الفصل الحادي والعشرون

94 6 1
                                    

كان يقف امام بناء المنزل بملامح قاتمة مظلمة وهو يحدد هدفه القريب على بعد بضعة اقدام...لتضيق بعدها عينيه السوداوين بحدة الصقر مع ابتسامة غامضة بافتراس بدأت بالبروز على زاوية شفتيه المتصلبتين...وكأنه على وشك ارتكاب جريمة شنعاء او عمل خطير لا يفصله الكثير عن تحقيقه...وهذه المرة بعزيمة اكبر وبدافع اقوى بدون اي قرار بالتراجع...فقد وصل الحقد بداخله والذي تغلغل بصميم روحه حد الانفجار والذي لن يستطيع كل قوة بالأرض ان تبعده عنه .
 
اخفض عينيه ببطء وهو يتنهد بقوة ليحرر كل غبار الماضي عن صدره وروحه ، قبل ان يكمل طريقه بخطوات ثابتة وبإصرار كبير وبرغبة عارمة بالثأر تزداد مع كل خطوة نحو هدفه .
 
وقف امام باب المكتب بعد ان غادر الخادم والذي استقبله حتى وصل إلى هنا ، بالرغم من حفظه للطريق مسبقا والتي تؤدي لهذا المكان بكل مرة يزور بها هذا المنزل ، وبالحقيقة لم يعد يستطيع تذكر عدد المرات والتي زار بها هذه الغرفة بسبب التقارب الذي يجمعه بذلك الساكن خلف المكتب والذي لم يترك له اي ذكرى جيدة بكل مرة يتقابل فيها معه ، وكأنه يصر على تشويه صورته وتلك الدماء والتي تربطه به حتى وصل للرمق الاخير من علاقته معه والتي لن تشفع له بعد الآن اي من اخطاءه نحوه .
 
زفر انفاسه بقوة وهو يمسك بمقبض الباب البارد مثل حدقتيه والتي تستطيع تجميد ما يصله من نظراتها ، وما ان اصدر الباب صوت بداية الحرب بنعيق عالي بسبب عمره الذي فاق عمر الجميع حتى بدأ يتجلى امامه شكل الصرح الكبير للمكتب الخشبي العريض ، ليرتفع بنظره بهدوء للذي كان يتربع ذلك الصرح وهو يجلس خلفه بكل هيمنة بعيون الصقور الشبيهة بعينيه رغم عمرهما والذي ظهر جليا عليهما ، بدون ان يفقد حدتهما وخلفيتهما المتوحشة والتي تظهر مدى خطرهما بأوقات العمل والتي ترهب اشجع الفرسان ، وهو يقابله بنفس النظرات بكره بدائي قديم اعتلى ملامحه بلحظة وهو يجابهه بالمثل ليكون له بالمرصاد .
 
اشتدت ملامحه بلحظة ما ان قال الذي اعتدل بجلوسه وبهيبة ما يزال يحافظ عليها
"اهلا بك يا ابن مصعب ، لم تطل علينا بهذه الزيارة منذ مدة طويلة ! هل تريد مساعدة بخصوص امور حياتك ؟"
 
تجول بنظره بلحظات بدون ان يعلو ملامحه اي انفعال قبل ان يهمس بابتسامة مشدودة قريبة للسخرية
"شكرا لك على هذا العرض المتأخر ، لو انك فعلتها بالسابق فقد كان من الممكن ان اوافق ، ولكن بما انني قد وصلت للحياة المثالية والمستقلة فلم اعد بحاجة لمساعدة احد ، وانت ستكون آخر من افكر بقبول مساعدته"
 
ابتسم ببطء مجرد التواء بطرف شفتيه المجعدتين وهو يقول بحزن مريب بدون اي شعور بالأسف
"صحيح لقد سمعت بأنك تحيى حياة مثالية بعد كل ما مررت به وتجاوزته بقوة وعزيمة تحسد عليهما ، فأنت قد اثبت لي حقا بأنك خصم لا يستهان به ، ونسيت ايضا بأن ابارك لك زواجك السريع والذي لم احسب له حساب ، فمن الذي سيتوقع بأن رجل مثلك ما يزال مقبل على الحياة ويفكر بالزواج والأطفال ؟"
 
عبست ملامحه بأول لمحة غضب تمر على محياه والتي استطاع بمهارة ان يخفيها خلف غلاف مشاعره الجليدية ، ليقول بعدها بلحظة بنفس الجمود الصخري وهو يجاريه بأسفه المزيف
"اجل هذا ما حدث ، فأنا بعد كل شيء لم اخطئ حتى اوقف حياتي بتلك اللحظة بالذات ، وتستحق عائلتي ان استمر بنسلها ونسعد بحياتنا القادمة والتي لا نعلم متى ستزول ؟ ولكن المؤسف بالأمر هي عائلتك والتي تبدو قد توقف النسل عندها وهذا لصالحنا لكي لا يعاني المزيد من البشر من اشباهك ومن وراثة جيناتك الاجرامية....."
 
