الجديد ودراسة ومشاهدة الاعمال التي سنقوم بها ، والآن سأترككِ بمكتبك الجديد لكي تحاولي تأسيس نفسكِ هنا ، وإذا احتجتِ لأي شيء لا تترددي بطلب المساعدة فأنا سأكون بقربك حتى تستقري تماما ، طاب يومك"
التفتت بنصف وجهها وهي تسمع صوت خطواته التي غادرت الممر بأكمله ومجرى سمعها ، لترمي بعدها بالحقيبة عاليا والتي استقرت فوق الاريكة بانسياب وهي تشابهها بنفس قماشها المخملي ، لتتقدم بعدها امام المكتب بخطوات رشيقة قبل ان تحط بأصابعها على اطراف خشب المكتب الأملس الفاخر وهي تكمل رسمه مثل معزوفة موسيقية اتقنتها اصابعها الناعمة على الآلة الفنية وكأنها تعيش اجوائها الخاصة ، ضيقت بعدها حدقتيها الزرقاوين بارتباك ما ان وقعتا على باقة الازهار الموضوعة فوق سطح المكتب بأناقة وكأنها جزء من المكان .
اخفضت يدها على جانبها قبل ان تتجه بسرعة نحوها وهي تدور خلف المكتب ، وما ان وصلت لها حتى امسكت بعنق الباقة المغلفة بورق احمر حريري لامع بينما الازهار تدمج بين اللونين الاحمر والابيض ، لتعلق عينيها فجأة على البطاقة الحمراء المغروسة بين الازهار مصنوعة من نفس نوع غلافها ، لترفع بعدها يدها وهي تنتشلها بحذر وتقربها امامها لتفتحها بأصبعي السبابة والإبهام وهي تراقب الكلمات المكتوبة بلون ابيض ناصع مثل ألوان الازهار
(مبروك حصولك على وظيفة احلامك يا مهندستنا الموقرة ، ولكن لا تنسي جمائلي عليكِ ومساعدتك باختيار هذا المكتب الفخم ، لو فقط كنتِ طلبتِ مساعدتي بهذا الامر لما ترددت بفعلها ، ولكن بما انكِ قد اتخذت هذه الخطوات الصامتة فقد سبقتك بخطوات صامتة اسرع منكِ ، لتعلمي فقط بأنكِ لا تسيرين وحدكِ بهذه الحياة وما تزال يدي تمسك بكِ ، وانتظري عقابكِ القادم على هذه الافعال والتي لن اتغاضى عنها ولن توازي اي عقوبة اخرى ، وبهذه الاثناء استمتعي بمكتبك الجديد وبباقة الازهار التي ستكون اول هدية لزوجتي المجنونة التي حققت حلمها ، وشيء إضافي انا لست احمق بل انتِ المعتوهة ! المرسل : شادي الفكهاني)
فغرت شفتيها بما يشبه ابتسامة حالمة شاردة تجمع الغرام والهيام معا بنفس القارورة والذي هو قلبها بدون ان تأبه بتهديده والذي تراه جزء من الغزل ، لترتمي بعدها على الكرسي المتحرك خلفها والذي دارت به حول نفسها بعالم خيالي وهي تضم الباقة لصدرها بأقصى قوتها هامسة للبطاقة امامها بشغف ملهوف
"انا بانتظارك فلا تطيل بالغياب"
____________________________
دارت حول سيارة الاجرة وهي تقف بجانب شقيقها الذي كان يخرج الجريح من السيارة ، لتغلق بعدها الباب من خلفهما وهي تطل على السائق من النافذة قائلة بحزم
"إياك وان تغادر من مكانك ، دقائق ونعود إليك"
اومأ السائق برأسه وهي تنسحب من امامه بسرعة لتلحق بالآخرين الذين سبقوها ، وما ان وصلت لهم حتى ساندت المصاب بذراعه الاخرى وهي تساعده على السير بنصف وعي تقريبا وهو يحاول بكل جهده معاونتهم على السير ، ليقفوا ثلاثتهم امام باب المنزل وهي تقرع جرسه بيدها الحرة ثلاث مرات .
بعد مرور دقائق كان ينفتح الباب على اتساعه وهي تطل عليهم ساكنة المنزل الوحيدة والتي تعرفت عليها بسهولة من نظرة واحدة لتلك العينين الواسعتين واللتين تحملان كل حزن الكون ، بينما كانت المقابلة لهم تحدق بهم بدهشة للوهلة الأولى قبل ان تتحول لخوف مخيف عصف بملامحها الشاحبة وبعينيها الكحيلتين بظلال الألم اخذتا بالاتساع التدريجي وتفرع الألم بكليهما ، وقبل ان تنطق بأي حرف سبقتها التي اخذت دفة الحديث وهي تهمس بابتسامة حزينة تحاكي حزنها الظاهر
"ارجوكِ يا سيدتي ، هلا تسمحين لنا بالدخول ؟ فهو بحالة حرجة جدا"
ارتجفت تقاسيمها ويدها الممسكة بمقبض الباب تسقط على جانبها وكأنها تحاول استيعاب المصيبة الجديدة التي هبطت عند باب منزلها بشكل ابنها الثاني الذي غاب عنها سنوات طوال وهو يعود جريح محمل من الاكتاف ، ولم تشعر بدموعها التي اغرورقت بعينيها بحرارة شديدة كانت تسبح بقلبها بجرح غائر قديم ، ليعيدها لعالمها الواقعي صوتها مجددا وهي تقول بخفوت حرج تكاد تذوي من التعب والإرهاق
"سيدتي ارجوكِ ، نحتاج لنقله بسرعة لغرفة ليرتاح فيها ، إذا كنتِ لا تريدين استقبالنا....."
قاطعتها (هيام) بسرعة وهي تتراجع عن الباب لتفسح لهما المجال هامسة بخفوت مرتجف
"اعتذر منكما ، هيا تفضلا بالدخول"
دخلا بالفعل عدة خطوات بطيئة بدون ان يثقلا عليه بالسير ، ليتدخل بعدها (معتز) بالقول بتهذيب
"هل يمكنكِ ان توصلينا لغرفة قريبة نستطيع وضعه بها ؟"
اومأت برأسها بسرعة وهي تجتازهما لتقودهما لغرفة اضافية من بين غرف الضيوف ، لتفتح بعدها الباب لهما وهي تسبقهما بالدخول لترتب ملاءة السرير وتفتح ستائر النافذة بحركات غير منتظمة حاولت جهدها لتكون بأفضل صورة ، وما ان انتهت حتى كانا يدخلان مع المصاب وهي تشير لهما للسرير قائلة بصوت خفيض بارتعاش
"يمكنكما وضعه على السرير هنا ، ولكن انتبها لخطواتكما جيدا بالسير"
ابتعدت عنه (سيدرا) وهي تترك شقيقها يمدد جسده على السرير بحرص ويرفع قدميه فوق الملاءة ، وبلحظات كانا يخرجان من الغرفة بصمت وهما يقفان ببهو المنزل الواسع ، ليجذب نظرهما التي خرجت خلفهما وهي تتقدم منهما بسرعة قائلة بمرارة ظهرت بارتجاف صوتها
"ما لذي حدث له ؟ كيف وصل لهذه الحالة ؟ ما لذي اصابه ؟ لماذا ذراعه مضمدة ؟ حبا بالله قولوا ماذا حدث لابني ؟"
زمت (سيدرا) شفتيها بارتعاش لسع بعيناها بلون البندق الحارق وبدموع لم تنضب للآن ، وهي تستطيع الشعور بمشاعر هذه المرأة التي تبين بأنها ما تزال تعتبره ابن لها بفطرة الامومة التي لا تحتاج لصلة قوية لتستطيع الاعتراف بها ومحاكاتها ، لترمق شقيقها بجانبها والذي التزم الصمت يعطيها سياق الحديث لتقول بدورها بابتسامة هادئة تحاول ان تخفف من فظاعة ما حدث
"لقد خدشته طلقة نارية على ذراعه ، ونحن قمنا بالواجب وضمدنا له الجرح كما يجب ، وحالته الآن شبه طبيعية وبظرف ايام سيتحسن ويعود لصحته بإذن الله"
ابتلعت ريقها بارتباك وهي تكذب نفسها وتنفي مخاوفها بتلك الجمل التي كان هدفها طمأنت نفسها قبل تلك المرأة ، بينما كانت (هيام) تريح قبضتها المضمومة فوق صدرها المنتحب باهتزاز كان مصدره قلبها المفطور على اولادها وهي تقابل فاجعة جديدة شبيهة بطريقة موت ابنتها وكأن المشهد يعاد من جديد وهذه المرة مع ابنها الثاني الذي كانت تنتظر اي خبر عنه ، لتخرج بعدها تنهيدة متعبة يكاد يغشى عليها وهي تتمتم مع نفسها بوجع مكبوت
"يا إلهي من اين تهبط كل هذه المصائب علينا ! يا الله الرحمة ! يا الله انجدنا من هذا الابتلاء !"
