الفصل الثامن والأربعون

68 5 0
                                    

كانت تكتب الكلمات بتزامن وبأسطر متتالية بدون ان تفهم معناها بقدر ما تريد انهائها وكأن النقطة تأبى الظهور بين حشد الكلمات المتتابعة بتناسق شديد ، او هي التي اصبحت لا ترى شيء امامها من ثقل العبء الموجود بقلبها منع عنها كل المشاعر الحسية وعطل عليها كل الانظمة بعقلها الآلي حتى تحولت لجهاز ميكانيكي يعمل على الطاقة ، وإذا نفذت هذه الطاقة الحركية منها فكل الاجهزة عندها سوف تتوقف عن الانتاج ولن يبقى بها شيء صالح للعمل وستكون نهايتها الحتمية وكأنها روبوت انتهى شحن البطاريات به وانطفئ .
تغضنت تقاسيمها بقسوة ما ان افاقت على صوت الجالس امام مكتبها والذي اوقف الشرح الطويل منذ فترة بدون ان تحذو حذوه بالتوقف ، ليعيد بعدها النداء الصارم مرة تلو الاخرى والذي تغير بنبرة صوته العملية التي كان عليها من لحظات ، وما ان اعاد مرة عاشرة النداء حتى رفعت رأسها بدون عينيها وهي تهمس بخفوت منصاع
"نعم ، ماذا هناك ؟"
تنهد بجمود وهو يحدق بها ملياً لبرهة قبل ان يقول بهدوء حازم
"بماذا انتِ شاردة ؟ هذه المرة الخامسة التي تشردين بها بمنتصف الشرح ! هل هناك ما يضايقك او يشغل تفكيرك ؟ فلن نستطيع الاستمرار بالشرح إذا لم تكوني بكامل تركيزك"
حركت رأسها بهدوء وهي تتلاعب بالقلم بين اصابعها النحيلة هامسة بخفوت متزن
"لا شيء مهم ، الحقيقة لم يعد هناك شيء يهم"
عقد حاجبيه بوجوم وهو يريح مرفقه فوق حافة المكتب ما يزال يتأملها عن كثب وكأنه يستهوي كسر اقفال صندوقها الاسود ، ليعود بعدها بالتمعن بوجهها ما ان همست بصوت مشتد وهي تخفض اهدابها على عينيها
"انا بخير نستطيع الاستمرار بالتدريب من حيث توقفنا ، ولن ندع مثل هذا العائق يمنعنا عن العمل"
تنفس (إياد) بهدوء وهو يقول بجدية حازمة
"ماسة انتِ......"
توقف عن الكلام بصدمة ما ان لمح القطرة التي سالت على وجنتها وسقطت فورا على الورقة بدون انتظار وكأنها كابدت العناء بذرفها ، ليرفع نظره لوجهها الذي شحب وسحبت الدماء منه بحالة مزرية وهو يراقب اتساع العينان الزرقاء المحدقة بالدمعة المستقرة على سطح الورقة وكأنها اول دمعة تسقط بحياتها او منذ حدوث ذلك الشرخ الجديد ، بينما كانت (ماسة) تحدق بتلك الدمعة التي هبطت منها بشكل مختلف وهي لا تصدق بأنها بكت بالفعل ! وليس بكائها هو ما صدمها بل السبب الذي دفعها للبكاء هو ما كسرها ! فهي تبكي عادةً من الألم ، من الوجع ، من الانكسار ، من الخوف ، من الموت ، ولكن من الحب ! فهذه لم يسبق لها ان حدثت معها !
طرفت بعينيها بلسعة خاطفة ما ان سمعت الصوت الرجولي البارد
"انتِ تبكين !"
غرزت اسنانها بطرف شفتيها تمنع خفقات قلبها من الوصول لباقي اطراف جسدها ، وهي ترفع يدها وتمسح اسفل عينيها ببعض القسوة قبل ان تخفضها وتمحي الدمعة السائلة من فوق الورقة برفق كي لا تنزع سطح الورقة .
تنفست بنشيج مجهد وهي تشيح بوجهها جانبا وتضغط بأناملها على صدغها بألم ، لتهمس بعدها بخفوت مضطرب تلاعب بوتيرة انفاسها
"اعتذر منك ، يبدو بأن هناك شيء قد دخل بعيني"
غامت ملامحه وهو يخفض مرفقه عن المكتب قبل ان يدير عينيه بعيدا قائلا بغموض
"هل الامر يستحق ؟ هل الخيانة مؤلمة لهذه الدرجة ؟ هل تشعرين برغبة بالبكاء فقط لكي تداوي الجرح الغائر بقلبك ؟"
نظرت له بسرعة باهتزاز سكن بحدقتيها البحريتين بضياع وهي تهمس بعبوس طفيف
"كيف عرفت ؟"
نظر لها بهدوء وهو يقول بحاجب واحد باستهانة
"التلفاز"
زمت زاوية شفتيها بعبوس وهي ترفع قبضتها لتحك جبينها بأصابعها قبل ان تهمس بسخرية تهزئ نفسها
"اجل صحيح كيف نسيت ؟ يا لغبائي كيف لم افكر بهذا ؟ كان عليّ توقع هذا بما ان مصدر الخبر انتشر بكل قنوات البث العالمية ! اللعنة على عالم المشاهير والاثرياء وطريقتهم بحصد النجومية والشهرة لهم !"
كان (إياد) ينصت لكلماتها الغاضبة ترفقها بحركات اصابعها التي ازدادت توترا عن السابق وكأنها تنفعل مع كلامها وتنجرف برسم شخصيتها بكل جوارحها ، ولكنها الآن بعيدة كل البعد عن الفتاة الواثقة المثابرة التي عرفها بظرف ايام قضاها بأبداء الإعجاب بشخصيتها وطبيعة تفكيرها المبهرة حتى بات يتوقع منها الافضل دائما ، وما حدث اليوم هو عكس شخصيتها مئة درجة وكأنها عادت للوراء مئة خطوة وبات يرى فتاة مراهقة غبية كل شيء يستطيع التأثير بها وابطاء بمهمة استيعاب عقلها وكأنه فارغ تماما مثل قلب صاحبته ، وهو الذي اجزم بأن لا نقطة ضعف تؤثر بها او تهزمها ، ليكتشف نقطة ضعفها الوحيدة وهي الوقوع بالحب الذي يحول عقلها بمستوى عقل طفلة بالابتدائية وقلبها بمستوى قلب مراهقة بائسة احبت لأول مرة بحياتها !
زفر انفاسه باتزان وهو يكتف ذراعيه قائلا بجدية بدون ان يفارق النظر لجانب وجهها
"هل الامر بكل هذا السوء ؟ ما لذي يدور بينكما بالضبط ؟ وهل انتما ما تزالان مرتبطان ام منفصلان ؟"
ردت عليه بجواب واحد ببرود جليدي
"هذا ليس من شأنك"
عقد حاجبيه بجمود وهو يعود للكلام بجدية اكبر بدون اي تراجع
"يمكنني ان افهم سبب حزنك وعدم السيطرة على شعور الخيبة بداخلك ، ولكن ان توقفي حياتك ببساطة عند اول خيانة تصادفك ، فهذا ما لا اتوقعه منكِ ويناقض نفسكِ......"
قاطعته (ماسة) باندفاع وهي تلتفت نحوه بملامح حادة
"لقد قلت لك هذا ليس من شأنك"
تنفست بثورة اجتاحت خفقات صدرها من تحت قميصها الابيض العملي الذي يعلو ويهبط بتناغم ، لتخفض بعدها رأسها بتعب استنزف نفسها وهي تهمس بانضباط بقدر ما تستطيع
"انا اعتذر على عصبيتي ، ولكني لا احب ان يتدخل احد بخصوصياتي ويحشر نفسه بمسائلي الشخصية ، لذا اعذرني على وقاحتي الخارجة عن إرادتي"
تلبدت ملامحه بدون ان يتأثر بانفلات اعصابها الذي يبدو كذلك جزء من نقطة ضعفها عندما تفقد المنطق بحياتها وتصبح قليلة الحيلة ، ليتجول بعدها بنظره من حولها وهو يقول بابتسامة هادئة
"لا بأس بارتكاب الاخطاء إذا كنتِ سوف تعتذرين عليها بكل مرة ، وعلاوة على ذلك لم اكن احاول التدخل بخصوصياتك بل كنت احاول المساندة والدعم بهدف اعادتك لوعيك وتركيزك ، فلا احب رؤية موظفتي النبيهة والجريئة بهذه الحال والوضع المؤسف ولا احب البقاء ساكنا ومراقبة انهيارك بصمت !"
ضيقت حدقتيها الزرقاوين وهي تستحضر هالة القسوة من حولها بثواني لتقول بعدها باستهجان بائس
"ألا تلاحظ بأنك قد اسهبت كثيرا بالتكلم عن حياتي حتى فقدنا الهدف الرئيسي من هذا التدريب ؟ وانا لا احب ان تدخل مسائلي الشخصية بأمور العمل وتصبح موضوع نتناقش فيه ونعطي آرائنا به ، لذا رجاءً اترك حياتي جانبا وركز فقط على محور العمل الذي وجدت به"
حدق بها للحظات طويلة قبل ان يرفع رأسه عاليا قائلا بابتسامة جانبية ارتسمت على محياه
"يبدو بأنكِ بدأتِ تعودين لنفسك الحقيقية"
ارتفع حاجبيها ببهوت لوهلة قبل ان تخفض نظرها للقلم بين اصابعها وهي تهمس بخفوت منهك
"اعتقد بأنني لن استطيع اكمال هذا التدريب لليوم ، فكما قلت لن نستطيع الاستمرار إذا لم اكن بكامل تركيزي وقوتي الذهنية ، لذا من الافضل ان نتغاضى عن هذا اليوم ونعوضها بوقت آخر"
اخفض رأسه بهدوء وهو ينهض عن الكرسي قائلا باستسلام
"وانا ارى ذلك ايضا"
رفعت عيناها الواسعة وهي تتابع الواقف امامها والذي استدار مقابلا لها تماما ، لينحني بعدها على حافة المكتب بلحظة وهو يسند يديه فوق سطحه قائلا بقوة
"ابذلي قصارى جهدكِ يا ماسة ، ولا تكترثِ للعواقب التي تقف امامك ، فأهم شيء عند الانسان هو الحفاظ على احترامه لنفسه"
ادارت مقلتيها الزرقاوين وهي تطوف بسحابة حزينة اعتلت سماء عالمها ، ليبتعد بعدها عن المكتب وهو يسير بخطوات متزنة خارج المكتب بدون ان ينتظر تعليقها التالي ، لتهمس بعد ان اختفى وجوده من المكتب بصوت ميت
"لقد فقدت احترامي لنفسي منذ سنوات ، ماذا سيفيد الحفاظ عليه الآن ؟"
وضعت القلم جانبا وهي تضم قبضتيها معا بمنتصف الورقة تشدد على اصابعها باستماته ، لتخفض بعدها رأسها وهي تسند جبهتها العريضة فوق قبضتيها بسكون ، لتسدل بلحظة اهدابها على عيناها التي بدأت تتدفق منها الدموع بسخاء مثل مياه البحر المالح ، وهي تندب لعنة الحب التي قهرتها واوصلتها لكل هذا التزعزع والانهيار مرتدية رداء الضعف ومتنكرة بقناع البؤس والمرار ، وهي التي لم تبكي هكذا منذ سنوات على مثل هذه المشاعر الحية التي لم تعترف بها بقاموسها الإلزامي ولم تجربها ، لتكون عليها حياة مثلما هي موت ودواء مثلما هي داء واكتمال مثلما هي انصاف ، وهذا يعني بأنه ليس هناك شيء كامل بالحياة وستبقى تعاني من ذلك النقص القابع بقلبها للأبد .
كان نشيج بكائها يتزايد تدريجيا وكأنها تفتح فوهة البركان الخامد وتطلق سراحه ، وهي تصنف بظاهرة جديدة سمحت لنفسها بالبكاء على شيء مختلف عن كل تلك الاسباب المحدودة التي تدفعها للبكاء والتي تكون نادرة الحدوث وخارج نطاق قلبها الجليدي ! حتى عادت نفس الطفلة البائسة التي تبكي بزاوية المحاكمة التي وضعها بها الجميع وألصقوها بكل الاتهامات والجرائم بدون النظر للوسيلة او المسببات لذلك ، لأن كل شيء عندهم سواء وليس هناك عدل وإنصاف بهذا العالم الحقير سوى عند الخالق ، هذا ما آمنت به وصدقته...
___________________________
كانت تنزل من سلم الطوارئ وهي تتجنب الخروج من الباب الرئيسي للشركة بعد ان لمحته ينتظرها هناك ، وهي ليست بمزاج جيد للقاء احد او الحديث مع احد بهذه الحالة المزرية التي تكاد ترتكب جريمة ، وما ان وصلت الجزء الاخير من السلم وهي تدور حول الرواق الصغير حتى توقفت بتجمد وهي تلمح الواقف بنهاية السلم ينتظرها عند الباب تماما وكأنه يترصد لها ، لتتراجع بعدها بخطواتها ببطء وهي تهمس من بين اسنانها بضيق شرس وتنطلق هاربة
"تبا لك"
تحرك بسرعة وهو يصعد السلالم ما ان هربت من امامه وهو يتخطى كل درجتين معا بلمح البصر ، ليصل لها بلحظات وهو يمسك بذراعها ويوقفها بمنتصف السلالم حتى كادت تتعرقل للخلف لولا تطويق ذراعه حول خصرها قربت جانب جسدها ورأسها منه .
تنفست بارتجاف ملتاع وصدرها ما يزال يتخبط من سرعة الاحداث التي كادت تقضي على حياتها ، ليدير بعدها جسدها امامه بدون ان يتخلى عن خصرها المستدير وهو يهمس بهدوء عميق
"لن اسمح لكِ بحرية السقوط حتى لو اردتِ ذلك"
عضت على طرف شفتيها بغيظ بدون ان تتكلم بشيء سوى زفير اطلقته من بين اسنانها المطبقة ، لتفيق بعدها على تحركه وهو يسحبها من خصرها التي لم تطلق سراحها صاعدا بها الدرجات القليلة حتى اسندها بالنهاية بجدار الرواق الصغير الفاصل بين السلالم .
سحب ذراعه من حولها وهو يتكأ بيده بجانب وجهها ويدنو منه قائلا بابتسامة جادة زينت طرف شفتيه
"ألا تجيدين بحياتك سوى الهروب دائما ؟ أليس المواجهة افضل بديل لديكِ ؟"
اشاحت بوجهها سنتمترات قليلة وهي تشدد على قبضتيها هامسة بخفوت قاتم تحاول محاربة المشاعر التي تختلج بروحها
"انا افلح بالهروب دائما عندما اكون المخطئة لكي اتجنب محاكمة نفسي ، ولكن عندما تكون انت المخطئ فليس امامي خيار سوى الهروب والاختباء من قلبي لكي لا اتعرض لأشياء تفوق مقدرتي على المواجهة"
عقد حاجبيه بجمود وهو يقول بعبوس صارم
"لماذا لا تجيبين على هاتفك ؟ ألم يوجد الهاتف للرد على المكالمات الواردة ؟"
ردت عليه بخفوت جليدي
"لقد تركت هاتفي بالمنزل"
ساد الصمت بينهما بسحب ضبابية كاتمة للمشاعر وللأصوات ، قبل ان يقطعها الذي امسك بذقنها وهو يصوب وجهها نحوه رغما عنها حتى اضطرت للنظر له بعينين مموجتين بزرقة شديدة العمق والسواد ، ليلفح وجهها بأنفاس ساخنة وهو يهمس بانفعال مكتوم واصبعه يتحسس طرف عينها
"هل كنتِ تبكين ؟"
اضطربت انفاسها وهي تخفض نصف اهدابها فوق عينيها تخفي ذاك البريق الذي ما يزال يسكن سواحل عينيها بعد ان سكبت دموع لم تذرفها بهذا القدر من قبل ، شددت اكثر على قبضتيها حتى آلمت مفاصلهما وهي تهمس بجموح جمدت الدماء والنبض بعروقها
"ولماذا قد ابكي على مثل هذه المواقف التافهة ؟ فأنا لم اكن احلم او انتظر اشياء مستحيلة من جنس الرجال الذي اكثر ما يجيده هو قول الهراء والخيانة ! وايضا كيف تظن بأن هذه الفتاة التي لم تبكي على وفاة زوج والدتها حتى تبكي على خيانتك ؟ ايها الحقير الخائن !"
غرست اسنانها بطرف شفتيها ما ان احاط فكها بأصابع يده القوية يرفع رأسها اكثر واكثر بحرب مع إرادتها ، وما هي ألا لحظات حتى شعرت بملمس جبينه على جبينها برقة وهو يقول بخفوت جاد تستطيع استشعار نعومة كلامه على بشرتها
"ليس هناك داعي للكذب على نفسكِ وتمثيل القوة امامي ، فأنا استطيع الشعور بحزنك وبضعفك بدون البوح به ، وحتى بانكسارك وجرحك بدون رؤيته ، وعندما تنهارين سوف اكون اول شخص يتلقاكِ بأحضانه ويمسح عنكِ ، أليس هذا ما كنت افعله طول تلك الفترة التي جمعتنا سويا ؟"
ارتسمت ابتسامة ساخرة على محياها وهي ما تزال تحجب عينيها بجفنيها هامسة بخفوت محمل بكل المرارة والكراهية
"يبدو بأن مواعدتك للفتيات بحياتك علمتك الكثير من الاساليب بالتعامل مع الفتيات المكسورات بطريق إيقاعهن بحبك ، الآن عرفت بأنك اكبر زير نساء عرفته بحياتي من يعبث ويتلاعب بقلوب العذراوات بمنتهى السهولة والانتهازية ، انت اسوء رجل تعرفت عليه بحياتي !"
