الفصل الخامس

170 6 4
                                    

كانت جالسة فوق مقاعد الاستراحة بساحة الكلية وهي تنظر للكتاب بحجرها بتركيز ، لتحيد بعدها بنظراتها بضيق لمجموعة من الفتيات والجالسات بالمقاعد المجاورة لها واصواتهن المرتفعة وضحكاتهن الصاخبة تصلها بوضوح لتنخر اذنها بإزعاج ، قالت بعدها بارتفاع حاد فوق صوت ضحكاتهن
"المعذرة ، ولكني احاول الدراسة هنا !"
خفتت صوت الضحكات تدريجيا لتلتفت احداهن لها وهي تقول بابتسامة محرجة
"نحن نعتذر يا جميلة ، يمكنكِ إكمال دراستكِ براحة ونحن لن نصدر اي إزعاج"
ادارت (غزل) عينيها بعيدا عنهم وهي تعود للنظر للكتاب ببرود لتتجاهل وجودهم تماما وكأنهم غير متواجدين بعالمها كما تفعل عادة ، رفعت نظراتها بشرود بعيدا عن الكتاب وتحديدا باتجاه الطفلة الراكضة بحديقة الكلية وشقيقتها الكبرى تحاول اللحاق بها ومجاراة سرعتها واندفاعها ، لتتذكر عندها طفلة أخرى بنفس نشاط تلك الطفلة والتي كانت تهوى الجري بمرح والاطفال الآخرون يجرون من حولها ليشكلوا حلقة قبل ان تتسارع انفاسها مع نبضات قلبها بتزامن ، وما هي ألا ثواني حتى يسقط ذلك الجسد ارضا بدون ان تشعر به ليخفت عندها صوت المرح والضحك من حولها ليحل السكون على عالمها لتجد نفسها بعدها بساعات حبيسة الفراش والغرفة والأجهزة الطبية تحيطها بكل مكان تمنعها من الحركة وصوت جهاز دقات القلب يرن بأذنيها بطنين مؤلم ، لتتحول بعدها حياتها لطفلة وحيدة تشاهد العالم من حولها وهو يتحرك بسلاسة مملة بدون ان تستطيع الاقتراب منه وسبل الراحة متوفرة بكل زوايا غرفتها المقيتة والتي اصبحت هي حدود عالمها ، ليطول الأمر لسنوات طويلة وكل ما يهم تلك الطفلة هو مرور الوقت بسرعة لتستطيع العودة للعب ولم تكن تعلم بأنها ستعود للعالم بعد فوات الأوان لتسلك حياتها منحى آخر مختلف تماما عن الذي كانت تعرفه طفلة ؟
اتسعت حدقتيها العسليتين باخضرار حزين ما ان سمعت احداهن من مجموعة الفتيات وهي تقول بخفوت ضاحك
"انظرن يا فتيات ! لقد اتى الخاطب الجديد بالجامعة"
قبضت على الكتاب بين يديها بتصلب مشتد وهي ترفع حدقتيها ببطء متردد لما تنظر له الفتيات لتتجمد انظارها بصدمة ليس من منظر الشاب النحيل والذي كان يسير بين الطلاب بثقة بالغة بل من الفتاة والتي كانت برفقته وهي تتمسك بذراعه بتشبث وابتسامة عريضة تحتل محياها البسيط بملامحها السمراء الهادئة ، زمت بعدها شفتيها بارتجاف وهي تستمع للفتيات واحداهن تقول بسخرية
"تبدو خطيبته قبيحة أليس كذلك ؟ ألم يجد من هي اجمل منها !"
ردت عليها الأخرى بتأنيب
"اصمتِ لا يسمعكِ احدهم !"
ابعدت (غزل) نظراتها عنهم بتشوش وقد بدأت غلالة من الدموع باحتلال اطراف عينيها بتدفق على وشك الانهيار ، لتنتفض باللحظة التالية واقفة عن المقعد وهي تدس كتابها بداخل حقيبتها بارتجاف قبل ان تسير بسرعة بعيدا عن هذه الاجواء الخانقة والتي ستزهق انفاسها وروحها وهي تحاول التوازن على كعبيّ حذائيها المسننين بصعوبة بالغة ، وما ان ابتعدت عنهم بمسافة قصيرة حتى اسندت كفها بجذع شجرة قريبة وهي تحني رأسها للأسفل بانتحاب صامت وكفها الأخرى مستريحة على ركبتها بهدوء ، لتزفر انفاسها بنشيج خافت تشعر به يخرج من صميم روحها المرهقة من كل ما مرت به بحياتها وهي ترى النور الوحيد والذي شعرت معه بالسعادة الحقيقية قد اختفى بلمح البصر وقبل ان تسعد به حتى ! وهي تراه بكل يوم وهو يبتعد عنها ببطء بدون ان تملك القدرة على فعل شيء ، ولكن اللوم لا يقع عليه وحده بل على جميع من وقف بوجه سعادتها وافسدها بدون التفكير بقلبها الصغير والذي عاد للحياة مجددا بعد فقدان الأمل منه ، وكل هذا بسبب المستويات والفروقات بين البشر والتي تحددها عائلة والدها العريقة والتي لا تقبل بالقليل حتى دمرت بقايا قلب تنبض بداخلها !
ابعدت كفها عن الجذع بهدوء وهي تحاول الاتزان بوقوفها وما ان حاولت السير عدة خطوات للأمام حتى انزلقت بكعبيّ حذائيها والذين تشعر بهما قد تحولا لهلاميين بدون ان تمنع نفسها من السقوط هذه المرة ، لتشعر بعدها بصدر واسع يسندها وذراعين تحميانها من السقوط وهو يتمسك بذراعيها بقوة ، اخترق صوته غمامة حزنها وهو يقول بهدير قوي
"هل انتِ بخير يا غزل ؟ ما لذي اصابكِ ؟ غزل !"
افاقت فجأة من ذهولها وهي تشهق بهلع لتضع قبضتيها فوق صدره وهي تبتعد عنه باهتزاز مرتبك ، لتقف بعدها امامه بتصلب وهي تهمس بتشنج مرتجف
"انا بخير ، بخير"
عقد (هشام) حاجبيه بريبة وهو يتراجع للخلف قائلا بشك
"تبدين شاحبة للغاية ، هل تعانين من شيء ؟"
تنفست (غزل) باضطراب وهي ترفع كفها لتمسح على وجهها المتعرق وتدس خصلات شعرها القصيرة لخلف اذنيها بهدوء ، لتهمس بعدها بلحظات بابتسامة لطيفة وهي تنظر له بقوة مهزوزة
"لا شيء يا استاذ هشام ، فقط شعرتُ ببعض الضغط من الاجواء الخانقة هناك"
ضيق عينيه بتركيز وهو يقول بتفكير بديهي
"هل تعانين من ضيق بالتنفس يا غزل ؟"
اختفت ابتسامتها باحتضار وهي تقول بخفوت شديد
"بعض الشيء ، فقد كنتُ اعاني بصغري من مرض القلب الرئوي ، وقد تعافيتُ منه تقريبا منذ فترة ليست ببعيدة"
حرك (هشام) رأسه بتفهم وهو يفكر بأن كل شيء قد بدأ يتضح لديه الآن ، ليقول بعدها بجدية صارمة
"انتبهي على نفسكِ اكثر من هذا ، فلن تتحملي قسوة العالم إذا بقيتِ بهذا الضعف"
رفعت نظراتها نحوه بعدم استيعاب قبل ان تبتسم بعفوية قائلة بصوتها المنغم بحزن
"شكرا لك"
استدار (هشام) بعيدا عنها بصمت ليسير بخطوات هادئة وامام نظراتها الحزينة وهي تمسح اطراف عينيها بكفها بهدوء قبل ان تقبض على كفها بقوة وهي تريحها اعلى صدرها المتنفس برتابة معتادة عليها .
______________________________
كانت تتخلل خصلات شعرها الطويلة بفرشاة الشعر وهي تمشطه بنعومة ممسكة بطرفه الآخر برفق ، لتحيد بعدها بنظراتها للكرت والموضوع فوق طاولة الزينة امامها لتستطيع النظر إليه كل حين وهي تفكر بأنها لم تحصل بحياتها على شيء مميز وجميل مثل هذا الكرت المصنوع يدويا ، ليعود كلامه ليطرق على ذهنها الشارد بخصوص الحفلة والتي ستقام بالمنزل وهو يصر على حضورها بدون ان تعلم ما هي طبيعة الحفلة او اي شيء عنها ؟ وقد وعدها ايضا بأنه سيحضر لها كل شيء تحتاجه وينقصها لتحضر الحفلة مثل اي فرد بهذه العائلة !
زمت (روميساء) شفتيها بارتباك لترفع بلحظة نظراتها للمرآة وهي تشاهد الجالسة على السرير من خلفها شاردة بالكتاب بحجرها بعيدا عنها ، لتقول بعدها بابتسامة هادئة وهي تخفض فرشاة الشعر بعيدا عن خصلات شعرها
"هل تفكرين بالحفلة والتي ستقام بالمنزل ؟"
مرت لحظات قبل ان تهمس بتصلب بدون ان تبعد نظرها عن الكتاب
"تقصدين حفلتهم التافهة والتي ستحدث بنهاية الاسبوع بالمنزل ! اعلم عنها ولا يهمني امرها"
عقدت حاجبيها بتفكير وهي تقول بوجوم
"وما لمانع من حضور الحفلة بما اننا افراد من هذه العائلة ؟"
رفعت (ماسة) نظرها عن الكتاب لتلتفت نحوها بقوة وهي تقول باستهجان
"ليس انتِ ايضا يا روميساء ! يكفي كلام صفاء عن الحفلة واصرارها الطفولي على حضورها ، وانتِ تعلمين جيدا الظروف والتي ارغمتنا على السكن بهذا المنزل بدون ان يعترف احد بوجودنا من افراد العائلة وخاصة زوجة ابنهم الفاجرة !"
اخفضت نظرها للكرت امامها وهي تهمس بهدوء
"ولكن الخال محراب قد رحب بوجودنا بمنزله بالرغم من انه قد تأخر كثيرا على ذلك ، كما افراد العائلة ايضا وقد اصبح وجودنا بمنزله امرا مسلماً منه"
امتعضت ملامحها وهي تقول بسخرية مريرة
"لقد كان مرغما على فعلها من اجل ان لا نلطخ سمعته بعد ان بقينا لوحدنا بما ان اسم والدتي ما يزال مرتبط بعائلته ، ولكن لا تتوقعي ان يقدم لنا اكثر من هذا الاستقبال فهو سيحاول بكل جهده ان يبعد سمعتنا المشوهة بسبب قيس عن حياته !"
وضعت (روميساء) فرشاة الشعر فوق طاولة الزينة وهي تتمتم ببرود
"ولكن قد يكون كلامكِ غير صحيح ، فأنتِ دائما تتوقعين الاسوء وقد يكون حقا قد شعر بالذنب على تركه لنا بالماضي ، ويريد ان يكفر عن ذنبه بضمه لنا للعائلة"
نظرت (ماسة) نحوها بجمود وهي تقول بانفعال ساخر
"من كل عقلكِ يا روميساء ! مثل هؤلاء الناس لا يتغيرون ابدا وإذا حاولوا التغير من اجلكِ فاعلمي بأنها تمثيلية رخيصة لكسب ودك او وسيلة للوصول لأهداف اخرى غير شريفة ، فلا تنسي بأن والدتي قد خرقت قوانينهم بالماضي وهي تظن بأن بزواجها من عشيقها الريفي ستنجو من عقابهم والذي سلطوه علينا نحن بالحرمان من العيش بينهم والحصول على جزء من ميراثهم وبنبذهم لنا طول الحياة ، وتريدين منه ان يكفر عن ذنبه !"