غامت ملامحها بحزن وهي تشفق على وضع هذه المرأة التي تبدو معاناتها تتعدى اصابة ابنها وقد تكون ممتدة لسنوات ، وما ان كانت على وشك الكلام حتى سبقها شقيقها وهو يقول بصلابة يعود لموضوعه المهم
"اسمعيني يا خالة ابنكِ يحتاج لرؤية طبيب فورا ليهتم بحالته ويجري له الفحوصات الاولية للتأكد من حالة إصابته ومن عدم تضرر اي طرف آخر بجسده ، وإذا لم تستطيعوا اخذه للمشفى يمكنكم اخضار طبيب مختص للمنزل ليجري له الكشوفات واللازم معه ، وهذه الامور ضرورية جدا لسلامة المصاب بالمقام الأول"
كانت تنظر له بعيون واسعة فاض بها الألم وكأنه يقص عليها نهاية ابنها الوشيكة الذي وصل لها نصف حي ، بينما حدجته شقيقته بنظرات نارية بسبب عدم مراعاة حالتها وهو يخبرها بكل وضوح عن إصابة ابنها التي قد تؤدي للموت ، لتنقل بعدها نظراتها للمرأة الساكنة والتي لم تعد تستطيع الوقوف لتتصرف بسرعة وهي تتقدم نحوها لتمسك بذراعها بلمح البصر وهي تسندها بذراعها الاخرى التي احاطت كتفيها .
استكانت بعدها بين ذراعيها وهي تمسك بيدها بضعف قبل ان ترفع عينيها المجهدتين من البكاء وهي تهمس بتحشرج دفعت دمعة للسقوط على وجنتها
"هل هذا يعني بأني اخسر ابني ؟ هل سوف اخسره ؟"
انفرجت شفتيها بلوعة وهي تحاول ترتيب كلماتها بعد ان بعثر كلامها كيانها ونقلت خوفها لها لتهمس بسرعة باستنكار تنفي ما قالت
"كلا لن يحدث شيء من هذا ، تعوذي من الشيطان يا خالة ، وادعو ربكِ كثيرا بأنه ما يزال صحيح معافى ، وبإذن الله لن يمر فجر هذا اليوم ألا وسترينه بأحسن حال وصحة ، فقط عليكِ بالتكلم مع الطبيب بشكل سري وخاص ليحضر للمنزل من اجله ويجري الفحوصات اللازمة له ، فقد اخبرني بأنه لا يريد ان ينتشر خبر إصابته على العلن لكي لا يسبب الامر ضجة وخطر على حياته"
اومأت برأسها ببعض الاتزان وهي تحاول الانتصاب بوقوفها وهي تتعوذ من الشيطان بقلب انهكه البلاء ، لتبتعد عنها (سيدرا) ببطء حذر وهي تتأكد من صلابتها ومن صحة تركها الآن بدون مساندة وحماية .
استقامت بسرعة ما ان وصلها صوت شقيقها وهو يقول بأمر ينهي كل هذه الزوبعة
"هيا بنا يا سيدرا ، علينا الرحيل الآن ، لقد تأخرنا على السائق"
التفتت بنصف وجهها وهي تومئ بالإيجاب قبل ان يشدها صوت (هيام) الحزين والتي افاقت على نفسها
"إلى اين تريدون الذهاب بهذه السرعة ؟ انا لم استطع شكركم بعد على كل ما فعلتموه لابني ! على الاقل انتظروا حتى اقدم لكم الضيافة......"
قاطعتها (سيدرا) بسرعة وهي تمسك بيدها بين كفيها هامسة بعطف
"لا نستطيع البقاء اكثر يا خالة ، فهناك سائق السيارة ينتظرنا بالخارج لنعود له ، ربما بالمرات القادمة عندما يتحسن اوس ويتماثل للشفاء بإذن الله ، المهم ان تعتني به جيدا وتعطيه كل الاهتمام اللازم والذي يحتاج له ومنكِ تحديدا"
اعتلت ابتسامتها بحنان وهي تربت على كتفها بمحبة قائلة بامتنان حار
"شكرا لكما على كل شيء فعلتموه لابني والذي لا يفعله اي شخص سوى صاحب دين وخلق ، واجركما عند الله كبير ، اتمنى لكما عودة سالمة ، وبارك الله بكما"
ارتفعت زاوية ابتسامتها بسعادة غامرة تشعر بها لأول مرة منذ ليلة امس بل منذ سنوات طويلة ، لتسحب بعدها يديها ببطء وهي تهمس بابتسامة لطيفة بمودة
"حمد الله على سلامة اوس ، ولا تنسي استدعاء الطبيب للكشف عنه وطمأنتك عليه ، عن إذنك الآن"
غادرت من امامها بعد ان ودعتها وهي تنظر لآخر مرة لباب الغرفة المفتوح والتي يقبع من خلفها قلبها الجريح ، لتدير وجهها للأمام بسرعة تدفن كل تلك المشاعر بخلدها ما ان وصلت عند شقيقها الذي كان ينتظرها عند الباب ، وما ان اصبحا خارج المنزل حتى ادارت وجهها تلقائيا بنداء داخلي وهي تحدق بالفراغ وكأنها تصارع لحظة تردد بالعودة له ، ولم ينتشلها من حالتها سوى صوت شقيقها الحازم وهو يرفقها بيده التي سحبتها من كفها
"هيا تحركي يا سيدرا ، علينا الوصول للمنزل قبل استيقاظ امي ، فأنا لا ينقصني تحمل المزيد من المصائب بسببك !"
انصاعت قدميها له وهي تسير معه بعد ان شدها بعيدا عن هدفها وعينيها ما تزالان تسوران المكان الذي علقت بقلبه وسجنت به راحتها .
_______________________________
كانت تلوح بالقلم بين اصابعها تارة وتلف خصلاتها المموجة حوله تارة اخرى برتابة مملة ، وما ان شدت على القلم والخصلات تلتف حول طرفه مثل الافعى حتى طار القلم منها بلحظات واستقر بزاوية المكتب ، تأففت بعدها بنفاذ صبر وهي تمشط بالخصلة الطويلة التي تجعدت بفعل انشداد القلم قبل ان تعيدها خلف اذنها بانسياب ، حادت بنظراتها التي طارت محلقة نحو مجموعة الازهار التي وصلتها بباقة كبيرة نسقتها بمزهرية فوق مكتبها ، وهي لا تمل من النظر لها وإشباع نفسها من تأملها عن كثب حتى اصبحت مثل النحلة الطنانة التي تحوم حول الازهار المتفتحة بحثا عن رحيقها وغذائها اليومي والذي يشكل دواء لقلبها الملهوف وذرات السعادة التي تنشرها بالمكان الخانق الكئيب .
ابتسمت بلمحة هيام اعتلت غيومها الوردية وهي تسند خدها فوق قبضتها بحالة شرود غاصت بعوالم اخرى ، ليخترق سرب احلامها صوت رنين هاتفها يخرج من الحقيبة الصغيرة على بعد سنتمترات منها ، لتنتشل عينيها بعيدا وهي تستقيم بجلوسها لتصل للحقيبة التي امسكت بها بهدوء واخرجت الهاتف من داخلها .
