الفصل السابع عشر

114 3 2
                                    

وصلت امام الحافلة والخاصة بالترحال بين المدن وهي ترفع نظراتها من تحت حافة قبعتها والتي كانت تقييها من قطرات المطر القوية ، قبل ان تدخل من فورها من باب الحافلة والذي فُتح امام الركاب المنتظرين والهاربين من الأمطار الغزيرة ، والتي لم تتوقف لثانية لتغرق كل طرقات الأحياء والقانطين بها بكل مكان .

ما ان دخلت حتى اختارت المقعد الفارغ والمتبقي امامها من بين عدة مقاعد شاغلة ، لتجلس عليه بلحظة وهي تسند ظهرها للخلف بتعب وإنهاك استبد بها بعد تلك المسافة الطويلة والتي اخذت منها كل ذرة طاقة كانت مختزنة بداخلها بعد خروجها من بيت صديقتها ، لتضيع بين زحمة المواصلات والتي ارهقت جسدها والذي ما يزال للآن يعاني من آثار مرض الأمس ، ولكنها مع ذلك لم تهبط من عزيمتها ولم تأثر على سير خطتها بالوصول لبيت صديقتها واطمئنانها عليها بالرغم من انها لم ترتح قط لحالة تلك الفتاة الحالمة وما وصلت له ولتلك الحياة والتي تعايشها مع ذاك الزوج الجليدي ! وكل ما تتمناه بحياتها ان تكذب ظنونها السيئة حولها وان تكون حقا ما تزال صديقتها كما تعرفها وتعهدها بتلك الشخصية المفعمة بالحياة والتي لا يؤثر بها كل سلبيات العالم بروحها النقية الجميلة ، ومع ذلك لا تستطيع تكذيب ظنونها والتي تصيب اهدافها دائما بدون ان تخطئ تفكيرها مثل غريزة الحذر والتي عاشت عليها ونمت بها حتى اصبحت جزء من هذا الجسد والذي تعيش عليه .

رفعت يدها وهي تمسح على مقدمة قبعتها من قطرات المطر والتي ما تزال تسيل منها ، لتتصلب بعدها لوهلة بمكانها ما ان سمعت الصوت المألوف وهو يقول بجانبها بخشونة حذرة
"جميل ان اراكِ مجددا يا حلوة ! يا لها من صدفة رائعة واستثنائية !"

اتسعت حدقتيها الزرقاوين على استدارتهما بجمود وهي تنتفض بمكانها بحركة طفيفة ، لتلتفت بوجهها بحذر للجالس بجانبها بدون ان تنتبه لهويته منذ لحظة جلوسها هنا ! لترفع بعدها حاجبيها ببطء متوجس لبرهة وهي تتجول بنظراتها بجانب وجهه للذي كان ينظر من النافذة بشرود وكأنه ليس من نطق الآن بذلك الكلام من لحظة ؟

عبست ملامحها ما ان تابع كلامه بدون ان ينظر لها وبهدوء ظاهري
"حسنا إلى متى ستبقين تحدقين بي بهذه الطريقة حتى تصدقي بأنني حقيقة امامك ولست وهم من خيال خرج من ابشع كوابيسك ؟!"

عضت على طرف شفتيها بتشنج ما ان تذكرت ما حدث معها بسبب هذا الرجل والذي يكون عضو من عصابة خطيرة والسبب بخطفها من اجل الوصول لشريكهم (مازن) من خلالها ظناً منه بأنها شقيقته ومن ستوصلهم لجحر ذاك المجرم ، ولن تنسى ما حدث بعدها من احداث سريعة بداية من انقاذ (شادي) لها واكتشافه لكل شيء يتعلق بحياتها الماضية حتى اصبحت ورقة رابحة بيده لا تستطيع سلبها منه او التحكم بها نهاية بتحديد موعد زواجها منه والذي حدث بغفلة منها ورغم إرادتها ، وكم هذا الأمر يزعجها ويدفعها لتشعر بالنقمة عليهم بكل شيء يحدث معها للآن .

قالت بعدها بلحظات وهي تشدد من القبض على يديها هامسة من بين اسنانها بانقباض بدون ان تحيد بنظراتها بعيدا عنه
"هل هذه خطة جديدة لمحاولة الانتقام مني بعد ما فعلته بخطتكم الحقيرة وتدمير اعضاء من مجموعتكم باعتقال الشرطة لهم ؟ وبعد كل هذا لا شك بأنكم ستكيدون لي بالفخاخ وتلقيني درساً لن انساه بحياتي لكي لا احاول العبث معكم مرة اخرى !"

حرك رأسه نحوها بلحظات وهو ينظر لها لأول مرة ، ليعقد عندها حاجبيه لبرهة ظهرت معها الندبة واضحة بينهما وهو يبتسم هامسا بدون مرح
"لقد اخطأتِ يا جميلتي بالظن ، لأني لو كنت اخطط لذلك حقا لما بدأت بالكلام معكِ هنا وبحافلة ترحال تحوي على مئات البشر ! فهذا ليس من عادات عملي المعروفة ، وايضا واهم صفة عندي بأني لا اكرر خطأي مرتين فمرة واحدة تكفيني لتعلمني فداحة فعلتي الأولى وآثارها والتي ستبقى ملازمة لي دائما"

عقدت حاجبيها بحدة وهي تهمس بامتعاض
"إياك وان تناديني جميلتي ، وكل هذه الترهات والتي كنت تتكلم عنها فهي لا تهمني ، فأنا لا اثق بك ومن المستحيل ان اثق بمجرم حاول يوما خطفي واذاقني الويل مع اصدقائه ، وكله من اجل الوصول لمجرم باستخدام المقربين منه والذين ليس لهم ذنب بأعماله ولا يربطهم به سوى صلة الدم والتي لم تكن يوما من اختيارهم"

اتسعت ابتسامته بجمود للحظات بدون ان تنم على شيء وبدون ان تنتبه لنبرة صوته القاتمة والتي ازدادت برودا وهو يتمتم بشرود
"انتِ على حق لم يكن يوما من اختيارهم"

تغضن جبينها بحيرة وهي تهمس بحدة منفعلة
"بماذا تهمس ؟"

ارتفع حاجبيه ببرود وهو يعود للنظر للنافذة قائلا بعدم مبالاة متعمدة
"لا تهتمي لكل شيء اقوله ، ولا تهمني ايضا ثقتك من عدمها فأنا لم اطلب منكِ تصديقي بكل الاحوال ولا اخذ رأيكِ على كلامي"

تنفست بوجوم وهي تتنقل بنظرها بتوجس بعدد الركاب بالحافلة والذين يتجاوزون اكثر من عشرين راكب وكل منهم منشغل مع اصدقائه ورفيقه بالرحلة وسيكون من الجنون افتعال فضيحة او مشكلة بين كل هذا القوم والذي سيسبب لكل منهما بفضيحة علنية ستنشر بكل الصحف ، لتكتف بعدها ذراعيها فوق صدرها بتصلب وهي تعود لتسند ظهرها بهدوء عليها الالتزام به حتى نهاية الرحلة ، والتي ما تزال الطريق امامها طويلا بدون ان تعلم من اين ظهر لها هذا الرجل ليسلط بحياتها هكذا وبهذه اللحظة بالذات ؟

ابتسمت فجأة ببرود ساخر ما ان تذكرت من بين غمامة شرودها تضايق (شادي) من انجذاب كل اصناف المجرمين لها تحديدا والذين يحومون من حولها بكل مكان تذهب إليه بدون إرادة منها ، ويبدو بأنه على حق بعد كل شيء فهي لطالما كانت تجذب هذا النوع من البشر بعد ان ترعرعت بينهم منذ شبت عن الطوق .

حانت منها التفاتة نحو الصامت بجانبها وهي تهمس بوجوم طاردة غمامة الحذر عنها
"هل تذهب عادةً بالمواصلات العامة وتتنقل بين المدن كثيرا ؟ ام انها جزء من عملكم نشر الفساد بكل المدن الموجودة على الخارطة !"

حرك رأسه بشرود وهو يتمتم بشبه ابتسامة ساخرة
"لا يا ذكية هذا ليس جزء من عملنا ، بل كنت اعمل زيارة عائلية لبعض الاقارب بهذه المدينة وايضا زيارة لبعض الاحباء"

ارتفع حاجبيها ببرود وهي تهمس بخفوت ساخر
"لم اكن اعلم بأنكم من نوع البشر الذي يملك احباء بحياته ! لم اقصد الإهانة ولكن هذا هو الظاهر ؟"

زفر انفاسه بهدوء وهو يعود للكلام قائلا بجمود قاتم
"قد تكونين على حق ، فأنا لم املك الجرأة على الاقتراب منهم او مواجهتهم بعد كل ما حدث بالماضي ، واتمنى لو املك بعض الجرأة لمواجهة تلك الاخطاء والتي لا تغفر ابدا بحياتي والتي ستبقى ندوب عليّ التكيف معها دائما"

انفرجت شفتيها قليلا وهي تهمس بخفوت مستاء
"هل تقصد بأنك لم تقترب من الذين اتيت لزيارتهم بهذه المدينة خصيصاً ؟"

حاد بنظراته نحوها لثواني وهو يحرك رأسه قائلا ببساطة
"لا داعي للتعجب ! فأنا اتنقل دائما بين مدينتي ومدينة احبائي املاً بأن اكسب المقدرة يوما ما واقوم بزيارتهم بدون اي خوف من ذلك الماضي ، ولا اعلم تحديدا متى سيأتي هذا اليوم ؟"

عضت على طرف شفتيها بانفعال مكبوت وهي تشيح بوجهها بعيدا عنه وبعد ان شعرت بأنها تدنو كثيرا من منطقة الخطر وهي تتجاوز حدودها والتي بنتها حول نفسها لتفصل بينها وبين البشر ، ولا تعلم من اين اتى كل هذا الفضول لتدخل بقصة حياته والتي اثارت بداخلها ألم عميق غير مبرر ؟
تنفست بهدوء وهي تعود للكلام بعدها بلحظات قليلة هامسة باقتضاب
"هل ما تزالون تبحثون عن مازن ؟ وتدخلون المقربين منه لتصلوا له من خلالهم ؟"

قطب جبينه للحظات وهو يتمتم بجمود بارد
"الحقيقة لا اعلم فأنا قد خرجت من هذه المهمة منذ فساد تلك الخطة ودمارها ! ولكن ما اعلمه بأن والدي سيبقى مستمر حتى يجد مازن ولو كان بسابع ارض"

عقدت حاجبيها بتوجس من كلامه الأخير والذي لا ينبئ بالخير ! لتقول بعدها بسرعة وهي تهمس بدون ان تمنع نفسها وبتشنج احتل اطرافها فجأة
"فقط سؤال لما يحاول والدك الوصول لمازن ؟ ما لذي فعله لكم مازن لتنقلبوا ضده هكذا ! أليس هو فرد وشريك معكم بالعصابة ؟"

تصلبت ملامحه بجمود صخري لبرهة وهو ينظر لها بسواد احداقه المتقدة بحقد دفين شكت بأنها قد لمحته بعينيه السوداوين والتي عادت فجأة لبرودها المريب ! ليعود بعدها باللحظة التالية للنظر للنافذة بعيدا عنها وهو يتمتم بجفاء ساكن
"نظرتك للأمر خاطئة فهو لم يكن يوما شريكنا او جزء من مجموعتنا ، بل هو مجرد شخص تربطنا به مصالح قديمة بالنسبة لوالدي ، واما بالنسبة لي فلا يربطني به سوى حقد دفين وكره بدائي ما يزال موجود بداخل روح العائلة"

كانت تنظر له بحاجبين مرفوعين بانشداه وبملامح ساكنة وهي تحاول ربط كل الحقائق معا والتي لم توصلها لأية نتيجة وهي تشعر بحلقة مفقودة بكل مجريات القصة !

ادارت رأسها بعيدا عنه وهي تنظر لبعض الركاب والذي بدأ منهم بتجهيز حقيبته بسبب قرب مكان محطته القادمة ، لتشعر بنهوض الجالس بجانبها وهو يقول لها بابتسامة جانبية بجمود
"حظاً سعيدا يا فتاة"

ما ان خرج من امامها وبلحظة خطرت فكرة برأسها كانت قد غفلت عنها تماما ، وهي تنتفض بلحظة ملوحة بذراعها قائلة بصوت مندفع
"هل تعرف اسم جواد مصعب او تربطك به علاقة ؟"

توقف قليلا بسكون لم تدم سوى للحظة قبل ان يقول بلا مبالاة وهو يعاود السير بين الركاب وبعد ان توقفت الحافلة عند المحطة التالية
"انه يكون ابن عمي"

اتسعت عينيها الزرقاوين للحظات بتجمد وهي تنظر لخروج الركاب امامها بدون صوت وبأنفاس كاتمة فقط الضجيج برأسها والذي ربط كل الحقائق معا بسلسلة طويلة تبين كل النتائج الحتمية والتي توصلها لأمر حاسم لا شك فيه ، لتسند بعدها رأسها للخلف لبرهة وهي تخفض جفنيها بصمت على احداقها وعلى رؤية حقيقة ذاك الشعور والمرارة والتي بدأت تلتهم روحها على تلك الحياة والتي تدمرت كلياً قبل ان تبدأ مسيرتها وبداخل قلب نقي لم يعرف للقسوة طريق .
______________________________
ارجع ذراعه لخلف رأسه وهو يضرب بطرف القلم على سطح المكتب برتابة وهدوء وكل ما يدور به عقله هو لحظات ليلة امس واعصار المشاعر والذي دار بتلك اللحظات الفريدة وفوق إرادة كليهما ! وحتى انه قد بدأ يشعر باستسلامها الناعم له بموجة مشاعر جديدة دكت حصونها لتعلن عن انهزامها النهائي امامه والذي لن يدع لأي عائق جديد يصل او يبنى بينهما ، وهو ما يزال على ذاك الوعد بتغيير طبيعة تلك المجرمة البدائية وتحويل نقاط ضعفها لنقاط قوة بحياتهما ، وخاصة باقتراب الجزء الثاني من حياتهما الزوجية والتي لن يتخلل بها اي اسرار او مجهولات بل الحقائق وكشف كل المستور فقط حتى تتعرى امامه تماما بشخصيتها الحقيقية والمدفونة بين ركام الماضي وقبل ان تصبح ما هي عليه الآن .

ولكن المشكلة الآن تكمن بالسر الجديد والذي اخترق افكاره وشوش عليه سير اهدافه المستقبلية من جديد والتي كان يخطط لها منذ فترة وجيزة ، وكل ما يسعى لمعرفته واكتشافه الآن وبأي طريقة هو سبب تواجدها بتلك الشركة وبهيئة غريبة تدعو للشك اكثر ، وهو الذي كان يظنه على الدوام وطيلة حياته الماضية مجرد صبي طائش مجنون يتسكع بالطرقات قبل ان يلمح تلك العينين الباهتتين بلون زرقة سماوية لم يخطئ بهما ولم ينسى نظرتهما المذعورة بذلك الصبي ، وللآن لم تغب عن افكاره ولو للحظة وهو يبحث عن صاحبهما بوجوه الجميع والذين مروا بحياته لسنوات متوالية حتى وجد مسعاه اخيرا والذي صدمه بشدة !

اغمض عينيه لبرهة ما ان مرت على ذهنه تلك اللحظات البعيدة عندما كان يسير بساحة الشركة والتي قدم طلب التوظيف بها ، وبدون سابق إنذار خرج ذاك الصبي من العدم وهو يجري نحوه بأقصى سرعة ، وقبل ان يتدارك نفسه كان يصطدم به بقوة حتى اسقطت بلحظة ذاك الجسد الهزيل ارضا بدون ان يسقط معه وهو يحافظ على ثباته بشق الأنفس بسبب ذاك الاندفاع المنطلق والذي لم يحسب له حسابا .

افاق من صدمته للحظات وهو يخفض نظراته لذلك الجسد الملقى ارضا والذي كان يحاول النهوض بارتجاف منتفض ، وهو يتجول بنظراته بملابسه بحيرة من بنطال اسود ضيق يعلوها قميص بزرقة باهتة وقبعة غريبة صبيانية وهو يبدو لم يتجاوز سن الثالثة عشرة بعد ، تنفس بعدها بكبت وهو يلاحظ سكونه المفاجئ بدون اي حركة وكأنه قد تحنط بمكانه ، لينحني بعدها بجانبه بلحظة وهو يحاول ان يمسك بذراعه النحيل جدا والذي شعر بعظامه البارزة منه ونظراته تدور على ملامحه المخفية عنه قائلا بهدوء متوجس
"هل انت بخير يا فتى ؟ هل تستطيع النهوض ؟......"

تصلب بمكانه لوهلة ما ان التقطت نظراته تلك العينين الزرقاوين بلون باهت سماوي لم يرى شبيه له او مثيل لذلك اللون الغريب ، قبل ان تتسع بلحظة تلك العينين بذعر بلون تموج بالمحيط الهادئ بثواني ، وما هي ألا لحظات حتى اندفع من فوره ذاك الجسد الهزيل بعنف ليلقي به ارضا بعد ان اختل توازنه بلحظة ، وهو ينظر لذاك الفتى والذي هرول بعيدا عنه بلمح البصر ليختفي بغمضة عين وكأنه لم يكن وهو ما يزال جالسا ارضا بحاجبين معقودين بوجوم بدون ان يفهم سبب ما حدث معه الآن ؟

فتح عينيه بثواني ما ان سمع صوت الهاتف وهو يخترق غمامة الذكريات والتي اخذته بعيدا بجنون لحظاتها ، ليزفر بعدها انفاسه بتمهل وهو يلتقط هاتفه ليجيب عليه من فوره قائلا ببرود
"مرحبا من معي ؟"

اجاب عليه من بالطرف الآخر قائلا بصرامة حادة
"ماذا تقول يا شادي ! ألم تعد تعرف رقمي ام انك حذفت اسمي من هاتفك ؟"

عقد حاجبيه بصدمة وهو يعود للنظر لشاشة الهاتف لوهلة قبل ان يضعه بجانب اذنه وهو يهمس بابتسامة صغيرة بمرح
"لا يا احمد ، لقد اجبت على الهاتف بدون ان انتبه لأسمك الجميل والمنير بهاتفي ، ولكن حقك على رأسي واعدك بأن اضع لك نغمة خاصة باسمك لأميزك مرة اخرى ولا اغفل عنك"

عاد للكلام بنفاذ صبر
"كفى يا شادي ، لقد اتصلت بك فقط لأسألك إذا كنت تملك رقم ماسة ؟"

ارتفع حاجبيه بدهشة لبرهة وهو يعتدل بجلوسه بتحفز ، ليهمس بعدها بلحظة بنبرة خطيرة بعد ان اختفى المرح منها
"ماذا تريد من زوجتي يا احمد ؟ ومن اعطاك ايضا الإذن لتدعوها باسمها امامي وطلب رقمها مني بكل جرأة ! هل يعقل بأنك قد صدقت كلامها بالأمس عن فكرة زواجها منك ؟......"