ردت عليها من فورها بجمود حانق
"اصمتِ يا ماسة ولا تنسي نفسكِ مع من تتكلمين ! وتوقفي عن اهانة كل من حولكِ بلسانكِ الطائش هذا ، فلا تنسي بأن هذه عائلتكِ من تتكلمين عنها بسوء هكذا"
ادارت (ماسة) عينيها بعيدا عنها وهي تنظر امامها بجمود غير مبالي ، بينما شددت الجالسة امام المرآة من القبض على كفيها بحزن لتنظر عندها للمرآة ولصورة عينيها الخضراوين الشاحبتين بذبول وبعض الهالات السوداء ما تزال تظلل جفنيها لتظهرها اكثر كآبة وحزنا ، قالت بعدها بابتسامة واهية بحزن
"ولكنها مع ذلك قد عانت كثيرا بحياتها ، فقد اضطرت للزواج لمرتين متتاليتين ولم يكتب لها النجاح بأي من الزيجتين !"
كانت نظرات (ماسة) جامدة بعيدا وهي تهمس بغموض
"هذا لأنها لم تعرف جيدا كيف تختار شريك حياتها المناسب ، فقد كان كل ما يهمها هو الزواج من شخص يملك مظهراً جذاباً ومال يسحرها بجماله بدون النظر لدواخله والتعرف عليه اكثر ، لتسقط بالنهاية على وجهها مرتين ويقودها القدر لما تستحقه....."
قاطعتها (روميساء) بنفاذ صبر وهو تستدير بوجهها نحوها بحدة
"كفى يا ماسة ، توقفي عن إهانة والدتنا بكلامكِ المسموم ! يكفي بأنها بقيت متمسكة بنا بزواجها الثاني !"
ردت عليها بحقد دفين
"ليتها لم تفعل"
ارتفع حاجبيها بصدمة وهي تهمس باستنكار
"ماذا قلتِ ؟"
تجاهلتها (ماسة) تماما وهي تعود للنظر للكتاب بحجرها بهدوء قاتم ، لتعود (روميساء) للاستدارة امام المرآة وهي تتنهد بهدوء متشنج ناظرة لعينيها بحزن عميق وهي تفكر بكلام شقيقتها الخاطئ نحو والدتهما فما تزال تذكر جيدا عندما توفي والدها بوقتها اعتزلت والدتها الخروج للعالم وهي تراها بكل يوم شاردة بعيدا بحزن بدون اي دموع او بكاء ، وكأنها قد خسرت شيء قيّم بحياتها اكتشفت فائدته الآن بالرغم من انه لم يستطع اي شيء ان يكسرها بحياتها ولكن وفاته قد غيرتها كلياً قبل ان تعود بمرور الأيام لسابق عهدها ، وقد كانت الفترة الوحيدة والتي اظهرت فيها هشاشتها وذبولها كما يحدث مع (ماسة) تماما فهي لم تأخذ صورة عينيها فقط بل اخذت مشاعرها وطريقة حزنها بنفس الهشاشة .
قطع عليها شرودها صوت (ماسة) وهي تهمس بانقباض مشتد
"لا تنسي يا روميساء بأن اقامتنا بهذا المنزل مؤقتة حتى تجدي منزل آخر لنا كما وعدتني ، لذا ارجوكِ لا تحاولي الدخول بهذه العائلة اكثر وألا لن اسامحكِ ابدا ما حييت"
ابتسمت بعطف وهي تقول لصورتها بالمرآة بخفوت لطيف
"سأفعل ما اقدر عليه يا ماسة ، ولكن ثقي بأني لن اخيب ظنكِ ابدا"
عمّ الصمت بأرجاء الغرفة الواسعة ومشاعر من السعادة بدأت بالتسرب بينهما بدفء طاردة الوجوم والذي غلفهم للحظات ، لتتحرك بعدها (ماسة) وهي تنهض عن السرير بهدوء قبل ان تضع الكتاب على المنضدة الجانبية بصمت ، وما ان تحركت باتجاه باب الغرفة مباشرة حتى قالت التي تابعت خروجها بريبة 
"إلى اين ستذهبين يا ماسة ؟"
قالت (ماسة) بلا مبالاة وهي تكمل سيرها لخارج الغرفة
"سأذهب للسير قليلا بالجوار ، فأنا لا استطيع النوم قبل ان اتحرك والبقاء بهذه الغرفة يسبب لي الضيق الشديد"
غامت ملامحها بصمت وهي تراقب مكان اختفاء شقيقتها بعد ان تركت باب الغرفة مفتوحا من خلفها ، لتحرك بعدها كتفيها ببرود وهي تعود للإمساك بفرشاة الشعر لتمشط بها خصلات شعرها الطويلة بشرود وقد نسيت موضوع الكرت تماما والذي ما يزال بنفس المكان امامها بعد ان احتل تفكيرها امور اخرى اهم منه .
______________________________
كانت تسير بخطوات متمهلة بالرواق الطويل وهي تنظر للظلام الحالك من حولها والذي يسود بالمكان وهي تدس يديها بجيبي قميص بيجامتها القطنية بشرود ، لتتوقف بعدها بخطواتها وهي ترفع نظراتها الداكنة للصورة العملاقة والتي كانت تحتل نصف الجدار اعلى السلم ، وقد كانت تحوي صورة رجل مسن وآثار الشيخوخة ظاهرة عليه بوضوح بدون ان تستطيع اخفاء قوته وسطوته والتي تنضح بملامحه وهو يبدو نسخة طبق الأصل عن خالها (محراب) والذي يكون ابنه ، توقفت بنظراتها على احداقه الزرقاء الداكنة تحيط بهما بعض التجاعيد والتي لا تخلو من القسوة وهو نفس اللون والذي ورثته والدتها لترثه ابنتها الصغرى بالمقابل ليكون اللون المشهور بسلالة عائلة الفكهاني ، وكم تكره هذا اللون وتمقته والذي جعلها تحصل على لقب (شبيهة والدتها) بين الناس وخاصة من زوج والدتها والذي لا يتوقف عن اطلاقه عليها وكأنه يزيد كرهها له بتلقيبها به !
ابعدت نظراتها بسرعة عن الصورة ما ان شعرت بحركة مريبة من خلفها ، لتلتفت بوجهها للخلف بهدوء وهي تنظر بجمود لأرجاء المكان الفارغ من حولها ، كتفت بعدها ذراعيها فوق صدرها وهي تقول بعصبية بالغة
"إذا كان هناك احد يختبئ هنا ، فليخرج امامي فورا فأنا لا احب هذه الألعاب !"
زاد الصمت بالمكان حتى اصبح ثقيلاً على صدرها وكأنه حجر يجثم فوقه وهي تتنفس بصعوبة ناظرة للظلام والذي يكاد يبتلعها من سواده ، لتخفض بعدها جفنيها بهدوء على احداقها ما ان اجتاحتها ذكريات عن مكان مظلم بنفس سواد هذا المكان وهو يحوي جسد راقد على الأرض بدون اي حركة والضربات تتوالى عليه من كل صوب .
انتفضت بشهقة خافتة وهي تنظر بهلع نحو مصدر الصوت والذي خرج عنه ارتطام احدهم بطاولة ليؤدي عن وقوع المزهرية الصغيرة ارضا قبل ان تتحطم لشظايا متناثرة ، لتتراجع بعدها للخلف عدة خطوات بتعثر وهي تبتلع ريقها بتصلب هامسة بارتعاش
"قيس !"
صرخت بذعر ما ان اصطدمت بجسد احدهم من الخلف  ، لتشعر بعدها بيدين تمسكان بكتفيها بقوة وهو يهمس بجانب اذنها بهدوء ساخر
"هل تخافين من الظلام لهذه الدرجة ؟"
تشنجت ملامحها وهي ترجع مرفقها للخلف باندفاع عشوائي لتصدم وجهه بقوة ، تراجع بعدها للخلف بعيدا عنها بسرعة وهو يغطي انفه بكفه قائلا بتأوه خافت
"يا مجنونة ! لماذا فعلتي هذا بي ؟ لما كل هذا الحقد تحملينه نحوي ؟"
استدارت بسرعة نحوه وهي تفغر شفتيها بأنفاس ذاهلة وهي ما تزال لا تصدق ما حدث للتو وما فعلته الآن باندفاع بدون ادنى تفكير ، لتدس بعدها كفيها بجيبي بنطال بيجامتها وهي تخرج هاتفها الصغير لتشعل الضوء باستخدامه وهي توجهه نحو الرجل الغريب ، اتسعت حدقتيها الزرقاوين بإدراك وهي تنظر للشخص والذي تبين بأنه ابن خالها (شادي) وهو يمسك بأنفه النازف بملامح متشنجة بتألم واضح ، لتخفض بعدها الهاتف من امامه بارتجاف وهي تخرج من جيبها هذه المرة منديل نظيف قبل ان تسير نحوه ببطء وهي ترفع كفها باتجاه وجهه بحذر .
امسك (شادي) فجأة بذراعها المرتفع بقوة آلمتها وهو يغرز اصابعه بلحم ذراعها قائلا بتصلب
"لا اريد مساعدتكِ بشيء ، يكفي ما فعلته للآن يا ابنة المجرم !"
عضت (ماسة) على طرف شفتيها بقوة قبل ان تنفض ذراعها بعيدا عنه هامسة بجمود بارد
"اصمت ولا تقاطع مساعدتي لك ، وتوقف عن المكابرة من اجل خدش بسيط فهذا لا يليق ابدا على رجل بعمرك !"
ارتفع حاجبيه بصدمة وهو يقول باستنكار
"ماذا خدش بسيط ؟ لقد كدتِ تحطمين لي انفي لأعيش المتبقي من عمري بدون انف !"
صرخ (شادي) فجأة بألم شديد ما ان امسكت فجأة بمقدمة انفه بالمنديل بأصابع صلبة لتحركه ببطء قاسي قبل ان تعيده لمساره الصحيح كما كان ، ليتراجع (شادي) بسرعة للخلف وهو يدفع ذراعها بعيدا عن انفه قائلا بشراسة
"ما لذي اصاب عقلكِ يا فتاة ؟ هل تريدين قتلي حيا وانا ما ازال بزهرة شبابي ؟"
اخفضت كفها بالمنديل وهي تقول بابتسامة ساخرة بغيظ
"قبل ان تنطق بأي كلمة ايها الطفل الكبير ، انظر لحال انفك كيف اصبح الآن !"
تجهمت ملامحه وهو يرفع كفه ليتلمس انفه بحذر قبل ان يقول بعبوس واجم
"لقد اختفى الألم تماما مثل السحر ! ولكن ما لذي فعلته للتو ؟"
تقدمت امامه عدة خطوات رشيقة وهي تقول بثقة بالغة
"هذه تكون الحركة المرتدة مثل ردة الفعل ، انا من كسرت الانف وانا بالمقابل من اصلحته يعني هذه هي حركتي المرتدة ، هل اعجبتك ؟"
ابتسم (شادي) باتساع منبهر وهو ما يزال يتلمس انفه ليقول بعدها بتأنيب غاضب
"ولكن اصابعكِ مخيفة جدا فقد آلمتني كثيرا ، ألا تعرفين شيء عن الرقة واليد الخفيفة ؟"
حركت عينيها جانبا بملل وهي تبتسم بسخرية قائلة باستهزاء
"غير صحيح انت فقط من تتصرف بدلال بالغ على رجل كبير مثلك عليه تحمل امور اخطر من كسر انف ! هل فهمت ايها الطفل الكبير ؟"
قطب جبينه بجمود وهو يتمتم باستياء حاد
"انا ابلغ من العمر ثلاثون عام ، وانتِ من كل عقلك تناديني بالطفل الكبير !"