عضت على طرف شفتيها بشوق ما ان ظهر لها اسم المتصل والذي لم تفكر امامه طويلا وهي تجيب بسرعة بعفوية مفتعلة
"مرحبا بزوجي احمق الفكهاني ، هل دفعك الاشتياق للاتصال بي ؟"
سمعت صوت زمجرة خشنة وكأنها اثارت غضبه ومشاعره العاطفية بآن واحد من بضعة كلمات مقصودة تغلفها برقتها الخادعة ، ليقول بعدها بلحظات ببأس يكاد يسمعها صوت انفاسه الحارة
"قولي احمق مجددا وسوف اتأكد من قص لسانكِ الوقح هذه المرة ، حقا ما تزالين قليلة تربية وتهذيب رغم كل الدروس التي مررنا بها !"
ضحكت بمرح رقيق بوميض خاطف احتل حدقتيها الداكنتين اللتين لا يخفيان مشاعرهما بلحظات تحررها ، لتمسك بعدها فمها بيدها وهي تهمس من خلفها بتملق واضح
"انت الذي نعت نفسك بهذا اللقب بالبطاقة التي تركتها على الهدية ، لذا ليس لديك اي حق بالتمنع الآن"
ردّ عليها من فوره بوجوم مستاء بعد ان عبثت بعقله بمهارة
"بالتأكيد لم اقصد هذا عن نفسي ، لقد قصدت بأنكِ انتِ....."
ارتفع حاجبيها بانتباه مشدوه وهي تتابع كلمته الاخيرة المبتورة تستدرجه بالكلام بمكر
"انا ماذا ؟ هيا تابع ، انا استمع إليك !"
تنفس بهدوء ثائر تشعر بها كشحنات كهرباء تصلها عبر اسلاك الاتصال وتصعق اذنها وهو يتبعها بالهمس بخفوت اجش ساخر
"انتِ معتوهة ، أليس هذا ما ذكرته بالبطاقة التي على الهدية ؟"
كشرت ملامحها بغضب وشدت شفتيها بعبوس وهي تهمس بحنق خافت
"لست ظريف ابدا !"
قال (شادي) من فوره بدون انتظار بدخول مباشر
"اوقفي هذه الحركات الطفولية ، فأنا اريدكِ بالخارج الآن ، انتظركِ امام مدخل الشركة فلا تتأخري"
فتحت فمها تنوي قول شيء قبل ان تتحجر بمكانها بصدمة وبأشياء اخرى اختلجت بصدرها مثل امواج البحر ، لتهمس بعدها بخفوت مرتبك بخوف من نوع آخر
"اخرج اين ! اين انت الآن ؟"
ردّ عليها بتلقائية بصوت عميق جاد
"انا الآن بالخارج امام مدخل الشركة ، لذا تحركي بسرعة بالقدوم إلى هنا او انا ادخل إليكِ ، لديكِ خمس دقائق واريد ان اراكِ مزروعة امامي"
ابعدت الهاتف عن اذنها ما ان فصل الخط بسرعة قبل سماع الإجابة منها ، لتنهض من فورها عن الكرسي حتى ضربت ركبتها ساق الطاولة والتي لم تمنعها عن الجري بقدم واحدة ناحية النافذة ، وما ان وقفت امام النافذة الاقرب للواجهة الزجاجية التي تكشف العالم حولها حتى لمحت الواقف بقرب سيارته السوداء يبدو وكأنه يرفع وجهه عاليا ويحدق بها بدون ان تتأكد بسبب بعد المسافة بينهما .
تركت يدها ركبتها وهي تخفض قدمها ببطء حتى لامست الارض بكل هدوء واستقرار ، لتلصق جبينها بالزجاج البارد وهي تستطيع ان تلمح يده المرتفعة والتي تشير بحركتها الخاصة وهي تتخيلها بعقلها حتى ارتسمت بعينيها المفتونتين ، وبعد مرور لحظات اخرى كانت تسحب نفسها بسرعة البرق وهي تخرج من الغرفة بأكملها وتتابع انطلاقها بممر القسم .
كانت تجري بالرواق الطويل بدون ان ترى احد امامها ولا حتى الذي ظهر بنهاية الرواق يسير بطريق معاكس لها ، وما ان وقع نظره عليها حتى تباطأت خطواته وانحرفت عند مسارها وهو يقول بأمر حازم
"ممنوع الجري بالممرات ، إذا لم تتوقفي حالاً فلن اتوانى عن تلقينك العقوبة الاولى لكِ !"
تجهمت ملامحه وهي تستمر بالركض نحوه بدون توقف او تراخي وكأنه لا احد يقف امامها ولا تتلقى توبيخ منه ، ليقف بعدها بقرب الجدار وهو يرفع ذراعه ويمدها بطريقها قائلا
"توقفي بمكانكِ ايتها المهندسة ماسة ، وإلا......"
صمت تماما ما ان مرت من جانبه بحركة خاطفة بعد ان اخفضت رأسها عن ذراعه وتابعت مسيرها مثل العاصفة الثلجية التي تهب وتقلع جذورها بدون اي اضرار خارجية ، ليستدير بلمح البصر للخلف وهو يلتقط صوتها السريع الذي اخترق المدى البعيد
"عذرا منك !"
تلبدت ملامحه ما ان اختفت خلف جدار الممر تلاحقها ثورة خصلاتها الجامحة التي اثارت الضوضاء بالمكان الساكن بدون مجهود يذكر .
وصلت (ماسة) عند مدخل الشركة وهي تتوقف عن الحركة بشكل تدريجي ولهاث انفاسها يرهق صدرها ، لتستقر بعدها واقفة على بعد امتار منه وهو يوليها ظهره بدون ان يشعر بها بعد ، لترفع بعدها يدها وهي تكتشف وجود الهاتف الذي ما يزال بحوزتها طول تلك الطريق التي قطعتها ، لتدسه بالجيب المائل بسترتها القصيرة وهي تعدل اطرافها المقصوصة بأناقة يدوية .
رفعت يدها وهي على وشك مناداته بحماس قبل ان تقبض على يدها بتسمر وهي تتذكر محتوى البطاقة والتي ذكر بها عن موضوع يخص عقابها ، لتخفض قبضتها بقوة وهي تتقمص الشخصية الجليدية الصلبة بثواني اعتادت على ممارستها مثل اسلوب حياة ، لتتنحنح بعدها تجلي صوتها وهي تقول بنبرة جامدة بكل برود
"صباح الخير ، بماذا استطيع مساعدتك ؟"
تصلب ظهره باستقامة وهو يستدير نحوها بهدوء شديد حتى توقفت النظرات بينهما وعلقت ودارت وتبادلت بدوامات طالت وتغلغلت وهي تمارس كل انواع الإرهاب بشن الهجوم على مشاعرهما المأسورة ، لتقطعها التي اشاحت بوجهها بعيدا بصعوبة وهي تقول بإيباء مصطنع
"ماذا تريد ؟ لما طلبت رؤيتي ؟"
مالت ابتسامته وهو يتقدم بخطوات واسعة قائلا بجموح واضح
"لقد اردت ان ابارك لكِ على وظيفتك الجديدة ، ام غير مسموح لي بزيارتك بالعمل يا مهندسة ماسة ؟"
انتفضت بجزع وهي تتراجع خطوات سريعة للخلف قائلة بابتسامة بريئة
"ولكنك قد باركت لي بالفعل بتلك الهدية اللطيفة ، هل نسيت ذلك ؟"
توقف بمكانه وهو يلاحظ تصرفاتها الغريبة بالهروب منه قبل ان يقول بعبوس جاد
"لا لم انسى ذلك ، ولكني احب ان اضيف على الكلام افعال ، وإذا لا تمانعين ذلك فأنا اريد المباركة لكِ على طريقتي الخاصة"
كورت شفتيها بامتعاض وهي تدير بوجهها جانبا هامسة بعناد
"لا شكرا ، فقد وصلتني مباركتك وكانت اكثر من كافية ، يمكنك رفع الحرج عن نفسك"
ارتفع حاجبيه ببهوت وهو يشملها بنظراته قائلا بابتسامة باردة
"ماذا هناك ؟ مما انتِ خائفة ؟"
نظرت له بسرعة بشفتين مزمومتين وهي تهمس من بينهما ببؤس
"من ماذا سيكون مثلا ؟ طبعا من العقاب الذي تجهزه لي باستخدام حيلك"
رفع رأسه بإدراك وهو يقول بابتسامة شملت ملامحه بتسلية
"العقاب ! هل انتِ خائفة من العقاب ؟ لا تقلقي لن يكون العقاب بهذه القسوة عليكِ بالمقارنة مع كل ما ارتكبته من افعال متهورة لا يغتفر لها ومن ضمنها نعتي بالأحمق بدون سبب والهروب من المحكمة بدون الإجابة على اسئلتي والتقدم بوظيفة بالشركة بدون علمي ، هل هذه الافعال تحتاج لعقاب برأيك ؟ وما هو نوع العقاب المناسب لها !"