ارتجفت بمكانها اكثر ما ان قسى بضغط جبينه على جبينها حتى التصقت مؤخرة رأسها بالجدار خلفها بتثبيت اقوى ، ليقول بعدها بنفس الهدوء الجاد وكأنه يجاري غضبها بسلاسة متمكنة
"لا انكر بأني قد تعلمت الكثير من مواعدة الفتيات بحياتي ، ولكن مواعدتك انتِ تعلمت منها اشياء اكبر بكثير من مجرد مواعدة مزيفة كانت الحب الاجمل على الإطلاق"
فتحت عينيها على اتساعهما وكأنها تلقت الضربة المباغتة التي هزت خلجات قلبها الغارق بأمواج حبه للحظة ، وها هي تخدع من جديد امام سحر كلماته وتعود لحب المراهقة الذي اهلك كيانها وانعش نبضات قلبها الخائن ، لتقوس شفتيها بعبوس محتد وهي تهمس بخفوت ضاري وكأنها تطلق مرساتها بعمق المحيط
"لا اصدق بأنك تملك كل هذه القدرة على الخداع والخيانة ! انا اكرهك يا شادي الفكهاني ، اكرهك اكثر من اي شيء آخر كرهته بحياتي ، اكرهك اكثر من زوج والدتي الذي اذاقني العذاب والويل ، اكرهك اكثر من كل من ساهم بتدمير حياتي ، اكرهك اكثر من والدك المتجبر المستبد ، اكرهك لدرجة تجعلني ارغب بارتكاب جريمة بك !"
اهتزت مقلتيها الزرقاوين بارتجاف ما ان ترك فكها واحاط جانب وجهها برقة هامسا بخفوت اجش حارق
"لا بأس بذلك فأنا موافق على ان ترتكبي الجرائم بي إذا كانت ستمنعك من ارتكاب الجرائم بنفسكِ وتعذيبي على حسابها"
ابتلعت ريقها ببطء شديد وهي تزيح نظراتها جانبا هامسة بخفوت مشتد مرير
"ماذا تعرف انت عن حياتي وكم الجرائم التي ارتكبتها بنفسي ؟"
تلبدت ملامحه بوجوم حتى تحولت انفاسه باردة ببرود الجليدي وكأنها لعبت بوتر حساس بقلبه ، لتنتفض بارتعاد ما ان اخفض يده بلمح البصر ليقيد رسغها بأصابعه الطويلة المحكمة ، وما ان رفع يدها امام نظره وهو يكشف كم قميصها المطرز بالفصوص حتى قال بهدوء واصبعه الإبهام يتتبع الخط الوهمي على رسغها بندبة قديمة
"اعرف اكثر مما تتصورين"
شهقت بوجل وهي تنزع يدها بقوة وتحتضنها بصدرها حتى التصقت بالجدار خلفها وكأنها ضربت بأعماق بحرها الاسود ، لتهمس من فورها بتوجس وهي تقيد رسغها بيدها الاخرى بارتجاف واضح
"ما لذي تفعله ؟ ماذا تعرف عني ؟......."
شهقت مجددا بخوف مختلف ما ان حاصرها بزاوية الجدار وهو يكبل خصرها بذراعه ويقتنص شفتيها بقبلته القاسية التي لم تعرف بقسوتها من قبل وكأنها تمزج الخوف والعذاب واللهفة معا ، لتتشبث يديها بسترته بكل قوة وهي تحاول منع نفسها من الانجراف مع التيار العالي وكأنها موجة تسحبها للأعماق ، وما ان رفعت رأسها إنشات بسيطة وما يسمح لها جهدها الضئيل حتى هبطت بكل قوة بنطح جبهته فكت الاتصال بينهما بلحظة وابعدتهما عن بعضهما .
استقام (شادي) بمكانه وهو يمسد على جبينه بألم الذي سيترك عليه علامة حمراء بتلك الضربة القوية ، ليقول بعدها بضحكة صغيرة وهو يراقب التي تواجه نفس حالته والعلامة ظهرت بالفعل على جبينها
"يا لجنونكِ ! كم اعشق مشاكساتك وطريقتك الخاصة بإثارة زوجك"
تمتمت بشتيمة غير مسموعة وهي تبعد اصابعها عن جبينها وتغرسهم بخصلات غرتها بعنف حتى بعثرتها على مكان الندبة الحمراء ، لتخفض رأسها للأسفل بتعب وصدر قميصها الابيض ما يزال يصارع بموجة جنون لحظاتها السابقة حتى كادت تقطع ازرارها الفضية ، لتقول بعدها بلهاث طفيف وهي تنشج بمرارة واضحة
"توقف عن فعلها ! توقف عن تعليق قلبي بكل هذا السراب ! توقف عن خيانته بهذه القسوة ، ألم تكتفي من كل هذا اللعب والخداع ؟ انا قد تحملت وحاربت الكثير من التناقضات والمستحيلات بعلاقتنا ولكن هذا لا يعني ان استمر بالمحاربة للأبد"
تنهد بهدوء وهو يقول بخفوت جامح
"ألا تثقين بمقدار حبي نحوك ؟ ألم تكفيكِ كل تلك الاثباتات التي قدمتها لكِ ؟"
رفعت رأسها بقوة وهي تنزع يدها عن غرتها التي حفت حاجبيها المستقيمين بتوازي ، لتقول بعدها وهي تشير بأصبعها السبابة نحوه بقوة
"إذاً ما هو تفسيرك لما حدث وبث بقنوات التلفاز والاخبار ؟ هل ما سمعته اذني سيكون خاطئ وانت تنطق بذلك الكلام على الهواء ؟ هل ما رأته عينيّ كاذب وانت تظهر بشاشة التلفاز بوضوح ؟ هيا حاول ان تنكر كل ما شاهده العالم وليس انا فقط"
زفر انفاسه بضيق وهو يلوح بذراعه جانبا قائلا باستنكار حاد
"وهل تصدقين كل ما يقال ويرى بالتلفاز ؟ ألا تصدقين زوجك الواقف امامك وليس خلف الشاشات والذي اراكِ فنون بالحب وبكل المواقف التي تثبت صدق كلامي ؟!"
ضربت ذراعيها على وركيها وهي تقول بانفعال حاقد فقدت صوابها
"كيف تريد مني ان امحي كلامك الذي تصرح به خيانتك لي مع تلك الفاجرة ؟ وحتى لو كان كلام كاذب المهم بأنك خنتني معها وعملت لحسابها ! كيف سوف امحي كل هذا من قلبي واقسو عليه ؟ كيف سأتحمل خيانة تلو الاخرى بدون ان يحرك بي ساكن ؟ لا تحملني هذا العبء يا شادي ، لا تحملني فوق طاقتي الطبيعية فقد تحملت كثيرا فيما سبق"
تقدم منها خطوتين واسعتين وهو يثبت يده بجانب رأسها قبل ان يقول بهدوء شديد يحمل سعير بداخله
"انا اعتذر يا ماسة"
نظرت له بسرعة بعينين بارقتين بقوة اخذت منها لحظات قبل ان تهمس باستياء حزين
"ما تزال تستخدم الاعتذار وسيلة للصفح ! ألم اخبرك من قبل بأن اعتذارك لن يفيدك بشيء ؟ توقف عن استخدام الاعتذار بكل موقف وبكل كارثة فهو لا يشفع لك افعالك بي ، الاعتذار لا يغير من الوضع ولا يداوي الجرح بل يزيد من تشاؤم حالي ومن صعوبة حياتي ، فهو لا يعني سوى رسالة واحدة ومفادها بأن هذا الوضع سيستمر معي للأبد ولن تتوقف عن قتلي بسلاح مختلف بكل مرة"
ابتعد عنها وهو يخفض يده من جانبها ما ان وجهت له صفعة غير مباشرة ، ليشيح بوجهه جانبا وهو يقول بحزم جاد بعد ان تقمص الهدوء
"إياكِ ان تسيئي الفهم يا ماسة ، فكل ما يحدث برمته خاطئ ، لا تفعلي كما حدث من قبل مع قصة ميرا ، لا تفعليها بنا مجددا وتعذبي كلينا بلا فائدة ، فقط من اجل غايتك بالانتقام من نفسك ومني....."
قاطعته بسرعة وهي تضحك بعصبية ساخرة وكأنها جنت
"من قال لك بأن هذا هو همي الوحيد ؟ انا لا يهمني كل ما تفعله انت وتلك الشقراء الفاجرة ، او بأني قد افكر بقتل نفسي من اجلكما ! وكيف تقارن قصة ميرا بهذه القصة التي انتشرت بكل بقاع الارض واراقت كرامتي واحترامي بأراضي البلد حتى اصبح كل من يسوى ومن لا يسوى يتكلم عني كما يحلو له ؟ انا الذي دمرني اكثر من اي شيء ليس خيانتك لي ولا ثقتي بحبك...بل اعطاء تلك الفاجرة الفرصة بقهري وهزيمتي وسرقتك مني بكل سهولة ويسر وكأنه لا شيء يربط بيننا وكأنك لا تنتمي لي وحدي ! ما هو الشيء الذي اعطتك إياه جعلتك تجاري مخططاتها الحقيرة وتربحها هدفها وطموحها ؟ هل ما تملكه يستطيع ان يشتريك ويوقفك بصفها بحربها عليّ ؟ هل قيمتها اعلى مني بحياتك ؟"
نظر لها بسرعة بعينين سوداوين تقدحان ناراً اخافتها وبلعت لسانها وهو يجمدها بمكانها ، ليرسم بعدها ابتسامة حادة على محياه وهو يقول بهجوم قاسي
"حمقاء يا ماسة ! حمقاء بالفطرة ! هل هذا ما يشغل بالك هزيمتها بحربك ؟ انتِ لم تتغيري عن الفتاة الانانية التي لا تفكر سوى بمصلحة نفسها وبناء مجدها وطريقها على حساب الآخرين !"
ردت عليه من فورها وهي تضرب قبضتها على صدرها باتهام موجع
"اجل انا لا افكر سوى بنفسي ، افكر فقط بمصلحة نفسي ، انا انانية وجشعة ومتملكة وقاسية ، ولكن ما لذي تغير بالأمر يا شادي ؟ ألم اكن هكذا من قبل وتقبلتني بكل مساوئي وعيوبي ؟ لماذا تتذمر وتشتكي من حقيقتي بعد ان تقبلتها ؟ لماذا تنقلب عليّ الآن ؟ ماذا فعلت لك لتكرهني وتقف ضدي بهذه الصورة ؟"
تجمدت ملامحه بتصلب وهو ينحني منها ويحتضن وجهها بين يديه برفق قبل ان يقول بهدوء عميق
"انا لا اكرهك ولا اقف ضدك ، فقط احاول ان اجعلك تفهميني بدون انحياز لأي طرف ، كنت اسعى لأخبارك بكل الحقيقة واشرح موقفي امامك ، ولكنني اعلم الآن بأنها ستكون مضيعة للوقت لا اكثر وستعود علينا بالأذى معا ، لذا كل ما لدينا هو اعطاء انفسنا الوقت اللازم ، واعدكِ بالوقت المناسب كل شيء سيتضح ولن يبقى شيء مستور للنهاية ، فقط ثقي بحبي ولا تتخاذلي ، وعديني بأنكِ لن تؤذي نفسكِ بطريق الانتقام من احد او تعذيب احد !"
اخفضت رأسها بصمت بعد ان اكتفت من هذه الحرب الكلامية والنفسية التي اخذت كامل قوتها ، ليقبل بعدها قمة رأسها بعمق لبرهة قبل ان ينسحب وهو يأخذ يديه معه وقلبها كذلك ، لتسمع بلحظات صوت قدميه تكملان نزول باقي الدرجات قبل ان يعم الصمت بالمكان بأكمله .
تحركت بعدها بخطوات بطيئة وهي تنزل عتبات السلم بهدوء فقدت ثباتها المعهود ، وما ان تعبت اكثر حتى استسلمت لدوارها وهي تجلس على آخر الدرجات بيأس .
رفعت يديها وهي تحك جبينها عند الندبة الحمراء صعودا لخصلات شعرها التي تخللت بها بعقدتها المرتخية ، وما هي ألا لحظات سكون حتى رفعت وجهها بشحوب وهي ترهف السمع للخطوات التي اتضحت اقترابها منها ، لتحيد بعينيها جانبا وهي تسمع الصوت المألوف يقول بهدوء متزن
"هل تحتاجين مساعدة بالوصول لمنزلك ؟ فأنا ذاهب للمنزل كذلك ويمكنني إيصالك بطريقي"
حركت رأسها بتشتت وهي تنهض واقفة على قدميها بثبات تحسد عليه ، لتدس بعدها خصلاتها الفوضوية خلف اذنها وهي تهمس بخفوت ميت
"لا شكرا ، يمكنني تدبر امري"
وبعد تلك الكلمات كانت تهبط آخر درجتين وهي تغادر من الباب الذي خرج منه الأول بدون صوت ، ليكمل الاخير نزول الدرجات وهو يغادر كذلك بنفس الطريق وفكرة واحدة تراوده استخدمها كشعار لها (من لا يعرفها لا يعاشرها ومن يعرفها يدمنها) .
_______________________________
وقفت امام المقهى وهي تشاهد الزائرين الدائمين من يأخذون من وقت استراحة العمل بالجلوس بمقهى قريب يقضون به اوقات فراغهم بشرب المشروبات او تناول الطعام او الدردشة مع زملائهم ، حتى اصبح يشتهر هذا المقهى بتلبية احتياجات الموظفين وقطاع العمل المنتشرين بهذه الانحاء ويرتادون نفس المكان .
غامت ملامحها بحنين الذكريات ما ان اقتحمت عقلها بمقاطع قصيرة عن ذلك الماضي الحالم الذي كان بدايته قصة اجمل من الخيال انتهت بكابوس اسوء من الواقع ، وقد كان هذا المكان جزء اساسي من عناصر القصة ونقطة البداية بتطور علاقتها وكأنه المسرح الذي ادت به دور الحكاية ، او بمعنى اصح الخدعة التي انطلت عليها ومهدت لها كدمية خشبية تحركها الخيوط بداخل حكاية كتبها لها وساقها لمصيره .
عقدت حاجبيها تطرد كل تلك الافكار السوداوية من رأسها وتركز فقط على الحاضر الموجودة به ، فلا وجود للماضي التعيس او المستقبل المجهول بل هو الحاضر الذي ستبدأ من الآن وصاعدا كتابته بنفسها .
دخلت للمقهى بقلب قوي وهي تتجول بنظرها بالمكان الذي يكثر به الزبائن بهذا الوقت المخصص باستراحة الموظفين قبل ان يرتجلوا للعودة لأعمالهم ، لتلتقط عيناها العسليتان سريعا صاحب الوجود الطاغي بالمكان وبقلبها وهو يجلس بزاوية بعيدة وينظر لها بتركيز مهلك لا يجيده سواه ، لتتمالك نفسها بثواني ما ان لاحظت بأنها اخذت وقتا طويلا بالوقوف بدون حراك حتى جذبت بعض الانظار لها وكأنها تستعرض نفسها بوسط الحشود ، لتلوح بعدها بكفها بحركة عفوية وهي تشق طريقها باتجاه طاولته بسرعة ثابتة تقطع كل تلك العيون وترحل من وسطهم .
كان (جواد) يراقب المكان بحاجبين معقودين بتركيز قبل ان يقع على صاحبة الاطلالة المشرقة وهي تنير وحدها بالمكان الذي تخطو به وكأن عالمها مختلف عن كل العوالم الاخرى....او قد يكون خيالها الواسع وغرقها بكل تلك القصص الوهمية هو الذي يضيف هذا السحر عليها ويميزها عن الباقيين !...كانت ترتدي فستان يصل حتى ركبتيها بلون برتقالي مشرق ومطبوع عليه صور ارباع فاكهة الليمون على صدره وتنورته وكأنها كأس عصير منعش...وتتدلى على حوافه الدائرية خيوط برتقالية معقودة كجديلة وعلى اكمامه كذلك والتي تصل نصف مرفقيها بخياطة فنية....بينما كان نصف شعرها معقود بذيل حصان صغير والباقي تركته حرا منسدل على ظهرها بلونه البني الفاتح يقارب لون ثوبها المنعش...وهو يشعر بها قد عادت الفتاة المبهجة المرحة التي عرفها منذ سنة بأول لقاء بينهما غيرت حياته بأكملها بطاقة شمسية مدته بحياة ومشاعر مختلفة وكأنه يتعلم العيش منها .
احتدت ملامحه بلمحة طفيفة ما ان لاحظ العيون التي جذبتها واصبحت تسترق النظر نحوها وهي على ما يبدو غير منتبهة ، فكيف يستطيع الجنس الآخر غض النظر عن كل ذلك الاشراق الذي ينضح منها بحيوية ونشاط وتفاؤل فقط بالنظر لها ؟ وهذا ما يثير سخطه وغضبه وكأنه يحلل لهم النظر لها ويملكون الحق بأخذ جزء من تلك الطاقة التي تخصها وحدها !
كانت تلوح له بيدها وهي تتقدم نحوه بسرعة مثل فراشة رقيقة ترقص بخطواتها على المسرح الذي تكاد لا تلامسه ، وما ان اصبحت امامه على الجهة الاخرى من الطاولة حتى قالت ببسمة لطيفة نبعت ببريق مقلتيها العسليتين
"هل تأخرت عليك ؟ لقد اخرني زحام السير قليلا"
ابتسم بالتواء طفيف وهو يقول بجدية متزنة يحاول احتواء كل تلك الطاقة التي تفجرت بها اليوم على وجه الخصوص
"كلا انا فقط وصلت مبكرا عن الموعد خوفا من التأخر بسبب بعد مسافتي عن هنا"
اومأت (صفاء) برأسها بتفهم وهي تهمس بخفوت عفوي
"اجل صحيح يبدو بأنك قد تكبدت العناء بالوصول"
ردّ عليها بهمس غير مسموع وهو يضيق حدقتيه بعذاب
"هذا لا يقارن بتحمل عناء رؤيتك"
تغضن جبينها بحيرة وهي تهمس بابتسامة مرتجفة
"ماذا قلت للتو ؟ لم اسمعك"
تقدم بجلوسه وهو يقبض على يديه فوق الطاولة قائلا بحزم
"اجلسي اولاً يا صفاء ، فأنتِ تلفتين النظر بوقوفك"
هزت رأسها بارتباك وهي تجلس على الكرسي المقابل هامسة برقة
"اجل اعتذر"
حدق بجمود بالعيون التي لا تزال تختلس النظر وهو يرميهم بنظرة صخرية سحبت كل النظرات عنهما بخوف ، ليعود بعدها بالنظر للجالسة امامه وهو يتأملها عن كثب قائلا بهدوء
"إذاً كيف حالكِ اليوم ؟"
رفعت رأسها بسرعة وهي تهمس بخفوت وجل
"ماذا سألت ؟"
عقد حاجبيه بتصلب وهو يقول بنبرة اقوى يشدد على احرفه وكأنهما يتعرفان لأول مرة
"لقد سألت كيف حالكِ ؟"
اومأت برأسها وهي تدس خصلاتها الناعمة خلف اذنها هامسة بخفوت
"اجل انا بخير الحمد الله"
ازداد انعقاد حاجبيه بارتياب وهو يقول بخفوت حاد
"تبدين اليوم مختلفة عن السابق ! هل هناك من جديد لا اعلم عنه ؟"
ارتفع حاجبيها بدهشة سرعان ما بدلتها ببريق السعادة وهي تقول بابتسامة متسعة
"كلا ليس هناك اي جديد ، ولكن من اي ناحية تقصد مختلفة ؟"
امسك ذقنه بيده وهو يقول بهدوء صريح بدون اي مواربة
"تبدين جميلة بشكل لا يطاق !"