قاطعه بأنفاس حادة وبدون ان يتحرك ساكنا فقط جمود احتل تلك الملامح المجعدة برهبة الهالة والتي تحوم من حوله
"كفى وإياك وان تنطق بأي كلمة زائدة يا ابن مصعب ، ولا تقلق بخصوص نسلي فأنا متأكد بأن ابني اوس لن يوقف جينات عائلته والتي سينقلها لأولاده"
 
ارتفع حاجبيه بدهشة باردة لوهلة قبل ان يشاركها بضحكة صغيرة لا إرادية وكأنه تشنج احتل حنجرته بحكة صغيرة ، ليعود للنظر له بقوة اكبر وبحقد ظهر للعيان وهو يهمس باستهزاء واضح
"هل تقول بأن ابنك هو الذي سيكمل النسل ؟ ولكن ماذا لو فشل بهذه المهمة ؟ ماذا لو كان مثل والده والذي لم يستطع الحفاظ على زوجته ودفعها للهروب منه بعد زواج دام لنصف سنة فقط ؟ فكما يقولون الولد سر ابيه"
 
ضرب فجأة بقبضته على سطح المكتب بغضب بدأ بافتراس ملامحه بلحظة فاصلة ، ليتنفس بعدها بهدوء استطاع استجلابه بصعوبة وهو يقول باستهجان السخط
"لقد تجاوزت كل حدودك هذه المرة يا ابن مصعب ! من اين تعلمت كل هذه الجرأة والوقاحة بالتكلم مع عمك الوحيد وكبير هذه العائلة ؟ ام ان تحسن حالك والعزة اخذتك بعيدا يا غر ؟"
 
ابتسم بدون اي حياة وهو يهمس بعبارة سمعها من قبل بنفور
"قد اكون تعلمت منك ! او جيناتك قد بدأت بالتأثير عليّ ؟"
 
تغضنت زاوية من شفتيه لا شعوريا وهو يهمس بخشونة بعد ان اختفى جزء من غضبه
"جميل ان اسمع هذا الكلام منك يا ابن مصعب ، ولكن لم تخبرني من هي الفتاة والتي تزوجت منك وقبلت بالارتباط بشخص يملك ماضي مثل ماضيك ؟"
 
اختفت الابتسامة تماما ليحل مكانها الوجوم العابس وهو يجيبه بلحظة بصوت مشتد قاسي
"هذا ليس من شأنك ، ولا علاقة لك بأي شيء يخص حياتي"
 
قطب جبينه بتجهم للحظات قبل ان يخرج سيجارة وهو يشعلها بيده الاخرى بصمت ، ليقول بعدها وهو ينفث دخان السيجارة ببأس
"إذاً لما اتيت لزيارتي اليوم ؟ وما لذي تريده مني الآن بعد ان ارتاحت حياتك ولم يعد وجودي بها له معنى ؟"
 
اجاب من فوره بصوت صلب واثق
"اتيت لأصفي حساباتي معك"
 
حدق به للحظات بتلك العيون الحادة والتي تحاوطها التجاعيد القاسية بدون ان تقلل من رهبتها ، ليبتسم بعدها ببرود وهو يتمتم بعدم اهتمام
"ليس هناك من حسابات نصفيها معا ، فأنا اذكر بأنك قد صفيت كل شيء مع كل من يدينون لك بحياتك ومعي شخصياً ، فلا تظن بأنني لا اعلم الشخص المسبب بحادثة السرقة والتي حدثت بمكان عملي قبل عشر سنوات ! ومع ذلك لم اعطي الأمر اهتماما كبيرا فقد كنت مجرد شاب طائش مندفع ما يحركه الانتقام فقط من اجل شقيقته المقتولة ، ولكن صدقني لن استطيع ان اتغاضى عن اخطائك كثيرا إذا استمرت على هذا المنوال"
 
كان يشدد على قبضتيه لا إراديا حتى ابيضت مفاصله بغضب اسود عاد ليطفو على روحه الحارقة ، وهو يشعر بنفسه قد وصل لنهاية صبره معه فاقت احتماله على مدار سنوات ، ليقول بعدها بجمود باهت وهو يوجه نظرات باردة بغضب ما يزال يلوج بأعماقه
"وانت تعلم ايضا بأنني لم افعل هذا سوى من اجل الحصول على كل المعلومات والتي توصلني لقاتل شقيقتي ، وكل شيء اخفيته عني بدون ان تطلعني على اي خيط يوصلني لها ، وكأن حياتك ستكون مهددة إذا افصحتني عن هذا السر"
 
عاد لينفث دخان سيجارته وهو يتمتم ببرود صخري
"إذاً تعترف بقبح جريمتك وما وصل له سعيك وراء تلك المعلومات ، صدقني كان بودي ان اساعدك بتلك الأوقات ولكن بما ان الحادثة كانت غير مقصودة والمتهم قدم لنا تعويضا عن كل الذي حصل ، فلم يعد هناك شيء بيدنا نستطيع فعله وهذا مصيرها بالنهاية ، واتمنى ان تتفهم الموقف"
 
انفجر فجأة صارخا بعنف وهو يلوح بذراعه جانبا باستهجان
"توقف عن الدفاع عنه وقول مثل هذه التبريرات الفارغة ! فأنت تعلم جيدا بأن فعلته اسوء بكثير مما تتخيل ، فهي كانت هدفه ومجرد خطة من اجل ارضاء شركاءه ولعبة بهذه الخطة الشنيعة ، لو انه لم يستدرجها بتلك الطريقة الحقيرة ولم يتقرب منها من الاساس ؟ لما كانت فعلته ستكون بكل هذه الشناعة ليكون هو تلك الوسيلة لتصل لهم"
 