عضت على طرف شفتيها بغيظ وهي تضرب قبضتيها على جانبيها هامسة بعصبية
"هل تتوقع مني ان اطمئن بعد هذا الكلام ؟ انت تهددني بقتلي وتستمتع بالأمر ! يا لك من محتال قاسي"
حرك رأسه بضحكة صغيرة وهو يفرد ذراعيه لها قائلا بابتسامة جانبية بنشوة
"لا تخافي من شيء يا ماسة ، وكوني واثقة بأنكِ ما دمتِ بداخل احضاني فلن يصيبك اي مكروه وستكونين بأمان"
عقدت حاجبيها بعدم اقتناع وهي تحرك قدم للخلف وقدم للأمام هامسة بخفوت مرتاب متردد
"كيف تريدني ان اثق بك بعد تلك الرسالة التي تركتها على الباقة ؟ انا اخاف من ان تكون خدعة لتحتضنني بثانية واجد نفسي على الارض بالثانية الاخرى"
تنهد بهدوء وهو يقول بابتسامة عميقة لمست شغاف قلبها مثل معزوفة على اوتارها
"اعدكِ إذا اقتربتِ ودخلتي احضاني فلن اقسو عليكِ بالعقاب ، ثقي بي"
لانت ملامحها بعذوبة وهي تحرك قدميها الاثنتين للأمام قبل ان تكمل ركضها السابق نحوه بانطلاق بعد ان اعطاها الضوء الاخضر ، لترمي بنفسها بأحضانه بهجوم كاسح وهي تطوق ذراعيها حول عنقه وتزيد تشبثها به بتملك وكأنه سوف يتلاشى من بين يديها لو ارخت قيودها قليلا وهي تغمر قلبها بسعادة تنتابها فقط بقربه ، لتفيق بعدها على نفسها ما ان همس بقرب اذنها بحرارة منفعلة بقصد
"انتبهي إذا استمريتِ هكذا فلن اتردد بخطفكِ والذهاب بكِ بعيدا بدون ان اسمح لكِ هذه المرة بالتحرر مني او الهروب ، والخيار قد اصبح بين يديكِ !"
شهقت بوجل وهي تقفز بعيدا عنه وكأن لدغة عقرب قد اصابتها لتتراجع بخطوات حذرة وهي تشير بيدها على المسافة بينهما قائلة بحزم مضطرب
"إياك وان تتجاوز هذه المسافة الآمنة بيننا ، ابقى على طرفك ولا تتمرد على حدودك ، سمعتني !"
امسك بخصره بيديه وهو يتنفس بيأس قبل ان يقول بعبوس صارم اخرجه من دوامات العشق
"ماسة كفى ، لقد تماديتِ كثيرا على هذا المنوال ! ألم يحن الوقت الذي تسلمي به اسلحتك وترضخي للأمر الواقع وتعودي لحياتك الزوجية ؟ فأنا قد تعبت من هذا الحال والذي دمر عزيمتي بالكامل حتى لم اعد قادر على ضبط جماح شوقي ، تفهمين هذا صحيح !"
حركت رأسها بالنفي وهي تبدل النظرة بعينيها للحزن القديم هامسة بخفوت منفعل
"لا لم يحن الوقت بعد يا شادي ، ما زلت احتاج المزيد من الايام والوقت للعودة ، فقد قاربت على الانتهاء وتبقى لي القليل ، فقط ثق بي وانتظرني"
حدق بها بصمت لوهلة قبل ان يدير عينيه بعيدا قائلا باستنكار متصلب
"هذا لا ينفع يا ماسة ، فأنا رجل ولدي طلبات عليكِ تلبيتها تحت شروط هذا الزواج ، هل سوف تمانعين ايضا ؟"
تأففت بضيق وهي تشيح بوجهها بعيدا هامسة بحنق ثار بدمائها
"يا إلهي من معشر الرجال ! كلكم مثل بعضكم فقط تفكرون بأنفسكم وبرغباتكم بدون تفكير بالطرف الآخر بالعلاقة"
قطب جبينه بجمود وهو يكتف ذراعيه فوق صدره بتصلب قائلا بتجهم قاسي
"لو كنت لا افكر بأمرك لما تركتكِ شهر كامل على هواكِ ، هل هذا جزاء المعروف معكِ ؟"
نظرت له بسرعة بعبوس نادم وهي تفرك قبضتيها معا بتوتر قبل ان تقول بخفوت مبرر
"انا فقط اريد منك ان تمنحني بعض الوقت ، اريد ان اكون الفتاة التي تليق بك ، وهذا سيحدث عندما احقق احلامي واعيد احياء نفسي"
غامت ملامحه بحزن وهو يتأملها عن كثب ليخفض بعدها ذراعيه على جانبيه وهو يقول بابتسامة واثقة مشبعة بالعاطفة الرقيقة
"وانا لا اريد ان تكوني لائقة بي ، لا اهتم بكل هذه الشكليات والمبادئ ، لا اريد ان تتشبهي بطبقتي الاجتماعية او بطبيعة حياتي ، لا اريد ان تصنعي شخص يناقض نفسكِ ، فأنا قد احببتكِ مجرمة ، احببتكِ قاتلة ، احببتكِ قاسية ، احببتكِ مختلة ، احببتكِ مجنونة ، لقد احببتكِ بكل تلك الحالات التي كنتِ تتصنفين بها وتميزينها عن باقي البشر الطبيعيين ! فأنا لا اريدكِ ان تكوني طبيعية ابدا او مثالية او كاملة ، فقط اريدكِ بنفس قلبك انتِ وروحك انتِ ، فلماذا تريدين تغيير نفسكِ ؟ لمن تغيرينها ؟"
ابتلعت ريقها بارتعاش مدمر ما ان تلاعب بثبات نفسها ودك حصونها بنظراته القوية التي ارفقها بكلامه الذي يذيب العظام وليس القلب البشري فقط ، لتخفض نظرها بسرعة وهي تضم يديها امام خصرها هامسة بابتسامة حزينة كسرت دروعها
"اريد ان اغير نفسي من اجلي انا ، هذه رغبتي الخاصة"
ضم شفتيه بكبت وهو يشاهد الصراع الذي تعانيه مع محاربة نفسها وتحقيق المستحيلات مهما ساء وضعها ، ليتخلل بعدها شعره وهو يسرحه بأصابعه للخلف ليقول بعدها بابتسامة صغيرة اعلنت استسلامه وخرت صاغرة امامها
"حسنا يا مجنونة ، سوف اعطيكِ الوقت الذي تشائين ، فأنا اثق بكِ ، فلا تكسري هذه الثقة لأني لن اتحمل العيش بخيبة اخرى"
رفعت رأسها بابتسامة عريضة حتى ظهرت كامل صف اسنانها البيضاء بسعادة استثنائية بتاريخ حياتها بأكملها ، بينما كان يشرد بابتسامتها بديعة الجمال والوجه الجديد الذي يناقض حزنها وهي توازي كل الانتظار الذي تحمله من اجلها ، وسرعان ما اختفت الابتسامة عن نظره ما ان جرت نحوه من جديد قاطعة المسافة الآمنة لتنقض عليه بعناق اقوى عن سابقه وكأنها تعبر عن سعادتها الصامتة بحركاتها التي تتعب قلبه وترهق مشاعره اكثر من الكلام ، فهذه الخرساء لا حل لها ابدا سوى ان تقتله حيا او ان تعذبه بمرارة الانتظار وفقط واحد من بينهما !