اتسعت حدقتيها العسليتين بشموس مضيئة وهي تخفض وجهها بسرعة بوهج زهري طاف على محياها وهي تهمس بخجل واضح
"حقا ! لم اكن اعلم"
ارجع ظهره للخلف وهو يراقب توهج خديها باحمرار الخجل زادتها انتعاش وطاقة وكأنها تتلون بكل ألوان الحياة والفصول ، ليأخذ بعدها انفاس طويلة وهو يقول بخفوت مرتبك
"كيف حال الطفل ؟ اقصد كيف حال ابني ؟"
طافت ابتسامة حانية على محياها وهو تشعر ببهجة سؤاله عن ابنه وخصه بالكلام وهو يثبت وجوده الفعلي بحياتهما ، كيف كانت ستمنع عنها هذا الشعور الرائع وتخفي امره هكذا ؟ أليس من حقه ان يحتمي بظل والدين ويرعى ويتدلل بينهما ؟ هذه اقل حقوق الاطفال واكثرها قيمة .
قالت (صفاء) بعدها بابتسامة عذبة بسعادة
"ابنك بأفضل حال والحمد لله ، ولن يصيبه اي مكروه ما دمت احميه معي"
اومأ برأسه ببعض الاهتزاز وهو يمشط شعره بأصابعه للخلف قائلا بتساؤل يطرح اول ما يخطر بباله
"إذاً هو موجود بالفعل ! وما جنس المولود ؟ ينتابني الفضول حول جنسه !"
فغرت شفتيها الورديتين بذهول وهي تتحول لضحكة رقيقة هامسة من بينها بخفوت مرح
"هو ما يزال بالشهر الثالث ! ولن يعرف جنسه قبل الشهر الرابع او الخامس ، هل نسيت ذلك ؟"
اشاح بوجهه بإحراج وهو يخرج اصابعه من خصلاته قائلا بامتقاع
"اجل لقد نسيت ذلك ، اعتذر"
زمت شفتيها بصمت وهي تراقبه بعينين واسعتين كاشفتين للمشاعر مثل كتلتين ناريتين وكأنها ترى مخلوق عجيب امامها ، ليرمقها بحيرة عابسة وهو يقول بوجوم قاتم
"ماذا هناك ؟ لماذا تنظرين لي بهذه الطريقة الغريبة ؟"
اعادت ضبط اجهزتها الحسية وهي تخفض نظرها بسرعة هامسة بابتسامة شاردة
"كلا ليس الامر هكذا ، فقط تفاجأت من طريقة تعاملك معي ، فأنا لست معتادة على كلامك وتصرفاتك اللطيفة نحوي ، فهذه اول مرة تعتذر لي وتبدي تودد وألفة معي ، وهذا غريب نوعا ما !"
تجمدت ملامحه بتصلب وهو يقول بهدوء عميق
"حقا ! هل كنت كائن مخيف ومنفر لهذه الدرجة ؟ لم اكن اعلم بأنني بكل هذا السوء بنظرك"
حركت رأسها بالنفي بسرعة وهي تقول بابتسامة حزينة بمرارة
"غير صحيح ، هذه ليست نظرتي نحوك ، وايضا لقد كنت مصدر سعادة وعالم جميل بالنسبة لي ببداية تعارفنا ببعضنا ، لقد استمتعت بتلك الحكاية الخيالية التي نسجتها وبتلك اللحظات الحالمة بيننا بالرغم من انها لم تكن سوى تزييف وخطة بهدف النيل مني ، ولكني كنت سعيدة جدا بتصديقها وجعلها واقع بعالمي الذي تلاشى مثل السراب ، يا ليتني لم استيقظ من ذاك الحلم ابدا ، يا ليتني اعود لتلك الايام....."
تغضنت زوايا حدقتيه بجمود ما ان بترت كلماتها بغصة مريرة وهي تخفض رأسها اكثر بحزن وكأنها تنبش بالجرح القديم ، ليمسك بعدها بيديها فوق سطح الطاولة بعثت رجفة بمفاصلها وهو يقول بقوة مشاعره ما ان تلاقت النظرات بينهما
"اعتذر يا صفاء ، قد اكون اناني لأنني لم اعتذر منكِ من قبل ولم اعترف بخطأ اقترفته بحقك ، وقد لا يغير اعتذاري كل المجريات التي حدثت معنا بالماضي الخاص بنا ، ولكني مع ذلك سوف اعتذر منكِ بكل فرصة تسنح لي ، سوف اعتذر على كل اخطائي التي اقترفتها ، سوف اعتذر حتى تصفحي عني وتعودين لفتح قلبك لي من جديد ، سوف ابقى اعتذر حتى تملي وتقري باستسلامك ، سوف اعتذر حتى يرحمني قلبك الرقيق وتعودي لتمطري عليّ بحبك السخي ، سأنتظر حتى تفتحي لي باب المسامحة من جديد وتعطيني فرصة اخيرة لديكِ"
تنفست بارتجاف تخبط بنبضات قلبها حتى تكدست الدموع بمقلتيها العسليتين بحرارة ، لتبتلع بعدها غصتها بصعوبة وهي تهمس بابتسامة متكسرة خرجت من تحت الانقاض
"لا بأس بذلك يا جواد ، لا تفكر بالأمر كثيرا ، فقد فات اوان كل شيء ، ولم يعد هناك سبيل لإصلاح ما انكسر وللأبد ، ليس هناك طريقة لإعادة الشريط من البداية وتعديل ما كتب بالنص من جديد ، فقد حدث ما حدث وانتهى"
غيم الصمت من طرفه لبرهة قبل ان تسمع صوته وهو يقول بثقة كبيرة يشدد من ضم يديها الصغيرتين بكفيه الصلبتين
"قد لا استطيع تعديل ما جرى بالماضي والعودة له ، ولكني استطيع تغيير الحاضر وجعل المستقبل اجمل ، وعندها قد نستطيع البدء من جديد واضافة التعديلات بسيناريو حكايتنا ليكون بداية جديدة لنا ولطفلنا !"
حدقت به بعينين سابحتين بدموع حبيسة وهي تهمس باستيعاب مشوش
"لم افهم ! ماذا تنوي ان تفعل ؟"
تنفس بهدوء وهو يرفع يديها امامه يتأملهما بتدقيق ليقول بعدها بجدية وهو يتحسس نعومة بشرتها بإبهامه
"لقد قررت ان اعيد إقامة حفل زفاف لنا بما اننا لم نحظى بحفل زفاف سابق ، وسيكون حفل زفاف شامل جميع الضيوف والاقارب والكل مدعو للحفلة ، ويمكنكِ دعوة من تشائين وتحبين لهذه الحفلة التي تخصكِ انتِ وحدك ، يعني سوف تلعبين دور العروس مرة اخرى وتعيشي حلمك بالواقع ، ولن يكون هناك اي تزييف او كذب بهذه القصة فهي قصتنا نحن ومن سيكتبها هو نحن ! لذا هل انتِ موافقة على ان تكوني عروسي من جديد ؟"
انفرجت شفتيها الورديتين بذهول وكأنها تعيش حلم آخر راودها بمنامها ويقظتها ، وهي ترى حلم طفولتها القديم يعود لأحيائه من جديد بعد موته تحت الرماد وهو يقبع بزاوية بقلبها المكسور ، فهل هذا واقعي ؟
تقوست شفتيها بعبوس طفولي وهي تهمس بخوف قديم حتى تدلت دمعة يتيمة من رموشها
"لا اعلم ماذا اجيب ! انا خائفة من عيش الحلم مجددا والاصطدام بعدها بالواقع المرير ، خائفة من العيش بالأمل مجددا بعدها اكتشف بأنه قد زال ، خائفة من المحاولة ، ومن الفشل ، خائفة لدرجة لا استطيع بها اتخاذ القرار الذي يكون اقل اذى وضرر على قلبي !"
اخفض يديها على سطح الطاولة وهو يرفع يده ويمسح الدمعة بإبهامه قبل سقوطها من رموشها ، ليعود بعدها لاحتضان يديها باستكانة وهو يقول بابتسامة جانبية بجدية
"هل ما زلتي تحبينني"
عضت على طرف شفتيها لوهلة وهي تهمس من بينهما بلحظة بعذوبة مشاعرها مثل شلال هادر
"انا ما زلت احبك ! انا قد احببتك بدون ان ادرك ، لقد احببتك منذ كنت بالعاشرة من عمري انتظر من يركبني على حصانه الابيض ، احببتك منذ ان لقبتك بصفة فارس احلامي بعالمي الوهمي الذي نسجته بعقلي ، لقد احببت ذلك الرجل الذي كان يطاردني بأحلامي وخطواتي وعالمي وكأنه الظل الذي احتمي به والشجرة التي اجلس تحتها ، اجل لقد كنت حب حياتي الابدي بطفولتي ومراهقتي وشبابي ، بغض النظر عن الطريقة والهدف واسبابك ولكنني احببتك منذ ذاك الوقت ، ولن انكر ذلك بعد الآن ، انا احبك يا جواد مصعب ، احبك واريد العيش معك للأبد ، واخاف من المخاطرة ! اخاف من اليوم الذي تقتل به حبي لك !"
زفر انفاسه براحة وكأنه يحرر هموم بحجم الجبال انزاحت عن كاهله بلحظة بكلماتها التي تحيي المشاعر بقلبه القاسي وتداوي الجراح التي عفى عنها الزمن ، ليرفع بعدها يديها من جديد وهو يقبل ظاهر كل واحد منهما على حدى ويتعمق بقبلته التي اشعلت الشرايين تحت بشرتها ، وما ان رفع نظره نحوها بعيون رقت لها ونفضت القسوة عنها لأول مرة حتى قال بخفوت اجش يبث الحرارة والتأكيد بعظامها
"إذاً ثقي بحبكِ وتأكدي منه ، وكوني على يقين بأنني لن اخون هذا الحب وسوف اعيد احيائه بقدر ما استطيع ، فهو قد بات اكسير الحياة بالنسبة لي والشفاء لقلبي"
شدت خطوط شفتيها بارتجاف وهي تحرك رأسها بإيماءة صغيرة ، ليفلت بعدها يديها وهو يقرب الكرسي الثالث بينهما بجانبه قائلا بهدوء
"تعالي إلى هنا"
نهضت عن الكرسي بصمت وهي تغير مكانها للكرسي الملتصق بجانبه بامتثال ، وما ان استقرت جالسة عليه حتى اخذتها ذراعه وهو يدفن وجهها بكتفه العريض ويدها تتشبث بطرف سترته السوداء تلقائيا ، وهي تبكي من فرط سعادتها تخرج تعب الايام وسهر الليالي وخوف قلبها بلحظة واحدة كانت العوض لها ، بينما كان هو منشغل بتخبأتها بعيدا عن العيون المتلصصة والسارقة يحتفظ بها بداخل قلبه وبكنز اغلى من كل كنور العالم والذي تجاوز مجرد صفقة انتقام حتى بات دواء القلب والروح .
_______________________________
دخلت لغرفة الجناح الفخم بعد ركوب ساعات على متن الطائرة وهي توزع نظراتها بمكان سكنها المؤقت برحلة شهر العسل ، لتجر الحقيبة بسرعة وهي تتركها بجانب السرير قبل ان تنطلق نحو باب الشرفة وهي تفتحه من الواجهات الزجاجية ، لتسير بعدها حافية القدمين على ارض الشرفة وهي تشعر بحرارتها تلسع اطرافها وترجف قلبها بحماس عالي ، حتى وقفت امام الحاجز وهي تريح مرفقيها عليه وتتأمل جمال المحيط امامها الواضح من اطلالة الفندق شاهق الطول وكأنها تحلق طائر بالسحاب وتطوف سمكة بالمحيط الرحب ، ولم تشعر بكل ذلك الانطلاق والحرية منذ وقت طويل جدا ربما منذ سنواتها الخمس الاولى التي اجبرت بعدها على العيش بحبس مؤبد بعيد عن كل انواع الترفيه والحياة الانسانية .
اسدلت جفنيها على عينيها براحة وهي تستمتع بذلك الهدوء الذي يتخلل به صوت المحيط والرياح وهو يصل لها بوضوح ويدغدغ حاسة السمع بأذنيها ويتلاعب بخصلات شعرها القصيرة التي اصبحت تتلمس نعومة خديها كموسيقى راقية ، ولم يقطع كل ذلك الجمال الإلاهي سوى الصوت الرجولي خلفها وهو يريح يديه على كتفيها المنحنيين برقة
"هل بدأتِ بالتمرينات الروحية ؟ يبدو بأنكِ قد احببتِ المكان واندمجت بأجوائه بسرعة قياسية !"
فتحت نصف جفنيها وهي تومئ برأسها هامسة بخفوت رقيق وهي ما تزال تغوص بأعماق الجمال الرباني
"هذا المكان كلما عرفته اكثر تدمنه تدريجيا ، وقد كان مجرد حلم خلف الشاشات والصور والرسوم الكرتونية ولم اتصور ابدا ان يأتي اليوم الذي اراه بها حقيقة امامي !"
شدد على كتفيها اكثر وهو يدنو بقرب اذنها قائلا بها بخفوت متعاطف
"إذاً استمتعي بوقتكِ بقدر ما تستطيعين وبما تسمح لكِ قوتك وصحتك ، وخذي كل ما تريدينه وتحلمين به من هذه الرحلة ولا تبخلي على نفسكِ او على قلبكِ من كل هذا الجمال والابداع الخلقي"
رفرفت بعينيها لوهلة وهي تعيد خصلاتها لخلف اذنها بنعومة هامسة بخفوت ممتن
"اجل سأفعل ذلك ، شكرا لك على هذه الرحلة"
قرب شفتيه من اذنها وهو يهمس بخفوت باسم
"عليكِ شكر هذه الصدفة التي جعلتنا نحصل على هذه الرحلة المجانية بدون طلب او مقابل ، فهذه الصدف الغريبة من افعال القدر بنا تدخلنا بمتاهات شائكة ترينا لحظات تعيسة واخرى لحظات سعيدة ، علينا فقط الإيمان بأقدارنا وبأن الفرج قريب"
اومأت برأسها للأسفل وهي تحاول تجنب احتكاك شفتيه وانفاسه الساخنة بأذنها وهي تهمس بخفوت سعيد
"وانا اؤمن بقضاء الله وقدري ، وشكرا لك على منحي مثل هذه الفرصة ، فقد كان هذا حلمي اليتيم الخروج من مساحة غرفتي والسفر حول العالم"
تنفس بعمق شديد وهو يستمع لأنشودة صوتها الحزينة التي اضافت عليها نكهة السعادة مع نسائم البحر العليلة ، لترتجف بعدها بقلب مدوي غاص بداخلها ما ان احتضن كتفيها بذراعيه وهو يقربها من صدره قائلا بأذنها بهدوء اجش واثق
"اعدكِ ان امنحكِ وامهد لكِ كل فرص السعادة التي سوف تلون حياتنا من الآن وصاعدا ، وتأكدي بأنني سأحقق لكِ كل احلامكِ المستحيلة بالحياة واوسع لكِ عالمكِ المنغلق حتى تستطيعي التحليق به بكل حرية وبلا حدود ، ما رأيكِ بهذا الكلام يا عصفورة قلبي ؟"
مسحت خدها الساخن بظاهر يدها وهي تهمس بحياء مفرط وكأنها تسمع غزل من نوع آخر
"شكرا لك يا هشام ، هذا يسعدني"
قصف صدرها بنبضات صاخبة ما ان مس بشفتيه جانب خدها بنعومة وهو يهمس بخفوت ماكر يكاد يخرجها عن صوابها
"هل سوف تستمرين بالتشكرات الكلامية فقط ؟ أليس هناك افعال تكافئيني بها وتقدمينها كعربون محبة على مجهودي معكِ ؟"
اضطربت ملامحها باحمرار متوهج تشرب ببشرتها وهي تستل نفسها من تحت ذراعيه بلحظات حتى تحررت منه ، وما ان استدارت نحوه حتى رسمت ابتسامة طفيفة على محياها وهي تهمس بحماس تغير دفة الحوار
"هل نستطيع النزول للبحر ؟ فأنا متشوقة جدا لرؤيته عن قرب وتجربة ركوب زوارقه !"
استقام امامها وهو يبتسم بالتواء حاني لحماسها الطفولي الزائد عن حده ، ليحرك بعدها كتفيه باستسلام وهو يقول بهدوء جاد يجاري فكرتها
"حسنا لا بأس بذلك إذا كنتِ متحمسة هكذا ولا تريدين اخذ استراحة من رحلة الوصول ، ولكن علينا الاستحمام اولاً وتبديل ملابسنا بأخرى تناسب اجواء المكان"
اتسعت حدقتيها العسليتين بتوهج النجوم بوقت الظهيرة وهي تصفق بيديها قائلة بلهفة كبيرة
"إذاً سوف اسبقك بالاستحمام اولاً وتجهيز ثيابي ، ولن انتظر اكثر من اجل ألا تفوتنا المتعة وقبل وقت مغيب الشمس"
اتسعت ابتسامته بتغضن وهو يراقب التي انطلقت من امامه تدخل من الباب الزجاجي بلمح البصر ، ليقول بعدها من خلفها بصوت مرتفع
"لا تنسي وضع واقي الشمس بعد الاستحمام لكي لا يحترق وجهك"
انتظر ثواني قبل ان يصله الصوت بنفس الارتفاع
"حاضر"
حرك رأسه بابتسامة شاردة وهو يعود لمشاهدة السحب البيضاء المنتشرة بالسماء وهي تشعرك وكأنك طائر فوقها ، ليرسم بعدها ابتسامة هائمة فوق محياه وهو يتمتم بشوق غادر
"امامنا الكثير من المغامرات علينا خوضها بطريق الوصول لقلبك ، لذا كوني على اتم الاستعداد يا عروسة البحر"
_____________________________
كان الزورق الصغير يطوف بعرض البحر وهو يصنع دوامات تحلق من حولهما مثل لوحة فنية بديعة الجمال وبأفضل بقاع الارض والتي تسمى بجنة الطبيعة...وقد استطاعوا استثمار كل ذلك الجمال الإلاهي بأفضل الطرق والوسائل كالمشاريع المعمارية والخطط التنموية تتضمن بناء الفنادق والمطاعم من حولها وتسييج سواحلها بأكشاك الطعام والاكواخ بدون هدم اي من تلك الطبيعة الغنية او العبث بها....وهو افضل مكان ينصح به للراحة النفسية والبدنية ونقاهة للروح وطريقة للخروج من دائرة الحياة الروتينية الخانقة وترفيه جيد للنفس .