دس طرف السيجارة بسطح الطاولة وهو يقول بجمود قاسي
"ولكنك لم تجني شيئاً من سرقة تلك المعلومات ، فأنا لا ارى بأنك قد عاقبت المجرم الرئيسي بكل ما حدث مع غنوة ! بل تركته يعيش حياته بحرية بدون ان تسبب له المشاكل ، بعكس المجرمين الآخرين وشركاءه والذين لم تتوانى عن اذاقتهم الويل والمرارة حتى بدأوا يتوسلون منك الرحمة وطلب الصفح"
 
عقد حاجبيه بغموض وهو يتابع الدخان المتصاعد امام عينيه بهدوء ، لترتفع ابتسامته لا شعوريا وهو يهمس بنشوة وبثقة كبيرة غيرت ملامحه بلحظة
"هذا لأنه حالة خاصة وحسابه وطريقة انتقامه ستكون مختلفة عن الباقين ، وقد تحقق جزء مما كنت اصبو له واخطط منذ سنوات ، ولم يبقى سوى القليل حتى يتحقق انتقامي بالكامل من جميع من سببوا الأذى لعائلتي"
 
رفع نظراته نحوه بجمود لوهلة ليتراجع بجلوسه بقوة وهو يقول بحدة نافذة
"حسنا ، وما لذي تريد تصفيته معي إذاً ؟ بما انك قد حققت انتقامك من الجميع ولم اعد موجود بالصورة !"
 
حرك رأسه للأسفل قليلا وهو يغلق الباب من خلفه ببطء هامسا بتصميم عاد ليتخلل صوته
"انا الآن لا افكر بأحد منهم ، بل كل ما اريده هو تصفية حساباتي كاملة معك انت ، يا عمي العزيز"
 
ارتفع حاجبيه ببطء شديد وهو يتقدم بجلوسه قائلا باستهزاء ساخر
"وما لذي تفكر بفعله مثلا ؟ تريد قتلي ودفن جثتي بالمكتب لتشفي غليلك مني !"
 
تقدم بخطواته بهدوء غامض وعينيه لا تترك هدفه وهو يهمس مع كل خطوة بتهديد حذر وبشرارة بدأت تلوح بالأفق
"ولما لا ؟ استطيع فعل ما هو اسوء من هذا ! ولا احد بالطبع سيعلم بالأمر ؟ وبكل دمعة واذى سببته لعائلتنا ستدفع ثمنها غالية"
 
اتسعت عينيه بتوجس من نبرة صوته ونظراته الغريبة الموحشة لأول مرة يراها عليه ، ليرفع رأسه بتأهب وهو يستعد للوقوف قائلا بعصبية استبدت به
"ما هذا الذي تتفوه به يا ولد ؟ هيا اخرج من هنا....."
 
قطعت كلماته الاخيرة الذي وصل له بلمح البصر لينقض على عنقه والتي اصبحت بين قبضتيه بلحظة وهو يعيده جالسا بقوة ، بينما كان هو يسطو عليه من فوق وهو يهمس امام وجهه والذي بدأ بالتحول للون الازرق المنتفخ وبشراسة وبدون اي رأفة بقلبه المحمل بالسواد ناحيته
"كيف تشعر يا عمي وانا احاول خنقك هكذا ؟ وانت الآن على وشك الموت بين يدي ! كما كنت تفعل معي عندما كنت بعمر الخامسة عشرة وما ان اتمرد عليك وارفض اوامرك ، لتحاوط عنقي بتلك اليدين الصلبتين القاسيتين وهي تكاد تزهق انفاسي الاخيرة"
 
كان يحاول مجابهته وهو يتلوى بمكانه بدون فائدة وهو يتفوق عليه جسمانيا وصحيا وبقوته والتي تفوقه كذلك بأضعاف ، ليكمل كلامه الذي التقط القداحة من على سطح الطاولة والتي كان يشعل بها سيجارته من لحظة ، ليشعلها امام عينيه والتي كانت تتابع الشعلة الصغيرة الخارجة بينهما وهو يهمس بخفوت شديد وبمرارة حارقة
"انظر استطيع ان احرقك بهذه الشعلة الصغيرة والتي ستحولك لقطعة فحم اسود بالي ، كما كنت تهددني بالماضي بنفس هذه الشعلة وانت تقربها من عينيّ قائلا بأن لا احاول العبث بالنار لكي لا احرق اصابعي ، وبالحقيقة كنت دائما تحرق قلبي وروحي بنفس هذه النيران والتي بدأت بالاشتعال والهياج بداخلي اكثر حتى وصلت لأقصى درجاتها"
 
امسك بقبضتيه بيديه المجعدتين وهو يحاول تلقف انفاسه بارتجاف هامسا بتقطع وبضعف لأول مرة يظهر على محياه وبعد ان هز قوته وجبروته
"كفى يا جواد ، فلا تنسى بأنني عمك يا مجنون ! لذا إياك وان تتهور"
 
اتسعت ابتسامته بقتامة بدون اي مرح وهو يعاود تقريب الشعلة من وجهه حتى شعر بها تحرق جانب وجهه قائلا باستهزاء منفعل
"الآن تقول وتعترف بأنك عمي ! وماذا عن ابن شقيقك والذي اذقته المرار طيلة حياته الماضية ؟ وماذا عن شقيقته والتي دائما ما كنت تلقبها بأقذر الألفاظ كالعاهرة بدون اي وجه حق ؟ وحتى بعد موتها لم تتكلف ولو قليلا بإظهار بعض الحزن عليها ومحاولة استرداد حقها ؟ وماذا عن زوجة شقيقك والتي كنت تعايرها بموت زوجها وبقلة حيلتها بدل ان تقدم لها الدعم ! لقد تجاوزت بتصرفاتك كل خبث العالم وحتى لو بقيت اتكلم عنك لأيام اخرى فلن استطيع ان اوفيك حقك !"
 