ربت على ظهرها بلمسات رقيقة وهي يقول بخشونة بجانب رأسها المستريح على كتفه
"اين ذهبت المسافة الآمنة ؟"
شددت من تطويق عنقه وهي تهمس بأنفاس ناعمة برقة عذبة
"فقط استراحة بضعة دقائق لن تضر"
ابتسم بالتواء طفيف وهو يجاري سياق العلاقة ليستمتع كذلك بتلك الاستراحة القصيرة وبتلك الهدنة اللطيفة ، بينما كان هناك مَن يشاهدهما مِن فوق مِن نافذة المكتب الخاص بالمهندسة الجديدة بدون اي تعبير او شعور فقط برود جليدي احتل المكان من حوله .
_________________________________
رفعت الغطاء على جسده وهي توصله لمستوى كتفيه وتمسح على رأسه بحنان ، لتستقيم بعدها ما ان قال الطبيب الذي وقف بقربها وهو يقول بمهنية بعد ان انتهى من إجراءات فحص الجريح
"لا تقلقي يا ام جواد فقد تجاوز ابنكِ مرحلة الخطر والآن اصبح بوضع مستقر وآمن ، والشكر للضمادات واكياس الثلج التي اوقفت النزيف وجمدته وألا ما كان وضعه سيكون هكذا لو خسر جسده الكثير من الدم ، فقد حاولت فعل اللازم بتنظيف الجرح وتعقيمه والتأكد خارجيا من سلامة عظامه وإذا كانت الرصاصة قد اصابتهم بأذى ، وكل ما يحتاجه هو الوقت الطويل حتى تلتئم جراحه وتعود انسجته للارتباط ببعضها ، واحمدي ربكِ على هذه النعمة فمن في مثل حالته لم يكن سينجو بسهولة من طلقة رصاص اصابته بكل هذا القرب كانت ستودي بحياته او يعيش بذراع مبتورة ! لذا الحمد لله على كل شيء"
ضمت قبضتها فوق صدرها وهي تستغفر ربها بقلبها المفطور لتقول بعدها بحزن عميق وهي ترمق ابنها النائم بسلام
"الحمد لله على نعمة الصحة ، ولكن يا دكتور مروان لماذا تأخر كل هذا الوقت بالاستيقاظ ؟ هل سيبقى هكذا طويلا ؟ هل هناك احتمال من دخوله بغيبوبة ؟"
نظر لساعة معصمه لثواني قبل ان يعود بالنظر لها وهو يقول بنبرة عملية جادة
"لا تخافي من شيء يا ام جواد فقد اعطيته مخدر قوي يحتاج للإفاقة منه ما بين الساعة او الساعتين ، فهو يحمل تأثير قوي على المصاب وعندما يستيقظ لا تنسي الاتصال بي وطمأنتِ على الوضع ، وانا سوف امر عليكم كل يومين بالأسبوع للاطمئنان عليه والكشف عن إصابته ، وحمد لله على سلامته"
اومأت برأسها بابتسامة هادئة وهي تقول بامتنان شديد
"شكرا لك على مجهودك يا دكتور مروان ، لن ننسى حضورك هذا ومساعدتنا بهذا الظرف العصيب ، ونقدر حقا كل ما فعلته من اجلنا وتفهم وضعنا الحالي"
اومأ برأسه وهو يقول بابتسامة متزنة
"العفو يا ام جواد ، وبإذن الله سيتحسن بظرف شهر ويصبح اقوى من الحصان ، فقط التزمي ببرنامج ادويته وبتغيير الضماد عنه كل فترة متى ما ادعت الحاجة ، وادعو من الله ان يقوم بالسلامة ويحفظه لكِ فكل اقدارنا بيده وحده ، والآن السلام عليكم"
ردت عليه ببهوت وهي تراه يغادر خارج الغرفة
"وعليكم السلام"
بعد مرور ساعة كانت تجلس على طرف السرير بجواره وهي تمسح على شعره بمشاعر سخية وكأنها تشبع نفسها من كل تلك السنوات التي حرمت حتى من سماع صوته ودموعها تقطر بأسى على المشهد الدموي الذي استقبلت به ثاني فرد بأولادها ، وكأن الزمن لا يريد ان يرحمها وهو يقتنص بكل مرة ابن من ابنائها لتبكي خلفه دم وهي تدفنهم الواحد تلو الآخر بقلبها الذي ما عاد يتسع للمزيد من الفواجع .
اتسعت حدقتيها السوداوين ما ان بدأت تلمح تغضن طفيف بجبينه وهو يحاول الاستيقاظ من غيبوبته القهرية ، لتمسح بسرعة دموعها عن وجنتيها الشاحبتين وهي تراقب انشداد جفنيه على عينيه وكأنه يعصر الألم الساكن بهما ، استغرق الامر لحظات وهو يرمش بعينيه قبل ان يفتحهما ببطء وهو يستقر على صورة وجه المرأة الوحيدة التي استقبلته بابتسامة امومية حنونة وهي تفسدها بدموعها العذبة التي تقاطرت بسعادة ، ليحرك بعدها شفتيه وهو يقول بلسان ثقيل وكأنه يعيش بحلم خيالي
"امي"
شهقت بغصة خنقت دموعها وهي تلتقط همسه الذي كان اول شيء ينطق به وكأنه طفل يتعلم النطق لأول مرة ولا تختلف عن اللحظة التي سمعت منه تلك الكلمة لأول مرة من الطفل الذي احبته وربته مثل ابنها ، لتغطي بعدها فمها بظاهر يدها وهي تحاول تنظيم شهقاتها التي بدأت تخرج عن سيطرتها ، واما (اوس) فقد كان يستعيد تركيزه وهو يدقق اكثر بالمرأة الباكية فوقه وبالمكان والسرير الموجود به ، ليعود بعدها بنظره لها وهو يقول بعدم تركيز وبصوت مجهد وكأن الألم قد وصل لحاسة نطقه
"عمتي هيام ، ماذا يحدث هنا ؟ واين انا الآن ؟"
اخفضت يدها عن فمها وهي تمسح بها جانب وجهه هامسة بعطف خافت طغت عليها بحة بكائها
"انت الآن بمنزلك يا بني ، لذا ارتاح ولا تسأل عن شيء ، فأهم شيء عندي الآن هي سلامتك وعودتك لنا سليم معافى"
ابتلع ريقه بصعوبة وهو يحاول اعادة تركيزه بنقطة محددة متجاهل كل الاسئلة الاخرى التي تدور برأسه واثقلت عليه ، ليقول بعدها بسؤال واحد بتعب حقيقي اظهرت الندبة بوسط حاجبيه بوضوح
"كيف وصلت إلى هنا ؟"
تنهدت بغصة حارقة وهي تتذكر ذاك المشهد الذي وصل به إلى هنا شرخت قلبها لنصفين ، لترفع يدها الحانية وهي تربت بها على شعره مثل مسكن الألم وهي تقول بابتسامة هادئة بحزن
"لقد احضروك اصدقائك إلى هنا وتركوك بعهدتي ، لذا لا تخشى من شيء وارتح الآن فأنت ستكون بمأمن وحماية هنا بعيد عن كل من يفكرون بأذيتك"
تعقدت ملامحه اكثر باستغراب وهو يفكر بشخص واحد يعرف عنوان منزل عائلة عمه ومن كان يأمن له كل اسراره الصغيرة والكبيرة ، وليس هناك غيرها من يفعلها ومن ترك نفسه وحياته بين يديها قبل ان يفارق وعيه ويغيب عن كل شيء بنهايته الحتمية ، فكل ذكرياته من بعدها مشوشة وغير واضحة وتضيع منه وتتمزق من عقله المرهق .