قاطعه من بالطرف الآخر وهو يقول بانفعال منذهل
"اخرس يا شادي وتوقف عن التحامق ، انا لم اقصد كل هذا يا احمق ، وكل ما اردته هو الاتصال بماسة لأطمئن إذا كانت روميساء معها او إذا كانت تعرف مكانها ؟ وهذا كل شيء"

ارتفع حاجب واحد بريبة وهو يهمس بشك
"حقا ما تقول ! ولماذا إذاً دعوتها باسمها بدلا من ان تقول زوجتك فلا تنسى بأنها زوجتي الآن واسمها قد اصبح محرم عليك ؟"

ردّ عليه بخشونة وقد بدأ صبره ينفذ منه
"ارجوك يا شادي هذا ليس وقته الآن ، واخبرني هل تملك رقمها ام لا ؟"

عقد حاجبيه فجأة وهو يقول بتفكير مراوغ متجاهلا كلامه الاخير
"انتظر لحظة ! هل قلت تريد الاطمئنان على روميساء ؟ ولما تريد السؤال عنها هل هي بخير ؟"

تنفس بتحشرج واضح وهو يهمس بكبت مرهق
"لا اعلم ماذا اقول لك ؟ فهي لم تعد للمنزل للآن ولا تجيب على اي من اتصالاتي بالرغم من انها لم تفعلها من قبل ! ودائما ما تكون موجودة بالمنزل على موعدها"

استد ذقنه فوق قبضته وهو يقول بتفكير عميق
"قد يكون جاء امر طارئ اضطرها للتأخر بعملها بالمدرسة !"

ردّ عليه بشرود وهو يحرك رأسه بالنفي
"غير صحيح ، فقد ذهبت بنفسي للمدرسة وتأكدت بأنها قد غادرت منها منذ فترة طويلة"

اومأ برأسه بهدوء وهو يبتسم بتصلب باهت ، ليقول بعدها بلحظة بابتسامة باردة بغموض
"لا تقلق ، فهذا هو المتوقع والمعروف دائما من بنات عمتنا مايرين !"

عاد للكلام بحدة وهو يزفر انفاسه بضيق
"رجاءً يا شادي ، هل معك رقم ماسة لأتصل بها ؟ فأنا احتاج له بشدة"

ابتسم بهدوء وهو يبعد ذقنه عن قبضته ليريح رأسه بمسند الكرسي قائلا بكسل
"اجل املك رقمها"

ردّ عليه بسرعة بلهفة
"اجل هيا اعطني اياه"

عقد حاجبيه ببطء لوهلة وهو يعبس بلحظات قائلا بحزن مصطنع
"اعتذر منك حقا ولكني تذكرت بأن الرقم الذي املكه لم يعد بالخدمة فهو لهاتفها القديم والذي تحطم بالفعل ، وهي الآن لا تملك اي هاتف لتتصل به"

مرت لحظات ساكنة قبل ان ينفجر من بالطرف الآخر وهو يصرخ بحنق غاضب
"ولما لم تقل هذا منذ البداية ؟ اللعنة عليك يا شادي !"

اتسعت ابتسامته وهو يكتم ضحكته بأسنانه قائلا من بينهما بروية
"اهدئ يا احمد ، واسمع......"

توقف عن الكلام وهو يبعد الهاتف عن اذنه بصدمة ما ان اقفل شقيقه الخط بوجهه بدون كلمة وهو يبدو قد بالغ بمضايقته حتى وصل به الغضب لأوجهه ، ليقول بعدها وهو يرفع ذراعه لرأسه هامسا بوجوم
"يا لقلة ذوقه !"

عبست بعدها ملامحه بلحظات وهو يخفض ذراعه بهدوء ما ان تذكر كلام شقيقه وسؤاله عن رقم (ماسة) والذي يعني بأنها لم تعد للمنزل كذلك وألا لما كان سأل عن رقمها ليطمئن منها عن مكان زوجته ! ليعض بعدها على طرف شفتيه بضيق وهو يتذكر كلام (روميساء) الأخير ما ان سألها عن صحة تلك المجنونة والتي لم يجدها بغرفتها بالصباح الباكر وهي تطمئنه قائلة
"لا تقلق عليها يا شادي ، فأنا قد رأيتها وهي تخرج وقد كانت بأفضل حال عن السابق ، واعتقد بأنها تحتاج لبعض الوقت المنفرد مع نفسها قبل ان تعود لحياتنا ، وصدقني مهما بلغ قلقك عليها فهي ادرى الناس بمصلحة نفسها وبما يفيدها ، واتمنى حقا ان تتفهم تقلباتها وكل حالاتها الغريبة فهي ليست تتقصد اضرار احد وليست من الذي يعاني من مرض او انفصام شخصي ، فكل ما تحتاجه هو من يفهمها ويستطيع قراءة طباعها من غير ان تقولها ، وانا متأكدة بأنك ستكون افضل من يفعل هذا"

تنفس بقوة وهو يوبخ نفسه لأنه لم يحاول البحث عنها ومعرفة مكانها بعد كلمات شقيقتها ، فقد ظن بأنها كما قالت تحتاج لوقت مستقطع بحياتها مع نفسها بدون تدخل احد ، وهو يتجاهل ويتناسى الخطر المحيط بها دائما والذي يتربص لها من جميع الجهات ومن اسوء المخلوقات على وجه الأرض .

انتفض عند هذه الفكرة بلحظة وهو ينهض عن الكرسي ليدور بلمح البصر حول المكتب ، قبل ان يصل لسترته على الأريكة وهو يتلقفها بطريقه ليكمل سيره لخارج الغرفة ، وكل فكره بمكانها الآن ونوع الخطر الذي ستكون تواجهه كالعادة وكأنها تجذب الخطر إلى حياتها جذب بدون ان ترحم المسكين والذي عليه دائما حمايتها من ذلك الخطر المحدق بها على الدوام....

______________________________
كانت تجلس فوق مقاعد الانتظار بممر المشفى الطويل وهي تستمع فقط للأصوات المنتشرة من حولها بهمسات كثيرة غير مفهومة ، وكلها تدور حول الحادثة والتي اصيب بها عدة اشخاص بتصادم سيارات عنيف بسبب فقدان احدهم التحكم بمقود السيارة بالطريق المنزلق من الامطار الغزيرة ، ليحدث ما حدث ومن ضمن ذاك الحادث كان يوجد والد الطفل والذي كانت تحاول إيصاله لمنزله بأمان ليتدمر نهائيا ذاك الأمان امام عينيها بصورة لم تتخيلها بحياتها من قبل ، وهي تتمنى ان لا تلتصق تلك الصورة بمخيلة ذاك الطفل لآخر يوم بحياته وبذلك السن الصغير ، فهي تعلم جيدا نتائج تلك الحوادث على نفوس الاطفال بسنواتهم الأولى وما هي آثارها بحياتهم والتي ستترك بصمة وحرقة ستوشم بدواخلهم كعلامة لا تزول من ضمن ذكريات ستتخلد بحياتهم لتفسد براعم الطفولة قبل ان تتحرر من قيودها .

رفعت يديها وهي تمسح وجهها باستغفار ودعاء دائم اصبح يلازمها بكل حادثة تمر امام عينيها لتعيد شريط ذكرياتها المنسية عن بعض تلك الطفولة والتي تحولت لسلسلة معاناة وحوادث عنيفة ما تزال تحرق روحها بلهب الماضي ، وهي تتذكر بذلك اليوم البعيد والشبيه بما تراه الآن عندما اكتشفت بداية الكوارث بحياتهم والتي ادت عن وفاة الذي كان يشكل الأمان وسند لتلك العائلة الصغيرة ، ما تزال تسمع تلك الخطوات المهرولة امامها وهي تمسك بيدها الصغيرة والتي كانت تسحبها منها بعنف محاولة مجاراة سرعتها بخطوات متعثرة ، وعينيها الخضراوين المتسعتين بوجل تراقب التي كانت تغفو على كتف والدتها بعالم آخر بعد ان دق الخبر منزلهم بمنتصف الليل مثل نواقيس الخطر بيوم مظلم اختفى معه ضوء القمر من ايام فصل الشتاء الكئيب .

توقفت بعدها الخطوات بمنتصف الممر الطويل وهي تلهث بتعب وبخفقات قلبها الصغير والذي ما يزال يضرب بأذنيها بصخب ، لترفع بعدها نظراتها بتشتت لوالدتها والتي اوقفت الطبيب بمنتصف الطريق وهي تكلمه بحدة متوترة بعض الشيء
"اريد ان اعرف اين هي غرفة أيمن الفاروق ؟ لقد اخبروني بأنه بهذا المشفى !"

تذكرت جيدا عندما عقد الطبيب حاجبيه بريبة وبحيرة غزت ملامحه الباردة وهو يقول بجدية عملية
"عذرا ولكني لم اسمع بهذا الاسم من قبل ولست المسؤول عن الحالات التي تصل الآن ! فقد انتهت مناوبتي بالفعل وعليّ المغادرة الآن ، لذا يمكنكِ سؤال احد آخر غيري"

شهقت بذعر ما ان تمسكت والدتها بيدها بياقة رداء الممرضين الخاص بالطبيب وبيدها الاخرى كانت تثبت بها ابنتها الصغيرة النائمة على كتفها ، وهي تظهر شخصيتها الأخرى العنيفة صارخة بانفعال حانق وبعد ان استبد بها التعب والقلق بما يحتمل صبرها
"اسمعني جيدا انا لست بمزاج جيد لأسمع هذا الهراء منك ، لأني بحالة من العصبية والجنون قد تدفعني لأرتكب بك جريمة واخبر الجميع عن تقصيرك بعملك والتي قد تلطخ سمعتك بهذا المشفى المحترم وتفسد صورتك النظيفة به ، لذا افعل ما اقوله لك وجد لي غرفة زوجي أيمن والذي نزل حالة عندكم حفاظا على حياتك المهنية"

ابتلع الطبيب ريقه بتوتر واضح وهي تنفض يدها بعيدا عنه محتضنة ابنتها الصغيرة بكلتا ذراعيها بتصلب بدون ان يؤثر بها تعب العمل الطويل طيلة الأيام السابقة وسهر الليالي لإنجازه ، لتنظر بعدها للطبيب وهو يحاول العودة لثباته بعد ان هزت صلابته بلحظة قائلا باحترام غريب متناقض عن الأسلوب والذي كان يتكلم به قبل قليل
"حسنا يا آنسة الفاروق لا داعي للمشاكل ، انتِ ارتاحي هنا قليلا وانا سأذهب لأسأل لكِ عن غرفة زوجك ، وبخصوص مغادرتي من هنا فأنا لن ارحل قبل ان اتأكد من راحتك ووصولكِ لزوجك"

ارتفع حاجبيها الصغيرين بدهشة وهي تنظر للطبيب والذي غادر بسرعة من امامهم وبلمح البصر ، لتوجه بعدها نظراتها لوالدتها والتي ارتمت جالسة على مقاعد الانتظار بتعب تجلى بوضوح على ملامح وجهها الشاحبة ببشرتها الرخامية البيضاء وبفتنة تطغى عليه رغم كل شيء يحدث معها بحياتها .

تقدمت بخطواتها الصغيرة قبل ان تجلس من فورها بجانبها على مقاعد الانتظار ، وهي تراقب المكان الفارغ من البشر بسبب الوقت المتأخر من الليل وهذا ليس غريب على حياتهم والتي لم يتواجد بها احد قط من طرف الوالدين وكأنهم مقطوعين من شجرة ومنفصلين عن باقي جميع البشر والذين لم يعترفوا بوجودهم يوما ! التفتت بعدها بلحظات باتجاه والدتها وهي تقطع الصمت هامسة بدموع حبيسة
"امي ، هل ابي بخير ؟ واين هو الآن ؟"

كانت تراقب بعيون مهتزة التي رفعت يدها وهي تمسح على جبينها المتعرق وشفتيها ترتجفان بدعاء خافت التقطته اذنيها بوضوح ، لتجيبها بعدها بلحظات بصوت خافت مشتد بنبرتها الحادة الصلبة
"اصمتِ يا روميساء ، ولا تنطقي بحرف"

صمتت بالفعل وهي تزم شفتيها المرتجفتين بحزن لتخفض نظراتها لقدميها الصغيرتين بوجوم طغى على المكان من حولهما ، وما هي ألا دقائق عدتها بثوانيها كان يقف الطبيب امامهم بوجه شاحب مرتبك وكأنه قد فقد قدرته على النطق تماما او يعاني من صعوبة بتجميع الكلمات والتي سينطق بها امامهم ! لتتدخل بعدها التي عادت لصلابتها وهي تنهض عن مقعدها ببطء وبعد ان وضعت الصغيرة النائمة فوق المقاعد لتقول بنبرة خافتة بقوة
"هيا تكلم ، ماذا حدث معك بخصوص معرفتك بمكان أيمن الفاروق ؟"

تنفس الطبيب بهدوء وهو يقول بعدها بلحظة وبعد ان سلم امره لمصيره المحتوم
"الحقيقة لقد وصل أيمن الفاروق لهذا المشفى بحالة حرجة جدا وقد حاول الممرضين كل استطاعتهم لإنقاذه ومساعدته ، ولكن قدره كان اسرع منه واخذه منا بالرغم من كل المجهود والذي بذله الطاقم لمساعدته ، وكما نقول فالموت حق ولا يستطيع احد التحكم به فقد حدث وانتهى عمره"

اتسعت عينيها بصدمة وبغمامة مشتتة وهي تحاول استيعاب كل كلمة نطق بها على عقلها الصغير والذي توقف عن العمل لوهلة بالرغم من مهارتها باستيعاب الحوادث من حولها بذكاء فقدته بلحظة غادرة ! لتنهض من فورها عن مقعدها وهي تتجه للساكنة بمكانها والطبيب يتابع كلامه بحزن وهو يحاول مواساتها بعبارات العزاء
"البقاء لله ، وكل نفسٍ ذائقةٌ للموت ، تحلي بالصبر والقوة فكل شيء بالحياة زائل"

عندما لم يجد اي ردّ منها وقد تحنطت بمكانها بدون اي حركة ظاهرة حتى ابتعد عنها من فوره وهو يعود من حيث جاء ، عندها لن تنسى ابدا ملامح والدتها بتلك اللحظة وهي تنظر لتلك المرأة الصلبة المتمردة والتي كانت تخيف الجميع بشراستها وقلة تهذيبها حتى انفض الجميع من حولها ولم يعد اي احد يطيقها بالعالم وبكل مكان تتواجد به حتى اصبح البعض منهم يتمنى اختفاءها من حياتهم نهائيا والأمر والذي شوه سمعة بناتها بالمستقبل ، لقد كانت ترى تلك العينين الزرقاوين الشبيهتين بعينين شقيقتها الصغرى وهي تشحب ببطء بلا حياة فقدت بريقها الخطير بتلك اللمعة المجنونة والتي كانت تحتل تلك العينين الجميلتين ، لتصبح احجار باهتة بدون اي دموع فقط جمود ساكن هو ما جمد تلك العينين كما ملامحها البيضاء وكأن الموت البطيء يزحف فوق تفاصيل تلك الملامح الدقيقة والتي بدأت تظهر عليها تعب السنين بخطوط صغيرة غير مرئية سوى امام عينيها وهي تتجلى عليها واضحة بدون اي اقنعة تخفيها ، بالرغم من ان حياتها مع والدها منذ ولادتها كانت عبارة عن شجارات وتشابكات متتالية وانعدام تفاهم بينهما وكأنهما النقيض عن بعضهما تماما ، وبالحقيقة هي التي كانت تجعل الحياة بينهما صعبة ومستحيلة وبالأحرى هي التي كانت سبب كل شجار يحدث بينهما بسبب موضوع تافه لا يتطلب كل هذا الصخب ، وبكل مرة يعود بطبيعة حياة والدتها المرفهة وروحها الشرسة والتي لا تقبل بالقليل حتى جعلت آخر لحظاتهما بالحياة عبارة عن مآسي ومشاكل خسرت معها ذكريات جميلة لم تستطع صنعها بينهما ولو ليوم واحد ، و لا احد يعلم بقيمة ذلك الذي مات بالمشفى بالنسبة لمرأة حاربت العالم وعائلتها من اجله لينتهي كل شيء بغمضة عين وقبل ان تكتشف مدى حبها له وكم من تضحيات قدمت من اجل هذا الحب !

كله كان بلحظة واحدة فقط قبل ان تمسك بيدها بقوة وهي تهمس بنشيج مضطرب متوجس مما هو قادم
"امي ماذا حدث مع ابي ؟ وماذا كان يقول الطبيب ؟....."

فغرت شفتيها الصغيرتين بارتعاش ما ان قالت الساكنة بمكانها وهي تعود لصحوتها بحقد عاد ليغزو ملامحها الحجرية بجنون
"لقد رحل ، ذلك الخائن الكاذب لقد خذلني بعد ان وعدني بالكثير وهو الآن قد اخلف بوعوده ورحل ببساطة ! تركني بدون ان يعطي اعتبار لأحد ولا لأي من وعوده تلك !"

ردت عليها بسرعة ببكاء منتحب
"ماذا ؟!....."