تشنج جسده بدون ان يستطيع التكلم او النطق وهو يحاول الوصول لسلاحه بدرج المكتب ، ولكن يده كانت اسرع منه وهي تمسك بذراعه بقوة حتى كاد يكسرها وهو يعيدها لخلف ظهر الكرسي بلحظة ، ليقول بعدها بابتسامة شرسة مشبعة بالكراهية وهو يحرك رأسه بقسوة
"لا تحاول مجابهتي اكثر يا عمي فهذا سيضرك اكثر وسيسرع من موتك ، فنحن الآن لم نعد كما كنا بالماضي فقد انقلبت الأدوار بيننا واصبحت انا الزعيم هنا وانت العبد المأمور ، فقط لتشعر قليلا بما كنا نشعر به عندما كنا اطفالا لا حيلة لنا بالمقاومة او القتال"
 
قرب اكثر بالقداحة المشتعلة على وجهه حتى بدأ يتشنج بانتفاض ويطلق صوت خواء مذبوح ، ليلقي بعدها بالقداحة بعيدا بلحظة وهو يقرب وجهه منه هامسا بابتسامة صغيرة بانتشاء غريب
"ولأنني لا اريد ان اكون مثلك بأي شكل كان ، ولا اريد اي رابط شبه ولو من بعيد ان يجمعنا معا ، سأطلق سراحك الآن لتعيش المتبقي من حياتك مع كل الذنوب والتي ستحملها بالعالم لنهاية يوم بحياتك ، استمتع يا عمي متحت لأن العذاب قادم لا محالة إذا لم يكن بالحياة الدنيا فسيكون بالحياة الآخرة"
 
زفر انفاسه بحرقة قبل ان ينفض عنقه بعيدا عنه بعنف ليرتمي اكثر على الكرسي باهتزاز حتى كاد يقع به ، ليستدير الآخر بعيدا عنه وهو يتمتم بصوت هادئ اختفى عنه كل انفعال كان يحتل كيانه بلحظة
"لو كنت حقا مثلك لما سامحتك عن كل اخطاء الماضي ! ولكنت فعلت معك بالمثل واذقتك من نفس الكأس المر والذي لم تتوانى عن اذاقتي إياه ؟ ولكني لست مثلك ولن اكون ولن اسمح بتلك الجينات والدماء بالسيطرة عليّ مهما حصل ، فأنا اُفضل الموت على ان اشبه بشخص حقير مثلك"
 
اعتدل بجلوسه الذي كان يتنفس بسرعة زادت من حدة خفقات قلبه وصدره الضعيف والذي ظهر عليه تعب الزمن وعمره الحقيقي والذي بان على تقاسيم وجهه ، بينما اندفع الجامد بمكانه باتجاه باب المكتب بدون كلام قبل ان يصطدم بالباب والذي فُتح امامه فجأة بدون سابق إنذار ، ليسكن بمكانه قليلا فقط للحظتين قبل ان يشيح بوجهه جانبا بجفاء اكتسح حياته لوهلة ليتبعها بتحركه وهو يغادر من الغرفة بأكملها وكأن شيء لم يكن !
 
كان الواقف عند إطار الباب ينظر بأثره بهدوء وبصمت تام ، قبل ان تظهر شبح ابتسامة على محياه بلحظة وهو يحرك رأسه بوجوم ، وبألم عاد لينتشر بسائر جسده ببطء ليقبع بمنتصف حياته مثل العلقم والذي ما يزال مضطر لتذوقه بكل مرة يرى بها تلك النظرات بدون ان يستطيع فعل شيء حيالها ...
_______________________________
كانت تراقب بعيون متسعة بجمود أطباق الطعام الكثيرة والتي كان يوزعها النادل على انحاء الطاولة المستديرة بانتظام....تنهدت بعدها بملل وهي تشيح بوجهها جانبا بعيدا عنهما مريحة ذقنها فوق قبضتها ومرفقها منتصب فوق الطاولة...شردت برواد مطعم الفندق الفاخر وجميعهم تظهر عليهم علامات الثراء والرقي الفاحش...وليس بملابسهم وبحليهم فقط بل بحركاتهم المدروسة وبأسلوب كلامهم وتناول طعامهم من اصناف اطعمة محددة مثل طبيعة حياة نشئوا عليها منذ المهد...بينما لا يعلم احد منهم ما يعانيه اصحاب الطبقات الدنيا والأقل حظاً بالحياة والذين يحسبون كل لقمة كانت تدخل لأفواههم بتلك الحياة الصعبة والتي لم يجربها سوى من قست عليه الحياة لينتمي لتلك الطبقات ! ولكن ماذا عن الذي يملك بالفعل سبيل ورابطة دماء توصله لكل تلك الرفاهية والتي حرم منها على مدار سنوات بدون ان يستطيع الاقتراب منها لأنه ببساطة قد نبذ منها من قبل ان يولد ؟
 
زفرت انفاسها بوجوم وهي تبعد مرفقها ما ان قال المقابل لها بجدية نافذة
"اين شردتِ يا ألماستي ؟ لقد حان وقت الطعام الآن ، ام تنتظرين الدعوة لذلك ؟"
 