افاق من دوامات تفكيره على صوتها وهي تهمس بحزن دفين
"يا وجع قلبي على حالك ، ماذا فعلوا بك يا قلب والدتك ؟"
ارتبكت ملامحه وطاف الحزن عليه وهو يتأمل وجه المرأة الباكية التي لم يراها اقل من ام حضي بها عندما تخلى الجميع عنه واحتوته بأحضانها ، ليتحرك بسرعة من مكانه بحياة دبت به وهو يحاول الانتصاب بجسده ولكن ما ان رفع ذراعه المصاب حتى تألم بشدة وكأنه تعرض للطلق الناري الآن ، لتنهض (هيام) من مكانها بلحظة وهي ترفع الوسادة بالطول خلف ظهره وترجع كتفيه بذراعها ليرتاح على الوسادة قائلة بصرامة بعد ان اثار الخوف بها
"تمهل على نفسك ، ما تزال اصابتك جديدة ، لا تكون بكل هذا الاستهتار"
انصاع لها وهو يستوي جالسا على السرير ويديها تعدلان استقامة رأسه على الوسادة ، ليقول بعدها بإجهاد اكبر وهو يخفض رأسه بإحراج ممتقع
"انا اعتذر يا عمتي هيام على إتعابك معي ، ويتوجب عليّ الآن الرحيل فوجودي هنا لم يعد لائق بي ولا لكم......"
قاطعته بصرامة اكبر وهي تقف امامه بجمود
"توقف عن هذا الجنون وقول السخافات ! هل تريد مني تركك ترحل بهذه الحالة ؟ هل تسعى لإيلام قلبي عليك وحرقه بسبب قسوتك ؟ لماذا تريد حرماني منك مجددا ؟ ماذا فعلت لك حتى تعاملني بهذه القسوة ؟"
رفع رأسه بارتباك غزى محياه لبرهة وهو ينظر لها بصدمة تمحورت بسواد عينيه بألم غير معلوم ، ليخفض رأسه باللحظة التالية وهو يهمس بخفوت نادم بتلعثم
"لقد اسأتِ فهمي يا عمتي ، انا لم اقصد ان اسبب لكِ اي ألم او حزن ، انا...انا اعتذر ، سامحيني"
زفرت انفاسها بهدوء وهي تضبط مشاعرها لترسم بعدها ابتسامة حانية وهي تمسح على رأسه من جديد هامسة بصوت مشبع بالمحبة
"لا بأس يا بني ، فقلبي لن يستطيع ان يقسو عليك مهما اسأت بالتصرف وهجرتني سنوات بعيدا عنك"
طرف بعينيه بدموع غير مرئية حجرها بروحه وهو يضم ذراعه المصاب لصدره قائلا بصوت مرير بتردد
"عمتي هل كرهتني يوما ؟ هل تعتبريني ابن حقيقي لكِ ام هي مجرد شفقة بوضعي واهتمام مؤقت سيزول ما ان تتحسن حالتي ؟ هل انا شخص مهم....بالنسبة لكِ ؟"
اغرورقت عيناها بالدموع الحارة وهي تنحني بالقرب منه قبل ان تعانق كتفيه ورأسه لصدرها وهي تقول بمشاعر امومية حقيقية حرموها من عيشها مع ابن لم يخرج من رحمها بل خرج من قلبها
"بالطبع انت ابني ، ابني الشقي ، ابني الذي احببته بدون اي شروط ، انا اعتبرتك ابني منذ ان احتضنتك طفل رضيع فوق صدري ، كيف تقول هذا الكلام عن نفسك ؟ بل كيف تشكك بحب والدتك بابنها ؟ فليس هناك ام تكره صغارها او تتوقف عن حبهم"
اغمض عينيه بدموع تسربت من تحت جفنيه وهو يرفع ذراعه السليمة ليحيط خصرها بعناق كم احتاج له بالماضي بعد ان نزعوه من تلك الاحضان للأبد ، ليهمس بعدها بصوت متحشرج بألم اقتنص اعضائه مثل طفل حديث الولادة
"امي ، كم اشتقت لكِ ، اشتقت لكِ كثيرا ، اشتقت لأحضانك الدافئة ، اشتقت لشم رائحتكِ العطرة ، اشتقت لسماع صوتكِ العذب ، لو تعلمين كم تعذبت بدونكِ ! لو تعلمين كم احتجت إليكِ ، احتجت إليكِ كثيرا ، فقط لو تركوني معكِ لما تعذبت كل هذا العذاب !"
ضاق صدرها بغصة سالت دموعها على محياها وهي تمسح على رأسه المدفون بصدرها بحنان هامسة بأسى وبقلب مذبوح بقهر
"آه من ألمك يا صغيري ، آه من عذابي عليك ، ربنا ينتقم من كل شخص كان السبب بالتفريق بين ام وابنها وجعلهم يقاسون البعد كل هذه السنين"
__________________________
وصلت امام الباب وهي تفتحه مباشرة قائلة بحزم قبل ان تقابل هوية الطارق
"واخيرا عدتِ ! لماذا تأخرتِ........"
علقت الكلمات بحلقها وتحجرت وهي تنظر باتساع حدقتيها الخضراوين للذي ظهر امامها وخلاف ما توقعت ، لتمسك بعدها زمام الامور وهي تهمس بعبوس مستاء
"احمد !"