نظرت له (ماسة) ببرود وهي تقول بابتسامة جانبية ببراءة
"بل انت طفل كبير ومغرور وتحتاج لمن يعلمك الاسلوب الصحيح بالحياة"
عبست زاوية من شفتيه المتصلبتين وهو يشعر بإهانة غير مباشرة موجهة نحوه ، ولكن ليس هذا ما جذب انتباهه بل كلامها الاخير فهذه العبارة لطالما سمعها ولكن ليس من عائلته بل من اغلى شخص بحياته وصوتها يرنو بأذنيه بتأنيب امومي
(طفل كبير مشاكس وتحتاج لمن يعلمك الاسلوب الصحيح بالحياة)
حرك رأسه بقوة وهو ينفض الذكريات البعيدة عن رأسه ليجعلها كما هي طي النسيان ، لينظر بعدها للتي كانت تمد له بالمنديل والملطخ بدماء انفه وهي تهمس بابتسامة عملية
"استخدم هذا المنديل لتمسح به الدماء المتجمدة على انفك لكي لا تبقى بمكانها لليوم التالي"
رفع (شادي) كفه ليمسك بالمنديل ببطء شديد وهو ما يزال شارد بملامحها بغموض وبصمت دام للحظات ، لترفع بعدها الهاتف والذي ما يزال مفتوح على الاضاءة وهي تغلقه بهدوء ، بينما كان (شادي) يتابعها باهتمام وهي تستدير بعيدا عنه لتسير باتجاه الممر قبل ان يقول من خلفها بصوت مرتفع
"انتظري يا ألماسة....."
قاطعته (ماسة) بانفعال وهي تستدير نحوه بقوة لتلتف معها خصلات شعرها السوداء المجنونة على كتفها
"اسمي ماسة ، وإياك وان تخطئ باسمي مرة اخرى"
ردّ عليها (شادي) بابتسامة باردة
"غير مهم ، اردتُ فقط ان اخبركِ شكرا لكِ"
عبست ملامحها بسخط وهي لا تصدق البساطة والتي يتكلم بها معها وكأنه يتسلى باستفزازها ببساطته والتي تطغى على كل شيء يفعله ! لتعود للاستدارة للأمام وهي تسير بعيدا عنه ليقول مرة أخرى من خلفها بتذكر
"ولكن لم تخبريني يا ألماسة ! ما لذي كنتِ تفعلينه خارج غرفتك بمنتصف الليل ؟"
بهتت ابتسامته وهو ينظر لظلها والذي اختفى بعيدا بالظلام بدون ان تجيبه ، ليرفع بعدها نظراته بهدوء للصورة العملاقة والتي تحتل الجدار وهو يوجه كلامه لها بيأس وكأنه يناجيها
"أرأيت ما لذي فعلته بي حفيدتك يا جدي ؟ فقط اريد ان افهم ما هي تركيبة هذه الفتاة ! ولكني مع ذلك سأتحملها فقط من اجلك يا جدي ولأنها حفيدتك ، واعلم بأنك تحبها كثيرا فهي قوية مثلك وفريدة من نوعها وهذا لأنها جزء منك وتشبهك كثيرا"
رفع (شادي) المنديل وهو يمسح به على اطراف انفه برفق ليشرد بصورة جده والتي احتلت المنزل لسنوات طويلة بشموخ بدون ان تتزحزح من مكانها ، ومن الذي سيتجرأ على فعلها ؟
_____________________________
كانت تمسك بالبطاطا بيد وهي تقشرها بنصل السكين الحاد بيدها الأخرى بحرص شديد ، لتنتفض بعدها وهي تنحرف بنصل السكين لتجرح طرف اصبعها ما ان سمعت صوت تصفير خافت يخرج من خلفها بمكر ، لتستدير بعدها للخلف بغضب وهي تنظر للواقف عند باب المطبخ وهو ينظر لها بعينين عسليتين ناعستين وكأنه لم يفزعها بتصرفه للتو ، قال (مازن) بعدها بلحظات وهو يرفع حاجبيه لها بتعجب
"لا تنظري لي بهذه الطريقة فهي لا تخيفني ابدا ! وعودي لعملكِ قبل ان انتشل منكِ عينيكِ هاتين من مكانهما"
عضت (صفاء) على طرف شفتيها وهي تقول بغيظ
"اخبرتك ان تتوقف عن لعبة افزاعي بهذه الطريقة عندما اكون شاردة ، فهذا يزعجني كثيرا !"
ردّ عليها بلا مبالاة وهو يسند كتفه بإطار الباب
"ماذا افعل معكِ إذا كنتِ تخافين من ظلكِ وتفزعين من اي شيء افعله ؟ وتماما مثل عندما كنتِ طفلة تختبئين تحت سريري بعد سرد قصة مرعبة قبل النوم ، ما رأيكِ ان نعيدها مجددا فأنتِ لم تكبري عليها بعد ؟"
ضحك (مازن) بسخرية من بين كلامه امام نظراتها الحانقة باشتعال ، لتستدير بعدها بعيدا عنه وهي تتمتم بامتعاض
"سخيف"
شعرت بعدها بلحظات بخصلات شعرها المعقودة على هيئة ذيل حصان على وشك التقطع بفعل قبضته الممسكة بها من الخلف وهو يهمس بغضب مكتوم
"ماذا قلتِ الآن يا ام لسان طويل ؟"
ردت عليه (صفاء) بألم شديد
"لم اقل شيئاً ، اترك شعري !"
ترك شعرها اخيرا بعد ان افسد عقدته وهو يقول من خلفها بتحذير
"إذا حاولتِ التطاول معي بالكلام مرة أخرى يا صفاء ، فلا تلوم عندها سوى نفسكِ !"
تبرمت شفتيها بعبوس وهي تترك البطاطا والسكين من يديها لترفعهما لعقدة شعرها المتهدله وهي تحاول دس الخصلات البنية بقوة لداخل العقدة المرتخية ، بينما اتجه (مازن) نحو الثلاجة بزاوية المطبخ ليفتحها بيده وهو يخرج منها زجاجة العصير بيده الأخرى قبل ان يغلقها وهو يتمتم بهدوء حائر
"صحيح ما هي اخبار ماسة بمنزل خالها ؟ فقد تأخرت كثيرا بالمكوث هناك واكثر من الفترة المسموح بها"
عقدت حاجبيها بضيق من كلامه الأخير وهي تخفض كفيها للأسفل هامسة بوجوم
"لا اعلم شيئاً عنها"
ردّ عليها (مازن) بخفوت خطير
"ماذا قلتِ لم اسمعكِ ؟"
زمت شفتيها بارتجاف وهي تهمس بانفعال بدون ان تنظر له
"لا تستطيع ارغامي على الكلام ، فأنا لا اعمل جاسوسة عندك من اجل ان تعرف اخبار صديقتي مني !"
تجهمت ملامحه بلمحة خاطفة وهو يقول بصرامة
"صفاء....."
قاطعته وهي تلتفت برأسها نحوه قائلة بعبوس حاد
"وإياك وان تقترب مني مجددا وألا اخبرتُ والدي ليطردك من المنزل بأكمله"
ضيق حدقتيه بوحشية ارعبتها وهي تلتصق بالمغسلة الرخامية من خلفها بكفيها بتشبث ، ليقول بعدها بهدوء خطير مشددا على حروفه بتصلب
"انا اريد فقط ان اعرف عن حالها وكيف هي الآن ، لذا لا داعي لتمثيل دور محامي الدفاع امامي وكأنني اريد قتلها والتهامها حية"
ابتلعت ريقها بارتباك وهي تهمس بخفوت متصلب
"ليس لدي ما اخبرك عنه سوى بأنها بخير وسعيدة بعائلة خالها وهناك حفلة سيقيمنها بالمنزل بنهاية الاسبوع....."
قاطعها (مازن) وهو يتمتم باهتمام
"هل ستحضر الحفلة ؟"
زمت شفتيها وهي تنوي الكذب عليه لتقول بدلا عن ذلك بوجوم
"لا لن تحضر"
ابتسم (مازن) ببرود وهو يهمس بشرود هائم
"جيد ، فهذا سيكون لصالحي"
ضيقت عينيها العسليتين بتفكير وهي تحاول فهم كلامه الاخير وما هو الجيد بالموضوع ؟ ليقول بعدها (مازن) باستفزاز وهو يفتح زجاجة العصير بهدوء
"ماذا تفعلين ؟ هيا عودي لعملكِ ، ولا تفكري بشيء آخر لأن شقيقك يسيطر على زمام الأمور جيدا"
عبست ملامحها بغضب صامت وهي تعود للالتفات امامها لتمسك بالبطاطا والسكين بيديها وهي تكمل تقشيرها كما كانت تفعل قبل قليل ، لتشعر بعدها بحركة (مازن) وهو يخرج من المطبخ قبل ان يقول بفحيح ساخر كعادته
"انتبهي فقد تخرج لكِ اشباح المطبخ من الخزائن ، لذا احذري وانتِ تعملين لكي لا تثيري غضبها !"
شهقت بوجل وهي تسمع ضحكته الساخرة وهي تتبعه لخارج المطبخ بعد ان دب الرعب بأوصالها ، لتجرح بعدها طرف اصبعها الثاني بنصل السكين وهي تشتمه بكل ما تحمله له من كره وحقد منذ طفولتها ، تلفتت من حولها وهي تنظر للخزائن المعلقة بالجدار بريبة وقلق زرعه بداخلها ، لتفكر بعدها بكلامه الأخير وإذا كانت قد اخطئت عندما اخبرته بالحفلة وعدم حضورها لها ! فكل ما يهمها هو ألا تتأذى صديقتها بسببها او بسبب شقيقها المجنون بأية طريقة .
_____________________________
كان يجلس امام مكتبه وهو يتلاعب بالقلم بين اصابعه مرجعا ظهره للخلف باسترخاء وهو يحرك رأسه بملل شارد ، ليقطع عليه شروده صوت الهاتف وهو يرن بصخب مزعج مخترقا غمامة شروده ، ليرفع بعدها يده وهو يلتقط سماعة الهاتف من على سطح المكتب ليضعها بجانب اذنه قائلا بملل
"نعم !"
ردت عليه السكرتيرة بعملية جادة
"هناك زبونة تريد رؤيتك يا سيدي"
قال (شادي) بعدها بلحظات بتفكير
"هل حجزت موعد مسبق يا وفاء ؟"
ردت عليه بتأكيد
"اجل يا سيدي وقد جاءت على الموعد تماما والذي حددته لها"
انتفض (شادي) وهو يعتدل بجلوسه قائلا بابتسامة جادة
"اجل يا وفاء اتركيها تدخل"
اقفل الخط وهو يعيد سماعة الهاتف لمكانها ، لينظر بعدها بتركيز لباب المكتب والذي فُتح بلحظة ليتبعها دخول فتاة متبرجة وهي تبتسم له بنعومة بشفتيها المحمرتين بلون احمر قاني ، لينزل بعدها لملابسها الانيقة والمكونة من كنزة صوفية طويلة بينما تركت ساقيها عاريين من تحت التنورة القصيرة والتي لا تصل لركبتيها وهو لا يفهم نظام الفصول عندها !