رفعت وجهها بإيباء مشدود وهي تهمس بخفوت مستاء
"كم مرة اخبرتك ان تتوقف عن تلقيبي بهذا الاسم ! فهو مزعج ولا يعجبني ابدا"
 
امسك بالسكين والشوكة وهو يقطع شريحة لحم بطبقه بمهارة هامسا باهتمام مزيف
"ولكنني اراه مناسبا جدا لكِ ، ولن اجد اسم غزل يعبر عنكِ اكثر منه ، ألا إذا كان هناك اسم آخر تريدين مني ان اطلقه عليكِ ! بالمناسبة بماذا كان يناديكِ زوج والدتك ؟"
 
ارتفع حاجبيها بدهشة لحظية قبل ان تعبس بجمود ملامحها بدون كلام ، لتشرد بعدها بطبقها امامها لثواني وهي تهمس بدون اي تعبير
"وبماذا سيفيدك معرفة ما كان يناديني به زوج والدتي ؟ هل ستستخدمه انت ايضا لتطلقه عليّ ؟"
 
رفع قطعة اللحم بالشوكة لفمه وهو يتمتم امامها بابتسامة جانبية بتفكير
"بل من اجل ان اقارنه بين لقب الألماسة وبين اللقب الذي كان يناديك به ، بالرغم من تأكدي بأنه لا ينتمي لأسماء الغزل !"
 
زمت شفتيها بعبوس وهي تنظر لقطعة اللحم والتي افترسها بشفتيه وهو يمضغها باستمتاع واضح ألجمها لثواني ، لتقول بعدها من فورها بلا مبالاة وهي تعود للنظر لطبقها بهدوء ظاهري
"انت على حق لم يكن له علاقة بأسماء الغزل ، فقد كان يناديني بلقب شبيهة والدتي بسبب الشبه بيننا كما كان يرى"
 
ساد الصمت للحظات قليلة قبل ان يعود للكلام الذي اخفض الشوكة امام الطاولة وهو يهمس بصوت اجش مبتسم
"انا ارى بأنه قد اخطئ بشدة بهذا اللقب وبصورة التشابه بينكما ! فكل شخص يتميز بصفة تجعله يختلف عن الآخرين ولا احد بالعالم يشبه احد ، كما انكِ يا ألماستي شخصية استثنائية عن الجميع ولن اجد من يملك نفس صفاتك إذا كان ظاهراً او داخلياً ، ثقي بهذا الكلام دائما واجعلي الجميع يفخر بما انتِ عليه لأنكِ مميزة"
 
اتسعت عينيها قليلا بتموج قاتم وبمشاعر اختلجت بصدرها بلحظة وهي تسمع كلام كانت تحتاج له بشدة بتلك الفترات المتفاوتة والتي كانت تظن فيها بأنها شخصية موصومة بالعار وانعكاس عن صورة والدتها والتي خلقها الجميع بداخلها ، وعبارات كثيرة هي ما كانوا ينطقون بها على الدوام ما ان تتقابل مع معارف والدتها بالعمل وبالحياة
 
(تشبهين والدتك شكلاً وقالباً ، وكأنكِ نسخة مصغرة عنها ، وكأنها قد تركت لنا نسخة ملعونة بعد رحيلها لتكمل مسيرتها بسخط ما تبقى من البشر وافساد حياتهم)
 
عضت على طرف شفتيها بألم افترس ملامحها وهي تشدد من القبض على يديها بحجرها لا شعورياً ، لترمش بعدها بعينيها عدة مرات محاولة نفض الحرقة عن سطح روحها والتي ارسلت نيرانها لكل طرف بجسدها المشدود بقوة ، رفعت عينيها بوجل باتجاه الطبق والذي قدمه الجالس امامها بدون مقدمات وهو يهمس برفق
"لقد ملئت طبقك بكل اصناف الأطعمة الشهيرة ، والتي اكيد ستحوز على إعجابك وتفتح شهيتك للطعام ، فأنتِ لم تتذوقي بحياتك مثل هذا الطعام الفاخر ، وهذه فرصة لتجربي تناول كل جديد قد يغير حياتك للأفضل"
 
امتعضت ملامحها فجأة بشعور بالمرارة وهي تهمس من بين اسنانها بقنوط
"لا داعي لهذه التلميحات الساخرة عن حياتي الماضية ! ولا يهمني تجربة اي شيء يخص حياتكم المثالية والتي لا يشوبها اي معاناة او عجز امام طبقات المجتمع الدنيا"
 
وضع الطبق امامها مباشرة وهو يهمس بملامح هادئة وبابتسامة صغيرة بثقة بدون ان يهتم لاتهاماتها المبطنة
"لقد اسئتِ الظن مجددا واخفق عقلك بالتفكير كما يفعل عادةً عندما يتخلل به الغضب ، فأنتِ تعلمين جيدا بأن هدفي من هذا الكلام ليس السخرية بل تشجيعك على تناول الطعام ! فأنا اريد منكِ ان تستمتعي بتناول طعامك حتى تصلي حد الامتلاء ، وايضا من اجل ان تعوضي عن نقاط النقص بجسدك الهزيل والذي يكاد يختفي تقريبا !"
 