كانت يدها تعبث باللوحة الزرقاء الصافية لتخلق بعض الامواج الصغيرة بدون ان تفسد الصورة التي توضح ما يختبئ تحت البحر وكأنها طفلة تلعب بالماء....اتسعت ابتسامتها تدريجيا حتى شملت كامل ملامحها وهي تضحك لصورتها المنعكسة على سطح الماء ويدها تغوص بعذوبتها المنعشة التي تمزج الحرارة مع البرودة بأجواء ولا اروع...وكلما امتدت يدها اكثر كانت تشعر بترنح المركب الصغير يوشك على قذفها وهي تضحك بكل مرة يحدث ذلك وكأنه يهددها ان تتوقف عن اللعب بدون ان ترتعد .
بينما كان سائق الزورق يحرك المجدافين معا بتزامن وببطء شديد كي تستمتع تلك الطفلة بلحظاتها التي تركب برفقته ، وبذات الوقت يختلس النظر نحوها كل حين بدون ان يتركها لحالها المتهورة التي خرجت عنها طفلة شقية لا تعرف الهدوء او الركود ، بدون ان ينكر جمالها الخاص بعذوبة الماء وهي تتوسط لوحة الطبيعة وتثير رغبة بالراسم لرسمها داخل تلك اللوحة ، كانت ترتدي قميص ناعم طويل باللون الابيض الناصع ما عدا نصف صدره بلون الازرق وعند اطراف الاكمام كذلك ، وبنطال جينز ابيض واسع من الاعلى وضيق عند الكاحلين يناسب اجواء الصيف ويتخلل به نسائم البحر .
غزت ملامحه بسمة هادئة ما ان وصل لقبعة القش التي تحتل رأسها بشريطة حمراء تطوق قبتها والتي اصرت على ارتدائها بدون ان تأبه بسخريته لها وتشبيهها بالفزاعة بشكلها ، وكل هذا لكي تحمي نفسها من اشعة الشمس الحارقة التي تتحسس منها بشرتها الرقيقة والتي تأخذ بالاسمرار بسرعة ، ولكنها لا تعلم مدى سحرها بتلك القبعة الكبيرة التي تخفي اغلب خصلات شعرها وتظهر وجهها وحده مثل شمس ساطعة لا نراها سوى بأفلام الكرتون .
اعاد نظره للأمام ما ان اخذه تأملها ومراقبتها طويلا وهي تدهشه وتجذبه بأقل حركة مضحكة تخرج منها وتظهرها طفلة لم تتجاوز الخامسة من عمرها بعد ، ليتنفس بعدها بقوة يملئ رئتيه بالهواء المنعش حتى انتفخ صدره تحت قميصه الابيض المماثل لملابسها ، ليقول بعدها بلحظات وهو يخرج الهواء من جسده ببطء جاد
"ألم تكتفي من اللعب بالماء يا طفلة ؟ من يراكِ يجزم بأنكِ لم تري بحر بحياتك بأكملها !"
تبرمت شفتيها بعبوس بدون ان يفارق نظرها صورتها بالبحر وهي تهمس بتذمر
"لا تهمني سخريتك هذه ، ولن توقفني عن الاستمتاع بوقتي بفعل كل ما حظرت به نفسي ، وايضا اجل انا لم ارى بحر بحياتي بهذا القرب لذا من حقي ان اغتنم هذه الفرصة بما انها بين يديّ !"
كتم على ابتسامته بطرف اسنانه وهو يقول بهدوء صريح
"وانا ايضا لم اجرب النظر للبحر بهذا القرب ، ولكني مع ذلك لا اتصرف بطفولية وانبهار مثلكِ واظهر رغباتي الدفينة على العلن"
زمت شفتيها بعبوس اكبر وهو يزيد من إهانتها وقد اصبحت تشك ان يمر يوم عليه بدون ان يتفنن بإهانتها بطريقته الساخرة الغير مباشرة ، لتضم بعدها مرفقيها فوق طرف الزورق وهي تقول بخفوت ساخر
"اشك بأن يكون لديك جانب طفولي بحياتك ! فيبدو بأنك قد ولدت هكذا صارم ومتزمت بالفطرة ، وانا واثقة بأن والديك كانا فخورين جدا بك كمثال للطفل المثالي الذي لا يخطئ ابدا"
التفت برأسه نحوها وهو يقول بحاجب واحد باستخفاف
"مَن اخبركِ بذلك ؟ لم تعيشي طفولتي حتى تعرفي جوانب شخصيتي !"
ردت عليه ببساطة وهي تغوص اصبعها بصورتها المموجة على البحر
"بل اكاد اجزم بأن هذه هي شخصيتك منذ المهد ، فأنا منذ رأيتك اول مرة لم اعرفك سوى استاذ صارم متزمت ، ليس لديك اقوال بل كل شيء افعال ، لقد كنت تخيف اغلب طلاب الجامعة فقط بحضورك بالمكان ، ومن جانب آخر كنت الرجل المثالي بكل شيء والخالي تماما من العيوب حتى جذبت إعجاب الجنس الناعم لك"
كان يحدق بها بصمت وهو يسمع رأيها به بكل تلك الصراحة لأول مرة وكأنه يتعرف على نفسه من خلالها ، ليقول بعدها بهدوء يجاري سياق الحديث وهو ينظر لقبعة القش وكأنه يراها منها
"هل هذا هو رأيكِ بشخصيتي ؟ لقد ظننت بأن الرجل المثالي هو احلام فتيات العصر ! ما لذي لا يعجبكِ بجوانب شخصيتي ؟"
رفعت رأسها بتفكير لوهلة وهي تضرب بيدها على سطح الماء قائلة بانفعال تلون بصوتها
"ليس المشكلة بإعجابي بشخصيتك من عدمها ، بل المشكلة بمدى كماليتها بالمقارنة بي ، انها مثالية لدرجة لا تطاق....."
صمتت ما ان ادركت غباء ما تتفوه به وانجرفت بالحديث معه بدون ان تشعر وقد تكون الاجواء من حولها هي السبب بالعبث بأنظمة عقلها ، لتفيق بعدها على صوت الجالس بقربها وهو يقول بجدية ويقود الزورق بسلاسة
"اجل تابعي الكلام ، لماذا الامر لا يطاق ؟ ما لذي يزعجك بشخصيتي ؟"
رمقته بطرف حدقتيها بحذر وهو شارد بعيدا بدون ان يظهر عليه اي بوادر غضب وهو ما اعطاها الدفعة للتعبير بحرية ، لتعود بنظرها للوحة الفنية على الماء واصبعها الفرشاة وهي تهمس بخفوت حزين
"لقد قصدت بأن الامر لا يطاق بالمقارنة معي ، فأنت رجل خالي من العيوب ، مثالي من كل النواحي ، لا ينقصك نسب او جاه او شكل ، بينما انا فتاة بائسة ، متوسطة الجمال ، مثيرة للشفقة ، طفولية بأغلب المواقف ، واعاني من مرض بالقلب يجعلني عرضة للتعب الدائم وفقدان بانتظام تنفسي ، وهذا بحد ذاته يجعلني لا اعيش حياة طبيعية ! هل رأيت عدد الفروقات بهذه المقارنة الغير عادلة بيننا ؟"
غامت ملامحه بصمت وهو يستمع لها بعقل راشد منفتح كان ينتظر الفرصة المواتية لكي تخرج له كل ما يعتمل بصندوق قلبها المغلق ويكسب ثقتها ، ليعود لتأملها من جديد وهو يشاهد اصبعها الذي يرسم دوائر بالماء بضياع ليتمتم بعدها بعطف يضمد كسور جناحيها
"وهذه هي الميزات والعيوب التي تعجبني بكِ ، فأجمل ما فيكِ هو جانبك الطفولي الذي يحببني بروحك ، وإذا تخليتِ عن كل هذه الجوانب بشخصيتك فلن استطيع ان احبكِ مجددا وستكونين عندي مثل كل الفتيات على حد سواء !"
نظرت له بسرعة بعينين شاخصتين بصدمة وهي تتلقى اعتراف بالحب مباشر لدرجة نسيت نفسها ومالت بالزورق وهي تكاد تقع بالماء ، لولا اليد التي امسكت بذراعها بلحظة وسحبتها بعيدا عن طرف الزورق بخفة وهي تستقر بأحضانه بمنتهى السهولة ، وما ان زفرت انفاسها بطبيعية بعد ان كتمتها من هول الصدمة حتى رفعت نظرها من تحت طرف قبعتها وهي تصطدم بعينيه الثابتتين بحوار صامت ، ليقطعه بعدها وهو يمسح على جانب وجهها الساخن ويتمتم بتوجس
"حرارتكِ مرتفعة ! هل تشعرين بضيق بالتنفس ؟ هل انتِ بخير ؟"
اومأت (غزل) برأسها بتخبط وهي تحاول الابتعاد عن احضانه هامسة بخفوت متلبك
"نعم بخير ، فقط شردت قليلا ونسيت نفسي"
قطب جبينه بعدم ارتياح وهي تنتصب جالسة بجواره وتعدل من وضع قبعتها فوق رأسها بارتباك ، وما ان طال الصمت اكثر بينهما حتى بات صوت المحيط مسموع لهما ليقول بعدها بجدية يتخلل به بعض القلق
"غزل هل انتِ بخير ؟ هل تريدين منا العودة ؟....."
قاطعته بسرعة وهي تنظر له هامسة بابتسامة عصيبة
"اجل الافضل لنا العودة فقد بدأت اشعر بالدوار قليلا من شكل الامواج وحركات الزورق"
عبست ملامحه بوجوم وهو يدير عينيه للأمام ويمسك بالمجداف الآخر بيده التي انقذتها من الغرق ، لترتسم بعدها ابتسامة غامضة على محياه وهو يقول بنبرة ماكرة ويستمر بالتجديف للأمام
"لقد تذكرت نبوءة سمعتها كثيرا تدور حول هذا المكان ، يقال بأن كل زوجين يركبان زورق بوسط هذه البحيرة تطاردهما المشاكل وتؤدي علاقتهما بالنهاية للانفصال بعد عودتهما من الرحلة ، وكنت سأكذب هذا الخبر واقول بأنها قصة من تأليف عقول البشر لولا انها حدثت مع صديق لي زار هذا المكان مع زوجته وانتهى بهما الحال بالانفصال عن بعضهما بعد العودة ، لذا كنت اقول بأنه ربما تكون قصة حقيقية !"
التفتت نحوه بملامح شاحبة وهي تلوح بيدها هامسة بعفوية
"هذه بالطبع طرفة من طرائف البشر ! هل هي حقيقية ؟"
اومأ (هشام) برأسه بجدية نحتت بملامحه وهو يقول بقوة
"انها حقيقية"
شهقت بخوف وهي تنهض باندفاع عن متن الزورق صارخة بهلع وهي تلوح بذراعيها
"يا إلهي ! يا إلهي ! علينا العودة لليابسة حالا ، علينا العودة قبل ان تتحقق النبوءة وتنتهي حياتنا....."
صرخت بتأوه ما ان ترنح الزورق بقوة وانزلقت قدمها على سطحه حتى سقطت بالنهاية نصف جالسة وادى هذا لانكسار كعب حذائها العالي ، لتحاول بعدها النهوض بصعوبة ما ان قال الذي ما يزال يشاهدها بصدمة ما حدث
"هل انتِ بخير ؟ هل انكسر بكِ شيء ؟"
استوت جالسة بهدوء وهي تخلع حذائها مكسور الكعب قائلة بخفوت مستاء
"لم ينكسر شيء غير كرامتي وكعب حذائي"
اعاد وجهه للأمام بسرعة وهو يطلق الضحكة التي كتمها طويلا على شكلها البائس بسبب الحيلة التي انطلت عليها بمنتهى السذاجة ، لتزم شفتيها بقنوط وهي تشيح بوجهها بكرامة مهدورة وحذاء مكسور بيدها وكأن النبوءة قد تحققت بالفعل ولكن الضرر عليها وحدها ، ليعقب بعدها الذي انتهى من الضحك بلحظات قائلا بتسلية
"لم اتوقع ان تصدقي القصة بهذه البساطة ! لقد اثبتِ بأنكِ سهلة الانخداع حقا ، فمن هو بهذا العصر قد يصدق مثل هذه القصص ؟"
انفرجت شفتيها ببلاهة وهي تهمس من فورها بروح مغتالة باستنكار
"هذه كانت خدعة ! لم تكن القصة حقيقية ! لقد كنت تتلاعب بي بمحض التسلية"
التفت بنصف وجهه وهو يغمز لها قائلا بابتسامة جانبية زينت طرف شفتيه
"انا اعتذر ولكني لم اقاوم سحر التلاعب بسذاجتك ، لقد كان الامر مسلي للغاية ، لذا اعتذر منكِ"
امتعضت ملامحها ببؤس وهو يعتذر منها ويسخر منها بذات الوقت ، فما معنى هذا ؟ هل هي تسلية اخرى بمقدار استيعابها ؟
اخفضت رأسها ونظرها للحذاء بين يديها وهي تتمتم ببأس
"تبا لك"
سكنت ملامحه وهو يتأمل قمة قبعة القش والتي تخفي تعبيراتها وملامحها عنه بدون ان يظهر شيء بها وكأنها تحاربه بطريقة طفولية ، ليتنهد بعدها بهدوء وهو يقول بحسم جاد
"إذاً لا مفر من العودة للساحل للبحث عن حذاء بديل لكِ ، فلن نترككِ تدورين برحلتك بحذاء كعب واحد وقبعة فزاعة"
اشاحت بوجهها بصمت بدون ان تجاري سخريته هذه المرة وهو يقود المركب اتجاه الساحل ، وبدون ان يرى ابتسامتها الفاتنة التي بانت بحياء على محياها تزيد توهج احمرار حماس الرحلة والحياة التي تنبع بداخلها بشعلة السعادة المتقدة .
_______________________________
تأففت بملل وهي تجلس بوسط محل صغير مختص ببيع كل ما يخص الابحار وادوات صيد السمك ، وهو المحل الوحيد الذي صادفوه على جوانب الساحل ، وقد بدأت مهمة البحث عن حذاء لها يغطي كلا قدميها الحافيتين بعد ان خلعت فردة حذائها الاخرى ذات الكعب العالي .
تنفست بإنهاك وهي تلوح بقدميها اسفل المقعد الذي تجلس عليه بدون ظهر ، بينما يديها مستقرتين على جانبي خصرها بسكون ورأسها منخفض بإحباط وكأنها طفلة معاقبة .
رفعت رأسها بأمل اشرق بملامحها ما ان سمعت صوت الخطوات المقتربة منها برفقة صاحب المحل ، وما ان وقف بجانبها حتى رمى الحذاء لها امام قدميها والذي تبين بأنه شبشب سباحة بخطين حول الاصابع ، ليتبعها بعدها بالكلام وهو يقول بأمر
"هيا انتعلي حذائك"
مسحت لمحة الامل عنها وبدلتها بعبوس مستاء وهي تقول باستهجان
"هل تريدني ان انتعل هذا الشبشب ؟ حقا !"
اومأ برأسه بثقة وهو يشير بقدمه للحذاء الكبير امامها قائلا بهدوء بدون الشعور بذرة إحراج
"اجل فهذا المتوفر لدينا حالياً ، فأنتِ لست بمحل احذية ذات ماركات عالمية ، بل محل ادوات لصيد السمك والقوارب يستحيل ان تجدي به غايتك ، ويبقى افضل لكِ من السير حافية القدمين"
تنفست بغضب بدأ يشتعل بخلدها وهي تشيح بوجهها جانبا هامسة بقنوط
"اُفضل السير بحذاء بكعب مكسور على ان ارتدي هذا الشبشب القبيح !"
عض على طرف شفتيه يكتم ضحكة غادرة وهو يقول من بينهما بجدية يمثل الاتزان
"لا تكوني متذمرة هكذا ، فهو ليس بهذا السوء ، انه مجرد شبشب عادي يلبسه الكثيرين من السياح هنا ، وايضا انا اعتقد بأنكِ ستكونين ظريفة به"
نظرت له بوجه محمر باحتقان وهي تقول بامتعاض حانق
"ليس هناك شيء ظريف بالأمر ، بل هو شيء غاية بالإحراج !"
تجهمت ملامحه بلحظة وهو يقول بتشدق
"لماذا كل ما يهمك بالأمر هو شكلكِ الخارجي ونظرة الناس لكِ ؟ عليكِ ان تركزي على جمالك الداخلي وما ينبع منكِ ولا تفكري كثيرا بمن ينظرون لكِ وينتقدون شخصيتك !"
عقدت حاجبيها بضيق وهي تشعر بمعنى اكبر بكلامه يتجاوز شكل الحذاء ، لتقول بعدها بقهر وهي تفهم كلامه بطريقة اخرى فسرها عقلها
"ألن تكف عن محاولة انتهاز الفرص بالسخرية مني والاستهزاء بوضعي ؟ هل تستمتع بالمآسي التي اعاني منها ؟"
تلبدت ملامحه ببرود لوهلة قبل ان يتمتم بوجوم ساخر
"لم يجبرك احد على ارتداء حذاء ذو كعب عالي برحلة سياحية بالزورق ! فمن يملك عقل لا يرتكب مثل هذه الفعلة ؟"
اتسعت حدقتيها العسليتين بصدمة وكأنها تتلقى ضربة بكبريائها تجاوزت كل الضربات الاخرى ، لتخفض رأسها بإحباط وهي تخفي نفسها بقبعتها الكبيرة تتوارى عن الانظار بدون ان تجلب الرد على كلامه الذي جرحها بشدة .