وقف (شادي) عن مقعده بهدوء وهو يبتسم باتساع قبل ان يمد كفه قائلا ببشاشة
"مرحبا بكِ يا آنسة بمكتب المهندس شادي ، شرفتي مكتبي المتواضع"
تقدمت الفتاة نحوه بخطوات متمايلة بتمهل قبل ان تصافحه بأطراف اصابعها قائلة بإيباء
"مرحبا بك"
اخفض (شادي) يده وهو يحرك كتفيه بلا مبالاة قبل ان يجلس خلف المكتب وهو ما يزال يتلاعب بالقلم بأصابعه ، بينما جلست الفتاة على الاريكة امامه بهدوء وهي تضع حقيبتها الصغيرة فوق الطاولة امامها بصمت ، قال (شادي) بعدها بلحظات بابتسامة هادئة بعملية وهو يطرق بالقلم على سطح المكتب برتابة
"إذاً ألن تخبرينا باسمكِ الكريم ؟"
ردت عليه الفتاة بغرور وهي تضع ساق فوق الأخرى بخيلاء
"اسمي هو شروق الخطيب ، وقد اتيتُ على الموعد والذي حددته معك قبل ايام ، هل نسيت ؟"
عقد حاجبيه بتفكير وهو يقول بابتسامة محرجة
"اعتذر فقد نسيتُ امر الموعد تماما ، فأنا ما افعله بالأمس لا اتذكره اليوم"
عبست ملامحه وهو ينظر لردة فعلها الباردة بدون ان تؤثر بها دعابته مثل ما تؤثر بالآخرين ، ليتنحنح بعدها بهدوء وهو يقول بجدية صارمة
"حسنا فلنتكلم عن المهم ، ما هو نوع التصميم والذي تودين منّا صنعه لكِ يا آنسة شروق ؟ واقصد بكلامي اي شيء فقط اخبرينا بمواصفاته وسيكون كما تريدين وتحلمين تماما !"
اومأت برأسها باتزان قبل ان تقول بابتسامة صغيرة بغرور
"الحقيقة لقد سمعتُ الكثير عن هذه الشركة وبأنكم تحققون كل مطالب زبائنها على اكمل وجه ، لذا قررتُ التوجه عندكم بطلب ما اريد وافكر به ، ولكن اتمنى حقا ان لا يحدث عكس ما اتيت من اجله"
ردّ عليها بثقة بالغة وهو يضرب بقبضته على صدره بقوة
"ثقي بنا يا آنسة ولا تفكري بشيء آخر ، فقد اتيتِ للمكان الصحيح وطلبكِ سيكون بأمان عندنا وبين ايدي حريصة"
قالت فجأة بحيرة وهي تنظر له بتعجب
"اين هو خاتم زواجك ؟ ام انك لا تحب ارتدائه عادةً !"
اخفض كفه لسطح المكتب بهدوء وهو يقول ببساطة بالغة
"لا يوجد خاتم زواج ، فأنا ما ازال عازب للآن ، أليس هذا واضحا عليّ ؟"
ارتفع حاجبيها بدهشة بالغة وهي تقول بابتسامة مغرية بغموض
"ولما لم تتزوج للآن وانت تمتلك كل المؤهلات المطلوبة والتي تحتاجها للزواج ؟ ام انك مطلق او ارمل او عاشق تعرض للخيانة....."
قاطعها بسرعة وهو يرفع كفيه بوجل
"لا ليس لهذه الدرجة يا آنسة ، فقط لم اجد الفتاة المناسبة والتي ارغب بها زوجة لي ، هذا كل شيء"
عقدت حاجبيها بعدم اقتناع وما ان كانت ستعاود الكلام حتى سبقها (شادي) وهو يمسك بالقلم بيده قائلا بجدية حادة
"هلا توقفنا عن التكلم عن حياتي ! وانتقلنا لموضوعكِ لنستطيع اختصار الوقت بشكل افضل ، ولكي لا نؤخركِ اكثر على مهامكِ يا آنسة"
ادارت عينيها بعيدا عنه بإيباء وبصمت وهي تهز ساقيها بعصبية واضحة وكأنه اهانها ، بينما كان (شادي) يمزق ورقة من الدفتر امامه وهو يمسك بالقلم بيده الأخرى قبل ان يسند ذراعيه على سطح المكتب قائلا بابتسامة هادئة
"هلا اخبرتني عن مواصفات طلبكِ لأستطيع تدوينها ورسم التصميم كما تحبين وترغبين ؟ وماذا تريدين تحديدا بيت احلام او كوخ ريفي او غرفة اضافية بمنزلكِ الحالي ؟....."
قاطعته (شروق) وهي تعود للنظر له بدلال ونعومة مصطنعة
"اريد منزل صغير ريفي يحيطه الاعشاب والاشجار بكل مكان ، ومعه مسبح كبير وحديقة مزهرة بسياج مرتفع ، واريد الوان السياج ان تكون مزيج بين الابيض والوردي ، وهناك ايضا شيء اريده منك ولن يكتمل منزلي بدونه"
كان (شادي) مشغول بتدوين طلباتها على صفحة الورقة ليتوقف بعدها وهو يتمتم بوجوم
"وماذا ايضا ؟ اخبريني عن الذي ينقصكِ وانا سأنفذه لكِ بمنزل احلامك"
اتسعت ابتسامتها بإغراء واضح قبل ان تهمس بثقة وهي تحرك ساقها بدلال
"اريدك انت"
تصلبت ملامحه وهو يرفع نظراته بعيدا عن الورقة بحيرة قبل ان يتمتم ببلاهة مصطنعة
"اعتذر ولكني لم افهم مطلبكِ الأخير !"
ردت عليه من فورها وهي تتقدم بجلوسها امام المكتب قائلة بخفوت جريء
"بل انت تفهم جيدا ما اريد ، شاب عازب ووسيم مثلك دائما يكون محط انظار الفتيات الجميلات ، لذا ما رأيك ان اكون الفتاة المناسبة والتي تبحث عنها لتسعدك بحياتك ويكون المنزل الريفي والذي تصممه لنا هو منزل احلامنا الخاص والذي سنقضي به شهر عسلنا ؟"
نظر لها (شادي) للحظات بجمود قبل ان يرتسم البرود على محياه وهو يقدم وجهه امامها قائلا باستهزاء واضح
"يبدو بأنكِ قد اتيتِ للمكان الخطأ فهذا المكان لطلب التصاميم والتي تخص منازل الاحلام ، وليس لطلب العرسان العازبين يا آنسة شروق !"
عبست ملامحها بارتجاف لوهلة قبل ان تنتفض واقفة عن الاريكة وهي تقول بعصبية مهتزة بعد ان كسر غرورها
"كيف تتجرأ على قول مثل هذا الكلام لي ايها السخيف ؟ لن اسامحك ابدا على جرأتك هذه معي....."
قاطعها وهو يرجع ظهره للمقعد قائلا بحزن تمثيلي
"لما كل هذا الغضب يا آنسة شروق ؟ أليس لديكِ حس بالفكاهة ؟"
ازدادت ملامحها شراسة لتصبح عبارة عن مسخ مخيف مع مساحيق الوجه والتي كانت تلطخ وجهها بكثرة ، لتلتقط بعدها حقيبتها من على الطاولة بعنف قبل ان تستدير بعيدا عنه وهي تسير باتجاه باب الغرفة بغضب ناري ، ليقول من خلفها بمرح وهو يلوح بيده قبل ان تختفي عن نظره
"وداعا يا آنسة شروق ، فرصة سعيدة"
اخفض (شادي) نظره للورقة بيده والتي تحوي طلباتها قبل ان يجعدها بقبضته بقوة ، ليرفع بعدها قبضته عاليا وهو يصوبها باتجاه مكان سلة المهملات قبل ان يلقي بها لتصيب هدفها بنجاح ، اعاد نظره للأمام ما ان اجتاحت الغرفة فتاة اخرى وهي تقول بوجوم عابس
"ما لذي حدث يا شادي ؟ ومن تلك الفتاة والتي كانت متواجدة معك وغادرت غرفة المكتب وهي تبدو غاضبة !"
وقف عن مقعده وهو يقول بابتسامة جانبية ببرود
"لقد كانت فتاة مخطئة بعنوان المكان"
رفعت (لينا) حاجبيها الاشقرين بعدم رضا قبل ان يسبقها (شادي) بالكلام وهو يدور حول المكتب ليلتقط سترته من على الأريكة قائلا ببساطة
"أتعلمين بأنكِ قد اتيتِ بالوقت المناسب ؟ فأنا اشعر بالتعب من العمل الطويل واحتاج للترفيه عن نفسي قليلا ، لذا ما رأيكِ ان نذهب لنستمتع قليلا بوقتنا بمكان اجمل وبعيدا عن مكان العمل ؟"
انفرجت شفتيها بانشداه قبل ان تتحول لابتسامة ناعمة بديعة الجمال وهي تهمس بتأكيد
"انا لا امانع هذا ، لأني دائما سأكون رهن إشارتك"
وقف (شادي) امامها بهدوء وهو يربت على كتفها بخفة قبل ان يتجاوزها بالخروج من المكتب بصمت وهو يضع السترة على كتفه من الخلف بإهمال ، وامام نظراتها الخضراء المتوهجة بكل انواع المشاعر وابتسامة صغيرة اعتلت شفتيها بشرود بعيد كل البعد عن مجرد صداقة ودية تجمعهما فقط .
_____________________________
وقفت امام باب غرفتها ما ان لمحت صندوق كبير نسبيا مركون عند زاوية باب الغرفة ، لتتلفت بعدها من حولها بتوجس وهي تتأكد إذا كان قد نسيه احد هنا او كان يخص احدهم من افراد العائلة ؟ وعندما لم تجد اي احد بالجوار انحنت لتجثو على ركبتيها وهي تمسك بالصندوق من جانبيه بذراعيها ، لتستقيم بعدها بوقوفها وهي تفلت ذراع واحدة لتفتح باب الغرفة امامها قبل ان تكمل دفعه بقدمها لتدخل بالصندوق لداخل الغرفة ، اقفلت الباب من خلفها بنفس الطريقة بقدمها لتسير نحو السرير بثبات قبل ان تضعه من فوقه بحذر .
تنهدت بتعب وهي تمسح العرق عن جبينها بكفها لتنظر لشقيقتها والجالسة امام المكتبة بزاوية الغرفة مشغولة بمذاكراتها بدون ان تعيرها اي انتباه ، لتعود بعدها بنظرها للصندوق وهي تتمتم بحيرة
"لمن يكون هذا الصندوق يا ترى ؟"
تنقلت بنظرها بزواياه بدون ان تتبين اسم المرسل او من اين اتى وعلى ماذا يحتوي ؟ لتعض بعدها على طرف شفتيها بفضول بدأ ينهش اطرافها وهي تتلمس بيدها غلافه المفتوح من فوقه بهدوء ، تنفست بقوة وهي تتخذ قرارها الاخير لتفتح عندها الغلاف ببطء وحذر بدون ان تفسده او ان تمزق شيء منه حتى ظهرت امامها ورقة صغيرة بالمقدمة ما ان وصلت لداخل الصندوق ، لترفع بعدها يدها وهي تلتقط الورقة المطوية لتفتحها من فورها برهبة وهي تقرأ المكتوب بداخلها بانبهار مندهش
(إلى روميساء الفاروق ، لقد طلبتُ من الخدم ان يحضروا لكِ ثوب مناسب للحفلة وبعض التجهيزات الأخرى من اجلكِ ، فأنا قد وعدتكِ من قبل بأن اهتم بكل شيء ينقصكِ للحفلة ، وها أنا قد اوفيت بوعدي لكِ وجاء دوركِ الآن لتوفي انتِ بالنصف الآخر من وعدكِ وتحضري الحفلة كما اتفقنا ، واتمنى ان تتقبلي هذه الهدية مني بدون ان ترفضيها او تعترضين عليها كعادتكِ فأنتِ بالنهاية جزء من هذه العائلة وفرد بها ، وإذا وجدتِ ان هناك اي شيء ينقصكِ للحفلة فأنا موجود ولا تترددي بطلبي مساعدتي متى ما شئتِ ! هنيئاً لكِ بالهدية)
كانت تتنفس من بين شفتيها المنفرجتين بانشداه وهي تنظر بعدم تصديق لما تراه امامها ! وهي تعلم جيدا من صاحب هذه الرسالة وهو نفسه من اهداها ذلك الكرت المزخرف والذي ما تزال تحتفظ به ، ولم تكن تتوقع ان يصل به الأمر لينفذ كلامه بحذافيره ويحضر لها كل ما ينقصها للحفلة والتي كانت قد رفضت حضورها مسبقا ؟ وكل هذا لكي لا تبقى لها اي حجة لرفض الحضور وقد اغلق عليها جميع السبل للنجاة منه .