نفضت يدها بعيدا عنها بعنف وهي تتجه للنائمة على المقاعد بدون ان تشعر بوضع الكارثة والتي حطت على حياتهم ، لتحملها بعدها بلحظات بين ذراعيها وهي تأن بنومها قبل ان تريح رأسها الصغير على كتفها لتعود لسكونها بسباتها الطويل بدون ان تشهد على شيء ! وكيف ستشهد مثلا او تستوعب معنى الفقد والموت على طفلة بعمر الرابعة لم تفقه شيء بعد بالحياة القاسية ؟

نظرت لوالدتها وهي تسير بالممر بخطوات ثابتة تحسد عليها وهي تقول لها بأمر خافت
"هيا يا روميساء لنرحل من هنا"

سارت بسرعة خلفها وهي تجري باتجاهها لتمسك بيدها بلمح البصر وهي تقول ببكاء مترجي
"لا يا أمي ، لن ارحل قبل رؤية ابي ، اريد الاطمئنان عليه......"

قاطعتها بحدة صارخة وهي تلتفت بوجهها نحوها بجنون عاد ليتربص بها بدون ان تهتم بسنها الصغير آن ذاك وصدمة مثل هذا الخبر عليها
"كفى غباء ! اخبرتكِ بأنه قد رحل بدون رجعة ، مثل جميع من قبله ، يعني مات وتركنا وحدنا"

ضمت شفتيها الصغيرتين وهي تحاول خنق شهقاتها الصغيرة ارتجف معها جسدها بعنف ونظراتها الدامعة تتابع التي ابتعدت عنها بدون ان تأبه بالقلب الصغير والذي آلمته بشدة ، وهي تحاول ضبط مشاعرها الطفولية بأول تجربة لها بالفقد وبعد ان فقدت الشخص الوحيد والذي كانت تشعر نحوه بالمحبة الخالصة بأبوية حنونة ستفتقد وجودها كثيرا بحياتها المجردة من اي مشاعر والتي ازدادت قسوة مع رحيله .

انتفضت من ذكرياتها بلحظة والتي سحبتها بغمامتها المظلمة ما ان شعرت باليد الصغيرة والتي امسكت بها وصاحبها يقول بحزن وبعيون دامعة صغيرة
"هل ابي سيكون بخير ؟ انا اشعر بالخوف عليه"

نظرت له للحظات بعيون خضراء شاحبة باهتزاز تظللها هالة من الحزن والأسى من ذكرياتها القديمة والتي اعادها إليها بسؤاله الطفولي والذي نطقت به من قبل لوالدتها بدون إجابة تريحها ، لتمسك بعدها بلحظة بجانب وجهه بحنان وهي تقول بابتسامة هادئة بدون ان تظهر اي من صراعاتها الداخلية
"اجل يا صغيري سيكون بخير ، انت فقط عليك بالدعاء له وهو سيكون بخير"

اومأ برأسه الصغير ببطء وهو يعيد وجهه للأمام بسكون تام ، ابعدت يديها عنه وهي تمسح اطراف عينيها برفق هامسة بالدعاء بداخل قلبها الملهوف عليه وعلى مصير ذاك الطفل إذا اصيب والده بمكروه او وصلت حالته لما لا تحمد عقباه .

تعوذت من الشيطان من فورها وهي تحاول الحفاظ على ثباتها ودفن مشاعرها القديمة بزاوية منسية من روحها السحيقة بدون ان تتركها تخرج للسطح ، لتلتفت من فورها نحو رأس الطفل ما ان همس بوجوم خافت
"انا احب ابي كثيرا ولم اقصد كل الكلام والذي قلته عنه لأنه لا يصطحبني معه من المدرسة ، ولكني احبه كثيرا ولا اريده ان يرحل ويتركني"

زمت شفتيها بارتجاف لبرهة وهي لا تجد ما عليها النطق به بعد ان فقدت كل كلمات المواساة من عقلها بتشتت لم يحدث معها من قبل ؟

اخترق سكون المكان صوت باب الغرفة والذي خرج منه الطبيب المختص بحالة المصاب ، لينهض الطفل عن المقعد من فوره وهو يتجه للطبيب ليمسك بملابسه قائلا ببكاء طفولي
"ماذا حدث لأبي ! هل هو بخير ؟ هل استطيع رؤيته ؟"


امسكت به التي وقفت من فورها وهي تبعده عنه قائلة بخجل مضطرب
"اعتذر فهو متلهف جدا لمعرفة حال والده"

اومأ الطبيب برأسه بتفهم وهو يقول بتفكير
"هل هو ابنكِ ؟"

حركت رأسها بسرعة بالنفي وهي تهمس بارتباك واضح
"لا انا معلمته وهو تلميذي"

عاد ليحرك رأسه ليقول بعدها بابتسامة هادئة باطمئنان
"على كل حال لا تقلقي على صحة الوالد فهو قد اصبح الآن بصحة جيدة ، ونحن قد تكفلنا بتضميد جروحه وكل الرضوض والتي اصابته من الحادث ، فقد كان الحادث عليه طفيف ولم يؤثر كثيرا على انحاء جسده او على عظامه والتي تأكدنا بأنها جميعها سليمة ، وكل ما يحتاجه الآن هو الراحة التامة وبعدها سيعود كما كان وافضل"

تنفست الصعداء وهي تريح كفها على قلبها النابض بعنف اخف عن السابق وكأن النور قد عاد ليشرق من حياتها من جديد وبأمل يشع بأروقة روحها وهو ينفض هالة الحزن عنه والتي اكتسحه بتلك الذكريات السحيقة والتي دفنتها بتراب الماضي ، بينما كان الطفل يعانق الطبيب وهو يقول ببهجة عادت لتشع بتفاصيل وجهه الصغيرة
"هل هذا يعني بأن والدي بخير وسأستطيع رؤيته امامي قريبا ؟"

لتكون اجابة الطبيب ضحكة بشوشة وهو يربت على رأسه بحنان قائلا بثقة
"اجل بني ، والدك بخير وستراه قريبا امامك إن شاء الله"

وكل هذا امام زوج من العيون الخضراء الدامعة بدون ان تمنع تدفقها بتلك المقلتين الواسعتين وهي تخفض اهدابها عليهما بدعاء صامت بأن يبقى الأمل مرابط بحياتها وبكل مساراتها بدون ان تفقد وجوده والذي سيكون منارتها بهذه الحياة الصعبة والتي تحتاج لكل قوة بالعالم لتكمل بها .

______________________________
كان يلوح بالسيجارة بين اصابعه بملل وهو يراقب بنظرات باردة كل البشر الهاربين من تساقط الامطار وهم يركضون بكل مكان بحثا عن الحماية من قوة زخات المطر الغزيرة ، بينما هو واقف تحت مظلية من مظلات المتاجر المغلقة والتي كانت تقييه من زخات المطر وهو مشغول بتدخين سيجارته بلا مبالاة بدون ان يفزع من الحالة الجوية والامطار الغزيرة مثل باقي البشر ، وكأنه يشاهد فيلم هزلي ممل وبمجريات متوقعة بدون اي تشويق او حماس وبرتابة قضت على كل شغف الانتظار !

اخفض ذراعه بتصلب وهو ينفث الدخان من شفتيه بهدوء قاتم ما ان حل الصمت على حياته لوهلة ، وهو يلمح بطرف عينيه السيارة السوداء الغريبة والتي توقفت امام البناية السكنية المقابلة له بلحظة ، ليقبض بعدها بلحظات على السيجارة بيده بتشنج وهو يشعر بألم خاطف عاد ليسري بطول ذراعه بتخدر لحظي .

ضيق عينيه السوداوين بحدة وهو يتابع التي خرجت من السيارة السوداء وهي تمسك بمظلة زرقاء فوق رأسها لتحميها من زخات المطر القوية ، ليتنفس بعدها بما تبقى من دخان سيجارته بقوة وهو يشاهد الوجه الذي التفت ناحية صاحب السيارة ليصبح مقابل له بدون ان تنتبه لوجوده ، وهي تعطي كل انتباهها للرجل الغريب بالسيارة والذي يود لو يعلم صلة القرابة والتي تجمعها به لتسمح له بإيصالها للمنزل والكلام معه على العلن ؟ وهو الذي لم يعرفها سوى امرأة محافظة لا تملك اي علاقات بحياتها سوى العلاقة والتي كانت تجمعه بها فيما سبق بالرغم من عنادها بصنع الحدود بها على الدوام ؟ ولكن ليس هذا ما زاد شراسة ملامحه الحادة بلحظة لتظهر جينات والده البدائية بصفة المجرمين حتى برزت الندبة بين حاجبيه بحدة ، وهو يراقب ابتسامتها الجميلة والتي كانت تهديها للرجل بالسيارة دون سواء والتي تظهر غمازتيها بوضوح والمعروف بأنها لا تهديها لأحد سوى للمميزين بحياتها ، وهو كان من ضمنهم يوما ما قبل ان تقصيه منهم بدون وجه حق !

زفر انفاسه بلهيب حارق وبنفاذ صبر على وشك فقده امام ما يجول به تفكيره وعينيه تكاد تقتل كل ما تصله انظاره السوداء المتوحشة بقتامة وهو يحاول ان يشتت تفكيرها بعيدا عنها ، ولولا تدريباته والذي اكتسبها بضبط نفسه وتقييد مخالب الشيطان بداخله والتي تتربص بروحه على الدوام ليس لسبب سوى من اجل المحافظة على علاقته بتلك الفتاة منذ تعارفه بها والتي قلبت كل موازين حياته بأيام ، وألا لما كان بقي مكتوف اليدين هكذا بدون حراك وبدون قتل صاحب السيارة الآن وبهذه اللحظة او حرق المركبة والتي يجلس بها ، ليتعلم عندها عدم الاقتراب من ممتلكات الآخرين والخاصة بهم !

اخفض نظراته للسيجارة بيده والتي سحقها بقبضته بدون ان ينتبه لتصبح عبارة عن رماد ، وهو يستمع بنفس لاهث لصوت السيارة والتي تحركت بعد خمس دقائق كاملة منذ وقوفها لتغادر بلحظة بعيدا عن مجرى سمعه .

رفع رأسه بسرعة باتجاه التي كانت تتابع بنظراتها ابتعاد السيارة بطريقها ، ليخطو بعدها بدون إرادة منه وبعد ان فقد قدرته على التحكم بأجزاء جسده وهو يسير بحركات جامدة وبطريق مستقيم لأول مبادرة منذ لحظة فراقهما ، وهو يتابع بتركيز التي استدارت بعيدا عنه بلحظة امام البناية السكنية وقبل ان تتحرك قال من خلفها بقوة وهو يأخذ موقعه من خلفها بجمود
"من كان هذا الرجل والذي تبرع بإيصالكِ للمنزل بهذا الوقت من الليل ؟"

سكنت بمكانها للحظات بدون اي حركة لترتدي قناع الجمود من فورها وهي تهمس بدون ان تستدير له
"هذا ليس من شأنك ، وارحل من هنا"

عبست ملامحه بوجوم وكأنه لم يفاجئ وهذا ما كان يتوقعه منها ! تلك الفرسة الأبية والتي لا تهوى الاستسلام او الخنوع امام أياً كان من يقف بمواجهتها وهذا ما كان يزيد شرارة الحب المتبادل بينهما فيما مضى .

تنفس بعدها بكبت وبهواء المطر والذي غرق ملامح وجهه بدون ان يأبه لذلك ، وهو يعود للهمس بجمود صخري
"تكلمي يا سيدرا واجيبِ على سؤالي ، فالصبر عندي له حدود ، من يكون صاحب تلك السيارة والتي كنتِ تركبين بها وتكلمتِ معه لخمس دقائق كاملة بدون ان تهتمي لوجودك بالطريق العام امام مئات البشر ؟!"

كان يشعر بتنفسها المرتجف او المندهش بعض الشيء قبل ان تهمس بلحظة بسخرية واضحة
"من يعلم ! ربما يكون حبيبي او خطيبي او زوجي......"

قاطعها بصرخة متوحشة وهو يزمجر فوق صوت المطر القوي والذي طغى عليه
"سيدرا إياكِ !......."

انتفضت بمكانها وهي تستدير نحوه بعنف متشبثة بمقبض المظلة الخاصة بها بكلتا يديها صارخة بعصبية
"ومن تكون انت بحياتي لتسأل مثل هذا السؤال الخاص ؟ ومن وضعك جاسوس على حياتي بعد ان نفضتك منها وهددتك بعدم الاقتراب منها مجددا !"

تصلبت ملامحه لثواني وهو ينظر لوجهها المحمر بفرط الغضب والذي كان ملتف بوشاح ابيض ناعم يحدد استدارة وجهها والذي اشتاق لرؤيته كثيرا بكل هذا القرب منذ وقت بعيد ، ابتسم فجأة بتلك الابتسامة الحادة المتملكة والتي لا تظهر سوى امامها وهو يقول بثقة باردة
"بل انا اكون اكثر من شخص غريب عنكِ بحياتك ، انا كل الأشياء الجميلة والتي كنتِ تتمنينها دائما وتحققت بوجودي وهذا على لسانكِ انتِ"

زمت شفتيها بانفعال حانق وهي تزيد من توهج وجنتيها المحمرتين بانتفاخ ، لتقول بعدها بلحظات بابتسامة ساخرة بشماتة وهي تلوح بأصبعها السبابة امامه بعنف
"حقا يا سيد اوس ، تعجبني كثيرا ثقتك الزائدة بنفسك ، ولكنك نسيت بأن هذا كان من الماضي عندما كان موجه لشخص يتصف بالنزاهة والشرف والنخوة ظننته يوما بك ، والآن وبعد ان انكشف كل المستور وظهرت حقيقتك الشنيعة والتي اخجل من ذكرها واختفت عني تلك الغمامة والتي كانت تمنعني عن رؤيتك ، استطيع ان اقول لك بأنك لا شيء امامي الآن ولا تشكل بحياتي سوى فاصل قصير وحب اعمى اخذني على حين غفلة ، هل سمعت يا ابن المجرم اوس متحت ؟ والآن ارحل قبل ان اجري معك إجراء آخر واحقق تهديدي السابق لك والذي يبدو لم يخيفك بما يكفي لتقف امامي مجددا"

تجمد بمكانه لبرهة بتلك الملامح الحجرية المنحوتة بتفاصيل وجهه والتي يتقن اخفاء كل مشاعره خلف واجهتها ، بدون ان يعلم احد عن الصراعات والتي يعاني منها بدواخله على مدار سنوات ! حتى بان الألم بتلك الأحجار السوداء بلمحة خاطفة بدون ان يستطيع كبح ألمها من ان تطفو على السطح .

عاد لقناع البرود فجأة وهو يتقدم نحوها بخطوتين قبل ان يمسك بذراعها بلمح البصر ، وهو يهمس امام وجهها المشتعل باحمرار قاني بكبت منفعل
"كفى يا سيدرا ، إلى متى ستستمرين بهذا العقاب القاسي معي ؟ لم اكن اعلم بأنكِ تحملين كل هذا الحقد بقلبكِ الاسود والذي لطالما كان يتغنى بالحب لي ! ام ان كل تلك المشاعر كانت مجرد اوهام وسراب بحياتك ؟"

تنفست بجمود لبرهة وهي ترفع يدها لتمسك بيده بقوة وهي تنزعها عن ذراعها بعنف هامسة بكل غل العالم وبقلب يدمي حقد بعد كشف كل الحقائق المدوية والتي دمرت سعادته بلحظة
"هذا فقط بأحلامك يا سيد اوس ، وصدقني لو كان بيدي لكنت جرعتك القليل من ألمي والذي جعلتني اتذوقه على جرعات ، لتخطف مني كل سعادتي وكل احلامي الكبيرة بلحظة واحدة ، وتذكر دائما بأن فتاة شريفة لا تجتمع مع مجرم حقير مثلك ، وكذبك عليّ كل هذه المدة الطويلة سيبقى دائما ذنب بعنقك حتى ينحرك نهائياً ولن يشفع لك ندمك عندي ابدا"

كان يتنفس ببرودة وهي تدفع يده بعيدا عنها بجمود طغى على ملامحها الحاقدة باحتقان ، وبدون ان ينتبه كليهما لسقوط المظلة ارضا بغفلة عنهما وبعد ان جفت الأرض وتوقفت الأمطار لتنحسر بقطرات صغيرة رقيقة تشاركهما معاناة اللحظة ، استدارت بعدها بعيدا عنه باللحظة التالية قبل ان تهمس بجمود وهي تعود لهدوئها الظاهري البارد
"الخذلان هو اسوء شعور من الممكن ان تجربه بحياتك ، ويأتي بعدها كسر الثقة لمن اعطيته كل ثقتك ومحبتك الخالصة وهو يدوس عليها ببساطة دمرت كل الأشياء الجميلة والتي كانت جزء من حياته يوما ، ومرة اخرى إياك والظهور امامي مجددا وألا صدقني لن ارأف بحالك وسأنفذ عندها انتقامي منك بدون اي تردد او تفكير"

تصلب بمكانه بلحظات مثل كل شيء حوله وهو يزيد من ضغط قبضتيه وبألم سكن بدواخله بدون اي كلمة وبصمت قاتم طويل ، بينما انحنت المقابلة له وهي تلتقط مقبض المظلة من على الأرض بصمت قبل ان ترفع نفسها باستقامة وهي تكمل طريقها لداخل البناية ببرود ، وهي تترك تلك العينين السوداوين بقتامة زادت عن السابق وبحاجبين معقودين بتصلب وبعد ان فرغ الطريق من المارة ، ليبقى وحده لا يشاركه حزنه ورتابة انفاسه سوى صوت القطرات الصغيرة والتي ما تزال تهطل ببطء وخفوت متناقضة عن السواد والألم والذي ما يزال يقبض على احشاءه كوحش مستكين يقبع بأعماق روحه مثل مرض وهو يلازمه منذ ان ولد بهذه الحياة .
_____________________________
كانت تسير بخطوات ثابتة وهي تنظر لمسار طريقها الطويل بجمود لا يشاركها به سوى صوت قطرات المطر والتي كانت تتساقط من حولها بنغمات وبإيقاع محدد ارهق سمعها ، وهي تشعر بدوار طفيف ما يزال يغيم على نظراتها بسبب ارهاق السفر والسير الطويل بهذه الأجواء الماطرة ، وهي التي لم تتعافى تماما من الحمى والتي اصابتها بالأمس ، لتبقى اعراضها ملازمة لها للآن وهي فقط تقاوم وتعاند لآخر رمق .