عقدت حاجبيها ببطء شرس وهي تمر بنظرات سريعة على جسدها تحت سترتها الحمراء ، لترفع نظرها بقوة وهي تدس خصلاتها لخلف اذنيها هامسة بابتسامة متصلبة باستهزاء
"يبدو بأن السيد معشوق الفتيات لم يعجبه عيوب زوجته والتي اكتشفها بعد ان تزوج بها وتورط ؟ وصدقني مهما حاولت تجميل صورتك امامي فلن تستطيع اخفاء يأسك من اختيارك والذي وقع على الفتاة الأقل انوثة بالعالم بالمقارنة مع عشيقاتك السابقات !"
 
سكنت ملامحه لوهلة وهو يرفع حاجب واحد بجمود صامت مشحون بكل انواع المشاعر والتي مرت على محياه بثانية ، ليعود من فوره للابتسام ببرود وهو يرفع الشوكة امام فمه قائلا بجفاء
"يبدو بأنكِ ما تزالين تعانين من الغباء والتفكير المحدود بعد كل شيء ؟ وانا الذي ظننت بأنني قد استطعت كبح جماحك اخيرا ! ولكن يبدو بأنكِ تحتاجين لأكثر من ترويضك"
 
انفرجت شفتيها بصدمة وهي تحاول تحليل كلامه الاخير ببطء وبغضب بدأ يستولي على كيانها بأكمله رويدا رويدا ، لتخرج عن صمتها بآخر لحظة وهي تهمس باستيعاب واجم
"ماذا تعني بترويضي ؟ هل تراني فرس امامك !....."
 
قاطعها الذي طرق بالشوكة على الطبق بقوة وهو يقول بانفعال مفاجئ
"ماسة تناولي طعامك بصمت ، فنحن الآن بمطعم ولسنا لوحدنا ، وعليكِ التزام آداب المائدة هنا من اجل ألا يفكروا بنوع الطبقة التي اتيتِ منها !"
 
غرزت اسنانها بطرف شفتيها بقسوة وهو يزيد من سخريته منها بدون ان تجد القدرة على مجاراة هذا الماكر المتلاعب معشوق الفتيات ، حتى انها لم تتأكد للآن من صحة تلك القصة والتي سمعتها من تلك الفتاة الغامضة والتي تكون من ضمن قائمة صديقاته السابقات ؟ والتفكير فقط بكل هذا الكم من الحقائق يودي عقلها للجنون المحدق ، والذي يتربص لكل أمل بالسعادة بحياتها والتي ما ان تنبت بروحها حتى يعود من يسحقها بقسوة واقعها !
 
امسكت بالشوكة وهي تغرزها بقطعة شريحة اللحم بقسوة حتى شعرت بها تمزق نياط قلبها وليس قلب شريحة اللحم امامها ، لتنتفض برأسها عاليا ما ان قال الذي كان يمسك بالشوكة والسكين بهدوء
"ألماستي ليس هكذا يؤكل اللحم ! بل هكذا"
 
ارتفع حاجبيها بانتباه مشدوه وهي تشاهد الذي كان يقطع شريحة اللحم بالسكين الخاصة به بهدوء وروية ، قبل ان يتبعها بلحظة بالشوكة بيده الاخرى والتي غرزها بقطعة اللحم المقسومة بقوة ، لتصل بعدها الشوكة لشفتيه وهو يمضغ قطعة اللحم بثانية بين اسنانه الحادة بصمت .
 
افاقت من تأملها بشرود وهي تخفض نظراتها لشريحة اللحم الخاصة بها ، لتمسك بعدها بالسكين بيدها الاخرى وهي تستعد للانقضاض على شريحة اللحم باستخدامهما ، لتطبق بعدها ما فعله امامها بنفس الخطوات حتى وصلت بالنهاية قطعة اللحم لشفتيها وهي تدسها بداخل فمها بهدوء ، لتمضغها بعدها بين اسنانها ببطء شديد وبشراهة وكأنها تحاول تذوق نكهتها وليونتها على مهل وبشهية مفتوحة على الحياة .
 
بينما كان الجالس مقابل لها يراقبها بحاجبين مرتفعين بتأهب وهو يتمعن بكل حركاتها الدقيقة والتي علمها إياها من لحظة ، وهي تطبقها بحذافيرها وباستمتاع تجلى على محياها وهو يحقق هدفه المنشود ، لترتفع زاوية شفتيه بابتسامة تحمل الهيام والشغف معا وهو يشاركها بابتسامتها الصغيرة والتي احتلت شفتيها الحمراوين بلحظة وكأنها عدوى ونقلتها نحوه عبر ذبذبات حركات ملامحها والتي تدهشه بأصغر تفاصيلها الفاتنة .
 
ارتجفت ابتسامتها كما ملامحها بلحظة وهي تخفض وجهها بعيدا عن نظره بحياء استبد بها واخذها على حين غرة ، ليرجع بعدها برأسه قليلا للخلف وهو يغير وجهة نظراته بعيدا عنها .
 
ابتسم بميلان وتفكير ما ان وقعت نظراته على عدد من الازواج الراقصين بمنتصف المطعم والذي يشكل منطقة للرقص على اجواء انغام القاعة بسحر المكان ، ليقول بعدها بلحظة بشرود خافت
"ما رأيكِ ببعض التغيير وتجربة شيء آخر جديد ؟"
 
رفعت عينين حائرتين برجفة وهي تمضغ الطعام ببطء بدون ان تتبين مقصده بكلامه الاخير ، لتوجه بعدها نظراتها للمسار الذي ينظر إليه وهي تبتلع طعامها بهدوء شديد ، قبل ان تتسع مقلتيها بلحظة وهي تنفض غمامة الاستمتاع عنها لتستبدلها بالوجوم العابس والذي عاد ليتجلى على محياها .
 