قطع عليها ذهولها بالرسالة صوت (ماسة) وهي تقول ببرود ساخر
"يبدو بأنه قد اصبح لكِ عشيق جديد بالعائلة يهتم لأمرك !"
ردت عليها التي تلون محياها باحمرار الغضب وهي تلتفت نحوها بحدة
"هذا ليس وقت مزاحكِ السخيف يا ماسة"
حركت (ماسة) رأسها ببرود بدون ان تعلق على كلامها وهي تعود للتركيز على المذاكرات امامها ، بينما وضعت (روميساء) الورقة جانبا وهي تعود بنظرها لما داخل الصندوق قبل ان تدس كفها بداخله وهي تزيل الغطاء الشفاف والذي يفصلها عن محتوياته ، ابتلعت بعدها ريقها برهبة وهي تتلمس بكفها قماش شديد النعومة والذي اكيد سيكون يخص الثوب....بلون ازرق مائي وهو يظهر عليه صناعته العريقة والتي لا تعود لأي صناعة عادية من التي تعرفها وتعاملت معها ، لتخرجه من فورها وهي تضعه على السرير بحرص شديد وكأنه شيء ثمين وقابل للتلف من النسيم ، لتعود بنظرها للصندوق وهي تنظر بصدمة لعدة علب حمراء مخملية اثنتان منهما صغيرتان وواحدة فقط كبيرة .
امسكت بالعلبة الكبيرة لتفتحها بحرص قبل ان تتسع حدقتيها الخضراوين ببريق مبهور وهي تنظر لعقد طويل من الألماس تتدلى منه جوهرة مستديرة زرقاء اللون وعلى جانبيه يستقران حلقين من نفس نوع الألماس تتدلى منهما نفس الجوهرة ، لتغلق بعدها بسرعة العلبة وهي تنقل نظرها للعلب الصغيرة الأخرى وتفكر بما تحتويه ايضا !
امسكت بعلبة منهما بارتجاف بعد ان اعادت العلبة الكبيرة لمكانها لتفتحها بحماس تشعر به لأول مرة باتجاه شيء ، لتصدم بخاتم ألماس يحمل نفس الجوهرة الزرقاء ولكن بشكل مصغر ، لتنتقل بعدها بلحظة للعلبة الصغيرة الثانية وهي تفتحها بنفس الحماس لتكتشف بأنها تحوي خاتم آخر ولكنه يحمل جوهرة بلون مختلف وهو اخضر فيروزي بنفس جمال الأول !
اغلقت العلبة الأخيرة بارتجاف لتبتسم بشرود ساحر وهي تجرب مشاعر جديدة دافئة بنعومة قماش الثوب الحريري ، لتتنقل بعدها بنظرها بالأغراض بسعادة متلهفة والتي اكيد ستساوي ثروة طائلة ، وهي تدخل لعالم جديد فاحش الثراء لم تكن تعلم عنه وعن مدى جماله وبريقه والذي يكاد يعميها مثل بريق عقد الألماس والذي رأته الآن واستطاعت لمسه لأول مرة وكأنها قد بدأت بلمس النجوم !
انتفضت بجزع ما ان اخترق صوت (ماسة) الحاد سعادتها الفريدة وهي تنظر لها بتفكير حائر
"روميساء اين شردتِ ؟ واين وصلتِ بأحلام يقظتك ؟"
زفرت انفاسها بغضب وهي تعود للابتسام بجدية قائلة بقوة بدون ان تلتفت نحوها
"لا شيء فقط كنتُ افكر بأمور معقدة اخذتني بالتفكير بعيدا"
عقدت حاجبيها ببأس وهي تهمس باستياء
"إذاً من يكون صاحب الرسالة ومن الذي ارسل لكِ كل هذه الاغراض ؟"
ردت عليها ببساطة وهي تحرك كتفيها بشرود ناظرة للعلبة الصغيرة المخملية بكفها تجاري سخريتها
"ربما عشيقي"
ارتفع حاجبيها بصدمة وهي تهمس بضيق
"روميساء !....."
قاطعتها بسرعة وهي تلتفت نحوها قائلة بصرامة قاطعة
"هذا لا يعنيكِ يا ماسة فهذه امور تخصني وحدي وليس لكِ اي علاقة بها"
امتعضت ملامحها بغضب قبل ان تلتفت بعيدا عنها امام مكتبتها ببرود وهي تكمل ما كانت تفعله ، بينما انشغلت (روميساء) بترتيب العلب بداخل الصندوق بهدوء ليتبعها بوضع الثوب فوقها بحرص شديد لكي يبقى ناعما وجميلا كما هو ، لتغلق بعدها الصندوق بأكمله بصمت وابتسامة شاردة ما تزال تحتل محياها بهدوء .
ابتعدت عن الصندوق وهي تلتقط حقيبتها لتخرج منها هاتفها قبل ان تجلس على طرف السرير وهي تمسك بالورقة بيدها الأخرى بهدوء ، لتكتب بعدها رسالة قصيرة لرقم معين حصلت عليه من الرسالة وقد كتبه بزاوية الورقة ، لترسل الرسالة من فورها والتي كان محتواها مجرد كلمتين خجولتين
(شكرا لك)
اخفضت بعدها الهاتف وهي تنظر للورقة بابتسامة كبيرة وتتمنى لو تستطيع حقا ردّ جميله عليها والذي زاد من رصيده عندها أضعاف حتى فاض .
______________________________
كانت تمسك بالكتاب والذي اشترته مؤخرا من المكتبة وهي تتصفحه بتركيز شارد وبتأثر بكل سطر وكلمة تمر عليها وعلامات وجهها تتنقل بين الذهول والتعجب والسعادة والحزن وجميعها تحدث بآن واحد ، ولم ترى النظرات المسلطة نحوها وهو يتتبع كل حركاتها بدقة عالية وهو يقف امامها تماما بدون ان تشعر به ، تجمدت بمكانها بعدها بلحظات ما ان شعرت بصوت أنفاس حادة تصلها بوضوح مخترقة عالمها وغمامتها الخيالية والتي كانت تعيش بها للتو مع كتابها الخيالي ، لترفع بعدها نظراتها بتوجس ناحية الواقف امامها وهي تتفحصه بتمهل شديد من قامته الطويلة حتى وصلت بالنهاية لوجهه بملامحه السمراء القاسية ، وهو ينظر لها بعيون سوداء حادة لم ترى بسوادهما وباتساعهما المخيف وهي تظللهما بعض الهالات المعتمة حول عينيه والتي تجعله اكثر غموضا بنظرها وكأنه السفاح والذي تقرأ عنه بقصصها الخيالية قبل ان يتحول بالنهاية لشخص طيب ونبيل .
طال اتصال العيون بينهما قبل ان تقطعه (صفاء) وهي تخفض نظرها بعيدا عنه بارتجاف احتل اطرافها ، لتسمع بعدها صوت (جواد) وهو يقول بخشونة متصلبة
"اتمنى ألا اكون قد قاطعت عليكِ خلوتكِ بتطفلي وبدخولي للمكتب بدون إذن !"
اغلقت الكتاب بهدوء وهي تعود بنظرها له قائلة بابتسامة صغيرة مهتزة
"لا لا بأس ، لستُ متضايقة من وجودك ، فهذا ليس مكتبي لتأخذ الإذن مني بالدخول إليه"
ردّ عليها (جواد) وهو ينظر لها بغموض
"ولكنه مكتب والدكِ وهذا يعني بأنه يتحتم عليكِ الحفاظ عليه بغيابه حتى عودته ، لكي لا تخذليه بعدم امانتكِ"
ابتلعت ريقها بتوجس وهي ترفع كفها لتعيد خصلات وهمية لخلف اذنيها بارتباك وكأنها تعطيها الوقت لتستطيع تجميع كلماتها ، لتقول بعدها بجدية وهي تنظر له بعبوس
"إذا كنت قد اتيت لرؤية والدي ، فلا تتعب نفسك بالانتظار لأنه لن يأتي اليوم بسبب موعده الهام مع الطبيب بمستشفى المدينة وسيتأخر هناك"
مرت لحظات صمت بينهما بدون ان ينطق بأي كلمة وهي تنتظر خروجه من المكتب بفارغ الصبر ، ليقول بعدها وهو يبتسم لها باتساع مريب
"ولكني لم آتي لرؤيته ، بل اتيتُ لرؤيتكِ انتِ والتكلم معكِ ، وقد انتظرت كثيرا لأستطيع رؤيتكِ مرة أخرى بما انني لا اجدكِ بمكتب والدك سوى بأيام محددة !"
انفرجت شفتيها الورديتين بارتعاش متوجس وهي تفكر بما يريده منها هذا الغريب لينتظر رؤيتها بهذه اللهفة ؟ قد يكون من اجل موضوع سرقة حقيبتها والذي مر عليه اكثر من يوم او من اجل شيء آخر لا تعلم عنه ؟ قالت بعدها بخفوت وهي تبتسم بتشنج واضح
"انا اعمل هنا فقط بأيام عطلتي عن الجامعة ، وعملي هنا من اجل مساعدة والدي بمهامه لا اكثر"
كان (جواد) ينظر لها بتركيز حاد ارهبها قبل ان يتمتم ببرود جليدي
"حسنا ، اردتُ ان اخبركِ بأنني ارغب بالحصول على الكتاب والذي هو بحوزتكِ بما انه النسخة الوحيدة المتوفرة بالمكتبة ، فقد بحثتُ عنه بعدة مكاتب أخرى ولم اجده بأي واحدة منها"
اتسعت حدقتيها العسليتين باهتزاز وهي تخفضهما للكتاب امامها قبل ان ترفعه ناحيته بارتجاف وهي تقول بحيرة خافتة
"اتقصد بكلامك هذا الكتاب والذي ترغب بالحصول عليه !"
اومأ برأسه بجمود وهو يرفع كفه ليتلمس غلافه المحمر بأصبعه وعينيه على حدقتيها قائلا بتمهل شديد
"وهذا إذا لم يكن لديكِ اي مانع ! ويمكنكِ اعتبارها مجرد اقتراض وبعدها اعيده لكِ بالوقت والذي تحددينه لي"
اخفضت عينيها بعيدا عنه بضعف شل حركتها من التفكير والذي خيم عليها بتشوش لبرهة ، لتنتفض بعدها واقفة عن مقعدها بقوة وهي تمد الكتاب باتجاهه قائلة برقة متوترة
"لا اكيد لا امانع ، وسيكون من دواعي سروري ان اقدم لك الكتاب والذي تسعى للحصول عليه ، فيبدو بأنك ترغبه بشدة واكثر مني شخصياً !"
كان ينظر لها ببرود قبل ان يخفض نظره للكتاب بيديها والذي كان يرتجف باهتزاز طفيف استطاع لمحه ، ليعود بنظره لها بقوة وهو يرفع كفيه ليمسك بيديها المتشبثتين بالكتاب باهتزاز ولكن ليس لأخذه بل ليرجعه لها وهو يقربه من صدرها قائلا بابتسامة باهتة بدون اي تعبير
"ليس من اللائق ترك كتاب قبل انهاءه وألا تبخرت المعلومات بداخلك واختفت متعة قراءته ، لذا عليكِ اولاً قراءته كاملاً وبعدها سيأتي الوقت والذي آخذه منكِ ، وانتِ من ستحددين كل هذا لأن هذا كتابكِ بالنهاية"
شردت (صفاء) بكلماته الباردة وبملامحه المنحوتة كالصخر قبل ان تهمس بتردد واجم
"إذاً لما اخبرتني بأنك ترغب بالحصول على الكتاب بشدة ؟ إذا لم تكن تريده الآن"
افلت (جواد) كفيها مع الكتاب وهو يقول بابتسامة هادئة بقوة
"لا تفهمي كل شيء كما هو ظاهر امامكِ ، فأنا قد قصدتُ بكلامي بأن انبهكِ برغبتي بالكتاب لكي لا تحاولي اضاعته او افساده مثلا ، ولكي تحافظي عليه من اجلي ، وهذا الكلام ينطبق ايضا على نفسكِ يا صغيرتي !"