توقفت عن السير بلهاث حاد مزق خفقات صدرها وهي تسند يدها بعامود الإنارة بجانبها لبرهة ، ليتبعها بعدها بلحظة بإسناد ظهرها بنفس العامود وهي ترفع نظراتها من تحت مقدمة قبعتها ، لتصل لها بعض قطرات المطر والتي كانت تسيل من حافة القبعة لتهطل فوق بشرتها الرخامية ببطء وبدون ان تمنعها ، وهي تحفر بتفاصيل وجهها وكأنها تسقي ذبولها بغسل همومها فوق صحراء قاحلة جفت ارضها !

ابتسمت بارتعاش لوهلة وهي تغمض عينيها من تحت قطرات المطر الصغيرة والتي سكنت ملامحها الباهتة ، وهي تشعر بها تمحي التعب عن روحها وعن سواد حياتها وكل الذنوب والتي ارتكبتها بحياتها ، فتحت عينيها البحرية بلحظة على اتساعهما وهي تفكر بآخر نقطة المتعلقة بذنوبها والتي لا تعلم كيف ستستطيع ان تشفع عنها او تمحى من سجل حياتها المليء بالأخطاء ؟

ارتجفت بمكانها وهي تشهق بدون صوت ما ان تذكرت بعض من تلك الذنوب او بالأحرى بعض من اخطاء الماضي ، عندما كان يطلب منها رئيسها ووالدها الروحي ان تلعب دور آخر وبعد ان تفشل كل السبل بالوصول لمعلومات صفقات الشركات ، ويصل بهم الأمر لاستخدامها مثل حل بديل بأرسالها لموقع الشركة وسرقة كل تلك المعلومات الخطيرة من المصدر ، والتي لا يجيدها سوى قرصنة الحواسيب والتي تدمر سمعة تلك الشركات وتربحهم اموال طائلة منها بالتهديد والقتل ، فهي ما تزال تذكر كل كلمة نطق بها ودفعتها اكثر لتلك الدائرة السوداء غير بداية طريقها السهلة والتي كانت مجرد كشف كلمات المرور المعقدة والمعلومات بالمنزل ، ليتطور دورها بينهم لما هو اسوء بكثير
"اسمعي كلامي جيدا ونفذيه بالحرف الواحد فهذه المهمة خطيرة وحساسة للغاية واي خطأ من الممكن ان ترتكبيه فقد تدمر كل خططنا وكل ما وصلنا له والتي لن تنجيكِ من براكين غضبنا ، وكل ما عليكِ فعله بهذه المهمة هو التنكر بهيئة صبي صغير لن يجلب الشك لنا ولن يفكر احد بالقبض عليه وهذا اكثر ما يهمنا ، والذي عليكِ فعله بالشركة ما ان تصبحي بداخلها هو التركيز بالوصول لمكاتب مدراء القسم ومصدر المعلومات لتستطيعي اختراق اجهزتهم وحصولكِ على مبتغانا وكل معلومات تلك الصفقات وكل هذا فقط سيحدث بربع ساعة ، إذا حدث وتجاوزتِ تلك المدة سيتدخل عندها اصدقائنا والذين سينتظرونك عند بوابة الشركة وداخلها ليراقبوا الوضع هناك ، لذا تذكري بأن بكل خطوة ستنفذينها هناك ستكون مراقبة بأدق تفاصيلها وبكل هفوة ستكون الفاصل بحياتكِ وبحياتنا ، فهمتِ يا قناصة الحواسيب"

عادت للتنفس بقوة وهي تشهق بالأمطار والتي ازدادت حدة وقوة فوق تفاصيل ومجريات حياتها ، وهي تتذكر بكل مرة تنهي بها تلك المهام والتي تستنفذ منها كل طاقتها بالحياة والتي تلونت بالسواد وبذنوبها الكثيرة وهي تدمر حياة آخرين كانت لها يد بها ولو لم يكن بإرادتها ! لتشعر دائما بالعالم من حولها وهو يدور بمتاهات فارغة وبكل عيون البشر مصوبة نحوها بنظرات مستترة واتهامات مبطنة تشعرها بسوء فعلتها وقبحها ، وكأن الذنوب مكتوبة على رأسها وبكل نظرة من نظراتها المذعورة بتشتت عالمها !

انتفضت وهي ترفع كفها لتظلل عينيها بعيدا عن اضواء السيارة والتي اخترقت غمامتها وهي تتسلط نحوها مباشرة ، وما ان اخفضت يدها ببطء وهي تضيق عينيها بتشوش حتى ارتفع حاجبيها بصدمة دامت لدقائق وهي تنظر لصاحب السيارة والذي خرج منها بلمح البصر .

ابتلعت ريقها بتشنج حتى غصت بأنفاسها وبالأمطار والتي اوقفت تنفسها لثواني ، لتسعل بعدها بصمت وهي تكتمها بداخل صدرها بدون ان تتحرك من مكانها ، وهي تتشبث بيديها من خلف ظهرها بعامود الإنارة والذي ما يزال يسندها ويثبت قدميها للآن .

اشاحت بوجهها بعيدا عنه وهي ترفع يدها لتمسح خديها المغرقين بالأمطار وببعض الدموع والتي امتزجت معها بدون ان تشعر بمسار هطول دموعها بتلك اللحظات والتي سبقت قدوم تلك السيارة ؟ لتعود لمسك العامود من خلفها بقوة اكبر ما ان شعرت بخطواته وهو يقترب منها بصمت ، ليقف بعدها بالقرب منها وهو يبدأ بالكلام بعد لحظة من الصمت قائلا بتعجب ساخر
"إذاً كيف حالكِ اليوم يا مجنونة ؟ تبدين سعيدة وانتِ تقفين تحت الامطار مع الحمى والتي لم تتعافي منها بعد وكادت تقتلك بالأمس !"

تنفست بارتجاف وهي تهمس بخفوت بارد
"انا بأفضل حال واكثر من اي مرة ، ولكن شكرا لك على السؤال"

تصلبت ملامحه لوهلة وهو يرفع نظراته للأمطار والتي بدأت تخفت قليلا هامسا بوجوم
"إلى متى ستستمرين بدفعي بكل مرة للخوف عليكِ هكذا وجعلي اظن وافكر بكل الاخطار والتي قد تصيبك وهي توديني للجنون ؟"

زمت شفتيها بارتجاف وهي تهمس بدون ان تنظر إليه
"إذاً توقف عن الخوف عليّ ، وعندها ستنتهي كل ظنونك ومشاكلك"

رفع يديه وهو يمسح وجهه المغرق بالأمطار لوهلة قائلا بضيق
"لما تفعلين كل هذا ؟ وكأنكِ ترحبين بالموت بصدر رحب وبسعادة خالصة !"

التفتت نحوه لبرهة وهي تنظر له بعينيها الزرقاوين الساكنتين قبل ان تهمس بلحظة بابتسامة هادئة
"صدقني ستكون هذه اول امنية اطلبها بحياتي ، و يا ليتها تتحقق لكنت ارتحت من الكثير من الحروب وحققت السلام للعالم"

نفض ذراعيه للأسفل وهو ينظر لها بتجهم عابس بعد ان عجز عن فهم دواخلها وكل تفاصيل عالمها المنعزل والبعيد عنه !

امسك بذراعها بلحظة وهو يقول بأمر نافذ الصبر
"هيا بنا لنرحل ، وكفى غباء وجنون غير محدود ، فأنا لن اتحمل المزيد من عدم مسؤوليتك هذه"

ولكن ما ان سحبها حتى تشبثت بالعامود من خلفها اكثر وهي تغرز اظافرها بمعدنه البارد قائلة بأنفاس متقطعة بضعف
"لا اريد الذهاب ، فأنا سعيدة هنا فهذا هو المكان الذي يناسبني ويريحني كثيرا ، وايضا انا لم انتهي بعد من تطهير ذنوبي"

استدار نحوها بملامح منذهلة وهو يصرخ بدهشة
"ماذا ؟!....."

قاطعته التي سحبت ذراعها بعنف وهي تعود لجمودها بلحظة قائلة بتصلب مرتجف زاد من خفقات قلبها
"ارجوك ارحل ، اريد البقاء قليلا ، إذا كنت تتحلى ببعض الكرامة فارحل واتركني وشأني"

تجهمت ملامحه اكثر وهو يحرك رأسه بعدم استيعاب ، ليزفر بعدها انفاسه بخشونة لبرهة وهو يعود ليشب اصابعه بذراعها بعنف اكبر قبل ان يسحبها منها صارخا بصرامة
"ستذهبين معي الآن يا ماسة وبدون اي اعتراض ، فأنا لم اعد اتحمل اي ضغط او جنون منكِ......"

وما ان حركها من مكانها وهي تفلت العامود من خلفها بقوة حتى تعثرت بخطواتها من الارض والتي اشبعت بالأمطار ، وهي تتشبث بذراعيه بلحظة عوضا عن العامود قبل ان تدفن وجهها بصدره ، وهي تستكين بمكانها بلحظات بدون اي حركة وكأن العالم قد توقف من حولهما وانحصرت الامطار بمكانها ، بينما امسك بذراعيها الذي تجمدت ملامحه لوهلة وهو يخفض نظره للقبعة الغريبة والتي انزلقت عن رأسها لتسقط بجانب قدميه وتظهر شعرها الناعم والمعقود بكتلة فوق رأسها ، وهي تذكره بنفس القبعة والتي كانت ترتديها بذلك اللقاء والذي جمعه بذلك الفتى الصغير المتنكر لأول مرة .

تنفس بهدوء وهو يحاول ان يبعد ذراعيها وجسدها عنه برفق بدون ان تتزحزح من مكانها وكأنه حجر جاثم على صدره يوشك على حرق اعصابه ، وهو يستشعر ببرودة جسدها الجليدي على اطراف جسده وبشفتيها تحرق صدره بنيرانها الخاصة ، ولو كانت تريد عقابه على قسوته معها الآن فسيكون هذا اسوء عقاب قد يمر عليه بحياته بأكملها ويفكر به !

عض على طرف شفتيه بكبت بلحظة ما ان همست بخفوت شديد لا يكاد يسمع وهي تزيد من التصاقها بجسده بعذاب غير محتمل
"انا اريد مسح سجل حياتي ، لا اريد المزيد من عذاب الضمير وحروق الماضي ، كل ما اريده هي حياة نظيفة بدون اي وجود او تفكير بتلك الذنوب ، فهل تستطيع تنفيذ لي هذه الطلبات ام انها مستحيلة بالنسبة لك ؟"

عقد حاجبيه بألم بدأ يغزو ملامحه المتصلبة لبرهة بجمود بدون اي ردّ فعل ، ولا يشهد عليها سوى بعض قطرات المطر والتي ما تزال تهطل بخفوت شديد وبعد ان افرغت كل شحناتها وغسلت كل الهموم بالعالم ، ليرفع بعدها ذراعيه ببطء وبصمت تام قبل ان يحاوط جسدها البارد وهو يحتضنه بقوة ليبدأ بالضغط على جسدها تدريجيا ، ليخفض بعدها بلحظات وجهه بجانب وجهها المدفون بصدره وهو يهمس قريبا منه بصوت اجش وبقوة ضغطه عليها
"كل شيء بالحياة يتحقق وليس هناك بالمستحيل ، ودائما تذكري بأنه هناك فرصة ثانية تقدمها لنا الحياة بسخاء ، لذا استغليها وحاربي بها بكل قوتك ، مثلما انا ايضا احارب بكِ بكل قوتي وبثقة كبيرة بعدم الخسارة فهي ليست بقاموسي ، وانا واثق بكِ كل الثقة يا ألماستي"

شهقت بارتجاف بدون صوت ما ان شعرت بقبلته على مقدمة شعرها وهي تزيد من ضربات صدرها والذي كان يضرب صدره بقوة وبإيقاع مختلف غير مسموع سوى بداخل ارواحهما والتي امتزجت معا بلحظة مع قطرات المطر الصغيرة وهي تتساقط بحياء وخجل .
______________________________
دخلت للغرفة بخطوات متخبطة بغضب قبل ان تقف امام طاولة الزينة لبرهة وهي تسند يديها فوقها ناظرة للمرآة بعينيها الهائمتين بالبعيد بدون اي تعبير واضح بهما ، وبعد ان عادت لذلك الشعور السحيق بالخواء والظلمة وهو ينبش بركام وحصوات الماضي والتي اجبرت على دفنها بدون رجعة وبدموعها والتي ذرفتها من فوقها وهي ترثي حبا كان على وشك التحرر بسماء احلامها الكبيرة يوما ما....

تنهدت بارتجاف وهي ترفع يديها لتزيل الوشاح عن رأسها ببطء شديد وهي تليها بنزع الرباط عن عقدة شعرها لتحرر الخصلات المموجة والطويلة وهي تستريح على كتفيها بسكون ونعومة ، لتبتسم بعدها بشحوب وضعف احتل محياها بلحظة وهي تجول بنظراتها بملامحها والتي تميل للاسمرار والهدوء التام وبغمازتين تميزان شكلها وتغيرها عن الآخرين باستثناء ، لتعود بالنهاية لتلك العينين السوداوين بلون البندقي واللتين فقدتا بعضا من بريقهما القديم ، لتصبحان عبارة عن عينين متحجرتين بدون اي لمعان او شعور ظاهر بتلك الاحداق الجامدة .

زفرت انفاسها بغضب لوهلة عاد ليلوج بروحها وهي تلقي بالوشاح فوق طاولة الزينة بقوة ناظرة بعيون محمرة بنيران الحقد والتي لم تهدأ ولو قليلا ، وهي تطوف فوق ملامحها والتي تجمدت فجأة بتحجر كتم على انفاسها مثل حجر ناتئ لا يريد التحرك....وهو يسد عليها حياتها بحاجز يفصلها عن ذلك الحب برغم كل ما فعلته لتحرر نفسها وتتجاوز كل تلك الحواجز المقيتة والتي تفصلها عن الحياة الطبيعية والعودة على ما كانت عليه بالسابق .

عبست ملامحها لصورتها بالمرآة ما ان لمحت الواقف عند باب غرفتها وهو يقول بهدوء بارد ناظرا لعينيها بالمرآة
"مرحبا بالآنسة المتأخرة على غير عادتها ، هل تعلمين كم الساعة الآن والتي عدتي بها من الخارج ؟"

زمت شفتيها بحنق وهي تقول بضيق واضح
"ارجوك يا معتز ، هذا ليس الوقت المناسب لسخريتك واحاديثك التافهة ، فأنا رأسي لم يعد يتحمل"

تأوه بتمثيل وهو يسند كتفه على إطار الباب قائلا بسخرية باردة
"ماذا ارى ؟ السيدة سيدرا غاضبة مني بالرغم من انه انا الذي عليّ ان اغضب هنا بسبب تأخرها بالعودة للمنزل لهذه الساعة ! ونحن ننتظر عودتها بفارغ الصبر وبخوف من ان يكون مكروه قد اصاب سيدتنا ، وهي كل ما يهمها ان تبقى لوحدها وترحل بعيدا عنا"

امتعضت ملامحها للحظات قبل ان تستدير نحوه بهدوء وهي تهمس بعبوس
"هل تناولتم طعام العشاء ؟ ام ليس بعد !"

ابتعد عن إطار الباب وهو يحرك كتفيه قائلا ببساطة
"وماذا تظنين ؟ ان ننتظر كل هذا الوقت قدوم الاميرة من عملها لتحضر لنا العشاء قبل ان نموت جوعا ! الحمد الله على نعمة وجودي بهذا المنزل لأحضر لكما الطعام يوميا ، وألا لما كنا بقينا احياء وخاصة مع تأخرك الدائم بالعمل وانتِ تعودين بآخر الليل"

عقدت حاجبيها بوجوم وهي تلوح بذراعها جانبا قائلة باستنكار
"لم اكن اتوقع ان اتأخر كل هذا الوقت بالعمل ، والطريق كان مزدحم بالسيارات بسبب الطقس الماطر ، لذا توقف عن لومي هكذا وكأنني اتقصد التأخر عن المنزل دائما"

ارتفع حاجبيه بهدوء لبرهة وهو يقول بابتسامة جانبية بغموض
"هل هذه هي حقا الحجة والتي تدفعك للتأخر عن المنزل دائما حتى اصبحت سيرتك وسمعتك على كل لسان ؟ وانتِ تجعلين كل من يسوى ومن لا يسوى يتكلم عنكِ بالباطل....."

قاطعته بدفاع وهي تلوح بقبضتها بتمرد صارخة بنفاذ صبر
"كفى يا معتز ، ولا تنسى بأنني اكبر منك سنا ، لذا إياك وان تتجاوز حدودك معي"

حرك رأسه بعيدا عنها ببرود وهو يقول بابتسامة هادئة بجدية
"حسنا اهدئي لن نتكلم عن هذا الموضوع ، والآن هلا اخبرتني كيف عدتي للمنزل بهذا الطقس العاصف ؟ وهل وجدتي مواصلات تقلك للمنزل بهذا الوقت ؟"

اشاحت بوجهها بعيدا عنه بعبوس وهي تهمس بعدم مبالاة
"لقد عدتُ بسيارة مدير الشركة وهو الذي عرض عليّ ان يوصلني معه للمنزل ، عندما لم اجد اي مواصلات متاحة تأخذني للمنزل بهذا الوقت"

تصلبت ملامحه لوهلة وهو يقول بتركيز حاد
"هل هو نفس الشخص والذي يميزك عن الموظفين الآخرين بزياراته المتكررة لنا وباصطحابه معكِ للعمل بكثير من الأحيان ؟ حتى اصبح كل من بالمنطقة وبالبناية يعرف شكله ومدى تقاربه من عائلتنا !"