اومأ برأسه بجمود وهو يحرك كتفيه ببساطة قائلا بابتسامة تسلطية
"اجل بشحمه ولحمه ، ومن حسن الحظ بأن شقيقتك غائبة وألا لما كنتِ استقبلتني عند الباب"
زمت شفتيها بعبوس وهي تقول من بينهما بنبرة جافة
"ماذا تفعل هنا ؟ بل كيف عرفت عنوان منزلي ؟"
ارتفع حاجب واحد بسخرية وهو يقول بإيجاز
"لا لم تعجبيني هذه المرة يا روميساء ! هل هناك زوج لا يعرف بمنزل زوجته المستقل والذي قررت اعتباره مقر اعمالها وهي تستخدمه مكان تتسلح به عند شن الهجوم عليّ ؟ لا تقلقي لن اخبر احد عن مكان منزلك وسيبقى سر صغير بيننا ، هل هذا يرضيكِ ؟"
تصلبت ملامحها وهي تمسك إطار الباب بكلتا يديها قائلة من بين اسنانها بجموح
"لا يهمني معرفتك للأمر من عدمه ، فقط ابقى بعيد عني هذا يرضيني ، فأنت تضيع وقت كلينا بهذه الحرب الخاسرة التي لا معنى لها"
رفع عينيه فوق رأسها وهو يحرك رأسه يمينا ويسارا محاولا النظر للداخل عن قرب وهو يقول باهتمام جاد
"هل سنتكلم عند الباب ؟ ألن تسمحي لي بالدخول لمنزلك ! فقد تعبت قدماي من الوقوف"
رفعت ذقنها بإيباء وهي تقول بجمود حاسم تنهي نقاشها
"لا غير مسموح لك ، والآن ارحل من هنا"
تبعت كلامها بالباب الذي حركته بسرعة وهي تنوي اغلاقه بوجهه لولا قدمه التي تدخلت بآخر لحظة اعاقت عليها المهمة ، لتشهق بجزع وهي تحدق بطرف قدمه المطلة من الباب يفرض دخوله عليها رغم إرادتها ، رفعت وجهها بسرعة وهي تصطدم بوجهه من شق الباب قائلا بابتسامة ملتوية بخشونة
"هل هذه هي آداب احترام الضيف عندك ؟ أليس لديكِ اي ذوق او حياء وانتِ تطردين الضيف عند الباب ؟ لم اتوقعها منكِ ابدا يا معلمة روميساء"
عضت على طرف شفتيها بعصبية وهي تتحداه بسباق النظرات بينهما خلال شق الباب قبل ان تفتحه بقوة على اتساعه وهي تخلي سبيل قدمه ، تراجعت بعدها وهي تلوح بيدها هامسة بنبرة باردة
"اعتبر نفسك ببيتك"
تركته امام الباب وهي تستدير لتتابع طريقها بعيدا عنه نحو رواق المنزل ، ليتنهد بعدها بإحباط وهو يدخل للمنزل ويغلق الباب من خلفه ، سار بعدها بنفس طريقها وهو يصل عندها توليه ظهرها مثل التمثال الشامخ المصنوع من الكبرياء العتيد ، قبل ان يجلس على الاريكة الموجودة ببساطة وهو يراقبها بصمت ، ليتنحنح بعدها بخشونة وهو يقول بهدوء واثق وكأنه يملك المكان وصاحبته
"مرحبا ، ألن تقومي بضيافة الرجل الذي نزل ضيف عندكِ ؟ هل عليّ تلقينك كل شيء بآداب الاستقبال والضيافة ؟"
ارتعشت فقرات ظهرها وهي تستدير نحوه بهدوء قبل ان تكتف ذراعيها فوق صدرها قائلة باقتضاب
"ماذا تريد ان تشرب ؟"
عقد حاجبيه بتفكير لوهلة وهو يسند مرفقه فوق ركبته بانتصاب ويريح ذقنه فوق قبضته قائلا بابتسامة جادة
"اريد شرب القهوة"
ردت عليه (روميساء) من فورها بإجابة سريعة بفتور
"ليس لدينا قهوة حالياً"
عبست ملامحه بجمود وهو يقول بصبر
"إذاً اريد شرب الشاي"
ردت عليه كذلك بنفس الصوت الفاتر بآلية
"لقد نفذ الشاي من عندنا"
تصلبت قبضته اسفل ذقنه وهو يقول بصوت جليدي بدون استسلام
"إذاً ما رأيكِ بشرب العصير ، أليس لديكم كذلك ؟"
رمقته بطرف حدقتيها الباردتين وهي تقول بفظاظة بدون اي احترام
"ليس لدينا شيء يشرب ، وهذا يعني بأن الضيافة قد انتهت ولم يعد لوجودك فائدة"
عض على طرف شفتيه وهو يتمتم باشتعال مكبوت
"منفضة غبار ذات ريش طاووس"
نظرت له بعينين مرتبكتين وهي تهمس بارتياب
"ماذا قلت للتو ؟"
قطب جبينه بتصلب وهو يخفض قبضته ما ان تقمص شخصيته الجادة بعيدا عن الهزل والتهريج ، ليشير بعدها بذراعه لجانبه من الاريكة وهو يقول بنبرة صلبة بأمر
"حسنا بما انكِ لا تريدين ضيافتنا ، إذاً اجلسي بمكانكِ ودعينا نتكلم بعقول راشدة كبيرة لنحل هذا الخلاف بيننا ونتخذ القرار بهذا الشأن"
اومأت برأسها بقوة بعد ان بدأت تعطي اهتمامها بهذه الفكرة ، لتجلس بعدها بجانبه على بعد مسافة مقبولة وهي تقول بهدوء مترقب
"جيد ، وانا ايضا كنت اريد التحدث معك بهذا السياق ، لذا ابدأ بالدخول من هذا الباب لو سمحت لكي نستطيع انهاء الامر هنا وللأبد"
عقد حاجبيه بجمود وهو يأخذ انفاسه بضيق مكبوت ليضم بعدها قبضتيه امامه وهو يقول بجدية
"ماذا قررتِ بخصوص كلامنا الاخير يا روميساء ؟ هل اتخذتِ قرارك ؟"
ابتلعت ريقها بارتباك ما ان وصل للموضوع الذي كانت تتوقع انفتاحه بأي لحظة ، لتشدد بعدها من تكتيف ذراعيها وهي تهمس بخفوت طبيعي تحاول تمثيل الشموخ
"لم اتخذ اي قرار ، فقط انتظر انعقاد الجلسة القادمة ، وكل شيء سوف يتحدد بناء عليها"
ارتفع حاجبيه ببرود وهو يزيح نظره بعيدا عنها قبل ان يقول بكل هدوء يقرر نيابة عن الجميع
"حسنا يا روميساء ، اسمعي إذاً ما سوف يحدث بخصوص هذا الامر ، القرار الأول ليس هناك اي جلسات طلاق اخرى وهذه الدعوى سوف تلغى ، ثاني قرار سوف تعودين للسكن معي بمنزلنا الجديد الذي اصبح منفصل عن العائلة والذي سيكون بداية جديدة لنا ، ثالث قرار يمكنكِ اخذ شقيقتك معكِ وسكنها بمنزلنا ومشاركتنا بحياتنا اليومية ولن امانع وجودها بيننا حتى لو طلبتِ مني ان اهتم بمصاريفها كاملة ، فأهم شيء عندي هو عودتكِ يا روميساء والباقي محلول عندي ، فما هو رأيكِ ؟"
تجمد جانب وجهها المنحوت بقطعة صخر وهي تنهض من مكانها بكل اتزان ، لتلتفت بعدها نحوه وهي تلوح بذراعها توضح وجهة نظرها وبمشاعر قاسية
"بما انك قد انتهيت فقد حان دوري الآن لكي املي عليك ردي على قراراتك ورأيي الشخصي ، اولاً لن تتوقف جلسات الطلاق بالمحاكم حتى احصل على طلاقي الرسمي واربح القضية ، ثانياً لن اخرج من هذا المنزل ولن اتركه تحت اي ظرف كان ومن اجل منزلك فمبارك لك تعيش به بالهناء ، وثالثاً ماسة لم تعد تحتاج لوكيل عنها او مسؤول عن مصاريفها فهي تعمل الآن وتستقل بحياتها بدون مساعدة من احد ، وايضا هناك شيء اضافي اود اضافته من عندي ليكون كل شيء بيننا متساوي وتنتهي الحسابات بيننا بعدل وإنصاف ، فقط انتظرني بمكانك دقائق"
قطب جبينه بصدمة ما ان غادرت امام عينيه بعد ان رمته بسهام كلامها وهو ينتظر تكملة هجومها الضاري والذي لن يكون ضيافة لطيفة كما يتأمل ، لتعود بعدها بدقيقتين وهي تحمل البشارة والتي لم تخيب ظنه وهي تنحني امام الطاولة وتضع عليها الخاتمين الذهبيين واللذان يثبتان رباط زواجهما وواحد منهما الفخم الثقيل بوقت بداية علاقتهما والآخر الرقيق الرفيع بمنتصف علاقتهما بعد التطور ، وكل منهما يحمل ذكرى جميلة لهما عن مراحل نمو وتبدل علاقتهما المعقدة والتي مرت بكل المطبات والمصاعب حتى انتصرت على الجميع وكسبت الخاتمين .
ضاقت حدقتيه الرماديتين ببوادر العاصفة ما ان سمع صوتها وهي تقول بإيجاز مفرغ منه وكأنها تتخلى عن خواتم عادية قدمت لها بعيد ميلادها
"هاذين خاتمين الزواج وجزء من المهر ، يمكنك استعادتهما فلم يعد لي حاجة بهما بعد ان انقطعت كل السبل بيننا ، ولم يعد هناك شيء يربط بيننا ، وايضا......"