تنفس (هشام) بجمود وهو ينحني على ركبتيه قائلا بصرامة بعد ان نفذ صبره
"إذا كنتِ لن ترتدي الشبشب بالسلم فأنا سوف ألبسك إياه طوعا"
شهقت بوجل وهي تضم قدميها الصغيرتين اسفل المقعد بعيدا عنه ، ليرفع حاجب واحد بخفة وهو يمد كفه بسرعة ويقبض على قدمها الصغيرة بكل سهولة رغم ممانعتها الشديدة ، وما ان حاول ادخال قدمها بفردة الشبشب حتى صرخت بتلوي عنيف وهي تموت من موقفها المخزي
"لا تفعل هذا يا هشام ، لا تنتقم مني بهذه الطريقة الوحشية ! اتركني ارجوك...."
قاطع حربهما مع الشبشب صوت صاحب المحل وهو يقول بلغة انجليزية مهذبة
"لقد تذكرت ، فقط انتظراني ثواني من فضلكما"
حدق به زوج مزدوج من العيون وهو يغادر من امامهما بسرعة ، لتستغل الفرصة وهي تستل قدمها من قبضته وتخبئها اسفل المقعد مع قدمها الاخرى ، ليرمقها الجالس امامها بضيق وهو يمسد على جبينه بطرف اصابعه .
احنت حاجبيها ببؤس وهي تحدق بقدميها الحافيتين وكأنها تنتظر حذاء سندريلا الضائع ، ليعود صاحب المحل بغضون دقائق وهو يحمل حذاء آخر بين يديه قائلا باحترام
"لقد نسيت وجود هذا الحذاء ، ربما يفي بالغرض"
استقام (هشام) بمكانه وهو يتأمل حذاء الباليه الابيض الذي احضره معه ، ليرسم بعدها ابتسامة هادئة وهو يقول بثقة
"اجل سيفي بالغرض"
تناول الحذائين منه وهو يعود للانحناء امامها بلحظة ليمد يده قائلا برفق
"اعطني قدمكِ"
ابتلعت ريقها برهبة وهي تمد قدمها البيضاء الصغيرة حتى حطت بداخل يده التي احكمت اصابعها عليها ، ليدخلها بعدها بحذاء الباليه الذي ناسب مقاسها واعطاها مظهرا لطيفا وكأنها اميرة من اميرات ديزني ، ليفعل نفس الشيء مع قدمها الاخرى وهو يلبسها بمنتهى الرقة والنعومة حتى خبئت قدميها بحذائين صغيرين ناسباها .
وقف بعدها باستقامة وهو ينظر لصاحب المحل الذي قال بسعادة
"يبدو بأنه قد ناسب مقاسها تماما ، وكأنه مصنوع من اجلها"
اومأ برأسه بامتنان وهو يرمق بنظراته الطفلة التي تكاد تطير من الفرح بالحذاء قائلا بهدوء عميق
"شكرا لك ، لقد ناسبها تماما"
بعد ان انتهى من دفع الحساب عاد لها وهي ما تزال مشغولة بتأمل حذائيها وضربهما ببعضهما بسعادة غامرة ، ليتنحنح بعدها بخشونة وهو يلوح بالكيس البلاستيكي الذي يحوي حذائها المكسور قائلا بحزم
"هيا بنا حان وقت الرحيل"
نظرت له بعينين واسعتين مفتونتين وهي تهمس بابتسامة عفوية ضربته بمقتل
"حاضر"
تمالك نفسه بلحظة وهو يرمي الكيس نحوها حتى تلقته بين ذراعيها بسرعة اوقعت القبعة عن رأسها وغطت كامل وجهها ، لتفلت منه ضحكة صغيرة وهو يرفع القبعة عن وجهها ويعيدها فوق رأسها اظهرت ملامحها العابسة بغضب ، ليمد بعدها كفه نحوها وهو يقول بابتسامة جذابة سحرت قلبها الصغير
"هيا يا اميرتي الصغيرة حان وقت الذهاب"
اومأت برأسها بحركة تلقائية وهي تمسك بكفه ببساطة تسمح له بسحبها لعالمه ، وما ان وقفت بجانبه حتى احكم على يدها الصغيرة بتملك وهو يقول بهدوء
"لنعود الآن لإكمال خوض مغامرتنا الخاصة"
ابتسمت بسعادة وهي تومئ برأسها بحماس سكن الوميض بمقلتيها العسليتين ببريق لا ينضب ، ليسير معها خارج المحل وهي تشعر بنبضات قلبها تشتعل بمشاعر جديدة خلقت من بطن الوجع وصنعت لها جناحان تحلق بهما بعيدا .
______________________________
كانت تقلب بشاشة الهاتف بأصبعها وعينيها الداكنتين بدموع راكدة سكنت بهما تتابعان كل جديد على شبكات التواصل الاجتماعي وبصفحات الانترنت الشهيرة ، وللآن لم تجد اي اثر للخبر الذي انتشر بالصباح الباكر احدث ضجة كبيرة بشبكة المعلومات وصدع موقع الإعلام العام وتصدر كل منصات الاخبار العالمية التي تحصد المشاهدات والمتابعين بتوثيق اخبار وفضائح تجذب سمع الملايين بثواني ، وهذا اكثر ما يحبه الجمهور سماع الترهات ومشاكل الناس وتشهيرها بشكل يسبب المشاكل والحوادث بحياة صاحب الخبر بدون مراعاة مشاعر او خصوصيات احد حتى تصبح وجبة دسمة فوق مائدة البشر .
رمت الهاتف فوق الطاولة بتأفف طويل وهي تتخلل شعرها بيدها تعبث به بعنف اصابعها التي فقدت السيطرة على زمامها ، لتنزع بعدها مشبك الشعر عن رأسها وهي تنثر شعرها الفوضوي على ظهر الكرسي وكتفيها تحجب نفسها بستار اسود داكن اعتادت على الاختباء خلفه تخفي ضعفها وقلة حيلتها بين طياته المموجة كموج البحر ، وضعت المشبك بجانب الهاتف بهدوء وهي تتلمس بأصابعها سطح الطاولة بشرود خاوي .
رفعت رأسها بهدوء ما ان سمعت صوت طرق خافت على باب الغرفة وهو يفتح بآن واحد ، وما ان ساد الصمت للحظات حتى سمعت صوتها وهو يملئ فراغ الغرفة الساكنة
"مساء الخير ، ما لذي يسهر صغيرتي المجتهدة ؟"
اخفضت رأسها بهدوء وهي تراقب رسم اصابعها بدوائر وهمية على سطح الطاولة الملساء تنافس نعومة اصابعها البيضاء ، لتتنهد (روميساء) بيأس وهي تلوج للغرفة وتتجه صوبها قبل ان تقف بقرب مقعدها بلحظات ، لتمسح بعدها على كتفها وهي تقول بخفوت حاني
"ماسة هل انتِ بخير ؟ هل تريدين التكلم معي بشيء ؟"
حركت رأسها بالنفي وهي تنطق بكلمة واحدة بخفوت شديد
"لا"
تنفست بضيق وهي ترفع يدها عن كتفها لتمسك بوجهها بين يديها برفق وهي تديرها نحوها قسرا ، لترجع بعدها جوانب شعرها الكثيف لخلف كتفيها حتى ظهر لها وجهها بوضوح ، لتهمس بعدها بعبوس مستاء وهي تلمح الدموع الراكدة بمقلتيها
"هل كنتِ تبكين ؟"
نزعت وجهها من بين يديها وهي تمسح عينيها بظاهر يدها بقسوة قبل ان تهمس بخفوت حانق
"ليس هناك شيء يدعو للاهتمام ، وايضا وجودكِ بغرفتي قد بدأ يضايقني ! لذا هلا رحلتِ رجاءً ؟"
عقدت حاجبيها بجمود وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها قائلة بحزم جاد
"إذاً لا تريدين الكلام معي وتخفين عني سبب بكائك ، إذا كنتِ لا تريدين البوح بما يضايقك لهذه الدرجة ، على الاقل اخبريني بما حدث معكِ اليوم دفعك للبكاء هكذا !"
زفرت انفاسها بصدر ضاق عليها بقضبان عالية وهي تضرب على سطح الطاولة بكفها صارخة بنفاذ صبر
"ماذا افعل بحق الجحيم كي تخرجي من هنا ؟"
ردت عليها بصوت صارم
"لا تقللي ادبكِ يا ماسة"
ردت عليها بصوت اعلى بانفعال مفرط
"انا لا اقلل ادب !"
احنت حاجبيها السوداوين بحزن طاف على محياها وهي تقول بعطف اقل انفعالا
"اريد فقط الاطمئنان على حالكِ ، فأنا قلقة عليكِ منذ مغادرتك للعمل بتلك الحالة ، اخبريني إذا كان هناك ما يزعجك ويقض منامك"
قبضت على يدها فوق سطح الطاولة وهي تشرد بالفراغ امامها دامت لبرهة ، قبل ان تلتفت بوجهها نحوها وهي تمسك خديها بيديها تمدهما بقوة هامسة بسعادة مزيفة بابتسامة مشدودة
"انظري إلي كم ابدو بخير وسعيدة ، وهذا يعني بأنه ليس هنا داعي لقلقك ، فأنا اكثر انسانة سعيدة بالكون ، وسعادتي ليس لها حدود او وصف !"
ضيقت حدقتيها الخضراوين بشك وهي تقول بخفوت صريح بدون اي مواربة
"هل قابلته ؟"
تلبدت ملامحها بسحب تاهت بين مقلتيها بدون مرسى لهما حطت بقلبها الصخري ، لتخفض بعدها يديها وهي تستقيم بجلوسها قبل ان تهمس بخفوت جليدي اتقنت دورها
"اجل"
ابتلعت ريقها بارتباك وهي تخفض ذراعيها على جانبيها قائلة بهدوء حذر تستعد للأسوء
"وماذا حدث بعدها ؟ هل وضح لكِ موقفه وسبب كل هذا ؟"
ضمت يديها فوق سطح الطاولة وهي تتلاعب بأصابعها هامسة بخفوت ساخر
"لم يحدث شيء يستحق الذكر ، ولم احصل على التفسير الذي كنت انتظره ، لذا لا تتأملي كثيرا بالأمر لكي لا تضيع اهدافك"
زمت شفتيها بوجوم وهي تشعر بمرارة غير منطوقة تنضح بكلامها المتناقض عن نفسها وكأنها هي التي ضاعت اهدافها ، لتمد بعدها يدها وهي تحتضن كفيها المضمومتين معا هامسة بخفوت رقيق تواسي قلبها المغتال
"لا اعرف ما هو مقدار ألمكِ ؟ او بماذا تفكرين الآن ؟ او ما هي مشاعركِ الحالية ؟ ولكن ما اعرفه بأنني سأكون بجوارك دائما ومعكِ متى ما احتجتِ لي ، ولستِ مضطرة لتحمل هذا الألم لوحدكِ من الآن وصاعدا ، بل تستطيعين مشاركته معي وتقاسمه بيننا لكي يخف عنكِ ذلك الحِمل وترتاحين بعدها"
رفعت رأسها بتردد وهي تحدق بها بعينين واسعتين بسكون البحر هامسة بخفوت تائه لا يعبر عن فحوى كلامها
"انا بخير ، بخير جدا ، لا احتاج عطف احد او مساعدة احد ، فأنا حقا بخير ، صدقيني يا روميساء انا بخير"
فغرت شفتيها باضطراب لوهلة قبل ان تعانقها بسرعة وهي تطوق رأسها بين ذراعيها وتدفنه بصدرها ، لتقول بعدها بصوت باسم بغريزة الحمائية بها
"اتمنى ذلك يا صغيرتي ، اتمنى ذلك حقا ، فلا احب على قلبي من سعادتك وراحة بالك"
اومأت برأسها بحضنها وهي تتشبث بذراع بيجامتها القطنية الحريرية وكأنها البلسم على جرحها الغائر ، لتبتعد عنها بلحظات وهي تمسح بيديها على شعرها الناعم الطويل هامسة بهدوء جاد
"كل ما يهمني حاليا ان تنتبهي على نفسكِ جيدا وتتصرفي بعقل راجح واعي ، وإياكِ وارتكاب اي جنون بحق نفسكِ او تحاولي اذيتها بأي طريقة ، حسنا ؟"
استاءت ملامحها وهي تشيح بوجهها بعيدا قائلة بقنوط مغتاظ
"لقد كبرت على هذه الإرشادات يا روميساء ، فأنا لم اصل هذا الحد من الجنون الذي يدفعني على قتل نفسي من اجل رجل ! عليكِ ان ترتقي بتفكيرك اكثر وتبعدي هذه الافكار الجنونية عنكِ"
ضحكت بخفوت لطيف لم يصل لقلبها وهي تقبل رأسها قائلة بمودة
"وانا اثق بكِ يا مهندستي الصغيرة ، وكل عزائي ألا تخيبي ظني بكِ مجددا"
رفعت رأسها بصمت وهي تمسك بيدها بين كفيها بدون مقدمات لتقول بعدها بابتسامة طفيفة بامتنان
"شكرا لأنكِ تفكرين بي دائما ، شكرا لأنكِ تهتمين لأمري ، لولا وجودكِ بعالمي لما كنت بقيت صامدة لهذه اللحظة ، لذا شكرا كثيرا على كل شيء"
اتسعت ابتسامتها بتغضن بزوايا حدقتيها وهي تمسح بيدها الحرة على وجنتها هامسة بمحبة
"العفو يا صغيرتي ، اذهبي للنوم الآن ، ولا ترهقي نفسكِ اكثر بالسهر فقد تعبتِ كثيرا بهذا اليوم وتحتاجين لأخذ قسط من الراحة"
اومأت (ماسة) برأسها للأسفل بامتثال وهي تترك يدها هامسة بخفوت
"حاضر"
ابتعدت عنها شقيقتها وهي تتجه عائدة لباب الغرفة ، لتهمس بعدها قبل ان تغلق الباب من خلفها بهدوء
"طابت ليلتك"
اسدلت جفنيها الحمراوين من كبت الدموع على احداقها براحة ما ان اغلقت الباب خلفها بصمت ساد بالمكان من جديد ، لتعود بعدها لفتحهما ببطء تدريجي وهي ترفع رسغ يدها امام نظرها واصبع يدها الاخرى يتلمس علامة الندبة القديمة التي لم تمحيها السنوات ، والسؤال الذي يطرح نفسه من ساعات من لقائهما على سلم الطوارئ بخوف يكاد يدمر صمودها الفولاذي
(كيف عرف بالأمر ؟)
زفرت انفاس متعبة من صميم الوجع محملة بصدرها بمدة لا تقل عن اربع سنوات ، لتريح بعدها جانب وجهها على سطح الطاولة الباردة وهي تستعيد تلك الذكرى السوداء من مجموعة ذكرياتها التعيسة حتى سالت دمعتها اليتيمة تنتقل من عين لأخرى وتخط على ألم الذكرى الموجعة
(إذا لم يرد الموت المجيئ إلي فأنا سوف اذهب إليه)
__________________________
ابتسمت بسعادة ملئت قلبها مسرة وهي تتصفح بالصور على شاشة هاتفها والتي تخص رحلتهما السياحية وتشملهما بعدة اماكن ، بينما كانت عينيها العسليتين تلمعان بوميض الشهب يزداد مع كل صورة تمر على ناظرها يخفق لها قلبها مثل عصفور تحرر من اسره ، لتخرج منها ضحكة لا إرادية ما ان مرت على صورة تخص موقف وقوع القبعة عن رأسها وهي تحاول امساكها بيد وتثبيت الهاتف بيدها الاخرى حتى خرجت الصورة فكاهية اكثر منها عاطفية .
ارهفت السمع لصوت خروج شريكها بالغرفة من الحمام المرفق بعد استحمام دام لدقائق تركته يسبقها إليه عكس مجيئهما ، لم تحاول رفع رأسها وهي تغمر نفسها بتلك السعادة بتقليب باقي الصور بسرعة اكبر بدون ان تأبه له ، ليتقدم بعدها صوب السرير الواسع وهو يجفف شعره بالمنشفة فوق رأسه بصمت ، وما ان وصل قربها حتى استرق النظر لما تشاهد ويأخذ تفكيرها بكل هذه الدرجة من التركيز .
ابتسم بالتواء طفيف بشفتيه وهو يقول بخفوت جاد
"ألم تملي من مشاهدة هذه الصور ؟ هذه المرة العشرين التي اراكِ بها تقلبين بالصور منذ عودتنا من الرحلة ! لو كانت مادة دراسية لكنتِ حفظتها وثبتت بذهنك من كثرة مراجعتها !"
رفعت رأسها بعبوس وهي ترمش بعينيها ما ان تلقت قطرة ماء سالت من شعره على جبينها الصغير الذي تغضن بضيق ، لتخفض رأسها وهي تمسح جبينها بيدها الحرة قائلة بتذمر طفولي
"هذا ليس من شأنك ، فهذه الصور موجودة على هاتفي وليس هاتفك ، وتوقف عن ربط كل موقف بالدراسة ، فهذا الامر يغيظني !"
رفع رأسه عاليا وهو يتلقى رد صادم غير متوقع وكأنها تنتقم منه على كل إهاناته السابقة لها ، ليمسك بعدها بظهر السرير وهو يميل قليلا هامسا بابتسامة جانبية بتسلط
"ما هو الذي ليس من شأني ؟ هل اتوهم هذا ام ان عصفورتي الصغيرة تتمادى بالكلام معي ؟ ليكن بعلمكِ فقط بأن كل ما يخصك هو من شأني بدءً من الصور والفتاة الموجودة بالصور وقلبها وروحها وقبعتها وحذائها وصوتها ورائحتها وكل شيء ، لذا إياكِ وقصر اي شيء من حقوقي لكي لا اسرقها منكِ بطريقتي"
زمت شفتيها بصمت وهي تتابع تقليب الصور بدون ردّ على كلامه ماعدا غمامة وردية طافت على محياها بخجل ، ليستقيم بعدها بمكانه وهو يكتف ذراعيه قائلا بصلابة تقمصته بلحظة
"هيا اذهبي للاستحمام واتركي الهاتف من يدك ، فقد اضعتِ الكثير من الوقت باللعب عليه"
هزت رأسها بشرود وهي مستمرة بالاطلاع على الصور بتركيز شديد وكأنها تراها للمرة الاولى وليس للمرة الخمسين ، ليضرب بعدها على ظهر السرير بقوة وهو يقول بصرامة اكبر
"هيا تحركي يا غزل ، لن نبقى طول الليل ننتظر انتهاء حضرتك من مطالعة الصور"
كشرت ملامحها بتغير طفيف وهي تتحرك ببطء خارج السرير بدون ان تفارق عينيها شاشة الهاتف ، وما ان مرت من جانبه حتى مد يده بسرعة وهو يستل الهاتف منها بلمح البصر ، لتستدير بسرعة نحوه وهو يقول بنبرة جادة ويلوح بالهاتف بيده
"لن تدخلي للحمام وانتِ تحملين الهاتف بيدك ، فقد انتهينا من اللعب وتأمل الصور به وحان الوقت لتزيليه من بالك وتفكيرك"
زمت شفتيها بوجوم وهي تهمس بتبرير مستاء
"لم اكن انوي الدخول به للحمام ، كنت فقط سوف ألقي نظرة سريعة على الصور للمرة الاخيرة بعدها اتركه على الطاولة"
اخفض الهاتف جانبا وهو يقول بحزم بشخصية دؤوبة
"وإذا كان كذلك فلن يسمح لكِ باللعب به اكثر ، فقد اخذتِ كامل وقتكِ بالعبث به وبتأمل شاشته فترة طويلة قد تؤثر على العين بإشعاعات مؤذية"
عبست ملامحها وهي تلاحق الهاتف بنظرها هامسة بخفوت بائس
"ولكني اريد......"