عقدت حاجبيها بشراسة وهي تهمس من بين اسنانها بحدة
"توقف عن هذه التلميحات يا معتز ، فأنا لا اسمح لك بأن تتهمني بهذه الطريقة الجارحة لكرامتي وتربيتي ، وانت اعلم الناس من اكون وعن مدى اخلاصي الكبير لعائلتي وحماية سمعتها من المخربين ! وعدم السماح لأي احد بأن يفسد اخلاقي والتي تربيت عليها منذ الصغر"

اعاد نظراته نحوها بلحظة وهو يقول بابتسامة جادة
"اعلم هذا يا سيدرا ولم اقصد شيء من كلامي يضر بأخلاقك او سمعتك ، ولكن تذكري بأن الناس لن تنظر لكِ مثل نظرتنا نحن عائلتك ، بل ستحاول تصيد الأخطاء لكِ لتصبحي حديثهم الدائم وعلى ألسنتهم والتي لن ترحمنا ، لذا حاولي دائما تنظيف صورتك امامهم وعدم السماح لهفوة صغيرة لتكون منفذ لهم مهما كانت صغيرة وغير مرئية ، ومرة اخرى حاولي صنع الحواجز وضعي حد بعلاقتك مع ذلك المدير لكي لا يحدث بعدها ما لا يحمد عقباه"

اخفضت نظراتها للأسفل لبرهة بسكون واجم وهي تقبض على يديها بقوة وبتخبط عاد ليشوش تفكيرها من جديد بتلك الحلقات المفرغة ، ليقطع صمتها من تابع كلامه بخفوت وهو ينفض هالة الجمود والتي خيمت عليهما فجأة
"سيدرا ما لذي يحدث معكِ ؟ فأنتِ تبدين لي غريبة اليوم ؟ بل منذ اشهر وانتِ تبدين بحالة متقلبة بين الحزن والغضب بدون سبب محدد ! فما هي مشكلتك والتي تعانين منها ولا تريدين البوح بها ؟"

ابتلعت ريقها بنشيج صامت وهي تدير عينيها بعيدا عنه بجمود ملامحها والتي عادت لتحتل حياتها لوهلة ، لتقول بعدها بلحظة بخفوت غير معبر وباحمرار طفيف بتلك العينين السوداوين
"لا شيء يا معتز ، انا بخير ، فقط اعاني من الضغط بالعمل لا اكثر ولا اقل ، لذا هلا تركتني وحدي قليلا ؟"

عبست ملامحه بعدم اقتناع وهو يقول بضيق مستاء
"ألستِ انتِ التي تجلبين التعب لنفسك بدون ان تتقبلي مساعدة احد بكبرياء عالي ! لو انكِ تتركيني فقط اقود زمام الأمور بدلا عنكِ ، لما تكبدتِ كل هذا التعب بحياتك......"

قاطعته وهي ترفع رأسها نحوه بقوة قائلة بعنف
"لا تقل هذا الكلام يا معتز ، انت عليك ان تركز بدراستك وتعطي كل اهتمامك لها وهذا هو كل ما يهم"

حرك عينيه بعيدا عنها بوجوم قبل ان يستدير امام الباب وهو يقول بهدوء
"لقد خبئت لكِ بعض من طعام العشاء بالثلاجة ، إذا كنتِ تشعرين بالجوع ، وايضا لا تنسي ان تذهبي لغرفة والدتي لتطمئنيها بعودتك فهي كانت طول اليوم تسأل عنكِ بدون اي توقف او ملل"

رفعت عينين متحجرتين باتجاه باب الغرفة والتي خرج منها شقيقها الصغير للتو ، لتجلس بعدها فوق طرف السرير بتعب وهي تريح جانب رأسها على كفها بشرود ، وعينيها تعود لسحابات الحزن والألم على عائلتها الصغيرة والتي تتكون فقط من امرأة مريضة اخذ منها الزمن شبابها لتصبح عاجزة اقرب للكهل ليس بمقدورها فعل شيء وهي تلازم فراشها ليل نهار ، وهناك شقيقها الصغير والذي لا يتجاوز سن السابعة عشرة من عمره وهو يعمل على خدمة والدته بغيابها وهما يتناوبان بالعمل بالمنزل بين الطبخ والتنظيف حتى اصبح برنامج حياة يعيشون عليه منذ سنوات ، فهل سيتغير كل هذا يوما ما بمسارات حياتها وبمتاهات مشاعرها المتخبطة ؟

_____________________________
خرجت من السيارة ما ان توقفت امام مدخل المنزل قبل ان تتجمد بمكانها لوهلة وهي تنظر للسيارة الاخرى والتي توقفت امامها مباشرة ، ليتبعها بلحظة خروج التي كانت تسير ببطء واتزان بدون ان تعير احد انتباهها وهي تتجه مباشرة لمدخل المنزل !

اغلقت باب السيارة بقوة وهي تجري نحوها بخطوات سريعة قبل ان تصل لها باللحظة التالية ، لتمسك بعدها بذراعها وهي تلفت انتباهها لها وقبل ان تصعد درجات السلم هامسة بعبوس
"روميساء ! ما لذي يحدث معكِ ؟ واين كنتِ !"

اخذت منها عدة لحظات قبل ان تلتفت نحوها بهدوء وهي ترمش بعينيها عدة مرات بارتباك ، لتقول بعدها بابتسامة واهية بضعف
"ماسة ما لذي تفعلينه هنا ؟ هل عدتِ الآن من الخارج وبهذا الوقت المتأخر ؟ واساسا اين غبتِ طول اليوم !......"

قاطعتها التي عبست بضيق وهي تهمس بجدية
"انا التي عليها سؤالك هذا السؤال ! لما تأخرتِ بالعودة هكذا من الخارج على غير عادتك ؟"

تصلبت ملامحها لبرهة وهي تنفض ذراعها بعيدا عنها قائلة بجمود بارد
"اصمتِ يا ماسة ، ولا تنسي بأنه انا المسموح لي هنا ان اسألكِ مثل هذا السؤال ، وايضا لقد حدثت امور معي دفعتني للتأخر بالعمل بسبب الأجواء الماطرة"

ارتفع حاجبيها بدهشة ساخرة وهي تهمس بوجوم
"حقا يا روميساء ! ولكن ما اعرفه بأن وظيفتك بالمدرسة لا علاقة لها بالأجواء الماطرة ؟ ام انكِ قررتِ تدريس الاطفال عن كيفية حدوث المطر وتكاثف الهواء البارد خارج الفصل !"

عقدت حاجبيها بحدة ويأس وهي تستدير بعيدا عنها قائلة ببرود جليدي
"سحقا لكِ يا ماسة ، ومن تفكيرك الاحمق والذي لن يتغير ابدا ، وشكرا لكِ على قلة ثقتك باتجاه تصرفات شقيقتك"

زمت شفتيها بحنق صامت وهي تنظر للأخرى والتي كانت تصعد السلالم بعيدا عنها ، وهي تشعر بإهانة مستترة وغضب لأول مرة تشاهده على شقيقتها والتي تحملت امورا اكبر من سنها بكثير ! فما سبب حالتها الغريبة الآن والتي تدل على كم التعب والضغط والذي تعاني منه بوضوح ؟

امتعضت ملامحها بلحظة ما ان قال الواقف بجانبها والذي لم تنتبه لوصوله بخضم ما حدث معها الآن
"ماذا حدث ؟ هل تعرضتِ لإهانة من شقيقتك الكبرى للتو ؟ ولكنني ارى بأنكِ تستحقين هذا لكي لا تتدخلي مرة اخرى بشؤون غيرك وخاصة بأمور فرد من عائلتك ، فهكذا تظهرين له كمية انعدام ثقتك به وإهانة بقراراته وتصرفاته بالحياة"

ابتسمت بنفور لوهلة وهي تهمس بجفاء خافت غير معبر
"انا اثق بروميساء اكثر من نفسي ، ولكني لا اثق بالبشر الذين يعيشون من حولها ، وهذه صفة تربيت عليها ومن المستحيل ان اغيرها فقط لأني اعرف هذا الشخص وبنواياه جيدا ، فأنا عندي الحصول على ثقتي صعب جدا بل شبه مستحيل ، تذكر هذا جيدا يا شادي الفكهاني"

تحركت من فورها ما ان انهت كلامها وهي تصعد درجات السلم بسرعة لتلحق بشقيقتها والتي ابتعدت عن نظرها ، بينما استمر من تركته من خلفها وهو يراقبها ببرود وبابتسامة اتسعت بجمود باهت ، وهو يتمتم بسكون الاجواء من حوله والتي صمتت عن الضجيج وبعد ان توقفت الامطار بصمت تام
"سحقا لكِ يا ابنة الفاروق ! يبدو بأن الطريق للوصول لثقة تلك الألماسة سيكون طويلا ومجهدا اكثر مما توقعت ويحتمل تفكيري والذي اصبح يصل لمنتهاه ؟"

بهذه الأثناء كانت (روميساء) تدخل للمنزل بخطوات ثابتة بجمود ، لتتوقف بعدها بمكانها لبرهة ما ان لمحت بعينيها الخضراوين المجهدتين الواقف امامها بشموخ ونظراته الرمادية قد اصبحت اكثر قتامة عن السابق ، وهو يوجهه نحوها بقوة نفذت بأعماقها بدون ان تفهم هالة الجمود والتي ثبتت قدميها بمكانها بتصلب ؟ وهي على وشك الانهيار من كل هذا الضغط والذي زاد مع نظراته الغريبة ، بدون ان يمهلها من الوقت ولو دقيقة للراحة من كل ما تعرضت له لليوم .

ابتلعت ريقها بتحشرج ما ان اقترب منها بخطواته ببطء شديد عبث بأعصابها اكثر مما تستطيع وتتحمل حتى كاد يغشى عليها ! لترفع بعدها باللحظة الاخيرة كفها بصرامة مفاجئة وهي تقول بحزم محافظة على ما تبقى لديها من ثبات
"لو سمحت يا احمد ، ليس لدي الوقت للكلام والنقاش معك بأي شيء ، فأنا احتاج للراحة الآن بعد هذا اليوم الطويل من العمل ، ولن اتحمل اي كلام او توبيخ تود قوله لي بهذه اللحظة"

ارتفع حاجبيه بصدمة للحظات وهو يتلقى كلام صارم واوامر وقلة تهذيب لأول مرة يسمعها من زوجته المصون فوق تأخرها عن المنزل لهذه الساعة وعبثها بأعصابه بالدقائق الماضية ! وهو فقط يفكر بمكانها وعن سبب تأخرها بالعودة دون عن كل الأيام ، فهل يكون كل هذا بسبب اهماله البالغ وافراطه بالحرية والتي يقدمها بحياتها بسخاء بدون اي حدود او حواجز ؟ حتى اوصلها لحالة الاكتفاء الذاتي والتمرد عليه !

تجهمت ملامحه ما ان عادت للسير بعيدا عنه ليقول بعدها بلحظة من خلفها بصرامة حادة وبعد ان خرج عن هدوء اعصابه والتي حافظ عليها طول تلك الفترة
"هل هذا هو ما لديكِ لتبرري به تأخرك عن المنزل ؟ بالكلام الوقح وبأسلوب عديم الحياء مع زوجك والذي يكون ولي امرك والمسؤول عن الحياة والتي تعيشينها بكل رفاهية وغنى !"

توقفت للحظات وهي تعطيه ظهرها بجمود وبتصلب جمد فقرات ظهرها ، لتقول بعدها بهدوء بالغ وبصوت خافت مجهد جمد الأجواء من حولهما
"اعتذر على سوء الفهم ! ولكنك نسيت بأنني لم اعد موجودة بشقتك ولا اعيش على اموالك ورفاهيتك ، وايضا لم يضعك احد لتكون ولي امري ، فأنا موجودة هنا بطلب من خالي محراب والذي تقبل وجودي بحياته باعتبار بأنه خالي الوحيد والقريب المتبقي لي بهذه الحياة"

ضيق عينيه بصمت زادت من حدة نظراته وهو يراقب التي غادرت باتجاه السلالم بعيدا عنه بعد كل ما قالته وفعلته ضاربة بكل لباقة يتمتع بها عرض الحائط ، بدون ان يفهم سبب كل هذه القسوة والبرود والذي ينضح بكلماتها المتناقضة عن شخصيتها والتي يعرفها جيدا وتعايش مع طبيعتها العفوية ؟ لتقلب كل الموازين بلحظة بتلك الشخصية الباردة والتي تبدو شخص آخر تلبسها ليتكلم بدلا منها وبالنيابة عنها !

ما ان كان على وشك التحرك بمكانه ونظراته ما تزال مصوبة بتلك التي وصلت لفوق السلالم حتى اوقفته بلحظة التي قالت من خلفه بعجلة وهي تقف بمكانها بجمود
"انتظر يا احمد واسمع مني ، لا تحاول الكلام مع روميساء الآن فهي بحالة من العصبية والتعب ومن ضغط كل من حولها لا تسمح لها بالتفكير بما تنطق به ، وقد تفقد السيطرة على اعصابها وتصب جام غضبها عليك ، لذا اتركها حتى تهدأ وترتاح قليلا بعيدا عن الكلام معها والذي لن يجدي ابدا بهذه اللحظات"

قطبت جبينها بتجهم ما ان تجاهلها الذي اكمل سيره باتجاه السلالم ليلحق بالأخرى الغاضبة ، والتي تعلم جيدا إلى اين ستؤدي نواتج الضغط عليها اكثر مما يحتمل صبرها ! وهي تتأفف بنفاذ صبر من الحماقة والتي تواجهها بحياتها هامسة من بين اسنانها بغيظ المتأسف على امره
"لما لا احد يستمع لكلامي والذي سينجيهم من الكثير من المصائب بحياتهما الزوجية المعقدة ؟ ولكن لا بأس سيعرف بالنهاية قيمة كلامي وتحذيري له بعد ان يفسد آخر ما تبقى من علاقتهما والتي لا تؤدي سوى عن الفشل الذريع ، ولكن لما اتعب نفسي بالتفكير بهما فهي ليست اول علاقة وآخر علاقة بالعالم تدمر قبل ان تبدأ !"

_______________________________
طرق على باب الغرفة بقوة عدة مرات بدون ان يسمع اي إجابة ، ليمسك بعدها بمقبض الباب وهو يدفعه باللحظة التالية بدون مقدمات او ادنى تفكير قبل ان يكتشف فراغه ! وما هي ألا لحظات حتى خرجت صاحبة الغرفة من الحمام المرفق وهي تحاول تزرير ياقة ثوبها ، ولكن ما ان وقعت نظراتها على الواقف امامها عند باب الغرفة حتى استدارت من فورها وهي تنوي العودة من حيث جاءت .

توقفت بتصلب جمدت الدماء بعروقها ما ان قصف صوته من خلفها بأمر
"توقفي مكانكِ يا روميساء"

زمت شفتيها بوجوم وتعب مما هو قادم بعد الجدال والذي حدث بينهما عند مدخل المنزل ، وهو ما يزال يكن لها الغضب والوعيد من كلماتها الاخيرة والتي ستوصلها لنهاية وشيكة بعلاقتهما المضطربة .

كان الواقف من خلفها يراقبها عن كثب وبنظرات قوية تكاد تحرقها حية ، وهي تجري من بداية شعرها الاسود الفاحم والذي يصل لنهاية ظهرها مثل الليل الطويل وهو يلمع بقطرات الماء الندية والتي تدل بأنها كانت تستحم من لحظة وانتهت للتو وبذات لحظة وصوله لغرفتها ، لينزل بعدها بنظراته لفستانها القطني القصير بلون الازرق السماوي وبأكمام قصيرة ، وهو يحدد جسدها المغري الطويل بدون ان يخفي مفاتنها لأول مرة .

تقدم امامها عدة خطوات فاصلة بينهما وما ان اصبح خلفها تماما يكاد يستنشق رحيق ونعومة شعرها حتى همس بلحظة بصرامة اخفت عن السابق
"استديري امامي"

قبضت بيديها على ياقة الثوب بانتفاض بدون ان تستمع لكلامه والذي كان يدق بنبرة صوته الهادئة بأذنيها مثل صوت دقات قلبها والتي اطربت سمعها بلحظات ، ليتبعها بعدها بصوت اكثر خشونة وهو يمسك بكتفيها هذه المرة بقوة تخللت لمفاصلها وزادت طنين نبضاتها بأذنيها
"لقد اخبرتكِ ان تستديري ، لما لا تسمعين كلام زوجك ؟"

عضت على طرف شفتيها بتشنج وهي تأبى الانصياع لأوامره بروح شرسة ، لتشعر بعدها بيديه وهي تزيد من الضغط على كتفيها للحظات قبل ان ينزل بهما لذراعيها المكشوفين ، وهو يديرها بلحظة ببطء ناحيته بدون ان تستطيع المقاومة اكثر بحربها الضعيفة والتي دك حصونها بقوة وبأسلحة فتاكة غير محسوبة العواقب .

وما ان اصبحت مقابلة له تماما حتى رفع وجهها بأصبعه السبابة بلحظة والتي كان يمسك بها ذقنها المتصلب بممانعة خفية ، لتتقابل بعدها النظرات بينهما لبرهة بجدال طويل صامت وببعض العتاب والذي انضح بين نظراتهما ، بعد ان زال ستار الجمود عنهما واختفى الهدوء بحياتهما المتنافرة والتي لم يتبقى بها سوى العتاب والحزن الصامت .

قطع بعدها النظرات التي اخفضت عينيها الخضراوين بضعف شل حركة عضلة جفنيها ، ليقول بعدها المقابل لها وهو يقطع خيط الصمت وبعد ان اخفض يديه بعيدا عنها
"إذاً هل ستتكلمين ام ابدأ انا بالكلام ؟....."

توقف عن الكلام فجأة وهو ينحدر بنظراته لياقة ثوبها والتي ما تزال تشدد عليها بقبضتيها المضمومتين معا بتعرق وبارتجاف واضح على مفاصل اصابعهما ، وما ان رفع يده قليلا وهو يقول بوجوم
"يبدو بأنكِ تعانين من مشكلة !......"