رفع وجهه ببطء وهو يراقبها بألم انعصر بقلبه ما ان خلعت القلادة من حول عنقها بسلاسة وهي تضيفها مع الخاتمين لتكتمل المجموعة الذهبية وكأنها الشمس بين نجمتين صغيرتين ، لتنقبض يديه فوق ركبتيه بقوة وهي تتابع كلامها بدون ادنى تردد بعد ان ودعت صغيرها الذي يحمل كل ذكرياتهما بباطنها
"هذا هو الباقي من المهر ، هديتك الغالية قد عادت لك ، لم يعد لدي الآن شيء يخصك"
اغمض عينيه لبرهة يحجم مشاعره الداخلية بعيدا عن تلك المشاهد قبل ان يفتحهما وهو ينهض امامها بمواجهة مباشرة ، ليشير بعدها بذراعه اتجاه الاغراض فوق الطاولة وهو يقول بملامح قاسية بجفاء
"هل هذه كانت قيمة اغراضي عندكِ ؟ تلك الذكريات والمشاعر المعلقة بها ألا تعنيكِ بشيء ! هل تخليتِ عنها بهذه البساطة بعد ان اكتفيتِ من التسلية بها وبصاحبها ؟ كيف تفعلين هذا ؟ كيف تكونين بكل هذه الانتهازية ؟"
رفعت سبابتها بسرعة بوجهه وهي تقول بغضب ناري بعد ان اشعل كبريتها
"انتبه لأسلوبك وانت تتكلم معي ! انا لا اسمح لك بنعتي بهذه الصفات والكلمات ، لا اسمح لك بإلصاق عيوبكِ بي ! فأنا لست مثلك ابدا ، وليس هناك شخص اناني وانتهازي اكثر منك امتص روحي وقلبي طول فترة زواجنا....."
قاطعها بصراخ وهو يقتنص ذراعيها بلحظة ويهزها منهما بعد ان افقدته صوابه
"اخرسي يا روميساء ، فأنا لست شقيقتك ولا طالب بفصلك حتى تتكلمي معي كما يحلو لكِ ! هناك حدود واحترام بين الزوجين عليكِ الالتزام بهما ، وانا لن استطيع تحمل وقاحتك الزائدة وقلة تهذيبك اكثر ، فقد تماديتِ بكل هذا يا روميساء ، تماديتِ كثيرا حتى لم اعد اعرف من تكونين وانتِ فقط تصبحين النقيض عن نفسكِ القديمة !"
انفرجت شفتيها بأنفاس ثائرة اجتاحت خفقات صدرها المتألم قبل ان تقوس شفتيها بعبوس حزين وهي تهمس باستهجان غاضب
"انت اناني بكل شيء ! غير مسموح لي بتفريغ غضبي ولكن يسمح لك بالغضب عليّ وكسري اكثر من مرة ، يسمح لك بفرض قيودك واحكامك عليّ ، وانا لا يسمح لي بشيء حتى بإبداء الرفض والصراخ ، انا اختنق واريد ان افضي ما بداخلي من مشاعر وغضب وحزن قبل ان انفجر ! ولكنني لا استطيع فعلها ألا بإذن منك ، لما كل هذه الانانية ؟ لما لا تتصف ببعض الكرم ولو لمرة واحدة وتحررني من قيدك ؟"
احتدت ملامحه بتعبير قاتم وهو يستقبل كلامها بروح اسودت وقتلت على يديها وتحت سطوتها ، ليديرها بعدها امامه بحركة قوية حتى اصطدمت بطرف الاريكة ليقع عليها كليهما بآن واحد ، وما ان رفعت وجهها بتمرد حتى اصطدمت بوجهه الذي يعلوها بحصار ويديه تكبلان ذراعيها بتقييد محكم ، لتستكين بمكانها لوهلة ما ان تابعت تحرك شفتيه المتصلبتين وهو يهمس بينهما بخفوت اجش حفر الألم عميق بقلبيهما
"توقفي عن فعل هذا يا روميساء ، توقفي عن لعبة إيلام كلينا والانتقام مني ، ألم يحن الوقت الذي تنتهي به هذه اللعبة وتصفحي عني ؟ ألم تحصلي على انتقامكِ بالكامل ؟ إذا كان هدفكِ ان اشعر بالألم وتجرعيني نفس الشوك الذي مررتِ به ، فقد تحقق هدفكِ هذا منذ لحظة هجرانكِ لي وتركِ وحيد بهذه الحياة ، وقد كان اقسى عقاب اتلقاه بحياتي بأكملها"
برقت مقلتيها الخضراوين بدموع الضعف التي تسربت من قلبها المجروح من كل شيء يحيط به ، لتتنفس بعدها بنشيج وهي تهمس بأسى مرير حرر مشاعرها بخيانة
"هل تظنني استطيع الانتقام منك بسهولة ؟ لقد اردت الانتقام منك كثيرا ولكني لم استطع ! اما انت فلم تتردد عن الانتقام مني بجلسة المحكمة وامام المحامي بإملاء شروطك التي طعنت قلبي قبل ان تقتل حبنا ، لقد كنت اقسى مني بالانتقام"
ابتلع ريقه بعذاب بعد ان ردت له الضربة بأقوى منها وكأنها تلكمه بمنتصف صدره بفضح الحقيقة ، لترتخي يديه على ذراعيها ببطء وهو يميل برأسه حتى وصل لجانب اذنها ليهمس بها بخفوت يائس
"كل شيء مباح بالحب وبالحرب"
اتسعت حدقتيها بصدمة ليس بسبب كلامه فقط بل بسبب صوت انفتاح باب المنزل بدون سابق إنذار وبوضع لا يحسدان عليه ، لتلتفت الوجوه ناحية الباب المفتوح والذي ظهرت منه الدخيلة عليهما والتي لم تكن سوى (ماسة) وهي تتنقل بالنظر بينهما بتعجب ساكن ، وما هي ألا لحظات حتى ادركت وضعها المخجل بينهما والاحمرار يغزو محياها ببطء شديد ، لتقول بسرعة برسمية وهي تتحرك بعيدا عنهما متجاوزة رواق المنزل
"السلام عليكم"
ما ان اختفت عن نظرهما حتى تركت الحرية لأنفاسها الاسيرة بالتحرر وهي تتلوى بمكانها وتضرب على كتفيه قائلة من بين اسنانها بشراسة
"ابتعد عني يا احمد ، هل تنتظر عودتها مجددا لكي ترانا بوضع اكثر خزيا ؟"
تجهمت ملامحه وهو يستقيم بعيدا عنها بهدوء امام الاريكة ، ليدس بعدها يديه بجيبي بنطاله وهو يميل برأسه جهة الجانب الذي غادرت منه الدخيلة قائلا بطبيعية وكأنه موقف روتيني
"لا داعي لكل هذا الخجل والحياء ، فهذه ليست اول مرة تقتحم بها شقيقتك حياتنا الزوجية والشخصية ، فهي تعلم عن طبيعة علاقتنا ومساراتها حتى اصبحت جزء اساسي ملتصق بنظام حياتنا منذ الازل ، وانا لست متضايق من وجودها فهي اكثر شيء ممتع احصل عليه بحياتي معكِ !"
نظرت له بعبوس ممتقع وهي تشيح بوجهها بعيدا قائلة بانفعال مكتوم
"إذا كنت قد انتهيت من سخريتك فيمكنك ان تغادر من منزلي الآن ، فأنت تتطفل على برنامج يومي وعلى موعد نومي بزيارتك هذه"
اعتلت ابتسامة هادئة محياه وهو يقول بجدية بعد ان اكتفى من الحديث معها لليوم
"حسنا انا ذاهب بكل الاحوال ، ولكن لا تنسي الحوار الذي دار بيننا وفكري به على محمل الجد ، والآن سأترككِ لتكملي امسيتك اللطيفة مع شقيقتك ، تصبحين على خير"
غادر من امامها وهي تسمع صوت خطواته المبتعدة بدون ان تفكر بالنظر نحوها حتى وصلها صوت اغلاق الباب برفق ، لتزفر انفاسها براحة وهي ترأف بنفسها لتسمح لها بالنظر للباب المغلق بدون تعبير محدد ، قبل ان تخفض نظراتها ببؤس للأغراض التي تركها فوق الطاولة بنفس مكانها بدون ان يلمسها وكل منها يلمع ببريق يكاد يغشي عينيها ويفقدها عزيمتها المتبقية بلحظة ضعف بدأت تخون إرادتها .

نهاية الفصل........

بحر من دموع Where stories live. Discover now