رفعت نظراتها نحوه بحدة بآخر كلماته وهو يعيد كلمة (صغيرتي) للمرة الثانية على اسماعها لتهمس بعدها بتلعثم خافت
"ماذا تقصد ؟ انا لا افهمك !"
اتسعت ابتسامته بدون اي مرح قبل ان يقرب وجهه امامها وهو يتكأ بكفه فوق طرف المكتب ليتمتم عندها ببرود صخري
"ستفهمين كل شيء بالوقت المناسب يا صغيرتي ، وبهذا الوقت لا تتعبي تفكيركِ بكل هذه الأمور والتي سترهق عقلكِ كثيرا"
عبست ملامحها بوجوم بدون ان تنطق بأي كلمة وهي ترفع الكتاب لتغطي به نصف وجهها ولتقي به بشرتها الرقيقة من انفاسه القوية والتي تكاد تحرقها بحرارتها ، بينما كان (جواد) يراقب بتركيز احداقها العسلية المهتزة بحزن عميق من فوق إطار الكتاب ، ليعود بعدها للخلف وهو يبعد كفه عن سطح المكتب ليقف عندها باستقامة وهو يهمس بابتسامة متصلبة
"استمتعي بوقتكِ بقراءة الكتاب بقدر استطاعتك ، فنحن لا نعلم متى تختفي هذه السعادة اللحظية وتتبعثر بها حروف الكتاب لتتحول لمجرد سراب ، ولا تنسي الاهتمام بالكتاب من اجلي ليأتي دوري انا بالاستمتاع بقراءته !"
بقيت على جمودها واحداقها تنظر له بتركيز شاحب والكتاب يغطي نصف وجهها ، ليغادر بعدها من امام نظرها وهو يخرج من غرفة المكتب بصمت قاتم غلف المكان ببروده ، تنفست بعدها براحة وهي تخفض الكتاب عن وجهها قبل ان ترتمي جالسة على المقعد من خلفها وهي تشرد بعيدا بكلامه الغامض وكأنه لغز محير وعليها هي حله لتستطيع فهم الاحجية جيدا ومعرفة ما يخفيه خلف مظهره الغامض والذي يغلفه بالقسوة !
_____________________________
بعد مرور عدة ايام بهدوء النسيم........
كانت تقف امام المرآة الضخمة والملعقة على باب الخزانة وهي تتأمل الفستان على جسدها بانبهار مسحور وكأنها ترى لأول مرة صورة لشابة فاتنة مختلفة تماما عن التي تعرفها والتي كان كل ما يهمها هو اسعاد الآخرين وارضائهم بدون النظر لحالها وما وصلت له من بؤس وحزن اثر على حياتها وشبابها ، ليظهر اخيرا قبس من السعادة وشخص ما يهتم بها وبأمرها وهو يسعدها بهذه التفاصيل الصغيرة والتي لم تحلم بتحقيقها او بطلبها يوماً .
كانت تتنقل بنظرها بانشداه مسحور بالفستان الطويل من حمالاته العريضة والتي تغطي كتفيها مخفية كل تفاصيل صدرها لينزل بعدها القماش بنعومة وببعض الضيق لينزل اخيرا بانتفاش بسيط فوق وركيها وهو يظهر خصرها النحيل وقامتها الطويلة...وهو يتناسق مع الفستان الطويل والذي يصل لكاحليها بلون ازرق مائي ومع شريطة عريضة بيضاء حول الخصر وهي مربوطة بالخلف بعقدة طريفة وملفتة للنظر...بينما رفعت شعرها الطويل بعقدة فوضوية فوق رأسها وبعض الخصلات السوداء قد تساقطت حول وجهها وعند عنقها الطويلة بلطف .
رفعت كفها ببطء وهي تتملس برفق العقد الالماسي حول عنقها والذي كان يتدلى منه الجوهرة الزرقاء والتي ناسبت لون الثوب تماما ، لتزيده بريقا يشاركه الحلقين واللذان يتدليان من اذنيها بدلال والخاتمين المزينين بأصبعيها وهي ترتدي كل منهما بيد على حدى ، وكل هذا الجمال كان ينعكس بريقه بعينيها الخضراوين الشاحبتين واللتين ازدادتا خضارا فوروزيا وتوهجا عن السابق طاردة الحزن والوجوم منهما .
اخفضت نظراتها بهدوء ما ان سمعت الصوت المتوقع من التي وقفت خلفها بوجوم
"إذاً ستفعلين ما برأسكِ وتحضرين حفلتهم التافهة وتشاركينهم بعالمهم المرفه فاحش الثراء ! ومع الطبقات المخملية وانتِ تدخلين دائرة موضوعهم الشيق ليتكلموا عنكِ لليالي القادمة وبكل المناسبات عن ابنة المجرم والتي تجرأت على دخول عالمهم بكل وقاحة وثقة تحسد عليها !"
تصلبت ملامحها بدون ان تنطق بأي كلمة وهي تنظر لشكلها بالمرآة بشرود غائم ، لتتابع الأخرى كلامها وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها قائلة باقتضاب قاتم
"هذه المرة ستحضرين حفلاتهم الرخيصة وتشاركين بها ، واما بالمرة القادمة فسيحدث تطور رهيب بالأحداث وستدخلين للعائلة عندها بصفتك زوجة ابنهم ذات السمعة السيئة وابنة المجرم قيس....."
قاطعتها وهي تستدير نحوها بقوة قائلة بجدية صارمة
"كفى يا ماسة ، لقد تجاوزتِ هذه المرة كل الحدود بكلامكِ الوقح معي ! فلا تنسي بأني اكبر منكِ سنا واعقل وهذا يعني بأني استطيع التصرف والتحكم بحياتي لوحدي بدون اي تعليق ساخر منكِ لا داعي له"
ردت عليها (ماسة) ببرود ساخر
"اجل هذا واضح من تصرفاتكِ والتي تثبت مدى رجاحتكِ وكبر عقلك !"
عبست ملامحها وهي تتنهد بتعب قائلة بعتاب
"لا فائدة من الكلام معكِ ، فأنتِ لن تفهميني ابدا ما دمتِ تفكرين بكل هذا السواد والذي يطغى على حياتكِ"
تشنجت ملامحها لوهلة قبل ان تنظر جانبا وهي تهمس بوجوم شارد
"انتِ التي لا تستطيعين فهمي ، وتحاولين دائما التعمد لخلق مشاحنة بيننا بفعل ما تعلمين جيدا بأنه يغضبني ويشعرنا بالامتهان !"
عادت (روميساء) للنظر لها بحزن قبل ان تتقدم نحوها عدة خطوات وهي تمسك بيديها بطرفي الثوب ، وما ان وقفت امامها حتى قالت لها بابتسامة لطيفة وهي تربت بيدها على رأسها برفق
"صغيرتي انتِ تعلمين بأني لا اتعمد مضايقتكِ بأي شكل ، وصدقيني ليس هدفي من حضور الحفلة هو اغضابكِ او خلق مشاحنة بيننا ، ولكني اشعر برغبة حارقة لتجربة هذا الشعور الغريب بحضور حفلة مختلفة تماما عن عالمنا وبعيدة كل البعد عن بيئتنا والتي تربينا عليها ، ذلك الشعور عندما تكون مرغوب بين مجتمع من الطبقة المخملية والراقية ! وبعد ان انتهي من الخوض بذلك العالم سأعود عندها لعالمكِ الخاص ولن اغوص هناك اكثر مما ينبغي ويسمح به حدود عالمنا ، لذا هل تسمحين لي بتجربة هذا الشعور لمرة واحدة فقط ؟"
رفعت (ماسة) عيناها الزرقاء الداكنة بعبوس قبل ان تتمتم بخفوت بارد بدون اي تعبير
"ولكنكِ بهذه الطريقة ستبتعدين عني وقد اضطر لخسارتكِ نهائياً بذلك العالم المترف والذي لا يعرف الرحمة او الرأفة ، وقد يجعلكِ وسيلته للتسلية والمتعة والتي تناسب امثالنا وقد تصبحين ضحيته الجديدة"
ارتفع حاجبيها بدهشة لحظية قبل ان تضحك بخفوت وهي ما تزال تربت على رأسها قائلة بجدية
"لا انتِ تبالغين فقط ، فكل هذا الذي تقولينه من وحي خيالكِ الخصب ومن شدة خوفكِ مما يدور من حولكِ ! ولا تقلقي فلن يحدث اي شيء من هذا ، ثقي بي"
رفعت كفيها بسرعة لتمسك بيدها من على رأسها وهي تشدد عليها بقوة قائلة بتصلب خافت
"افعلي ما اقوله يا روميساء واصغي لي لمرة واحدة فقط ، فهذه الحفلة لن تكون جيدة لكِ كما تظنين"
ربتت بيدها الأخرى على كفيها برفق وهي تقول بثقة
"وانتِ اصغي لي لمرة واحدة بدون ان تخافي من شيء لن يحدث اساسا ، وتأكدي بأني سأكون بخير"
قالت (ماسة) فجأة بانقباض
"ولكن....."
قاطعتها (روميساء) وهي تسحب كفها من بين يديها قائلة بنفاذ صبر
"يكفي يا ماسة ، إلى متى سأكرر كلامي حتى تفهمي ؟ توقفي عن هذا الخوف الغير مبرر من كل شيء افعله واقدم عليه ! واتركيني افعل ما اراه انا مناسباً لكلينا"
اشاحت بوجهها بعيدا عنها بتجهم واضح بدون ان تعلق على كلامها ، بينما تراجعت (روميساء) بعيدا عنها لتنحني امام علبة مستطيلة الشكل والتي وصلتها قبل قليل بدون ان تطلبها مع بقية اغراضها والتي وعدها بهم ، اخرجت بعدها منها حذائين لامعين بلون الابيض والمائل للفضي وهما يحويان على شريطة تربط جانبيهما برقة ونعومة ، لترتدي عندها الحذائين بحذر شديد وهي تربط شريطة كل واحد منهما بإحكام .
بعد ان انتهت استقامت بوقوفها لتسير باتزان نحو باب الغرفة قبل ان تقف وهي تمسك بمقبضه بتردد ، لتلتفت بعدها نحو شقيقتها الساكنة بمكانها وهي تهمس لها بمودة
"سأحاول ألا اتأخر عليكِ ، حسنا !"
عندما لم تجد اي ردّ منها تابعت سيرها لخارج الغرفة وهي تغلق الباب من خلفها بهدوء ، لتنظر تلك الاحداق الزرقاء المستديرة بعيدا وهي تتمتم بقسوة باردة
"لن تفهمي ولا احد سيفهم ما اشعر به ، فليس من ذاق الألم كمن عرفَ !"
لم تشعر بعدها بالدمعة اليتيمة والتي خطت على وجنتها ببرود اعتادت عليه حتى اصبح رفيقها بالأيام الماطرة وهو يحكي قصص عذاب دامت لسنوات طويلة بدون نهاية .