حتى انتفضت للخلف قليلا بارتعاش وهي تعود لمحاولتها الفاشلة بدس الازرار بالثقوب بياقة الثوب بدون فائدة وبتعثر ارتجاف اصابعها ، لتشهق بذعر ما ان اندفع امامها حتى وصلت للجدار من خلفها ليمسك بلحظة بيديها بقوة وهو يتمتم بتصلب
"اهدئي"

هدئت بالفعل وهي تبتلع ريقها بارتباك ليخفض بعدها كفيها بعيدا عن ياقة ثوبها ، قبل ان يهتم هو بمهمة دس تلك الازرار الصغيرة بثقوب ثوبها بقوة وعلى ملمس عنقها المتشنج بتعرق ، وهي تجد صعوبة بابتلاع لعابها والذي علق بمنتصف مجرى تنفسها ، ليقول بعدها بتلك اللحظات القصيرة وهو ما يزال مشغول بمهمة ازرارها
"والآن هل ستتكلمين عن سبب ذلك الكلام الوقح والذي امطرتني به عند باب المنزل ؟ فهذه ليست من صفات زوجتي الجميلة والتي لم يصدر منها اي ما يسيء لسمعتها ! لذا اخبريني الآن عن سبب ذلك الكلام ، وما سبب تأخركِ ايضا لهذه الساعة والتي لا تعود منها اي امرأة محترمة تملك عائلة وزوج ؟"

تنفست بصعوبة لوهلة فوق يديه الخانقة لها عند ياقة ثوبها ، لتقول بعدها بلحظة بابتسامة مقتضبة وهي توجه نظراتها بعيدا عنه
"لست مضطرة للتبرير لأني لم اخطئ ابدا بأي تصرف يسيء لسمعتكم ، وليس كل فتاة تعود للمنزل متأخرة يعني تكون فتاة مخطئة او فعلت فاحشة لا تغتفر ، انت فقط تريد ان تترصد لي الاخطاء لتوبخني وتظهر بأنني انا المخطئة دوما ، بالرغم من انني لطالما كنت اعود للمنزل بساعة متأخرة من الليل واكثر فيما مضى ، ولكن اين كنتم بتلك الاثناء......"

قاطعها الذي امتقعت ملامحه بلحظة وهو ينظر لها بصرامة حادة
"كفى يا روميساء ، هل حدث خطب لعقلك ؟ من قال بأنني اود توبيخكِ او انني احب ان اظهرك المخطئة ! بل انا اتكلم معكِ بكل هدوء وعقلانية لأعرف مشكلتكِ واتغاضى عن وقاحتك ، ولكنك مصرة على تضخيم الأمر والذي لا يستحق كل هذا الانفعال والتضايق منه ، وانتِ تذكرين امور حدثت بالماضي البعيد وانتهت منذ دخولك لحياتي"

زمت شفتيها بارتجاف طغى على كل جسدها وهي التي لم تعد تستطيع السيطرة على اعصابها المنهارة منذ تلك الحادثة والتي حصلت امام عينيها ، ليكون الماضي رفيقها طول تلك اللحظات بدون ان يخرج من روحها والتي وشم بها منذ زمن ، لتقول بعدها بلحظة بأنفاس باهتة وبروح استبد بها الإنهاك
"ارجوك يا احمد ، هلا تركتني لوحدي الآن ؟ فأنا احتاج بشدة للبقاء لوحدي ، ولا استطيع التكلم بأي موضوع الآن وانا بهذه الحالة"

تصلبت ملامحه وهو ما يزال يعدل بأصابعه ياقة ثوبها بشرود هامسا بجدية
"ولكنك لم تخبريني للآن عن سبب تأخرك عن المنزل ، ولماذا لم تجيبِ على اي من اتصالاتي ؟ هل حدثت معكِ مشكلة بطريق عودتك للمنزل وبعد مغادرتك من المدرسة ؟"

رفعت عينيها نحوه باتساع متوجس بلحظة وهي تتذكر الحادثة والتي اوقفت طريقها وحياتها لبرهة من الوقت انفصلت به عن عالمها المحيط بها ، والذي تخلل به ذكريات منسية بأعماق روحها وبتفاصيل ألم الطفولة والذي لازمها بمسيرة حياتها ، لتنتفض بعدها لا شعوريا وهي تمسك قبضتيه لتدفعهما بعيدا عنها ، وهي تصرخ بانفعال متهدج وبعد ان تحكمت بها مرارة الماضي واشعلت النيران بكامل جسدها المحترق بتلك الذكريات
"وماذا تعرف عني لتسألني مثل هذا السؤال ؟ ومن اعطاك الحق من الاساس لتسألني وتحقق معي ! وانت لا تعلم ما كنت اعيشه بتلك الطفولة من مرارة فقد الأب وسند العائلة وانا اعيش اليتم الحقيقي بعد ان ذهب بطلي بالحياة ؟ لأصبح مجرد طفلة عليها ان تتقبل وجود رجل آخر يأخذ مكان والدها بحياتها ، وبعد ان ذهبت والدتي لم يعد هناك لدي سوى العمل خادمة عند رئيسي اعمل ليل نهار لأضع المال بيده ، وانا اقابل ابشع البشر وجميع النفوس المريضة والذين عليّ تحمل وجودهم بمجال عملي لأعيش تحت سقف واحد يحميني ويكون مأوى لي بهذه الحياة ، ما لذي تعرفه انت عني ؟"

تجمدت ملامحه بهدوء للحظات وهو يتابع التي كانت تتنفس بقوة امامه وبعد ان افرغت كل شحناتها دفعة واحدة ، والتي كانت تحتجزها بخلجات قلبها منذ سنوات وتراكمت بهذا اليوم تحديدا حتى اصبحت بهذا الشكل المريع ، ليتنهد بعدها بروية وهو يعود لجديته امام مثل هذه المواقف المستعصية وهي تبدو بحالة غير سوية وليس من الصحة الضغط عليها اكثر ، ليقول من فوره بصوت اجش وهو يمسك بكتفيها ليقترب اكثر من رأسها وهو يحط بشفتيه على مقدمة شعرها الناعم بقبلة طويلة
"حسنا يا روميساء ، لن نتكلم عن هذا الموضوع بما انكِ متعبة الآن ، لذا اهدئي وارتاحي"

زفرت انفاسها بحشرجة مؤلمة وهي تشعر بيديه ترتفعان وتنخفضان تلقائيا على طول ذراعها تشاركهما شفتيه والتي نزلت عن مقدمة رأسها ، ليجول بهما على بشرة وجهها الشاحبة حتى وصل لشفتيها المرتجفتين وهو يشبعهما بقبلات قوية ، وكأنه يودي بهما كل اشتياقه لها والذي ازهق انفاسها واتعب خفقات قلبها بصراع مشتعل قصف بضربات صدرها ، وعندما لم تعد لها القدرة لمتابعة هذا الصراع حتى انتفضت قليلا وهي تحرك رأسها ذهاباً وإياباً تلقائياً برفض واضح .

توقف بلحظة وهو يبعد شفتيه عن طول عنقها لوهلة وانفاسه الحارة تضرب بشرتها البيضاء بقوة ، ليرفع بعدها نظراته المشتعلة ببطء لوجهها الشاحب ما ان همست بشفتين مضمومتين بكبت
"لا اريد الآن ، احتاج للراحة بشدة ، ولن اتحمل مثل هذا الضغط"

قطب جبينه بغموض للحظات بدون اي تعبير واضح ، قبل ان يعود لتقبيل وجنتها وهو يهمس فوقها بخشونة ملتهبة خدشت بشرتها
"صدقيني لن اتعبك معي ، بل ستشعرين بكل الراحة والتي تبحثين عنها ، وهذا سيحدث عندما نعيد إحياء تلك الليلة مجددا ، فأنا الآن بأشد الحاجة لكِ يا روميساء وقد وصلت رغبتي بكِ لأقصاها"

انتفضت مجددا بحدة اكبر ما ان شعرت بأصابعه وهي تفك ازرار ياقة ثوبها بقوة ، لتقول بسرعة بعبوس حانق وهي تحرك وجهها بعيدا عنه
"لا يا احمد لا تفعل ، ألم تقل بأنك لن تلمسني ولن تفعل شيء ألا بموافقتي ! هل غيرت كلامك ؟"

شدد من إمساك ذراعيها لا إراديا وهو يقول امام وجهها بأنفاس متهدجة بغضب احرقت شحوب بشرتها
"ولكني احتاجكِ الآن بشدة ، وهذا حقي الشرعي يا روميساء ، ماذا افعل مع رغبتي الحارقة بكِ ؟"

ردت عليه تلقائيا بنفس غضبه وباشتعال حارق
"إذاً اذهب وافرغ رغبتك بزوجتك الأخرى"

عضت على طرف شفتيها بخوف مما نطقت به من غباء للتو غير مقصود ! ولم ترى نظرات الواقف امامها وهو يفلت ذراعيها بهدوء وببطء شديد وبنظرات باردة نحتت بتفاصيل وجهه بجمود ، ليقول بعدها بلحظة بهدوء بدون ان تتبين مغزى كلامه الصخري وبعد ان اختفى اشتعال الرغبة بصوته
"حسنا كما تشائين وترغبين يا روميساء ، وافعلي ما يحلو لكِ فهذا لم يعد يهمني"

فغرت شفتيها بصدمة الذهول بدون ان تعلم ما كان يقصده بكلامه ؟ وإذا كان حقا سيفعل ما قالته ويتجه مباشرة ليفرغ شحناته بزوجته الاخرى ؟ ولكن لما الذهول هكذا أليست هي من طلب منه هذا !

مرت لحظات صامتة ومهلكة على مشاعر كل منهما قبل ان تشعر بخروجه الصامت والذي خلفه من بعده بسكون ، لتزفر بعدها انفاسها المحبوسة بصميم روحها وهي تستند بالجدار من خلفها هامسة بلا شيء وبذهول طغى على نظراتها المهتزة
"ما لذي فعلته للتو ؟!"
_____________________________
صباح اليوم التالي........
كانت تنزل السلام ببطء وبخط مستقيم قبل ان تشعر بلحظة بقوة دفع من خلفها اصطدمت بظهرها بلمح البصر اختل معها توازن خطواتها وهي تدفع جسدها للأمام وبعيدا عن الدرجة امام قدميها ، وقبل ان تتدارك نفسها بثواني كان هناك من يمسك بذراعها من الخلف بقوة وبسلاسة لتحاول عندها تثبيت قدميها مجددا فوق العتبة بسلام ، وما ان تنفست بارتجاف سكن دواخلها لبرهة حتى صلبت ظهرها بلحظة بجمود وهي تستمع للصوت البارد من خلفها قائلا بصوت اجش مستفز
"لا بأس يا ألماستي ، فما دام زوجك بجانبك فهو لن يدع لكِ حرية السقوط لأنه سيكون عندها من خلفكِ بكل مرة يحدث هذا"

عضت على طرف شفتيها بانفعال وهي تهمس بحنق بالغ
"لقد تعمدت فعل هذا صحيح لكي تكسرني اكثر !"

عبست ملامحها فجأة ما ان تدخل صوت الواقف بالقرب منهما بدون ان تنتبه لوجوده من الاساس وهو يهمس بإحراج
"انا اعتذر حقا على ما حدث فقد اصطدمت بكِ بطريق الخطأ لأني كنت على عجلة من امري"

امتعضت ملامحها ما ان قال الذي ما يزال يمسك بذراعها بقوة بضحكة ساخرة
"عليكِ ان تفكري قبل ان تتهمي الناس بدون اي وجه حق"

زمت شفتيها بوجوم وهي تتجاهل كلامه الاخير محاولة نزول بعض الدرجات امامها بتمايل ، لتثبت جسدها بعيدا عنه وعن يده المساندة لها وهي ما تزال تمسك بذراعها بقوة تمنعها عن الوقوع ، ولكن ما لم تتوقعه هو ان يسحب ذراعها للخلف بلحظة وهو يديرها ناحيته بكلتا يديه ، لتقف بعدها بثواني مقابلة له وهو ينزل الدرجة الفاصلة بينهما امام نظراتها المذهولة ، ليهمس بعدها امام وجهها بتجهم عابس
"إلى اين تريدين الهروب من منقذك يا ناكرة الجميل ؟"

اشاحت بوجهها بعيدا عنه بتأفف لتقع نظراتها على الفرد الثالث بينهما والذي ما يزال يراقب كل لحظات شجارهما الاحمق والذي يكون السبب به بدون ان يشعر بأي ذرة احساس ، وهي تشعر بالدماء الحارة تكاد تنفجر بداخلها وبأوردتها النابضة بصخب من إحراج لم تتعرض له بحياتها ، لتقذف بعدها الكلام باستياء حاد امام نظراته الثابتة عليهما بدون ان تتمالك نفسها
"على ماذا تنظر ؟ هل ترى الأمر ممتع ؟"

ارتفع المقابل لها حاجبيه بدهشة وهو يحيد بنظراته لشقيقه الصغير والذي يبدو لم يتأثر بكلامها او لم يفقه شيء منه من فورة غضبها والواضحة على محياها وهي تصب جام غضبها على ذلك الصغير ؟ ليمسك بعدها بكتفيها برفق قبل ان تتهور او ترتكب جريمة بذلك الصغير وهو يوجه كلامه له قائلا بجدية صارمة
"هيا اذهب يا زين ، فهذه المشاهد لا يصح للأطفال رؤيتها"

رفع نظراته باتجاه صاحب الكلام قبل ان يعود بها للوجه المحتقن بالدماء وبعينيها المتحجرتين بزرقة قاتمة ، ليبتسم بعدها ببساطة وهو يقول لهما بهدوء بالغ
"حسنا سأذهب ، ولكن اولاً اريد ان ابارك لكما مبروك عقد قرانكما ، لقد سعدت كثيرا عندما علمت بأنكما سترتبطان ببعضكما فقد كنت اتوقع هذا منذ فترة طويلة وكان من السهل التكهن بنتائج علاقتكما ، بالرغم من انني اجد استحالة الدمج بينكما......"

قاطعه الذي تصلبت ملامحه فجأة وهو يهمس بأمر
"كفى كلام ، واغرب عن وجهي حالاً"

تجمدت ملامح (زين) قبل ان يعبس بيأس وهو يوجه نظراته للتي كانت تنظر لهما بجمود بدون ان تفهم سبب شرارات الكراهية والتي بدأت تدور من حولهم ؟ ليقول بعدها امامها بابتسامة صغيرة وهو يرفع حاجبيه بخفة
"مبروك يا ماسة ، واتمنى حظاً اوفر لي بالمرة القادمة"

ارتفع حاجبيها مع اتساع مقلتيها الزرقاوين بصدمة بذات الوقت ما ان وصلها معنى كلامه ، بينما من تعقدت ملامحه بحدة كان يراقب الذي اكمل نزول باقي درجات السلم بثواني وهو يبتعد من فوره بعيدا عنهما .

لتنتفض بعدها لا شعوريا ما ان امسك بذراعها بقوة وهو يقول بانفعال حاد مريب
"ما لذي كان يقصده بكلامه ؟"

انفرجت شفتيها بارتعاش لوهلة قبل ان تدفعه بعيدا عنها وهي تهمس ببرود
"لا اعلم"

لتتابع بعدها نزول السلم بخطوات سريعة لم تكن تقارن بخطواته الواسعة والتي وصل بها بثواني لنهاية السلم ، ليعود ليمسك بذراعها باللحظة الاخيرة وهو يسحبها معه بدون كلام بمسار آخر باتجاه قاعة الطعام ، لتمانع بعدها بشدة وهي تصرخ بتذمر حاد
"اتركني يا شادي ، سأتأخر هكذا عن جامعتي بسببك"

ردّ عليها بلا مبالاة وهما يصلان امام قاعة الطعام
"لا بأس انا سأوصلكِ معي للجامعة ، اما الآن فعليكِ حضور مائدة الفطور مع العائلة لأنه هناك ما هو مهم على العائلة جميعها سماعه وانتِ اولهم"

عقدت حاجبيها بعدم استيعاب وبتجهم مما يتفوه به ؟ لتنظر بعدها امامها وهي تشاهد جميع افراد العائلة المجتمعين حول مائدة الفطور والتي تحضرها لأول مرة بحياتها منذ دخولها لهذا المنزل بالمرتين المتتاليتين فقط لتتجنب الاحتكاك بهم ومقابلة نظراتهم المستنكرة من وجودها بينهم ، وهذا ما حدث ما ان دخل كليهما معا لتبدأ النظرات بالتوجه نحوهما تدريجيا للحظات قبل ان يعود كل واحد منهم للطبق امامه بدون ان يعيروا وجودهم اهتماما .

خرجت من شرودها ما ان تحرك الواقف بجانبها وهو يتخذ مقعد من حول المائدة ليبعد المقعد المجاور له قليلا وهو يؤمرها بإشارة بالجلوس بجانبه ، ادارت عينيها بعيدا عنه بضيق وهي تشعر بنفسها اصبحت محط انظار الجميع ، لتقع عينيها بلحظة على مكان آخر اتجهت له من فورها متجاهلة كل من حولها ، لتجلس بالنهاية بجانب التي كانت مشغولة بتحريك الملعقة بداخل كوب قهوتها بدون ان تشعر مما يدور من حولها وبدون ان تنتبه حتى لوجود شقيقتها بالمكان .

ابتسمت ببرود لصاحب النظرات الغاضبة وهي تعصي اوامره بدون ان تبالي بمزاجه وهي تقابله بكل وقاحة برودها ، ولو كان بيدها لكانت خرجت من المكان بأكمله لتغادر لجامعتها بدلا من انتظار الامر المهم والذي يريد قوله بوجودهم ، وجهت بعدها نظراتها الحائرة للجالسة بجانبها وهي ما تزال تحافظ على صمتها وبملامح باردة على غير عادتها ، لتمسك بلحظة بذراعها بهدوء وهي تهمس بتوجس
"روميساء ما بكِ ! هل انتِ بخير ؟"

رفعت عينين خضراوين بشحوب مهتز للحظات وهي تبتسم بضعف واضح هامسة برقة
"انا بخير يا عزيزتي ، لا تقلقي عليّ"

تغضن جبينها بجمود وهي تنظر لشحوب ملامحها الغريب بعدم راحة وعينين ذابلتين ببعض الاحمرار وكأن النوم قد هرب منهما ، هي تعلم جيدا بأن هذه الملامح لم تغب عنها طيلة حياتهما تحت رحمة زوج والدتهما والذي لم يكن يسمح للراحة ان تجد سبيل لتدخل بحياتهما ، ولكن كل شيء قد اختلف بعد دخولهما لمنزل خالهما وزواجها من ابن العائلة ليعود بعض اللون والجمال لحياتها الذابلة ، فما لذي اختلف الآن لتنقلب هكذا وتعود لتلك الفتاة الحزينة مجددا ؟

حركت نظراتها بسرعة من حولهما وهي تلاحظ لأول مرة عدم وجود (احمد) بينهما على المائدة ، لتهمس بعدها من بين اسنانها بأمر واقع
"لقد كنت اعلم ، إذاً هذا هو السبب !"