قاطعها (هشام) بقوة وهو يلوح بالهاتف امام نظرها بتهديد
"إذا لم تمتثلي للأوامر فورا فلن يعود هناك صور لأني سوف احذفها كلها من جهازك"
حركت رأسها بالنفي بجزع وهي تحرك يدها قائلة باستسلام
"حسنا فهمت ، سأذهب للاستحمام ، فقط لا تفعل شيئاً للصور"
ارتفع حاجبيه بترقب وهي ما تزال تحدق بالهاتف بيده وكأنها لا تفكر بمفارقته ، ليضرب الارض بقدمه بقوة وهو يشدد على الكلمات ببطء
"تحركي يا غزل"
انتفضت بمكانها بوجل وهي تنزع نظرها بعيدا لتسير بعدها اتجاه الحمام المرفق بخطوات متخاذلة ، ليوقفها بعدها بلحظة وهو يقول بأمر لم ينتهي بعد
"خذي المنشفة"
استدارت ببطء وهي تحدق بالمنشفة التي مدها نحوها قبل ان تقطع المسافة التي اجتازتها نحوه ، لتأخذ منه المنشفة بهدوء وهي تعود ادراجها ناحية الحمام ، وما ان وصلت باب الحمام حتى قال خلفها بحزم وكأنه يختبر اعصابها
"لا تأخذي وقتا طويلا بالاستحمام ، واتركي الباب مفتوحا للحالات الطارئة إذا اصابكِ اغماء مثلا"
امتقعت ملامحها باحمرار تشرب بوجنتيها بسخونة وهي تمسك بإطار الباب قائلة بصوت مسموع بتعمد
"يا لك من رجل دكتاتوري"
سلط نظره بسرعة نحو باب الحمام الذي اغلقته من خلفها بقوة ، ليتنفس بعدها بشبه ابتسامة غلبت ملامحه الصارمة التي لا تظهر ألا بوجودها ، لينظر بعدها للهاتف بيده وللصورة التي تملئ شاشته لوجه فتاة ضاحكة سكنت البراءة ملامحها ويدها الصغيرة ترفع طرف القبعة التي زادتها طفولة جذابة فوق جاذبيتها العادية .
وضع الهاتف فوق المنضدة وهو يتجه لطاولة الزينة ويستمر بتجفيف شعره بكلتا يديه بالمنشفة ، وما ان انتهى حتى اخفض المنشفة عن رأسه وهو يلقي بها على الكرسي الجانبي بإهمال ، ليطالع شكله بالمرآة بنظرات ثاقبة وهو يمسك فكه بأصابعه قائلا بتفكير عابس
"هل انا دكتاتوري بنظرها ؟ هل ابدو رجل دكتاتوري حقا !"
نفض تلك الفكرة عن رأسه وهو يمسك بالمشط ويسرح شعره به للخلف وكل ما يدور بذهنه ان يركز فقط على إمكانيته النوم هذه الليلة بعيدا عنها هذا إذا استطاع النوم من الاساس .
بعدها بعشر دقائق كانت تختلس النظر من خلف الباب بعين واحدة وهي تراقب الوضع بالخارج ، لتقول بعدها بخفوت مرتبك تكاد تذوب من الإحراج
"هشام ! هشام هل انت هنا ؟"
عندما لم تسمع الرد من الطرف الآخر تنفست الصعداء وهي تهمس بخفوت مبتسم بأمل
"يبدو بأن الوضع آمن ، كل ما عليّ فعله هو الخروج بسرعة والعودة بدقيقة"
بدأت الخروج من الباب ببطء وهي تظهر كامل جسدها الملتف برداء الحمام الزغبي والماء ما يزال يقطر من شعرها على كتفيها وظهرها ، لتتسلل بسرعة بخطوات حافية على ارض الغرفة وهي تصل للخزانة بلحظات ، لتفتح بعدها جانب واحد منها وهي تفتش بين الملابس هامسة بخفوت متعجل
"عليّ ان احصل على ملابسي واعود للحمام بسرعة....."
شهقت بمنتصف كلامها بوجل ما ان حاصرتها ذراعين قويتين حول خصرها قيدتها امام صدره الصلب وانفاسه تلفح عنقها تجفف قطرات الماء عليها ، لتلهث بأنفاسها بنبض عالي وهي تسمع صوته الهادئ يتردد بأذنها الصغيرة
"ماذا تفعلين بالتسلل خارج الحمام بهذا الشكل ؟"
ابتلعت ريقها بتعثر وهي تخفض رأسها قليلا هامسة بخفوت مرتجف
"انا كنت....كنت احاول اخذ ثيابي ، فقد نسيت اخذها قبل الذهاب للحمام ، اجل هذا ما حدث"
زفر انفاسه بسخونة اكبر شعرت بها تلهب ألسنة تحت بشرتها الرقيقة الحساسة ، لتفتح بعدها حدقتيها على اتساعهما ما ان شعرت بيديه تعبثان بعقدة روب الحمام وهو يقول بجانب اذنها بخفوت اجش عابث
"ما رأيكِ ان ألبسكِ الملابس بنفسي ؟ هذا سيوفر عليكِ وقت وجهد كبيرين"
ردت عليه بسرعة بهلع وهي تمسك يديه بكفيها توقفه عما ينوي فعله
"كلا يمكنني تدبر امري بنفسي ، وانا ممتن جدا لخدماتك"
غرزت اسنانها بطرف شفتيها ما ان دنى بوجهه وهو ينشر قبلاته من اذنها حتى طول عنقها بخط مستقيم بسلاسة تستطيع تدمير وتهويد مقاومتها وكأنها تتلذذ بتلك اللحظات على مهل ، لتشيح بوجهها بعيدا تحاول تفادي تلك القبلات الذائبة وهي تهمس بلهاث منفعل
"هل...هل يمكنك تركي قليلا ؟ احتاج بعض الخصوصية بارتداء ملابسي"
ردّ عليها بسرعة بخفوت جامح يشدد من تطويق خصرها الغض الصغير
"وإذا قلت لا اريد ، فماذا ستفعلين ؟"
رفعت رأسها بسرعة وهي تهمس بسذاجة كبيرة
"ماذا ؟!"
زمت شفتيها بعبوس ما ان مس اذنها بشفتيه قائلا بسخرية
"بلهاء بالفطرة"
كورت شفتيها بامتعاض وهي تهمس بضيق
"ايها الدكتاتوري !"
زمجر بخشونة وهو يدير جسدها نحوه دورة كاملة حتى اصبحت تقابله بدون ان يفك الطوق حول خصرها ، ليدنو بعدها بوجهه وهو يقف على بعد سنتمترات من شفتيها ليهمس بخفوت اجش عميق وكأنه يستأذنها
"هل يمكنني خطف هذه القبلة منكِ ؟"
ارتسمت ابتسامة حالمية على ملامحها وهي تسدل جفنيها على حدقتيها تعطيه الإذن بحركة ضمنية بصمت ، ليتنفس بعدها بهدير المشاعر وهو يشعر بافتتان عالي نحوها قبل ان يطبق على شفتيها بقبلة ساحقة ورقيقة بذات الوقت وهو يرفع قدميها عن الارض بخفة وكأنها لا تزن شيء ، وبلحظات كان يدور بها ويحلق معها بالأرض وفوق الغيوم بسرعة تزداد مع كل دورة ويزداد معها شغف ولهيب المشاعر حتى باتت دوامة تلفهما سويا بنفس الاعصار .
لينتهي بهما المطاف يستقران فوق السرير الواسع وهو يعلوها ويتنفس بلهاث امام وجهها بطوفان هادر ، ليقول بعدها بخفوت شغوف وهو يقبل طرف انفها الصغير برقة
"من هو الدكتاتوري الآن ؟"
حركت رأسها بضحكة مهلكة وهي تهمس من بين انفاسها المتلاحقة بسعادة غامرة
"بل انت اكثر عادل عرفته بحياتي"
ابتسم بهدوء متزن هدئ هياج المشاعر بداخله وهو يقبل شفتيها بتلامس طفيف انهت تلك الحروب العاطفية ، لينهض بعدها من فوقها وهو يجلس على طرف السرير بصمت ساد بالمكان بضباب داكن ، ليقول بعدها بجدية وهو ينظر للبعيد بخواء
"اعتذر على هذا ، طابت ليلتك"
ما ان كان على وشك الوقوف حتى تمسكت بذراعه بسرعة وهي تتعلق به بقوة ، ليغضن جبينه بارتباك وهو يلتفت نحوها قائلا بدهشة
"غزل انتِ......"
قاطعته بإرادة قوية وهي تخبئ وجهها بكتفه
"انا اريد ، اريد ، اريد....."
عندما توقفت عن ترديد نفس الكلمة اشفق عليها وهو يمسح على رأسها قائلا بعطف متسامح
"ماذا تريدين ؟ هيا اخبريني !"
صمتت للحظة وهي ترفع عيون القطط نحوه باتساع فاتن قبل ان تهمس بخفوت خجول
"اريد ان تحبني اكثر"
زفر انفاسه بكبت وهو ينظر لها بدهشة لم يستطع اخفائها نحو قطته الشقية التي اجادت استخدام كلماتها ، ليمسح بعدها على جانب وجهها الساخن من فرط خجلها وهو يقول بخفوت محب
"وهذا ما اريده ايضا"
فكت تعلقها بذراعه وهي على وشك التراجع لولا يده التي اسندت ظهرها وهو يقربها منه اكثر ، وقبل ان تنطق بحرف كان يقتنص شفتيها بقبلة ناعمة وهو ينزلها لتستلقي على السرير بسلاسة ، ليرفع بعدها رأسه فوقها وهو يقول بابتسامة جانبية بمكر ويديه بدأتا بفك عقدة ردائها
"سوف احاول ألا اقسو عليكِ هذه المرة ، على الاقل الحد الذي لا تغيبين به عن الوعي"
اومأت برأسها بابتسامة رقيقة وهي تزحف بيديها حول عنقه هامسة بهدوء واثق
"وانا اثق بك"
مالت ابتسامته بافتتان اكبر وهو يمسك بيدها على عنقه والتي سرقت نظره لحجمها الصغير مثل ايدي الدمى مقلمة الاظافر ، ليقبلها عندها بنعومة كل اصبع يأخذ حصته من القُبل على حدى وهو يستمتع بكل لحظة على مهل عكس علاقتهما الحميمية الاولى ، ليهبط بعدها امام وجهها وهو يشبك كفها بأصابعه ويرفعها فوق ملاءة الوسادة ، اكمل بعدها فك عقدة الرداء بهدوء وهو يقول بخفوت هائم وشفتيه تمسان جبينها بلطف
"احبكِ يا قلب هشام ، احبكِ واكاد اموت من قلبكِ الذي يقودني دائما للجنون !"
اغمضت عينيها باسترخاء وهي تكمل تنهدها ببطء وتترك له مهمة نقلها لعالمه الخالي من كل شيء ما عدا نبضات قلبها التي تطن بأذنيها بسرعة منتظمة تدل بأنها على قيد الحياة...وبأنها ما تزال تملك فرصة للعيش بهذه السعادة فترة اطول من حياتها .
_______________________________
ركبت السيارة وهي تغلق الباب خلفها بهدوء وترمي حقيبتها واكياسها بالمقعد الخلفي ، لتضع بعدها حزام الامان حولها وهي تشغل محرك السيارة بيد وتمسك بالمقود بيدها الاخرى ، قرأت بعدها دعاء الركوب وهي تخرج للطريق بحذر بعد ان تأكدت من خلو الشارع ، لتنطلق من فورها بالطريق الثابت بهدوء شديد وعينيها تتابعان المسلك امامها كروتين اعتادت على السير عليه منذ ان حازت على رخصة القيادة قبل ما يقارب النصف عام .
حادت بحدقتيها الخضراوين وهي تلتقط بالمرآة الجانبية صورة سيارة تقترب منها تكاد تلتصق بها تقريبا ، لتحاول بعدها زيادة سرعة سيارتها اكثر لتتقدم عنها وتصنع مجال بينهما لدواعي السلامة والامان ، ولكن ما صدمها هو عناد صاحب تلك السيارة والذي ما يزال يلاحق سيارتها ويلاصقها وكأنه يترصدها ، لتتمتم بعدها بسخط وهي تتنقل بنظرها بين الطريق وصورة السيارة خلفها
"ما بال ذلك المخبول ؟ حتى انه يخالف قوانين السير !"
تنهدت بضيق وهي تخفف من سرعة السيارة وتنحاز على اطراف الطريق هامسة بجمود
"حسنا لك ذلك ، تريد المرور تفضل الشارع لك"
تابعت بتخفيف سرعة السيارة وافساح المجال للسيارة خلفها للمرور بمنتهى التفاني والإيثار ، وعندما تأخر وضعها بدون ان يحاول اجتيازها حتى همست بعصبية وكأنها تتعامل مع سائق مختل
"هيا يا رجل تحرك ، هل تنتظر دعوة ؟ هل امهد الطريق امامك اكثر ؟ ما هذه العقول عديمة الفهم !"
تنفست باستغفار وهي تصدر غمزات بإضاءة السيارة الخلفية تعطيه إشارة بالسماح لها باجتيازها ، لتضرب بعدها على زامور السيارة وهي تقول بجنون سيطر عليها
"هيا تحرك ، سحقا لك"
عندما يأست من اجتياز السيارة لها وهي تصر على الالتصاق بها حتى اوقفت كل الإشارات وهي تنطلق بعيدا عنه ، وما ان تنفست الصعداء حتى لمحت السيارة التي تجاوزتها مثل البرق بجانبها لتفاجئ بعدها بوقوفها بمنتصف الطريق مثل العارضة الكبيرة .
شهقت بهلع وهي تدوس على الفرامل وتدير عجلة القيادة بعنف عندما رأت بأنه فات الاوان على إيقافها ، اخذت منها دقيقتين وهي توقف السيارة بأمان على بعد شبرين من السيارة الساكنة التي كادت تسحقها بسبب جنون سائقها الذي خالف كل قوانين وإرشادات السير والسلامة بتهور تجاوز المعقول !
زفرت انفاسها بإنهاك وهي تمسد على جانب بطنها التي ثارت بشعور الخوف الذي انبعث بداخلها بلحظة جنون ، لترفع رأسها تلقائيا وهي تتابع الذي خرج من السيارة السوداء الفاخرة التي تراها للمرة الأولى وهو يضع نظارة شمسية فوق عينيه ويسير صوبها بكل ثقة وهدوء .
وما ان وصل لسيارتها حتى دخل لها بمنتهى البساطة وهو يجلس بجانبها ويغلق الباب خلفه ، بينما كانت (روميساء) تنظر له بعينين شاخصتين مستنكرتين ما ان انكشف لها هوية سائق السيارة المجنون عديم العقل ، ليوجه بالنهاية نظره نحوها وهو يقول بابتسامة جادة بتأنيب
"اعتذر على هذا الدخول الخطير ، هل حصل لكِ مكروه بسببي ؟"
عصفت ملامحها بغضب وهي تنظر امامها بجنون سيطر على كيانها لتلوح بعدها بذراعها بالهواء صارخة باستنكار
"ما لذي فعلته للتو ؟ هل جننت تماما حتى تغامر بحياتك هكذا ؟ هل تعلم بأنك قد خالفت عشر قواعد بمادة السلامة المرورية بما فعلته وقد تحصل على مخالفة بسبب وقوفك الخاطئ بمنتصف الطريق ؟"
حرك رأسه للأمام وهو يقول بتفكير هادئ وكأنه لم يقدم على فعل متهور للتو
"اعتذر منكِ مجددا يا ضابطة السير والامان ، ولكن لم تكوني ستتوقفين لي سوى بهذه الطريقة والتي ستجبرك على الوقوف رغما عنكِ ، واما المخالفات التي سأحصل عليها يمكنني حل امرها"
نظرت له مجددا بجمود صخري وهي تقول باستهجان تكاد تضربه على رأسه لكي يستوعب فداحة فعلته
"لا يوجد ما يضحك بما حدث ! فقد فعلتها معي من قبل وكدت تتسبب بحادث خطير بيننا لولا لطف الله علينا ، كيف تغامر بحياتك بهذه الجرأة ؟ هل انت مستغني عن حياتك تماما ؟"
حدق بها بطريقة غريبة من تحت عدسات نظارته السوداء بدون ان تتبين لهيب المشاعر بهما وهو يقول بابتسامة متزنة
"هل كنتِ خائفة على حياتي ؟ هل اصبحت تهتمين بحياتي لهذه الدرجة ؟"
ردت عليه من فورها بدون ادنى تفكير
"بالطبع سوف افكر بحياتك ، كيف تفكر انت ؟ لقد وقع قلبي عندما عرفت بأنك انت الموجود داخل السيارة ! لقد بدأت اشك بأنك مصاب بجنون العظمة الذي يفقد الانسان عقله ما ان يحصل على الثروة والمجد ، وسحقا لقلبي الذي ما يزال ينبض للقياك....."