عادت للنظر امامها وهي تغرز الشوكة بسلطة الملفوف بطبقها هامسة بلا مبالاة وكأنها لم تسمعه
"الطعام شهي جدا ، شكرا لك على تعليمي كيفية التناول الصحيحة وبأسلوب مهذب لائق يناسب طبقتك المخملية"
 
حرك رأسه قليلا بدون ان يعير كلامها الاخير انتباه وهو يهمس بجدية وبتصميم بدأ يلوح بصوته
"ما رأيكِ بهذا ! ستكون لمسة لطيفة على امسية هذه الليلة"
 
زمت شفتيها بحنق لوهلة وهي تمضغ السلطة بقسوة اكبر ، لتضع الشوكة بجانب الطبق بقوة وهي تلوح بيدها هامسة بكل ما تحمله من لطف
"لقد شعرت بالنعاس فجأة ! هل يمكننا العودة لجناحنا الآن ؟"
 
وقف فجأة الذي نظر نحوها اخيرا بابتسامة باردة وبعيون سوداء احتدت بلحظة بعناد بعث الحذر الغريزي بأطرافها ، ليحدث بعدها ما كانت تتوقعه وهو يلتف حول الطاولة بلمح البصر قبل ان يقف بجانب مقعدها ، ليحرك بعدها رأسه بإشارة الإصرار والتي حفظتها جيدا لتدفعها لأخذ الحيطة دائما وهو يشاركها بيده والتي ارتفعت امامها بدعوة للقبول الآمر .
 
قال الذي ابتسم بهدوء وبصوت اجش قوي
"هيا بنا يا ألماستي لنغير اجواء الحفلة قليلا"
 
تراجعت بمقعدها بتحفز وهي تحرك رأسها بالنفي بعنف هامسة باستنكار
"لا يا شادي ليس مجددا ! انا لا احب هذا....."
 
قطعت كلامها اليد والتي سحبت ذراعها برفق لتنهض عن مقعدها بقوة ، وبدون سابق إنذار كان ينزل بيده على طول ذراعها ببطء قبل ان يعتقل كفها الباردة بيده القوية بثانية ، ليسير بعدها باتجاه الساحة المستديرة بمنتصف المطعم وبين الازواج الراقصين هناك .
 
وقف امامها بهدوء وهو يشب يديه بخصرها بقوة هامسا امام وجهها القريب بانفعال خشن
"اسمعي جيدا واتبعي خطواتي بحذافيرها كما فعلتِ بطريقة تناول الطعام ، ولكن هذه المرة المهمة ستكون اصعب وامام ملايين المشاهدين واي خطأ متعمد منكِ ستدفعين ثمنه غاليا يا ألماستي"
 
تجمدت ملامحها بشحوب باهت وكلامه يتردد بصدى روحها بنفس الجملة الاخيرة والذي تعلم جيدا ما يتبعها عادة ، لتفيق من غمامتها غصبا ما ان تشبث اكثر بخصرها وهو يقربها على بعد خطوة منه ، لترفع بعدها يديها ونفسها على اطراف حذائيها وهي تتمسك بكتفيه بقوة هامسة بجانب اذنه بوجوم
"اذاً تحمل تبعات خسارتك القريبة !"
 
اتسعت ابتسامته اكثر وهي تميل بتحدي هامسا بصوت ثعلب ماكر
"سنرى يا ألماستي !"
 
ابتسمت بدون اي مرح حقيقي وهي تتحرك مع خطواته وبكل حركة كانت تدوس على حذائيه بكعبيها المسننين بعنف متعمد بكل لحظة واخرى ، لتتغضن ابتسامته بضيق وهو ينزلق بنظره على حذائيها المسننين قبل ان يهمس بصوت مشتعل وهو يتقبل بداية التحدي الخاص بها
"إذاً تريدين اللعب بهذه الطريقة ؟ لكِ هذا"
 
ارتفعت عينيها برجفة سريعة تحولت لانتفاض ما ان شعرت بجسدها يرتفع بخفة على اطراف حذائيها بدون ان تشعر بالأرض تحتها...وبلحظة كانت تتشبث لا إراديا بكتفيه بذعر وهو يدور بها عدة دورات اخذت عقلها بالكامل بدون ان تأبه بما يجري من حولها...وما ان خف الدوران من حولها وهو يسندها بجسده بدون ان ينزلها ارضا حتى انسابت يديه مثل الموج على جسدها من تحت ثوبها....وهو يتحرك مع تفاعلات وتشابكات جسديهما معا بكل الاتجاهات بنعومة فائقة لم تشعر بها من قبل...وكل هذا يحدث وهي فوق الأرض ومعلقة فوق السحاب بدون ان تمنع السعادة من التدفق على تفاصيل ملامحها وبابتسامة طافت على شفتيها بهيام غير محدود...وشعرها يحلق مع دوامات سعادتها العارمة وهو يضرب على وجهها مثلما يضرب على دقات قلبها الهائجة بعنف اتعبها من فرط مشاعرها والتي فاضت لأول مرة خارج قوقعتها المحكمة...وكأنهما يرقصان رقصة التانغو المشهورة التي تعبر عن الحب والاحساس بطريقتهما الخاصة .
 