قال فجأة الجالس على رأس المائدة وكأنه يقرأ افكارها وهو يقول بصوت جهوري صارم
"سندس اين هو احمد ؟ لما لم يحضر مائدة الفطور بعد ؟"

اجابته الخادمة بطاعة وهي تهمس باحترام
"لقد غادر السيد احمد منذ الصباح الباكر بدون ان يترك اي خبر عن سبب رحيله لأحد"

تجهمت ملامحه بعدم رضا وهو يهمس بوجوم متصلب
"لا بأس يا احمد ، حسابك سيأتي عندما اراك ، ولنرى ما هي اعذارك عن تغيبك للحضور على مائدة الفطور مع العائلة"

حركت رأسها بتفكير لبرهة لتحين منها التفاتة جانبا بنظراتها للتي اشتدت يديها على كوب القهوة بدون كلام وهي تنشج بصمت وبارتجاف واضح تجلى على مفاصل اصابعها البيضاء ، رفعت نظرها بعبوس باتجاه الذي كان يصدر تلك الضجة وهو يطرق الملعقة على زجاج الكأس برنين مزعج التفتت معه الانظار بلحظات .

توقف بعدها ما ان وقعت نظراته على عيون رمادية غاضبة وهو ينظر له الند بالند ، ليقول بعدها بابتسامة جادة وهو ينقل نظراته للجهة الأخرى
"اريد ان اعلن عن خبر مهم يخص حياتي على العموم ، واريد من الجميع سماعه بآذان مرهفة لتشاركوا فرحة سماع الخبر معي ، للأسف بأن احمد غير موجود ليسمع ذاك الخبر المهم ، ولكني بالطبع لن انساه وسأخبره به فيما بعد........"

قاطعه والده بتصلب وهو يقول بنفاذ صبر
"هلا دخلت بالموضوع مباشرة بدل هذا الموشح الممل من الكلام الفارغ ؟"

اومأ برأسه ببرود وهو ينظر بقوة للتي تصلبت بمكانها بتحفز مما هو مقدم عليه لن يعجبها ابدا ، فهو لا يدخل بموضوع ولا يبدأ منه من فراغ ، وكما توقعت اكمل كلامه بدون ان يترك نظراتها المتصلبة بتحجر وهو يقول بابتسامة جانبية بمكر واضح
"الجميع يعلم بأن زواجي لم يكتمل بعد ! وقد اتفقنا من قبل بأن نجهز حفل زفاف يليق بنا وبنسب عائلة الفكهاني العريق ، لذا خططت بأن يكون يوم الزفاف بعد ثلاث ايام فقط ، وكل ما يتعلق بتجهيزات الحفلة وما يتبعها من شكليات اصبح جاهزا بالكامل ، وكل ما اريده منكم هو الحضور وتمني السعادة للزوجين بحياة هنية طول العمر ، وشكرا لكم على حسن الاستماع"

خيم الصمت بأرجاء المكان لثواني تحولت لدقائق طويلة بصدمة الخبر والذي لم يحسب احد حساب له ويبدو مخطط له جيدا وبدقة الموعد القريب ، بينما عينيها الزرقاوين المتسعتين كانت ما تزال معلقة بعينيه والتي لم تتركها وشأنها طول كلامه بل منذ قذفه للخبر بوجهها مثل الصاعقة برأسها ، وهي تضربها بالصميم بعد ان قرب موعد ارتباطها بقدرها المحتوم ، وبعد ان اغلق كل الحلول المقترحة برأسها والتي كانت تخطط لها لتقطع بأي شكل هذا الرابط والذي تراه يزيد قوة ومتانة مع اقتراب نهاية استقلالها بهذه الحياة الموشومة بعار ذنوبها والتي تكللت حول عنقها للأبد .

قطع الصمت الطويل حتى اصبح قاتلا الذي قال بنفس ملامحه الحادة بتجهم عابس
"من كل عقلك تريد ان يقام حفل الزفاف بعد ثلاث ايام ! هل تظن كل شيء بالحياة متمحور حولك لنجهز لك حفل زفاف كامل بغضون ثلاث ايام فقط ؟ ماذا تظن نفسك فاعل بهذه التصرفات المتهورة والغير مسؤولة ؟ هل تعلم كم يكلف جهد ووقت ومال تجهيز حفل زفاف من اجلك ومن اجل عروسك والذي يحتاج اقل شيء لأسبوعين ؟......"

قاطعه بهدوء بالغ بدون ان يعطي انتباه لكلامه الاخير وهو يقول بجدية باردة متحديا له بنظرات تحمل العناد والاصرار معا
"يبدو بأنك لم تسمع كلامي جيدا يا ابي ؟ لذا سأكرره على اسماعك من اجلك ، لقد قلت بالحرف الواحد بأن كل شيء جاهز ومخطط له ولن احتاج لمساعدة احد او مساندته بمثل هذه الشكليات ، واقصد بأن وجودكم بالحفلة يكفيني ولن احتاج شيء آخر غيره بهذا الوقت ، لذا ارجوك يا ابي لا تنسى ان تتواجد بالحفلة لتسلم ابنة شقيقتك لابنك العزيز مثل اي زفاف آخر ولأنك كبير عائلتنا هنا فوجودك مهم جدا بحياتنا"

تصلبت ملامح والده بصمت قاتم زادت من قسوة رمادية عينيه بدون ان يحيد بنظراته بعيدا عنه وكأنه يوصل له رسالة مغزاها حسابك لن ينتهي هنا وعقابك عليها لن يكون بهين ، ليخرج بعدها عن صمته التي وقفت عن مقعدها بهدوء بالغ قبل ان تغادر قاعة الطعام بأكملها وبصمت قاتم بدون ان تضيف اي كلمة على كلامه الاخير .

وقف بعدها بلحظة الذي سار باتجاه باب القاعة وهو يلوح بذراعه قائلا ببساطة
"اتمنى لكم يوما سعيدا"

ليختفي بعدها خلف الأخرى وجميع الانظار مسلطة بمكان اختفاءه بوجوم ساد بالمكان للحظات لينحصر بدواخل كل واحد منهم بسكون ...

_____________________________
اسندت جانب رأسها بالنافذة وهي تشاهد الطريق يتحرك بسرعة ثابتة تسرع قليلا بلحظة لتعود للبطء بثانية اخرى مثل دوامة الحياة والتي تعيشها ، وهي تزيد سرعتها بلحظات سعادتها النادرة لتعود للبطء بلحظات آلامها ، وكأنها محتجزة بتلك الدقائق البطيئة والقاتلة بالنسبة لحياتها الباردة ، تصلبت بعدها ملامحها بلحظة وهي تعود للجلوس بسكون مسندة ظهرها للخلف بصمت ، لتكتف من فورها ذراعيها فوق صدرها هامسة بصوت نافذ بصفير اسنانها المطبقة
"ما لذي قصدته بتلك الحركة ؟"

ادار نظراته نحوها لبرهة الذي كان يقود بسلاسة قبل ان يعود بنظراته للأمام ببرود وهو يهمس بخفوت غير مبالي
"تقصدين الكلام والذي قلته امام العائلة ؟ اعتقد بأنه كان واضح كفاية بدون اي حاجة للتفكير به ! بل كل ما عليكِ ان تفكري به الآن هو كيفية تجهيز نفسكِ على اكمل وجه لهذا اليوم المنتظر والذي سيحدث به ارتباطنا رسميا امام العالم وكل من يوجد على سطح الأرض"

عبست ملامحها بغضب وهي تحيد بنظراتها القاتمة نحوه بجمود هامسة بخفوت منقبض
"وإذا قلت لك بأني لا اريد ان يقام زفافي بعد ثلاث ايام ! ام ليس لدي رأي بهذا الخصوص ؟"

ابتسم بهدوء وهو يوجه نظرات باردة نحوها للحظة قبل ان يتمتم ببساطة شديدة
"اعتذر ولكن طلبكِ غير متاح حالياً ، وهذا الزفاف عليه ان يحدث بأقرب فرصة ممكنة لأني لا اطيق صبرا حتى تصبحي لي يا ألماستي وبكل معنى الكلمة ، ولكي استطيع ايضا كبح جماحك الاحمق وتمردك والذي زاد عن حده بالآونة الاخيرة اكثر مما ينبغي......"

قاطعته التي التفتت نحوه بعنف وهي تهمس بانفعال حانق
"انا لا اسمح لك بهذا النوع من التحكم ، فقط لأنك تمسك سجل الماضي الخاص بي تريد ان تجرعني الألم وتسلط عليّ قيود قوانينك حتى تنتقم مني باستخدام ذلك الماضي"

ارتفع حاجبيه بدهشة لوهلة وهو يحرك رأسه بعيدا عنها ببرود قائلا بابتسامة مقتضبة بقوة
"فكري كما تشائين يا مجرمة ، ولكني اعدك بأن انظف عقلك هذا وحياتك السوداء والمليئة بالندوب والتشوهات والتي لن يفيد البقاء عليها قبل ان تقضي على وجودك تماما وتفسد ما تبقى لديكِ من مشاعر ما تزال مكبوتة بداخلك"

عضت على طرف شفتيها باستياء وهي تهمس بعبوس مستنكر
"هل تقصد بكلامك هذا بأني مجنونة واحتاج للعلاج ؟ وانت ستكون المسكن لعلاج هذه المجنونة ؟"

اتسعت ابتسامته بغموض وبلمح البصر كان يمسك بكفها على ساقيها بقوة وهو يتبعها بلحظة بالهمس بخفوت اجش واثق
"إذا كان الجمال يتمحور بالمجانين امثالك ! فأنا اتمنى عندها ان تتحول كل فتيات الأرض لمجانين"

حدقت به لبرهة بصدمة جمدت التفكير بعقلها الخاوي وبخفقات قلبها والتي خفتت فجأة بذهول ! لتزفر بعدها انفاسها بارتجاف وهي تسحب يدها بعيدا عنه بانقباض هامسة بحنق مضطرب
"توقف عن هذا الجدال الفارغ ، فلم يعد يعجبني سير الحديث معك"

ردّ عليها وهو يحرك كتفيه باستخفاف
"ليس انا من بدأ بالحديث بهذا الجدال اولاً"

تأففت بنفاذ صبر وهي تشيح بوجهها للنافذة بجانبها بصمت قاتم بدون ان تزيد كلمة اخرى لكي لا يزيد شعور التخبط بدواخلها مثل نواقيس الخطر ، وبعد عدة دقائق كانت تضيق عينيها الزرقاوين بحدة وهي تقرب جبينها اكثر للطريق بجانبها هامسة بعدم فهم
"هذا ليس الطريق المؤدي لجامعتي !"

نظر لها الجالس بجانبها ما ان التقط همستها وهو يجيبها قائلا بجدية
"اجل هذا الطريق ليس لجامعتك ، لأننا سنذهب لمكان آخر قبل إيصالك للجامعة ، وعندما نصل ستعرفين كل شيء"

فغرت شفتيها باندهاش للحظة وهي تلتفت نحوه ببطء ، ليتحول بعدها بثانية لعبوس وهي تلوح بقبضتها جانبا قائلة باستنكار
"ما هذا الكلام ! اتعلم بأنني بسببك قد تغيبت يومين عن جامعتي بسبب رحلتك الغبية لذلك البيت الريفي وانا الآن متأخرة وقد افوت المحاضرة الأولى بسببك وبسبب اجبارك لي بحضور جلسة الفطور ؟ والآن تريد ان تأخذني لمكان آخر بعد ان وعدتني ان توصلني للجامعة بنفسك ! ولكن الحق كله على التي صدقتك منذ البداية واخلفت بوعدك......"

توقفت عن الكلام ما ان كتم على فمها بيده بقوة ليقود بيده الاخرى وهو يوقف الكلام المسترسل منه والقاتل بذات الوقت ، ليقول بأمر قاطع بعد ان سببت التشوش بأفكاره وهو يحيد عن الطريق قليلا
"اخرسي يا ماسة وإياكِ والتفوه بأي جنون قد ينطق به لسانك الاحمق ! وبخصوص هذا المشوار فقد كنت اخطط له منذ ايام ، لذا اوقفي تمردك هذا وافعلي ما اقوله ، لكي استطيع إيصالك بعدها لجامعتك بسلام"

عندما لم يسمع اي تعليق منها التفت نحوها بهدوء لتقع نظراته على حدقتيها البحريتين بزرقة ساكنة بدون اي هياج او امواج ، وهو ما يزال يكمم على فمها بقوة مستشعرا ذبذبات شفتيها المرتجفتين على باطن كفه ، وما هي ألا لحظة حتى نفض يده بعيدا عنها بألم ما ان شعر بأسنان حادة تقضم لحم باطن كفه بلمح البصر وبخبث واضح لمحه بتلك المقلتين المتسعتين بجمود باهت .

قبض على يده بقوة بألم حارق بباطن كفه وهو يعود للنظر للطريق امامه ما ان شعر بانحراف السيارة عن الطريق قليلا وهو يتمتم بوجوم عابس
"يا لكِ من وغدة ماكرة لقد انحنى الجنون احتراما لكِ !"

حركت عينيها بعيدا عنه بلا مبالاة وهي تهمس ببرود ساخر
"عليك ان تتحمل اكثر فأنت الذي اخترت ان تكون مسكن لهذه المجنونة ، لذا إياك والتراجع عن كلامك الآن فهذا ليس من شيم المحاربين"

عض على طرف شفتيه بكبت وهو يرفع حاجب واحد بحدة بعد ان عبثت بالكلام وقلبت الطاولة عليه ، وهو المذنب الوحيد بكل هذا عندما بدأ هذه الحرب الخاسرة معها وهو يظن مهمة تنظيفها ستكون سهلة عليه ليكتشف سوء اختياره بعد فوات الآوان ، ليهمس بعدها لبرهة من بين اسنانه بصوت غير مسموع وبكل غل يشعر به بهذه اللحظة بعد ان اصبحت كفه ضحية حقدها
"اللعنة عليكِ وعلى اسنانكِ الحاقدة وعلى الشخص الجالس بجانبك"

توقفت السيارة بعدها بلحظات بجانب محل صياغة الذهب والمجوهرات وهي تنظر باتساع عينيها لواجهة المحل الفخمة والتي تظهر كل انواع المجوهرات من خلالها وهي تعكس بريقها بزرقة عينيها ، انتفضت بعدها لا شعوريا ما ان فتح الجالس بجانبها الباب وهو يقول بأمر
"هيا انزلي"

خرجت من فورها من باب السيارة بجانبها ونظراتها ما تزال معلقة بتلك الواجهة الضخمة للمحل الفخم ، لتسير بعدها خلف الذي سبقها باتجاه المحل وهي تتبعه من الخلف بصمت منتظرة نهاية هذه الرحلة والتي ذهبت إليها بدون إرادة منها .

ما ان دخل من باب المحل والذي كان يصدر رنين اجراس ناعمة فوق باب الدخول ، حتى سار من فوره باتجاه طاولة الصائغ وصاحب المحل ، بينما تجمدت الاخرى بمكانها وهي تتنقل بحدقتيها بحذر بمحتويات المحل الجميلة والتي تبدو صياغتها اصلية بجودة عالية من لمعانها الملفت للأنظار والشبيهة بمجوهرات (روميساء) والتي كانت ترتديها بحفلة بمنزل خالها .

امسكت بيديها حزام حقيبتها بتشبث ما ان اشار الواقف امامها على بعد خطوات بعينيه لتقترب امامه بأمر ، لتعض بعدها على طرف شفتيها بارتباك مريب وهي تخفض نظراتها بوجوم وبانقباض احتل اطرافها لوهلة من تواجدها بمكان لا ينتمي لعالمها السوداوي ولا لهيئة حياتها ، والتي عاشت عليها حتى وصمت بروحها بعيدا عن ذاك البريق الذهبي والخاص بعالم الثراء والرفاهية الغير محدودة .

قبضت على يديها بتجمد ما ان شعرت به وهو يمسك بيدها هامسا بغيظ
"ما لذي اصابكِ يا مجنونة ؟ لقد احرجتني امام الرجل"

تنفست بهدوء وهي ترفع رأسها بحذر قبل ان تهمس بعبوس
"ما لذي نفعله بهذا المكان ؟"

ارتفع حاجبيه ببرود وهو يهمس بسخرية
"وما لذي سنفعله مثلا ! بهذا المحل الكبير الخاص بالمجوهرات والذي لا يأتي إليه سوى الذين يريدون ان يختاروا خواتم زواج او خطبة لهم ! ام لديكِ سبب آخر لقدومنا هنا ؟"

عقدت حاجبيها بحدة وهي تهمس باعتراض
"وانا لا اريد اي خاتم"

ردّ عليها من فوره وهو يسحبها امام طاولة صاحب المحل والذي ما يزال يراقب نهاية لحديثهما
"اما انا فأريد وهذا سينطبق عليكِ كذلك"

وقفت امام الطاولة وهي تنظر بعيدا عنه بضيق ، ليقول بعدها للصائغ بابتسامة هادئة
"هذه خطيبتي والتي اخبرتك عنها ، واريد منك ان تعرض عليها انواع الخواتم والتي اخترتها من اجلنا"

نظر الصائغ للفتاة المقصودة بحيرة من غضبها الواضح على محياها وكأنها مرغمة على المجيئ إلى هنا بدون ان تخفي نظراتها الحاقدة والمستعرة على كليهما ؟ ليقول بعدها الصائغ باحترام وهو يستدير ليخرج علبة مخملية من ادراج الخزانة
"اكيد يا سيد شادي ، دقيقة لأحضرها لك"

التفتت نحوه بعبوس ما ان ضربها على ذراعها بمرفقه بقوة وهو يتمتم بغضب
"توقفي عن التصرف بتحامق واظهار غضبك امام الرجل ، وألا ستحلمين ان اوصلك للجامعة وستذهبين لها لوحدك"

دلكت على ذراعها بيدها الاخرى وهي تهمس بضيق
"لا احب ان اكذب ملامحي او ان اظهر المحبة لأحد رغما عني فهذا هو شكلي الحقيقي ، لذا تقبله بصمت وتوقف عن التذمر"

ارتفع حاجبيه بتجهم شرس وقبل ان يقذفها بكلامه الحاد سبقه الذي وقف امامه وهو يفتح العلبة الكبيرة فوق سطح الطاولة قائلا بمودة
"تفضل يا سيدي هذا من افضل انواع الذهب عندنا والمصاغة بحرفية ، ومن اجمل ما قد تراه عيناك ، ويمكنك ان تختار اي ما يعجبك بها"

حانت منها التفاتة نحو ما كان يشير له الصائغ لتنظر لخواتم جميلة من عدة اشكال وصناعة تختلف عن الاخرى ، ولكنها تتشابه بنفس التحفة الفنية واللمعان الملفت بلون ذهبي خالص لم ترى بحياتها مثيل له وكل واحدة تميزها جمالها الخاص بها .