زمت شفتيها تسكت نفسها ما ان اسهبت كثيرا بالكلام وافضت بما يعتمل بقلبها لفترة طويلة ، لتلمح بعدها ابتسامته الواثقة على ملامحه وهو يقول بانتشاء واضح
"شكرا لكِ ، لقد انتظرت سماع هذا الكلام منكِ فترة طويلة حتى يأست حقا"
التوت شفتيها بضيق وهي تعود للنظر للأمام قائلة بتجهم عابس
"على ماذا تشكرني ؟ انا بالنهاية بشر واملك انسانية بقلبي تجعلني اخاف على حياة الجميع وحتى لو كان ألد اعدائي ، لذا هذا موقف اعتيادي بالنسبة لي"
ادار عينيه ببرود وهو يقول بابتسامة جانبية بمغزى
"وهل قلبك ينبض للغريب والقريب ؟"
عضت على طرف شفتيها بعصبية وهي تهمس من بينهما بغيظ
"تبا لك"
اعتلت ملامحه ابتسامة صغيرة باستمتاع وكأنه اصبح يجد متعته بمخالفة قوانينها الصارمة والمتزمتة ، لتقطع الصمت بعدها بلحظات وهي تمسك المقود قائلة بجدية
"إذاً هل ستبقى بسيارتي فترة طويلة ؟ فأنت تؤخرني بوجودك إذا كنت لا تعلم"
خلع النظارة عن عينيه بهدوء وهو يقول بهدوء حازم تغيرت نبرة صوته المتسلية
"هناك مكان اريد ان اقصده معكِ ، لذا هلا اوصلتني له وانا اوجهك ؟"
رمقته بطرف حدقتيها بجمود وهي تقول باقتضاب
"لديك سيارة خاصة بك ، لماذا لا تذهب بها ؟"
ردّ عليها ببساطة وهو ينظر لها بتمعن
"اريدكِ ان تذهبي معي لذلك المكان ، وليس هناك طريقة تذهبين بها سوى هكذا"
عبست ملامحها وهي تشدد على مقود السيارة قائلة بتصلب
"يعني لن تخرج من السيارة ألا عندما اوصلك لذلك المكان"
اومأ (احمد) برأسه بقوة وهو يقول بثقة
"هذا بالضبط ما اتحدث عنه"
ضمت شفتيها بوجوم وهي تتمتم ببرود
"إذا تركت السيارة هكذا سوف تحصل على مخالفة"
حرك كتفيه وهو يقول بنفس البساطة
"لا بأس"
زفرت انفاسها باستسلام وهي تشغل محرك السيارة هامسة بحنق
"لا فائدة من الجدال معك"
قادت السيارة تكمل طريقها وهي تسلك الممرات الفرعية والجانبية التي يقودها لها بإطار النظام الذي تحافظ عليه ، وبغضون نصف ساعة كانت تقف امام المنزل الذي طلب منها الوقوف تحته وهي تصف السيارة بمحاذاة الرصيف ، ليجذب نظرها الذي قال بجانبها بابتسامة هادئة بامتنان
"شكرا لكِ يا سائقتي الخاصة ، انا فخور جدا بكِ يا مثلي الاعلى باتباع السير والنظام"
ادارت مقلتيها الخضراوين بملل وهي تهمس بنفاذ صبر
"ألن تخرج من السيارة ؟ فقد وصلنا لوجهتك المقصودة"
حرك رأسه بهدوء وهو يقول بجدية يكمل ما بدأه
"لن انزل قبلكِ ، فهكذا سيكون تقليل من مقام المرأة"
نظرت له بحاجبين مرتفعين ببهوت وهي تهمس بخفوت مبهم
"ماذا تقول ؟"
تغضنت زاوية ابتسامته وهو يقول بثقة اكبر
"النساء يتقدمن اولاً بعدها الرجال"
زمت شفتيها بامتعاض وهي تحاول تمالك اعصابها لآخر لحظة ، لتفك بعدها حزام الامان وهي تتمتم بسخرية
"ديمقراطي جدا !"
خرجت من السيارة بهدوء وهي تراقب الذي خرج خلفها من الجهة الاخرى ، لتتحامل بعدها على نفسها وهي تدور حول السيارة بهدوء حتى اصبحت تقف بجانبه ، ليفرد لها ذراعه قائلا بهدوء لبق
"تقدمي بالسير يا آنستي"
عقدت حاجبيها بجمود وهي تتقدم امامه مجتازة مدخل المنزل ثم السلم لتستقر واقفة امام الباب المذهب بزخرفة جميلة ، وصل لها بلحظات وهو يدس المفتاح بالقفل ليفتح لها مصرعي الباب على اتساعه .
تقدمت بالدخول بخطوات متزنة وهي تنظر لكل شيء حولها برهبة وكأنها بعالم موازي وبيئة تخالف واقعها وما مرت به سابقا ، كان منزل بسيط جدا يمزج الرقي مع البساطة بمكون سحري غريب والثراء مع التواضع والحداثة مع الرثاثة وكأنه النقيض عن كل شيء ، إذا كان من دهان الجدران الزيتية والمائية والاثاث الفخم الراقي ونوع البساط من نعاج النعام القديم والاضواء الذهبية الصغيرة المعلقة بزوايا السقف ، لتصل بالنهاية للواقف امامها والذي لم تنتبه له بموجة تأملها لتهمس بعدها بانبهار لم تستطع منعه
"هل هذا منزلك الجديد ؟ هل اصبحت تعيش هنا ؟"
اومأ برأسه وهو يفرد ذراعيه على جانبيه قائلا بقوة وكأنه يحقق اكثر احلامه صعوبة بحياته
"اجل هذا كله بات منزلي وحدي ، فقد اصبح لدي منزل منفصل عن العائلة وحساب بالبنك منفرد عنهم واهواء تخص نفسي وحياة ملكي وحدي ، وهذا يعني بأنني لم اعد محجوز بتلك الدائرة الزجاجية التي تحدد عالمي كما كنتِ تقولين"
تجمدت ملامحها بشحوب وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها هامسة بهدوء
"والتغيير يضمن السيارة ايضا ، أليس كذلك ؟"
اخفض ذراعيه وهو يتابع قائلا بنفس النبرة الواثقة
"اجل هو كذلك"
حملت رئتيها بالهواء اللازم وهي تقول بجدية تنهي هذا الجدال الذي طال كثيرا
"حسنا وما موقعي انا من الإعراب ؟ لما احضرتني لهذا المكان ؟"
دس يديه بجيبي بنطاله وهو يتقدم نحوها عدة خطوات قائلا بحزم
"انتِ هي اساس هذا المنزل ، انتِ هي سيدته ، وما حدث بأنني قد احضرتكِ لمكانكِ الحقيقي الذي تنتسبين له......"
توقف على بعد خطوات منها ما ان رفعت يدها بطريقتها عندما لا يسرها الكلام وهي تقول بصرامتها المعهودة
"لا تقل كلام اكثر ، فقد تعبت وانا اعيد عليك نفس الاسطوانة ، نحن الاثنان على وشك الطلاق والدعوى مرفوعة بالمحكمة ! عن اي منزل ومكان تتكلم عنه ؟"
تجهمت ملامحه بأول لمحة تظهر عليه وهو يقول بجدية يقنعها بطريقته
"لماذا كل هذا الاعتراض بالعودة للعيش معي ؟ لقد اصبح لديكِ منزل كبير وواسع والأهم منفصل عن العائلة ، ويمكنكِ احضار من تشائين للسكن به إذا كانت شقيقتك او سلالتها بأكملها ، ألم تكن هذه متطلباتك سابقا ؟"
ردت عليه من فورها بخفوت واجم وهي تخفض يدها بقوة
"انت قلتها بنفسك (سابقا) ! يعني هذا كله قد تغير الآن ، ولم اعد تلك الفتاة القديمة التي كنت تعرفها ، ومن تقف امامك الآن زوجتك التي ترفع عليك قضية طلاق تريد حريتها وكرامتها وحقوقها منك وكل ما سلبته منها ، لذا كن كريما معها وافعلها هذه المرة فقط !"
اشاح بوجهه جانبا وهو يحاول استجماع برود اعصابه التي احرقتها ببضعة كلمات ، لتقول بعدها بخفوت جامد وهي تستعد للرحيل
"حسنا إذا لم يكن لديك ما تضيفه فأنا راحلة"
نظر لها بسرعة وهو يقطع الخطوات بينهما ويمسك بذراعها بقوة قائلا بجفاء
"انتظري ، هناك ما اريد قوله ايضا"
سكنت بمكانها وهي تنتظر تكملة كلامه والذي لم يتأخر عليها وهو يقول بدون ادنى تردد
"لقد عرض عليّ والدي الزواج من فتاة تعرف عليها حديثا بصفقة تجارية ، وهو يخطط الآن لتمهيد الامور بيننا وعمل جلسة تعارف بيننا ، وقال بأنني إذا قبلت بهذا العرض المقدم وتزوجت من الفتاة المقصودة فسوف يسامحني على كل الاحداث الاخيرة ويعود ليضمني تحت جناحه لأجلس على مقعد رئيس الشركة المرتقب والذي سيرث كل اعماله ، ولكن بشرط بأن اتمم اجراءات الطلاق منكِ على ان تكون قبل الزواج من الفتاة المختارة"
تصلبت اطرافها ببرود جليدي وكأنها موجة صقيع احتلت روحها التي قهرها اكثر من مرة ، لتسحب بعدها هواء ملئ رئتيها بالشوك وهي تهمس برسمية قاتلة
"مبروك مسبقا ، بالرفاه والبنين ، اتمنى لك السعادة"
ما ان شدت ذراعها حتى امسك بها بقوة اكبر وهو يقول باستهجان
"وماذا عنكِ انتِ ؟ أليس لديكِ اعتراض بهذا القرار ؟"
التفتت بنصف وجهها وهي تهمس بخفوت ميت وكأنها قتلت كل مشاعرها مع ذاك الخبر الذي سماعه يؤلم اكثر من تصديقه
"وماذا تنتظر مني ان اقول ؟ لا تقلق بشأني فقد اعتدت على هذا الوضع سلفا ، فأنا قد قبلت بك وانت متزوج من اخرى ! فلماذا اعترض الآن من زواجك بغيري ؟ فهذه سنة الحياة نعيش ونموت نتزوج وننجب ونفرح ونبكي"
احتدت ملامحه وهو يديرها امامه بقوة ليكبل كلا ذراعيها وهو يهزها منهما قائلا بقسوة يفهمها بطريقته
"هناك اختلاف كبير بين الوضعين ! ألم تلاحظي ذلك ؟ سابقا كنت اوافق على الذي يتم اختياره لي بدون النظر او معايرة السلعة ولكن الآن قد تغير وضعي تماما لأنني وجدتك انتِ ، انتِ لست مجرد زوجة سلعة او صفقة عمل او بضاعة محدودة ! انتِ زوجتي وانثاي التي سكنت قلبي وخفقاته ! ألا يرأف قلبك بحالي ؟"
ابتلعت ريقها بارتباك عبث بخفقات قلبها وهز صمود كبريائها ، لتعزم امرها بثواني وهي تتلوى بين ذراعيه قائلة ببأس
"اتركني اذهب يا احمد ، فقد تأخرنا كثيرا بهذا"
ازدادت وتيرة انفاسه بعاصفة وشيكة وهو يقربها من صدره الملاصق لها ويخمد كل مقاوماتها بقبلته التي اطبقت على شفتيها بلحظة يسكت انينها الرافض بطوفان عالي ، وما هي ألا لحظات حتى بدأت تبادله القبلة بسلاسة التي سحبت الهواء بينهما وحصرت المشاعر بين قلبيهما ، لتمسك بعدها بياقة قميصه وهي تنهل من قبلته ومن نبع المشاعر تنشط بركان قلبها بها بعد ذاك الخبر القاسي .
تركها بعدها وهو يستعيد تنظيم انفاسه بتسارع بعد ان استنزفت اللحظة العاطفية قواهما ، ليقول بعدها وهو ينظر لها بابتسامة منتصرة وكأنها اهم انتصاراته
"هل رأيتِ ذلك ؟ انتِ ما تزالين تكنين المشاعر لي ! ولا تستطيعين إنكار ذلك بعد الآن ، فقد ظهرت حقيقة مشاعرك بمبادلتك تلك القبلة"
سحبت يديها بارتجاف وهي تخفض نظرها هامسة بجمود تتسلح بالقسوة
"لا استطيع ان ابادلك الحب بعد الآن ، فإذا حاولت ذلك فسوف ادوس على احترامي لنفسي وكبريائي الذي تحطم تحت سطوتك انت وطليقتك ! ولن اسمح لهذا الحب ان يدمرني اكثر"
اتسعت حدقتيه الرماديتين بصدمة وهو يتلقى صفعة مدوية طبعت بقلبه بعد لحظات من القبلة العاطفية ، لتنسحب بعدها من امامه بسرعة وهي تستدير على عقبيها وتتابع سيرها ، وما ان وصلت باب المنزل حتى قالت بآلية تنهي القضية التي طالت بينهما
"موعد الجلسة الثانية والاخيرة بعد يومين ، تأكد من حضورك لها لأنهاء ما بدأناه ، فإذا لم تحضر فسوف اكمل اجراءات طلاقنا بدونك"
غامت ملامحه بسحب دخانية اكتسحت مساحة بقلبه وهو يشاهد باب المنزل وهو يغلق بوجهه ، ليخرج بعدها هاتفه من جيب بنطاله ما ان اصدر صوت رسالة ، وما ان فتحه حتى ظهرت له الرسالة بوضوح ومفادها
(دفع غرامة الوقوف الخاطئ بالسيارة وركنها بمنتصف الطريق)
تجعدت ابتسامته على طرف شفتيه وهو يتمتم بكبت ساخر
"فتاة القانون والنظام"
________________________________
وقفت امام باب المنزل بتردد وهي تخطو خطوة للأمام وخطوتين للخلف تحسب كل تلك المسافة التي قطعتها للوصول هنا بشجاعة لم تظن انها تملكها ، وبما انها قد وصلت اخيرا لوجهتها فلا مجال للتراجع بعد الآن ولا خيار امامها سوى القبول بما اقدمت نفسها عليه ، وهذا فقط لكي ترضى رغبتها المجنونة برؤيته والاطمئنان على وضعه بعد تلك الحادثة الفظيعة التي مر عليها اكثر من اسبوع ، وهي تتخبط طول ذلك الاسبوع الشائك بالتعثرات الذي مر عليها اقسى من ليلة حدوث تلك الحادثة ، وها هي ترفع راية الاستسلام وتشد رحال قلبها كي تنهي كل تلك الحروب النفسية والعاطفية .
شددت بإمساك علبة متوسطة الحجم تحوي قالب كعك جاهز الصنع اشترته من اقرب مخبز هنا ، لترفع بعدها يدها وهي تستخدم الجرس اليدوي المتدلي منه لتطرق به على الباب باتزان ، اخفضت يدها بسرعة ما ان سمعت صوت جلبة من الداخل قبل انفتاح الباب بلحظات ليظهر لها وجه المرأة ذاتها صاحبة المنزل والتي قابلتها مرة واحدة فقط دخلت قلبها مباشرة .
زمت شفتيها بامتقاع وهي تخفض وجهها بسرعة بحياء تحاول تجميع الكلمات التي تشتت من ذهنها بلحظة خائنة ، لتتطوع (هيام) بالكلام وهي تقول ببشاشة محببة
"مرحبا ، هل هناك مشكلة ؟......."
قطعت كلامها بسرعة وهي تقول بسعادة غامرة ما ان تعرفت على هويتها
"هل من الممكن ان تكوني ؟....انتِ هي الفتاة التي جاءت مع اوس وانقذت حياته ! أليس كذلك ؟"
توترت اطرافها وهي تشدد من إمساك العلبة من جانبيها هامسة بخفوت مرتبك
"اجل صحيح ، تسرني رؤيتكِ مجددا يا سيدتي"
ارتفع حاجبيها بدهشة وهي تقول بابتسامة حنونة
"سيدتي ! انا بعمر ومقام والدتك ليس من المحبب مناداتي هكذا ، هل فهمتي يا ابنتي ؟"
اومأت برأسها بهدوء وهي تقول بخفوت محرج
"اجل انتِ على حق ، اعتذر على هذا يا خالة"
افاقت على صوتها وهي تفتح لها الباب وتفسح المجال لها قائلة بمودة
"هيا ادخلي يا ابنتي ، لا تبقي واقفة على الباب مثل الغرباء"
رفعت رأسها بابتسامة خجولة وهي تدخل من الباب بخطوات مترددة ما تزال تفكر بمدى المخاطرة التي خاضت بها ، لتلتفت بعدها نحو التي اغلقت باب المنزل خلفها وهي تقول بابتسامة حانية
"انتِ صديقته صحيح ؟"
تشنجت ملامحها من سؤالها المفاجئ وكأنها تقصد شيء آخر من كلامها ثارت الدماء بأوردتها ، لتقول بسرعة تنهي كل تلك الاوهام التي بدأت تدور برأسها
"اجل صديقته ، مجرد اصدقاء قدامى"
اومأت برأسها بتفهم وهي تتابع تساؤلها بخفوت لطيف وكأنها تتعرف على حياة ابنها عن قرب وما لم تستطع فعله بلقائهما الأول
"وذاك الشاب الذي كان برفقتك وساعد اوس يكون شقيقك ، صحيح ؟"
اومأت برأسها بإحراج على وشك الفتك بها من سوء موقفها وهي تهمس بخفوت
"بلى هو شقيقي الصغير"
اتسعت ابتسامتها بحنان وهي تقول بامتنان شديد
"اوصلي له سلامي واخبريه بأنني ممتنة جدا على كل شيء قدمه لابني اوس لم يفعله احد غيره ، وانا واثقة بأن والدتكما فخورة جدا بتربيتها وما اثمرت جهودها بكما"
ابتسمت بتحفظ وهي تهمس بسعادة حقيقية
"شكرا لكِ ، هذا من دواعي سروري"
ساد صمت للحظات ظنت بأن الاسئلة قد انتهت لتخالف توقعاتها وهي تقول بسؤال مفاجئ
"منذ متى انتِ واوس اصدقاء ؟"
نظرت لها بسرعة بعينين واسعتين وهي تهمس من فورها بكذبة مبتكرة
"منذ ايام الثانوية العامة ، لقد انتسبنا لنفس المدرسة"
اومأت برأسها بابتسامة اكبر وكأنها تجاري سياق كذبتها بمنتهى البساطة بدون اي اعتراض ، وما ان كانت ستعاود الكلام حتى سبقتها التي مدت العلبة لها وهي تقول بانفعال متوتر
"اعتذر على هذه الزيارة بدون موعد مسبق ، واقبلي مني هذه الهدية المتواضعة لخروج اوس بالسلامة ، وحمد الله على سلامته مجددا ، واعتذر على الإطالة عليكِ بدون داعي"
امسكت بيديها مع العلبة وهي تقول بملامح بشوشة بمحبة
"شكرا لكِ يا صغيرتي ، لم يكن هناك داعي لتتعبي نفسكِ وتحضري هدية معكِ ، يكفي مجيئك كل هذه المسافة للاطمئنان على صديقك وتفكيرك بصحته ، وانا اقدر حقا عفة روحك واخلاقك العالية"
سلمتها العلبة بصمت وهي تفرك يديها معا بتوتر مفرط بعد ان انتهت من المهمة التي جاءت من اجلها ، لتتنفس بعدها بتحشرج وهي ترفع رأسها هامسة بجدية
"كيف صحته الآن ؟ هل تحسنت حال ذراعه ؟"
تغضنت زاوية ابتسامتها بأمومة وهي تقول بابتهاج
"الحمد لله لقد تحسن وضعه كثيرا عن السابق ، واصبح يستطيع تحريك ذراعه بسهولة اكبر ، ولكن الألم ما يزال موجود بعد كل حركة يفعلها بها"
لانت ملامحها بارتياح وكأنها تسكب عليها ماء بارد اثلج جمرة قلبها المشتعل ، لتومئ بعدها برأسها وهي تقول بخفوت رقيق
"إذاً اعتقد بأن وقت رحيلي قد حان ، وشكرا لكِ على استقبالي بمنزلك وقبولك الهدية......"