___________________________
كانت تزفر انفاسها بهدوء وهي تسير بقاعة الاحتفالات الضخمة والمخصصة للمناسبات المهمة وهي تشعر بالنظرات تلاحقها بكل مكان منذ دخولها للقاعة ولا تعلم إذا كانت نفورا منها ام إعجابا ؟ ولكنها لم تعطيها اي انتباها فكل ما يهمها هو ان تتمتع بأجواء الحفلة الهادئة بكل ما فيها من جمال ساحر لفت نظرها منذ اللحظة الأولى ، وهي تحظى بأجمل وقت مستقطع بحياتها المليئة بالمشاغل وهموم الحياة والتي ابعدتها كثيرا عن الحياة الهانئة والمرفهة وقد نسيت مذاقها الحقيقي وكيف تكون حياة المرأة النبيلة بمجتمع يتقبلها ويحبها لنفسها وشخصها .
توقفت بخطواتها وهي تقبض على طرفيّ ثوبها بكفيها بقوة ما ان تذكرت ذكرى بعيدة ضربت عقلها الشارد ، وهي ساهمة بالبعيد وتحديدا عندما كانت تعمل بمحل بقالة قريب من مكان سكنها وهي ما تزال بعمر الرابعة عشر لم تتم بعد الخامسة عشر ، لتلتقي هناك بامرأة لطيفة يبدو على مظهرها الثراء الفاحش وقد كانت تكلمها بمودة غريبة قائلة
"ماذا تفعل مراهقة مثلكِ بالعمل بالمتاجر ؟ بدلا من ان تكوني الآن تجتهدين بالمدرسة لكي تستطيعي تحقيق احلامكِ والعيش بسعادة !"
رفعت (روميساء) عينيها الخضراوين وهي تهمس بخجل شديد وبارتياب بسبب عدم اعتيادها على المعاملة اللطيفة من الناس من حولها والذين كل ما يعرفونه هو اصدار الأوامر بحقها
"هل تكلميني انا يا سيدتي ؟"
اومأت المرأة اللطيفة برأسها بالإيجاب وهي تقول بابتسامة متسعة
"اجل انا اكلمكِ انتِ يا جميلة ، فليس هناك صغيرات جميلات هنا غيركِ !"
اتسعت ابتسامتها بسعادة طفولية على هذا الإطراء والذي تسمعه لأول مرة من احدهم وهي تشعر حقا بأنها جميلة بنظرها ، لتهمس بعدها بامتنان شديد
"شكرا لكِ"
قالت المرأة بابتسامة جادة وهي تنظر لها بتركيز
"ولكن لم تخبريني يا جميلة ، ألا تذهبين للمدرسة ؟ فمن بعمرك عليه ان يركز كل وقته بالدراسة فقط وليس بالأعمال والتي لا تناسب سنه !"
عادت (روميساء) لخفض نظرها بعيدا عنها وهي تقول بتلعثم متوتر
"انا اذهب للمدرسة بالصباح واعمل هنا بوقت الظهيرة ، لأن عمي يحتاج للمال بشدة ، ولا تقلقي يا سيدة فأنا مجتهدة جدا بالدراسة"
اهتزت ابتسامة السيدة وهي ترفع حاجبيها بصدمة من حال هذه الطفلة والتي تبدو بعمر الخامسة عشر او اقل وهي تُرغم على العمل بهذا السن الصغير ، لتقول بعدها بحنان وهي تدس يدها بحقيبتها الفاخرة على كتفها
"لقد احببتكِ كثيرا يا صغيرة ، لذا سأقدم لكِ عربون محبتي لكِ"
نظرت لها بعينيها الخضراوين الكبيرتين بحيرة وهي تخرج كفها امامها والتي كانت تحوي بعض النقود ، لترفع بعدها نظراتها لها ما ان قالت المقابلة لها ببهجة
"هيا خذي هذا المال مني ، لا تخجلي"
عبست ملامحها الطفولية وهي تهمس بوجوم
"ولكني لا استطيع اخذ المال بدون اي مقابل ، عليّ ان اعمل لأحصل على المال بجهدي"
اتسعت ابتسامة المرأة وهي تقول بمحبة بالغة
"هذا الكلام تقولينه للغرباء وليس لي فأنا اكون بمقام والدتك وقد احببتكِ من كل قلبي وهذا المال مجرد مساعدة بسيطة لكِ ، لذا اقبليها من والدتك بدون اي اعتراض وألا سأغضب عليكِ !"
شحبت ملامحها بارتباك قبل ان تمد كفها لتلتقط النقود منها وهي تنظر للنقود بكفها بسعادة ، لتهمس بعدها بامتنان شديد
"شكرا جزيلا لكِ"
اومأت المرأة برأسها بهدوء وما ان استدارت بعيدا عنها حتى امسكت (روميساء) بطرف ثوبها بكفها الصغيرة ، وما ان التفتت الأخرى نحوها حتى قالت بلهفة طفولية برق بعينيها الخضراوين المستديرتين
"هل استطيع ان اصبح عندما اكبر امرأة مهمة مثلكِ والجميع يحبها ومن طبقة معروفة واملك الكثير من المال ؟"
ردت عليها المرأة بابتسامة مرحة وهي تربت على رأسها بعطف
"هوني على نفسكِ يا فتاة ! اكيد تستطيعين ان تصبحي ما تريدين عندما تكبرين ، فقط بالإرادة والعزيمة يمكنكِ ان تحققي اي شيء تريدينه وتسعين إليه ، وتذكري بأن الثراء ليس بالمال فقط بل هو بالعمل والصبر لتصلي لما تحلمين له وليس هناك اي شيء مستحيل امام فتاة قوية مثلكِ"
تنفست بهدوء وهي تعود للحاضر وكلام المرأة يدور برأسها دوما بكل خطوة تخطوها للأمام بحياتها ، لتنظر بعدها لحالها والتي وصلت لها وهي تجرب عالم الثراء والذي كانت تراه دائما بعيد المنال عنها وكم تشعر بالفرق الآن بين الخيال والواقع .
استدارت بسرعة للخلف ما ان سمعت الصوت المتزن المألوف وهو يقول من خلفها بقوة
"واخيرا اتيتِ للحفلة ، كنتُ اعلم بأنكِ لن تخذليني وستحضرين الحفلة"
ابتسمت بارتجاف وهي تنظر للبذلة الرمادية الشاحبة والتي كانت تلف جسده الطويل لتظهره بهيبة ووقار يناسب مكان الحفلة ، وكأنه قد خلق بهذا المجال والذي يخص ادارة الأعمال والذي اكيد سيكون المسؤول عنه من بعد والده فهو الابن الاكبر بهذه العائلة والمسؤول عن كل شيء ، رفعت نظرها بحذر لعينيه الرماديتين الهادئتين وهي تشعر بهما تخفيان الكثير من خلفهما من نظراته الجديدة والتي تغيرت نحوها واصبحت اكثر جمالا بالنسبة لها .
تقدم (احمد) نحوها وهو يقطع تواصل العيون ناظرا لها بتأمل حذر من طلتها البهية والتي تختلف تماما عن الفتاة الحزينة والتي دخلت لمنزلهم لأول مرة مع هالة الحزن والتي كانت ترافقها آن ذاك ، لتصبح الآن بطلة جديدة وهي تبرق بالحفلة بتوهج من انعكاس المجوهرات على وجهها وعنقها لتبدو واحدة من حوريات البحر والتي تحتاج إليها بشدة فتيات هذه الحفلة ، لتظهر مكانتها الحقيقية بين الناس والتي لا يناسبها سوى لقب الآنسة النبيلة .
ما ان وقف (احمد) امامها تماما حتى قالت بسرعة بارتباك وهي تعيد خصلات شعرها المتمردة لخلف اذنيها
"اجل لقد اتيتُ للحفلة كما وعدتك ، فلا تنسى بأنك انت من احضر لي كل هذه الاغراض الجميلة ، وهذا مجرد ردّ جميل على افضالك والتي تهدرها عليّ دوما"
اومأ برأسه باتزان وهو يشرد بحركاتها الهادئة والمدروسة بالنسبة لفتاة تدخل لأول مرة لهذا العالم المترف ، ليقول بعدها بابتسامة جانبية بانبهار
"ولكني ارى بأن هذا الثوب والمجوهرات قد حولتكِ لأميرة جميلة تناسب كثيرا الطبقة المخملية ! والسر ليس بالثوب فقط بل بصاحبته والتي خلقت لتكون جزء من هذا المجتمع الفخم ، وليس هناك اي شيء يمنعكِ لتكوني جزء منهم بعد الآن !"
ابتسمت (روميساء) بحياء وهي تهمس بخفوت
"شكرا لك"
قال (احمد) بعدها بلحظات وهو يرفع كفه امامها 
"انتظري لحظة"
عقدت حاجبيها بحيرة وهي تنظر له بتوجس وهو ينحني امامها بطريقة ملوكية واضعا ذراعه امام صدره بقوة ليقول بعدها بابتسامة صغيرة باحترام
"مرحبا بكِ يا آنستي النبيلة بمجتمع الطبقة المخملية ، شرفتي وسطكِ وعالمكِ يا جميلتي والذي انتظر وصولكِ كثيرا حتى يأس ومل"
ضحكت (روميساء) بخفوت وهي تضع كفها على شفتيها برهبة قبل ان تهمس بعبوس مرتجف
"توقف يا احمد ، انت تحرجني بهذه التصرفات ، فأنا لم افعل شيئاً لاستحق كل هذا منك !"
استقام بوقوفه وهو يحرك رأسه قائلا بثقة
"لا تحتاجين لفعل شيء لتحصلي على كل هذا الاهتمام ، فهذا يعتبر تعويض عن كل سنوات الشقاء والتعب والتي عشتها بعيدا عن وسطك وعالمك والذي تنتمين له من الاساس"
احنت نظراتها بعيدا عنه بحزن ما ان تذكرت حياة الشقاء الماضية والتي اخذت منها كل ذرة سعادة بحياتها هي وشقيقتها حتى نسوا معناها الحقيقي وكيف تكون ؟ ولكن اين كانوا من كل هذا وهم يتجرعون الألم من زوج والدتهم ولا احد منهم ظهر لينقذهم من قذارته ولا حتى احد من عائلة خالها واقاربهم ؟ لا احد ؟!
شعرت بكفه وهو يمسك بذقنها بأصابعه ليرفع وجهها عاليا قائلا بهدوء
"هذه حفلتكِ الأولى ، وعليكِ ان تكوني سعيدة بها وغير مسموح بالحزن ابدا ، اعلم جيدا بأني قد تأخرتُ كثيرا بالسؤال عنكِ والاهتمام بكِ ، ولكني اعدكِ من الآن بأن تكوني اولى اهتماماتي ومسؤولياتي يا ابنة عمتي"
ابتسمت بهدوء وحدقتيها الخضراوين تلمعان بانبهار يماثل لمعان الجواهر والتي تملئ وجهها وعنقها وكفيها ، لينتفض بعدها وهو يبعد اصابعه عن ذقنها بلحظة مبتسما لها باتزان مهتز ما ان لاحظ النظرات المتجهة نحوهما من كل صوب ، قال بعدها بلحظات بتفكير وهو ينظر حوله بهدوء
"ولكن لما لم تحضر شقيقتكِ ماسة الحفلة معكِ كنت اريد إرسال الملابس والمجوهرات لها ايضا ؟ كانت حظيت بوقت ممتع كذلك !"
افاقت من شرودها والذي لفها بعيدا من كلماته الدافئة واهتمامه والذي تجربه لأول مرة وكأنها ملكة متوجة على العرش ، لتقول بعدها بارتباك وهي تغير الموضوع بسرعة
"كنتُ اريد ان اسألك هل انت وحدك بالحفلة ؟ اين عائلتك وزوجتك ؟"
ارتفع حاجبيه بدهشة وهو يقول بابتسامة صارمة بتمثيل
"هل اصبحتِ تتدخلين بخصوصياتي ؟ من اعطاكِ الحق !"