افاقت من شرودها على صوته الخشن وهو يقول بهدوء بارد
"هيا اختاري اي نوع اعجبك منها لنشتري واحد لكلينا"

زمت شفتيها بحنق وهي تنظر لبريق كل واحدة منها والذي كان يخترق غمامة نظرها بضياء ازعجها ، لتنفض الافكار الاخيرة عنها وهي تهمس بلا مبالاة
"لم يعجبني اي واحدة منها ، هل استطيع الرحيل الآن ؟"

تصلبت ملامحه بجمود وهو ينظر للصائغ والذي يبدو صعق بكلامها الوقح وهي تهين صناعة الخواتم وتعبه بصياغتها بدون اي اعتبار لأحد ، ليقول بعدها بلحظة باقتضاب وهو يحرك رأسه بضحكة بدون اي مرح حقيقي
"لا تهتم لكلامها فهي تعاني من خلل بعقلها وهذا ينتابها بين الحين والآخر ! ولم تقصد ان تهين صناعة خواتمك لأنها اصلا لا تفهم وليس لديها ذوق بمثل هذه الأمور"

شهقت بغضب وهي تلتفت نحوه بلحظة هامسة بعنف خافت
"ماذا قلت عني ايها المتبجح !....."

تأوهت فجأة ما ان امسك بذراعها بقبضة من حديد ليهمس لها بتشديد خشن يكاد يفقد اعصابه
"إذا كنتِ لن تختاري الخاتم ، إذاً انا سأختاره لكِ بكل صدر رحب يا زوجتي العزيزة"

ضمت شفتيها بتصلب وبأسنان حادة تكاد تدمي شفتيها تجمدت معها ملامحها بجمود صخري ، ليوجه بعدها ذراعها بقسوة امام الخواتم وهو يشير لواحد منها بعشوائية قائلا بهدوء جاد مسيطر على ما تبقى لديه من اعصاب
"اريد هذا الخاتم لو سمحت فقد اعجبنا كثيرا"

اومأ الصائغ برأسه بارتباك مما يدور حول هذين الزوجين الغريبين الاطوار والذين لم يصادف شبيه لهما بحياته مع مسيرته بصياغة خواتم الزواج ، بينما نفضت ذراعها بعيدا عنه بعنف وهي تمسد عليها قائلة بحنق حاقد
"اكرهك يا ابن الفكهاني"

تجاهل كلامها الاخير وهو ينظر للخاتم الذهبي والذي قدمه الصائغ امامه ومن اختاره بدون ان ينظر إليه ، وقد كان يحوي ألماسة كبيرة بمنتصف الخاتم محفور عليه قلب صغير بخط باهت على سطح الألماسة بجمال خطف نظره للحظات وكأن الألماسة قد خطفت قلب احدهم بداخلها لتحتجزه هناك بتعبير مجازي ابدع بها الفنان !

امسك بالخاتم من فوره وهو ينظر له لبرهة قبل ان يستدير امام الواقفة بسكون بدون ان يظهر اي تعبير على ملامحها الساخطة ، ليرفع بعدها يده الاخرى بصمت وبدون مقدمات كان يعتصر قبضتها بداخل يده ليفتح كفها اليمنى مفرودة الاصابع ، قبل ان يدخل الخاتم الذهبي بأصبعها البنصر بقوة تخللت بمفاصل اصابعها البيضاء ، ليستقر بالنهاية بداخل اصبعها ويظهر جمال الألماسة فوق يدها البيضاء والمنحوتة عليها بوضوح ذلك القلب الصغير ، ليهمس بعدها الذي انحنى امامها بلحظة وهو يقبل جبينها العريض فوق خصلات غرتها الطويلة بصوت اجش عميق وهو يعصر يدها بقبضته وكأنه يعصر على فؤادها بقبضة من حديد
"مبروك فوزك بقلب شادي الفكهاني والذي اصبح الآن ملك بداخل ألماستي ، لذا اوصيكِ حرصا بالحفاظ عليه جيدا بقلبك والذي ما يزال ينبض لآخر نفس بحياته"
_______________________________
سارت بالممر الطويل بثبات قبل ان تصل للردهة الواسعة لتقف بعدها لوهلة امام باب مكتب المديرة ، لتطرق بعدها بلحظات على باب المكتب بأدب وهي تفتح الباب بهدوء ، نظرت بعدها للمكتب والذي اطل عليها ولرأس المديرة والذي ارتفع نحوها بهدوء ، لتبتسم بعدها بلحظة باتساع بمحياها البشوش وهي تقول بجدية هادئة بنبرة صوتها الخافتة
"هيا ادخلي يا معلمة روميساء واغلقي الباب خلفك"

اومأت برأسها بهدوء وهي تغلق الباب من خلفها برفق قبل ان تتقدم امامها بسرعة ، لتقف بعدها بلحظة امام المكتب تماما وهي تخفض نظراتها الخضراء المحمرة هامسة بخفوت
"لقد سمعت بأنكِ قد طلبتني ، هل هناك شيء سيء يخصني او تقصير موجه نحوي ؟......"

قاطعتها التي ضمت قبضتيها معا فوق سطح المكتب وهي تقول بابتسامة واثقة
"لا يا روميساء ليس هناك شيء من هذا القبيل ، وليس هذا السبب لطلب لكِ بالمجيئ لمكتبي ، فأنتِ من بين طاقم المعلمين بأكمله من المستحيل ان اجد اي تقصير بكِ او نقص بتنفيذ مهام وظيفتك بالمدرسة ، وخاصة بأن اغلب الطلاب بالمدرسة وأولياء أمورهم يمدحون كثيرا بتعليمك وسعيدون جدا بما تثمريه بأولادهم من حصاد المستقبل ، والمدرسة اكثر من فخورة بوجود معلمة مجتهدة مثلك اتمنى ان يتخذونك عبرة وقدوة لهم"

رفعت وجهها ببطء وهي تبتسم بسعادة ممتنة لم تشعر بها منذ وقت طويل لتنفض القليل من الضباب الغائم على حياتها المشتتة بكلام لم تسمعه بكل مسيرة تعليمها والتي بدأتها منذ خمس سنوات ، فقد كانت بالسابق تركز فقط حول العمل وعلى راتب الشهر والذي تتقاضاه بنهاية الشهر بدون ان يكافئها احد بكلمة شكر او مدح او امتنان تسعد قلبها المنهك من كم المسؤوليات الملقاة عليه ، وكأن كل هذه الكلمات وحدها عليها دفع ثمنها لتؤجر عليها بعد كل هذا الكد بالعمل الطويل والذي يأخذ كل طاقة مختزنة بحياتها .

همست بعدها بابتسامة ممتنة شقت ملامح وجهها الشاحبة بذبول لتنير قليلا بخضار عينيها الباهت
"شكرا لكِ على ثقتك والتي قدمتها لي ، واعدك بأن ابذل قصارى جهدي دائما لأكون عند حسن ظنكم وما تستحقه مثل هذه المدرسة تمتلك نظام إداري على كل مدرسة ان تتحلى به وعلى صفات المنتسبين بها"

اومأت المديرة برأسها بهدوء وهي تقول بابتسامة جادة بعد ان ارتدت قناع الجمود بتفاصيل وجهها المشدودة
"روميساء اريد ان اتكلم معكِ بخصوص والد التلميذ سامي يوسف والذي نقل للمشفى بالأمس بسبب حادث سير ادى لملازمته للمشفى"

ابتلعت ريقها بانقباض حاد وهي تهمس من فورها لا شعوريا
"هل حدث له مكروه ؟ ولكن الدكتور قد اخبرني بأن حالته قد استقرت !......"

عادت لمقاطعتها بحزم وهي تقول بملامح صارمة
"لا تقلقي يا روميساء هو بأفضل حال ، وليس هذا ما قصدته بكلامي"

عقدت حاجبيها بحيرة لوهلة ما ان اخرجت المقابلة لها باقة زهور كبيرة بيضاء من جانبها لم تنتبه لها لحظة دخولها ، وهي تقدمها لها قائلة بابتسامة هادئة لانت معها ملامحها الصارمة
"اريد منكِ يا روميساء إذا لم يكن لديكِ مانع ان تذهبي عوضا عن جميع طاقم العمل بالمدرسة لزيارة والد التلميذ والذي يكون طالب بيننا وليس من الجميل عدم الاطمئنان عليه وعلى والده المصاب ، وان تتمني له الشفاء العاجل وسلامنا وحبنا واحترامنا الخالص له ، وبما ان جميع المعلمات مشغولات بهذا اليوم وليس لديهن الوقت للقيام بهذه الزيارة فلم يبقى سواكِ هنا ليفعل هذا بدلا عنا ، واتمنى ان لا ترفضي طلبي يا روميساء فجميع من بالمدرسة وادارتها تعتمد عليكِ بهذه المهمة"

انفرجت شفتيها لوهلة بارتعاش بدون ان تجد ما ترد به وهي تشعر بدوار طفيف يغيم على نظراتها للحظات منذ الصباح وهو يزيد من تخبط عقلها ومشاعرها المتضاربة منذ الأمس ، وكم كانت تود الرفض بشدة من كل التخبطات والتي تواجهها بحياتها ، ولكن شوقها لرؤية طالبها والذي تغيب عن المدرسة اليوم واطمئنانها بأن عائلته الصغيرة بأمان ولن يتعرض لما تعرضت له بالماضي من جرح طفولتها البريئة منعها من رفض هذه الفرصة والتي اتت إليها على قدميها .

همست بالنهاية بأنفاس هادئة ببرود وهي تسلط انظارها امامها بقوة
"انا موافقة وسيكون من دواعي سروري ان استلم مثل هذه المهمة"
اتسعت ابتسامتها بسعادة وهي ترفع باقة الأزهار امامها قائلة بامتنان شديد
"لقد اسعدتني كثيرا بموافقتك يا روميساء والمدرسة لن تنسى معروفك ابدا والذي قدمته لنا ، وهذه باقة الأزهار من اجل ان تقدميها للمصاب وانتِ توصلين له سلامنا"

حركت رأسها باهتزاز وهي تتناول باقة الأزهار منها بحذر ، لتحتضنها بعدها بين ذراعيها برفق وهي تهمس بخفوت بارد بحدقتيها الخضراوين المحمرتين مثل جمرتين عبث بهما الارهاق
"اعتمدي عليّ بهذا ايتها الناظرة شهيرة ، وكوني على ثقة بأني سأنفذ مهمتي بأفضل صورة لن تمس بسمعة مدرستنا المحترمة بشيء"

بعدها بنصف ساعة كاملة كانت تسير بممر المشفى الطويل وهي تعانق باقة الزهور بقوة وعينيها تجول بالمكان بتمهل وهدوء ، لتتوقف بعدها بتجمد ما ان لمحت الطفل والذي جرى نحوها من فوره ما ان وقعت نظراته عليها ، ليعانقها بلحظات عند ساقيها وهو يقول بابتهاج بالغ بطفولية
"رائع ! انتِ هنا يا معلمة روميساء ؟ هل جئتِ للمشفى لرؤيتي ؟"

اخفضت نظراتها باضطراب وهي تضحك بخفوت لتربت بيدها على رأسه الناعم قائلة بهدوء
"لا يا صغيري لقد اتيت لرؤية والدك وليس انت ، وايضا لن اسامحك ابدا على تغيبك عن المدرسة اليوم فقد كان الفصل ممل جدا بدونك"

تبرمت شفتيه الصغيرتين وهو يبتعد عنها قليلا هامسا بعبوس
"الجميع يأتي لزيارة ابي ولا احد يهتم لوجودي ، واشك ايضا بأن يكون هناك احد قد لاحظ تغيبي عن المدرسة"

عادت للضحك بخفوت بتشنج وهي تجول بنظراتها بعيدا عنه قائلة بحيرة
"اخبرني يا سامي اين هي غرفة والدك ؟ فقد اتيت لزيارته وليس لدي متسع من الوقت للبقاء طويلا"

امسك بيدها من فوره وهو يسحبها معه قائلا بلهفة طفولية
"تعالي معي وسأوصلك لغرفة ابي"

تابعت سيرها معه حتى وصلت امام الغرفة المطلوبة ، ليفتح الطفل الباب امامها بدون طرق وهو يتابع الجري قائلا بصراخ طفولي
"ابي هناك من اتى لزيارتك"

توقفت مكانها لبرهة ما ان التفت الرجل الجالس فوق السرير وهو يقول بتأنيب للطفل والذي وصل امام سريره بلحظة
"سامي كم مرة اخبرتك ان تخفض صوتك لكي لا تزعج المرضى الآخرين ، ومرة اخرى عليك طرق الباب اولاً قبل دخول الغرف هكذا"

اخفض رأسه بأسف وهو يهمس بندم
"اعتذر يا ابي"

ابتسمت بهدوء التي كانت تشاهد تأنيب الأب لابنه الصغير الشقي وكم ذكرتها بماضي بعيد ما تزال تحتفظ ببعض ذكرياته الجميلة بصندوق قلبها المنسي ، افاقت من افكارها ما ان قال الجالس على السرير بابتسامة هادئة وهو يوجه نظراته لها
"انتِ معلمة سامي أليس كذلك ؟ مرحبا بكِ"

اومأت برأسها بارتجاف وهي تتقدم عدة خطوات قبل ان تقف بالقرب من السرير ، لتقول بعدها بابتسامة جانبية بخواء
"مرحبا بك يا سيد يوسف ، وحمد لله على سلامتك ، انا اتيت عوضا عن جميع طاقم العمل والاساتذة بالمدرسة وجميعهم يتمنون لك الشفاء العاجل وعودة قريبة لزيارة المدرسة لتنيرها بوجودك انت وابنك ، ولا تنسى ان تهتم بنفسك جيدا من اجل سعادة سامي فأنت غالي كثيرا على قلوبنا وبقلب ابنك الصغير والذي ليس لديه سواك"

اومأ برأسه باحترام وهو يرفع قبضته ليضغط بها على صدره قائلا بثقة وبمحبة خالصة
"شكرا لكِ يا معلمة روميساء فهذا لطف كبير منكم ان تهتموا بصحتي وبراحة ابني ، وسعيد جدا بانتساب سامي لمدرسة راقية ومحترمة مثل مدرستكم ، واتمنى ان توصلي سلامي الحار لجميع الاعضاء العاملين بالمدرسة"

تنهدت بهدوء وهي تنقل نظراتها للذي انتشل منها باقة الازهار وهو يقول بابتسامة كبيرة
"هل هذه الازهار لأبي ؟ انها جميلة جدا مثل معلمتي الجميلة !"

ابتسمت بحياء وهي تنظر للطفل والذي كان يعانق باقة الازهار بسعادة ، بينما قال والده وهو يوجه له نظرات صارمة قائلا بأمر
"سامي ما لذي نقوله للشخص والذي يجلب لنا شيئاً جميلا ؟"

عقد حاجبيه الصغيرين بوجوم وهو ينظر للتي كانت تنظر له بصمت قائلا لها بأدب
"شكرا لكِ على الازهار يا معلمتي الجميلة ، وابي ايضا سعيد جدا بزيارة معلمة جميلة مثلكِ شكلا وقالبا"

قال والده فجأة بإحراج صارم
"سامي !"

ضحك الطفل وهو يدور بالأزهار بسعادة ليجري بلمح البصر لخارج الغرفة بضحكات بريئة ، لتعود بعدها بنظراتها للذي كان ما يزال يراقب مكان اختفاء ابنه قبل ان تهمس بإحراج تشعر به سيفتك بها
"حسنا وكيف اصبحت صحتك الآن يا سيد يوسف ؟ هل تستطيع العودة لحياتك الطبيعية ؟"

رفع نظراته نحوها بقوة اجفلت منها وهو يقول بنفس ابتسامته البشوشة
"كل شيء بخير والحمد الله ، ولكني احتاج لبعض الوقت لأعود للسير على قدمي بسبب اضرار الحادث ، ولكن الحمد الله على نعمة الحياة فأهم شيء عندي هو البقاء مع ابني الصغير والذي يحتاج لوجودي بشدة بحياته"

اومأت برأسها بشرود وهي تشعر بغمامة تشوش عليها رؤيتها لبرهة وتطبق على انفاسها بانقباض ، لتقول بعدها بأنفاس متعثرة وهي تستدير بعيدا عنه تكاد تجري لخارج الغرفة والتي تشعر بها قد نفذ منها الاكسجين بغلالة قيدت حركتها
"حسنا سلامتك يا سيد يوسف ، وانا الآن عليّ الرحيل من هنا فقد تأخرت كثيرا ولا اريد ان اتعبك اكثر بزيارتي"

اكملت طريقها لخارج الغرفة بثواني بدون سماع اي كلمة اخرى ، وما ان اصبحت بالممر حتى اسندت كفها على الجدار بجانبها لوهلة وهي تنشج بأنفاسها بصعوبة بالغة ، بدون ان تجد اي قدرة على سحب انفاسها والتي انحصرت بداخل روحها الغائرة بانقباض سحيق ، لتتابع من فورها طريقها لأقرب حمام موجود بالمشفى .

ما ان اصبحت بداخل الحمام حتى انحنت من فورها على ركبتيها وهي تجثو امام المرحاض والذي بدأت تفرغ بداخله كل ما يوجد بمعدتها الخاوية بتشنج حاد احتل اطرافها بقوة وكأنها تعصر روحها بداخلها ، وما ان انتهت من تقيؤ كل ما تحمله معدتها حتى استراحت جالسة على رخام الحمام الابيض ، وهي تعود للتنفس بطبيعية وبتشنج ما يزال يهز جنبات روحها المنتفضة ، وهي تتوسل بعض الاكسجين والذي يعيد جسدها للحياة من تخبطاته الغريبة والتي تمر عليه لأول مرة ، وكم تخشى التفكير الآن عن سبب الحالة والتي تمر بها بعيدا عن التعب الجسدي والذي أنهك كل اعضاء جسدها المشدود !

نهاية الفصل........

بحر من دموع Tahanan ng mga kuwento. Tumuklas ngayon