قاطعتها (هيام) بسرعة وهي تمسك بذراعها وتجذبها معها جهة رواق المنزل
"لا داعي لكل هذه العجلة يا ابنتي ، فأنتِ قد وصلتِ للتو وتحتاجين للراحة واستضافتك بمنزلنا ، من اجل ان نعوض عن المرة الفائتة التي ذهبتي بها بدون ضيافة ، لذا اقبلي الضيافة ولا تتكبري"
وجدت نفسها تنصاع لها وهي تجلسها على الاريكة برواق المنزل ، لتقف (هيام) باستقامة وهي تحتضن علبة الكعك وتقول بابتسامة امومية سخية
"انتظريني هنا دقائق ، سأذهب لتحضير الشاي وتقطيع قالب الكعك من اجل ضيافتك ، وسأعلم اوس بوجودك من اجل ان يستقبلك كذلك"
شخصت عينيها بصدمة وهي تنوي الاعتراض بسرعة لولا مغادرة الاخرى وهي تبتعد عن ناظرها بدون ان تنتظر تعليقها ، لتتنفس بعدها بجهد وهي تضم يديها بحجرها بدون ان تمنع نفسها من سرقة بعض النظرات للمنزل حديث الطراز والذي يتكون من طابق واحد وبذات الوقت فسيح ورحب .
اعادت نظرها للأمام وهي تعود لتأنب نفسها على تلك الخطوة المتهورة التي اوصلتها إلى هنا ، فلم تحسب حساب مقابلته وجه لوجه ! وماذا سوف تفسر له سبب وجودها ؟ هل تقول بأن قلبها قد غدر بها واحضرها إلى هنا ؟
انتفضت بتصلب نحتت بها فقرات ظهرها ما ان سمعت الخطوات القريبة يتبعها الصوت الذي سمعته بتلك النبرة عندما كان يستغيث بها
"سيدرا !"
ابتلعت ريقها بصعوبة وهي تحاول استعادة تركيزها الثابت بثواني ، ليعود صوته يتردد بأذنيها وهو يقول مجددا بهدوء اكثر اتزانا
"مرحبا ، لم اتوقع مجيئكِ ! لقد فاجأتني عمتي عندما اخبرتني بوجودك بالمنزل وسؤالك عني"
لوت شفتيها بشبه ابتسامة وهي تهمس بإحراج شديد
"اعتذر على نزولي متطفلة عليكما ، ولكن الخالة هيام اصرت على دخولي وتقديم الضيافة لي ، ولم اجد بداً من الرضوخ لها"
ردّ عليها (اوس) بتفكير بديهي
"هكذا الامر إذاً"
زمت شفتيها بوجوم وهي ترهف السمع لصوت خطواته التي اصبحت بحيز مكان جلوسها ، وبعدها بلحظة كان يجلس على الاريكة الاخرى وهو يتنفس بتعب واضح وكأنه تكبد العناء بالنهوض والقدوم ، لتشدد اكثر على يديها وهي تقول بخفوت معاتب
"ما كان عليك المجيئ ومغادرة سريرك ، فأنت ما تزال متعب واصابتك تحتاج لفترة نقاهة اكثر حتى تتماثل للشفاء ، لذا لا تكون بكل هذا الإهمال بموضوع صحتك"
كان ينظر لها بتمعن وهو يقول بخفوت باسم
"وتريدين مني ان اترك ضيفتي وحدها بأول زيارة لها ! هذا لا يجوز بالتأكيد وليس من شيمي"
اشاحت بوجهها جانبا وهي تهمس بخفوت ممتعض
"يا ليتك تكون عادل بمواقف اخرى"
اضطربت ملامحها ما ان قال بهدوء مرتاب
"ما بكِ يا سيدرا ؟ لماذا تنظرين بعيدا عني ؟ هل نحن متخاصمان يا ترى ؟"
التفتت له بسرعة وهي تقول بابتسامة صغيرة يشوبها بعض احمرار الخجل
"الامر ليس كذلك ، انا فقط محرجة منك....."
علقت الكلمات على طرف لسانها ما ان وقعت عينيها على ابتسامته الجانبية التي تعتلي ملامحه المسترخية رغم ذبولها من التعب والوهن ، ولكن بعمق المأساة تستطيع ان تلمح تغير طفيف بعينيه السوداوين اللتين باتتا اكثر ابتساما وانفتاحا وكأنها نتائج العودة من موت وشيك ، لتتوقف بعدها عند الخطوط المتصلبة حول شفتيه ما ان قال باستغراب حائر
"محرجة مني ! من ماذا محرجة ؟"
ارتفع حاجبيها بشحوب وهي تدير وجهها بسرعة هامسة بخفوت مرتبك
"لا شيء ، فقد تهت بصياغة الكلام"
عقد حاجبيه بتركيز وهو يحتضن ذراعه المصاب امام صدره قائلا بمزاح
"هل يعقل بأنكِ تخجلين مني ؟ اين كان هذا الخجل عندما كنت اموت بين ذراعيك ؟"
شهقت بعنف وهي تنظر له قائلة بانفعال حانق
"ليس هناك ما يضحك بالأمر !"
ضحك بتعب وهو يلوح بيده السليمة قائلا برفق
"حسنا اعتذر منكِ ، لن اعيدها مجددا"
ركزت نظرها على ذراعه المصاب وهي تنتبه لأول مرة للضماد الذي يلف ذراعه بدون ان يعلق حول عنقه ، لتقول بعدها بابتسامة حزينة بهدوء
"كيف حال ذراعك ؟ هل ما يزال يؤلمك ؟"
اخفض نظره لذراعه وهو يمسح على الضماد بيده الاخرى قائلا ببساطة
"ما يزال يحتاج للكثير ليتحسن ويلتئم الجرح ، فهو بالنهاية طلق رصاص وليس من السهل الشفاء منه بسرعة ، ولا تقلقي بشأنها فقد نجوت من اصابات اسوء منها بكثير"
حركت رأسها بتشتت حتى غشت عينيها سحابة دموع رقيقة بعد كلامه الذي اوجعها اكثر ما يطمئنها ، لتقول من فورها بخفوت لائم بغضب
"لا تقل هذا الكلام الاحمق معدوم الثقة والإيمان ! فأنت سوف تتحسن وتتماثل للشفاء بإذن الله ، ولن يصيبك مكروه سوى ما كتبه الله لك ، لذا توقف عن قول مثل هذه الترهات"
التوت ابتسامته بشغف واضح وهو يتلقى توبيخ قاسي منها تصحح خطأه كما كانت تفعل فيما مضى بدون اي استسلام وهو يدفعها للغضب منه بكل مرة ، ليدير عينيه بعيدا عنها وهو يقول بهدوء ممتن
"اعتذر منكِ ، لم تتسنى لي الفرصة لشكرك كما ينبغي على انقاذي حياتي ، وبأنني احمل دين لكما انتِ وشقيقك لن استطيع سداده لكما بأي شيء ، لذا إذا رأيتِ شقيقك اوصلي له سلامي وشكري الخالص وبأنني سأكون دائما على استعداد لردّ معروفه معي الذي قدمه بإنقاذ حياتي"
غامت ملامحها بصمت وهي تدير نظرها وتمسح وجنتيها بكفها هامسة بخفوت خاوي
"لا بأس بذلك ، لا تفكر بالأمر كثيرا وتتعب نفسك ، فكل ما يهم هي صحتك وخروجك سليم منها"
اخفض رأسه بابتسامة طافت على محياه وهو يتمتم بخفوت
"شكرا لكِ يا سيدرا ، لا اعلم ماذا كان سيحدث لي لولا وجودك بحياتي ؟"
عضت على طرف شفتيها بتوتر وهي تقول بلحظة بجدية تغير مسار الموضوع الذي ارهق كيانها
"لقد عرفت بكل شيء حدث بينك وبين عمير ، والشجار الذي ادى لإطلاق النار على كل منكما ، وقد قدم إفادة للشرطة يتهمك بجريمة محاولة قتله بسلاحك ، ولكن ما لا اعرفه هو سبب هذا الشجار وهدفه ؟"
ابتلع ريقه بتعرق غزى محياه وهو يقول بوجوم قاتم اظلم بعينيه
"شجار لا طائل منه ، لذا لا تكترثِ بأمره وانسي ما حدث ، فأنا استحق عواقب كل ما يحدث لي"
حدقت به بتأمل وهي تتابع بخفوت جامد تدلي بكل الحقائق التي حدثت
"المشكلة ليست باتهامك امام الشرطة ، فقد ورطني بالجريمة ايضا وقال بأنني شريكتك التي ساعدتك على الهرب ومحاولة اختبائك بمنزلها ، حتى اقتحمت الشرطة منزلي وفتشوا المكان بالكامل قبل ان يأخذوني معهم لقسم الشرطة ويجروا معي تحقيق شامل بالأمر عندهم ! لقد سبب هذا الحادث الكثير من المتاعب لي"
نظر لها بصدمة يرافقها انعقاد حاجبيه وبروز الندبة بينهما بغضب وهو يقول باستهجان شرس اهتزت ذراعه المضمدة بعصبية
"كيف حدث هذا ؟ ومتى حصل ؟ كيف لا اعرف بشيء عن هذا ؟...بل كيف نفذتِ منهم ؟ هل يعقل بأنهم قد استخدموا معكِ اساليب عنيفة ؟ كيف سمحوا لأنفسهم ان يمسوكِ بسوء هؤلاء الاوغاد ؟....."
قاطعته بسرعة وهي تلوح بيديها تعقب بتبرير
"كلا يا اوس لم يحدث شيء مما تفكر به ، فلم يأخذ الامر سوى دقائق بجلسة التحقيق تلك قبل ان يخرجوني بعدها ، وعلاوة على ذلك لا اعلم كيف حدث هذا ولكن عمير قد تراجع عن الشكوى قبل ايام وسحب التهم عنك ! يعني انت الآن بريء تماما ولست مضطر للاختباء من احد ، وانا سعيدة حقا بهذه المعجزة التي اخرجتنا من هذه المصيبة سالمين"
ارتفع حاجبيه بتفكير مشدوه من هذه المفاجأة الغير متوقعة والغريبة من نوعها ، ليشرد بعدها بنظراته لوهلة وهو يتمتم باحتمال مؤكد
"لن يفعلها احد سوى افراد العصابات"
نظرت له بحيرة وهي تهمس ببهوت
"هل كنت تتكلم معي ؟"
حرك رأسه بالنفي وهو يقول بابتسامة باردة
"لا شيء مهم ، كل شيء على افضل ما يرام ، واعتذر حقا على كل المشاكل التي اقحمتكِ بها والتي حتى لو بقيت اعتذر منكِ عليها فلن اوفيكِ حقك وسأكون ظالم معكِ دائما"
تنفست بابتسامة ناعمة وهي تدس الخصلات على جانب حجابها هامسة بخفوت رقيق
"لا داعي للأسف يا اوس فقد حدث ما حدث ، وكنت اود سؤالك عن شيء آخر كان يراودني كثيرا منذ تلك الحادثة ، لماذا اخترتني انا من بين الجميع باللجوء له بعد إصابتك بالطلق الناري وانت على شفة من الموت ؟"
صوب نظره نحوها بتركيز لبرهة قبل ان يقول بشبح ابتسامة ظهرت بعطف
"لقد قرأت معلومة ذات مرة تقول بأنك عندما تقترب من الموت وتشعر بأن نهايتك وشيكة تلجئ إلى اقرب شخص لقلبك ليكون آخر ما تراه عيناك وتستطيع الموت بين يداه ، وانتِ بالطبع الوحيدة التي خطرت ببالي واردت توديعها كآخر شيء جميل عرفته بحياتي وتمنيت العيش معه باقي سنواتي حتى مماتي ، لذلك لجئت لكِ تحديدا لأنكِ من اريد الموت بين يديها وطبع صورتها بذهني وعيش لحظاتي الاخيرة بقربها"
رفعت عيناها نحوه والتي جمعت الدموع الندية بهما بصمت وهي تتمتم بخفوت مكبوت بقهر
"يا لقسوتك يا اوس متحت !"
عض على طرف شفتيه بضحكة كادت تفلت منه وليس بسبب خوفه من غضبها بل بسبب قدوم سيدة المنزل التي عادت لهما بصينية تملئها بصحون الضيافة كاملة ، لتقول بعدها بابتسامة بشوشة وهي تضع الصينية فوق الطاولة المنخفضة بالوسط
"اعتذر على التأخير بتحضير الضيافة ، فقد اضعت وقتي بالبحث عن سكين تقطيع قالب الكعك ، وهذا الامر استغرق مني الكثير من الوقت"
تدخل (اوس) وهو يقول بعبوس جاد
"ما كان عليكِ ان تتعبي نفسكِ بتحضير كل هذا يا عمتي ، فقد كان سيفي بالغرض كؤوس شراب وماء"
كانت تنحني امام الطاولة وهي تسكب ابريق الشاي بالقدح قائلة بتقريع
"هل انت غبي ؟ تريد مني ان اضيف منقذتك بكأس شراب وماء ! يكفي بأنها قد اتعبت نفسها وجلبت قالب الكعك هذا من اجلك يا ناكر الجميل ، حقا قليل ذوق وفهم مثل شقيقه !"
عبست ملامحه بوجوم وهو يتمتم بتذمر
"هل اصبحت الآن قليل ذوق وفهم لأنني لم ارد ان اتعبك ؟"
ردت (سيدرا) على كلامها وهي تقول بمجاملة
"لا داعي لكل هذا الثناء على قالب الكعك يا خالة هيام ، لقد اردت فقط ان اعوض عن زيارتي بدون موعد لكي لا اكون فارغة الايدي ، واتمنى حقا ان يعجبكم قالب الكعك ويكون عند مقامكم"
ابتسمت لها بمحبة وهي تضع لها قدح الشاي امامها هامسة بخفوت مرح
"هذا لأنكِ تملكين ادب وحياء ولستِ مثل جنس الرجال الحمقى الذين لا يعرفون سوى التذمر والشكوى فهمّ ذوات عقول صغيرة كأحجام حبة البازيلاء !"
ردّ عليها (اوس) وهو يدير وجهه بملامح مكفهرة
"لا اصدق ما اسمع !"
بينما كانت (سيدرا) تمسك بقدح الشاي وهي تشرب منه بصمت لتخفي ابتسامتها السرية خلفها بدون ان يراها احد .
بعدها بساعة كانت تنهض عن الاريكة وهي تقول بابتسامة هادئة بمودة
"حسنا حان وقت رحيلي فقد تأخرت بالفعل ، وشكرا لكما على حسن الضيافة"
وقفت (هيام) وهي تقول بابتسامة معاتبة
"ما يزال الوقت مبكر يا عزيزتي ، لماذا لا تبقين عندنا على الغداء ؟"
لوحت بيدها بسرعة وهي تقول بابتسامة معتذرة
"اعتذر حقا يا خالة ، فأنا لا استطيع التأخر عن المنزل اكثر من هذا ، فقد خرجت من الصباح الباكر والآن الوقت اصبح قريب من العصر ولن اصل للمنزل حتى وقت متأخر"
اومأت برأسها بتفهم وهي تقترب منها لتربت على كتفها قائلة بلطف
"لا بأس يا ابنتي ، إذاً تعالي عندنا بزيارة اخرى ، وستكون هذه المرة بوقت الغداء مفهوم ؟"
اومأت (سيدرا) برأسها بخجل وهي توجه نظرها نحو الجالس بمكانه شارد بكأس الشاي بيده ، لتستدير بعدها توليهم ظهرها قبل ان تقول بخفوت باسم
"اعتذر لأنني لم اصدقك منذ البداية ، واعدك ان اثق بك اكثر من الآن وصاعدا ، لذا إياك ان تخذلني مجددا"
رفع رأسه بصدمة نحو التي غادرت من المكان بسرعة وهي تخرج من باب المنزل بلحظات ، ليرمق بعدها التي باتت تقف بجانبه والتي عقبت قائلة بحنان
"انها فتاة طيبة وجيدة ومعدنها اصلي"
غزت ملامحه ابتسامة جانبية وهو يهمس بخفوت هائم غير مسموع
"اجل انها رائعة بشكل يخطف الانفاس"
نظرت له بعينين سوداوين واضحتين وهي تستدير بنصف جسدها لتربت بعدها على كتفه وهي تقول بمغزى
"حافظ عليها جيدا ، وإياك وان تفرط بها ، فلن يمنحك القدر المزيد من الفرص"
غادرت بعدها من جانبه وهو يتابع اثرها بصدمة بانت على محياه من كلامها الاخير الذي يدل على معرفتها بالقصة ! ام هي فطرة الامومة الخارقة التي تكشف كل دواخل ابنها واعمق اسراره الدفينة والمخفية من نظرة واحدة له ! ولن يستبعد ذلك منها من كانت تكشف كل اكاذيبه الصغرى والكبرى منذ طفولته حتى لو حاول دفنها واحاطتها بمئة حاجز وحصن .

نهاية الفصل..........

بحر من دموع Where stories live. Discover now