زمت شفتيها بانفعال وهي تهمس من بينهما بوجوم
"ولكنك انت دائما تسألني وتتدخل بخصوصياتي ، إذاً انا ايضا لدي الحق بالتدخل ، أليس كذلك ؟"
ابتسم بسعادة حتى ظهرت اسنانه البيضاء كاملة وهو يستمع لكلامها العفوي والذي ضرب قلبه بقوة وسحره بعفويتها ، ليقول بعدها بابتسامة جذابة وهو يرفع ذراعه نحوها بترحيب
"وانا اقبل بهذا التدخل بكل ترحاب ، والجواب على سؤالكِ بأن عائلتي كل واحد مشغول مع رفيقه وحتى زوجتي مشغولة مع صديقاتها ، لأبقى انا هنا وحدي بدون اي رفيق ، لذا هل تقبلين ان تكوني رفيقتي يا آنسة روميساء ؟"
انفرجت شفتيها الممتلئتين بارتعاش قبل ان تحرك رأسها بقوة وهي تقول بلباقة
"اجل ، هذا شرف لي ان اكون رفيقتك يا سيد احمد"
قال (احمد) فجأة وهو يرفع اصبعه بتهديد
"قولي احمد فقط ، وألا لن ارحب بأن تكوني رفيقتي"
ردت عليه بابتسامة متسعة بجمال
"حاضر ، احمد فكهاني"
ابتسم بوقار وهو يمد ذراعه نحوها قائلا بجمود ساحر
"اعطيني يدكِ يا رفيقتي لنستمتع بهذه الحفلة الجميلة ، ولأعرفكِ كذلك على باقي الضيوف من نفس طبقتك النبيلة"
رفعت يديها لتتشبث بذراعه تلقائيا وهي تمسك بكم قميصه بيدها بحذر ، لتنظر له بأحداقها الخضراء المستديرة بلمعان بنفس لمعان لقاءها بتلك السيدة اللطيفة وقد تحقق كلام تلك السيدة فاحشة الثراء ، وهو يتجسد حقيقة امامها فقد حصلت اخيرا على لقب (سيدة نبيلة) والذي تعبت كثيرا من اجله وهو كان اقصى امانيها منذ المراهقة .
__________________________________
كانت تتصفح بالكتاب بين يديها بملل قبل تلقي به بعيدا على السرير وهي تلتقط الهاتف من المنضدة الجانبية ما ان ارتفع صوت رنينه بصخب مخترق هدوء الغرفة وسكونها ، لتفتح بعدها الخط وهي تضعه على اذنها قائلة بتصلب
"ماذا تريد مني ؟"
ردّ عليها من بالطرف الآخر بفظاظة
"اريد رؤيتكِ الآن وحالاً"
قبضت على الهاتف بيدها وهي تقول باقتضاب
"هل جننت لتطلب مني رؤيتك بهذا الوقت ؟ هيا ارحل وعد للنوم فأنا ليس لدي الوقت لسخافاتك"
قال (مازن) ببساطة بالغة
"بل يمكنكِ فعلها ، فأنا اعلم بأن هناك حفلة الآن بمنزل خالك ، لذا تستطيعين التسلل بسهولة والخروج لرؤيتي بفناء المنزل الخلفي بدون ان يراكِ احد"
تجهمت ملامحها وهي تهمس باستياء
"من اخبرك عن الحفلة وبأني لم احضرها !...."
توقفت عن الكلام وهي تعض على طرف شفتيها بحنق مشتعل عندما اكتشفت الفاعل الحقيقي والذي اوصل له كل هذا الكم من المعلومات عنها ، ليعود (مازن) للكلام وهو يقول بحدة صارمة
"هذا ليس وقت أسئلتكِ ، فأنا اريد ان اراكِ الآن ولا شيء يستطيع إيقافي عن رؤيتكِ ولا حتى كبريائكِ الاحمق ، وإذا لم تخرجي إلي بغضون ربع ساعة....."
قاطعته (ماسة) وهي تهمس بانفعال حانق
"حسنا فهمت ، سأحاول الخروج لك"
قال بعدها بالطرف الآخر بتشديد حاد
"لن تحاولي بل ستأتين ، هل فهمتِ ؟"
ابعدت الهاتف عن اذنها وهي تقفل الخط بوجهه بغضب ، لتفكر عندها بأنه كان من المفروض ان تتجاهله وتقفل الخط بوجهه منذ البداية معلنة عن رفضها لطلبه الاحمق ، ولكن الخوف الفطري والذي يلاحقها منه جعلها اكثر حذرا بالتعامل معه ، فهي لن تنسى ابدا بأنه شريك (قيس) بكل جرائمه ويملك خبثاً ودهاءً اكثر من عمه نفسه وكل هذا من معاشرتهما لسنوات طويلة حتى اصبحت تعرف كل طباعهما وتنتبه لكل خطوة تخطيها نحوهما .
نهضت بعدها بلحظات عن السرير وهي تتجه للخزانة العملاقة لتفتح بابها وهي تخرج منها سترة جلدية سوداء وبنطال جينز مهترئ ، وما ان انتهت من تبديل ملابسها حتى امسكت بالسكين والتي لا تفارقها بتاتاً منذ وفاة والدتها ، لتدسها بجيب بنطالها الخلفي وهي تسير لخارج الغرفة قبل ان تقفل الباب من خلفها بهدوء والسكون يحل على كل انحاء المنزل وساكنيه المنشغلين بحفلتهم التافهة .
خرجت من باب الفناء الخلفي للمنزل لتتلفت من حولها بريبة وهي تتأكد من خلو المكان ، لتسير بعدها عدة خطوات بعيدا عن الباب ناظرة للظلام الحالك المنتشر بالحديقة الخلفية لا يضيئها سوى ضوء القمر والذي اختفى خلف السحب بليلة داكنة ، قالت بعدها بلحظات بغيظ وهي تقبض على كفيها بجانبي جسدها بقوة
"اين انت ايها...."
قاطعها صوت من الخلف يقول بتسلية باردة
"انتبهي جيدا من ألفاظكِ يا فتاة والتي اكيد ستودي بكِ بداهية !"
التفتت نحوه بعنفوان وهي تهمس بتصلب ضاري
"انت هو الداهية نفسها والتي لن تحل عني ابدا قبل ان اتخلص منها بيديّ"
تقدم بخطوات متمهلة نحوها قبل ان يقف امامها تماما قائلا ببراءة مصطنعة
"وهل لديكِ الجرأة لتقتليني بعد كل هذه العشرة ؟ وماذا عن سنوات العراك بالطرقات وملاحقة بعضنا البعض بالأحياء الضيقة والمقالب والتي كنا نفعلها بالعالم سوياً ؟....."
قاطعته (ماسة) وهي تلوح بذراعيها على جانبيها قائلة بنفاذ صبر
"كفى كلام عن ماضي واراهُ الزمن ، واخبرني ماذا تريد مني الآن ؟"
تقدم امامها اكثر وهو يرفع يده نحو وجهها ليلمس وجنتها المتصلبة بأصبعه قائلا بغموض
"اريد منكِ ان تعودي لمنزلي واقصد منزل قيس"
حركت وجهها بعنف وهي تتراجع للخلف قائلة باستنكار
"تريد مني ان ارجع للمنزل والذي اصبح ملكك !"
ارجع (مازن) رأسه للخلف وهو يقول بجدية حادة
"انه ليس ملكي بل ملككِ انتِ يا دمية قيس وسيبقى هكذا للأبد"
اشاحت بوجهها بعيدا عنه ببرود وهي تتمتم بامتعاض
"وماذا تريد مني الآن ؟ ام انك طلبت رؤيتي لهذا الكلام الفارغ !"
عاد (مازن) للتقدم امامها وهو يقول بابتسامة جانبية ببرود
"تعلمين جيدا ما اريده ومنذ زمن ، وهذه الزيارة بمنزل خالكِ قد طالت كثيرا واكثر مما سمحتُ به ولم يعد يروقني هذا الوضع ابدا ، لذا اريد منكِ ان تريحيني وتعودي لعالمي ولمنزلنا وتوافقي على ان تكوني جزء مهم لا يتجزأ بحياتي الفارغة"
كانت تنظر له بعينين زرقاوين داكنتين واللتين كانتا تلتمعان بجمود مع ضوء القمر بدون ان تظهر اي تعبير مقروء عليها ، لتقول بعدها بجمود باهت وهي تنظر له بقوة
"وانت تعلم رأيي جيدا بطلبك المزعج ، وقد اخبرتك بها مئة مرة وهي بأني لن اكون لك يا مازن جلال ، فأنا قد مللت من استعباد الرجال لي !"
غامت ملامحه وهو يقول بغموض متصلب
"اعلم هذا وقد سمعتها منكِ عشرات المرات ، والذي كان يمنعني من الحصول عليكِ منذ سنوات هو عمي قيس والذي لم يستطع التخلي عنكِ بأعماله المشبوهة وانتِ تشكلين بالنسبة له كنز ثمين لا يعوض ، ولكن الوضع الآن قد اختلف تماما"
عقدت حاجبيها بحدة وهي تهمس بتشنج غاضب
"ماذا تقصد بأن الوضع قد اختلف ؟"
ردّ عليها بخفوت مستفز وهو يمسك كتفيها بيديه بقوة
"اقصد بأنه لم يعد هناك اي حواجز تمنعني عن الوصول لكِ وامتلاكك ، وتركي لكِ كل هذه الفترة بمنزل خالكِ كانت رحمة مني حتى تستعيدي طاقتك وعنفوانك والذي اعشقه ، ولكن آن الأوان لتسلمي اسلحتكِ لي وتضعي كبريائكِ جانبا لنكون معا كما كان مقدر لنا منذ سنوات !"
تنفست (ماسة) بهدوء وهي تتمتم بجفاء
"هل هذا تهديد موجه نحوي لأقبل بعرضك ؟"
ترك كتفيها بهدوء وهو ينزل بيديه على طول ذراعيها ببطء شديد قائلا بابتسامة جانبية ماكرة
"لا تري الموضوع بهذه الطريقة المهينة ، فأنا بالنهاية ابحثُ عن مصلحتكِ والتي ستكون معي ، فنحن الانسب لبعضنا والمتساويين بكل شيء وكل الدلائل تثبت مدى تقاربنا وتشابهنا ، لذا وافقي على قدركِ قبل ان ينقلب القدر عليكِ وتحدث امور نحن بغنى عنها"
نفضت ذراعيها بعيدا عن يديه العابثتين وهو يرفع كفيه عاليا لرأسه بابتسامة مستفزة ، بينما استدارت (ماسة) بنصف جسدها وهي تقول بحزم جاف
"اعطني مهلة لأفكر بالأمر ، ولا تحاول استعجالي"
حرك رأسه ببرود وهو يهمس بابتسامة جانبية بمغزى
"لا بأس ، ولكن تذكري بأن المهلة لن تأخذ اكثر من يومين ، فقد وصل عندي الصبر لأقصاه يا دمية قيس ، ولن تتوقعي ماذا سيحدث عندما ينتهي صبري عليكِ !"
تجاهلته (ماسة) وهي تنظر بعيدا عنه بشرود واجم ، بينما تجاوزها بالسير بعيدا بدون ان ينسى القول ببرود وهو يربت على كتفها بخفة
"وداعا يا دمية قيس والتي ستصبح عن قريب دمية مازن"
نظرت له بغيظ مشتعل وهو يتابع سيره بكسل بعيدا عن فناء المنزل ، لتخفض بعدها نظرها للأسفل بضعف وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها ببرودة نخرت عظامها والهواء البارد يضرب من حولها بدون اي رحمة او رأفة وعبارة واحدة تتكرر بعقلها منذ ان شبت عن الطوق وتعايشت معها
(لكل شيء ثمن علينا دفعه وبأضعاف ذلك الشيء)

نهاية الفصل......

بحر من دموع Where stories live. Discover now