تنفست بارتجاف سكنت معها اصوات الصخب بداخلها ما ان توقف كل شيء للحظة ، قبل ان تشعر بجسدها وهو ينزل للأسفل تدريجيا برفق وهدوء ، لتلمس بالنهاية قدميها الارض بحذر وهي ما تزال متشبثة به بدوامات دوارها والذي اغشى عقلها وغمر قلبها بفرحة اللحظة .
 
رمشت بعينيها عدة مرات بارتعاش ما ان اخترق سمعها المشوش صوت التصفيق الحار من حولهما بقوة بدأت بالارتفاع تدريجيا لتعيدها لأرض واقعها والتي ابتعدت كثيرا عنها ، اخفضت يديها بعيدا عنه وهي تمسح كليهما بقماش الثوب باهتزاز ، لتجول بعدها بنظراتها بتخبط بالساحة والتي فرغت فجأة من الراقصين سواهما ، وجميع رواد المطعم مجتمعين حول الساحة مثل الحلقة وكل منهم ينظر لهما بين الاندهاش والانبهار وكأنهم كانوا يقدمون لهم للتو عرضاً عاطفياً مجانيا مثل جزء من فيلم حيّ !
 
رفعت عينيها امامها بضيق لتصطدم بالذي كان ينظر لها بنفس الابتسامة المائلة ولكن هذه المرة مع لمحة انتصار تغلبت عليها ، لتعض بعدها على طرف شفتيها بغيظ يكاد يفتك بها وهي تنظر له بتلك الأحداق البحرية بأمواج هائجة تختلف عن هياج مشاعرها السابقة ، لتستدير بلحظة لوهلة وهي تهدأ صخب نبضاتها من فرط ما حدث معها الآن ، قبل ان تسير بعيدا عنه بجمود وهي تتجاوز كل الصفوف من المجتمعين حولها بدون ان تلقي اي نظرة نحوهم ، وهي تكمل طريقها خارج المكان بأكمله وخارج تلك الدوامة المجنونة والتي انهكت مشاعرها اكثر مما تحتمل .
 
_______________________________
وقف امام باب الغرفة بملامح باردة حجرية بدون اي تقاسيم او تعابير مجرد تلبد طاف على اسمرار ملامحه القاسية...امسك بمقبض الباب وهو يعزم امره لتأخذ منه ثواني قبل ان يدفع باب الغرفة باللحظة التالية بقوة اكبر مما يستحق وكأنه على وشك خلعه من مكانه...لتقع عينيه من فورها على الجالسة على طرف السرير تعطيه ظهرها وهو يسمع صوت تمتمات خافتة حفظ نبرتها العذبة عندما يخرج بتلك الطريقة السلسة والتي تستطيع بها تطهير قلب من يسمعها....وهذا ما حدث معه وهو يتسلل لصميم قلبه مباشرة ليطفئ هياجه وينفض ما تبقى من غبار الماضي عنه وهو يتسلط عليه بدفء نافضا كل برودة جليده والتي كانت تكتسحه من لحظة ...
 
قبض على يديه وهو يتقدم عدة خطوات امام التي كانت تتلو سور من القرآن الكريم وهي منحنية قليلا امامها وبتركيز شديد وخشوع لما تفعله ، ليتوقف بجانبها على بعد خطوات من السرير وهو يحاول ان يخترق غمامتها المقدسة بمثل هذه اللحظات المهمة بالنسبة لها ، عندما تخلو مع نفسها وتفرغ كل الحلول من رأسها ليصل يأسها وقلة حيلتها لتستنجد بتلاوة القرآن الكريم علها تجد به راحتها التامة واطمئنان قلبها بتطهيره بنور الله ، تعقدت ملامحه بضيق وهو يعود طفل صغير يحاول صياغة كلامه وطلب السماح من والدته ورضاها عليه ، ليهمس بعدها بلحظة بكل ما يستطيع من رجاء وحزن معدوم
"امي اريد التكلم معكِ ، لذا هلا اعطيتني القليل من وقتك ؟"
 
ضم شفتيه بتصلب ما ان تجاهلته الساكنة بمكانها وهي تستمر بتلاوة القرآن بهدوء وخشوع تام ، ليرفع بعدها ذراعه وهو يحك مؤخرة عنقه بتشنج سرى على طول عاموده الفقري ، ليخطو بلحظة خطوة اخرى بالقرب منها وهو يعود للهمس برجاء اخفت وبملامح عابسة
"امي رجاءً ! اسمعيني فقط انا....."
 
صمت بتجهم وهو يراقب التي اغلقت القرآن بيديها برفق وهي ترفعه لمستوى وجهها لتقبله بهدوء بالغ دام لعدة لحظات ، قبل ان تتحرك من مكانها وهي تضع المصحف بمكانه الخاص فوق الرف وبحرص شديد .
 
قطع الصمت مجددا عندما شعر بضيق الانتظار بدون ان تعطيه انتباه
"انا اعتذر"
 
سكن بمكانه للحظات ما ان خرج صوتها اخيرا ببرود الاجواء بينهما وهي تعود للجلوس هامسة بجمود
"اخرج من هنا يا جواد ، فأنا ليس لي طاقة للتكلم بشيء الآن"
 
ارتفع حاجبيه بدهشة تنتابه لأول مرة وهو يخفض ذراعيه للأسفل مثل حال المذنبين ، ليهمس بعدها بخفوت مهتز سيطر على نبرة صوته
"ولكنكِ غاضبة ولا استطيع تركك بهذه الحالة ، فقط لو تعطيني الفرصة للكلام ، واعدك....."
 
قاطعته بقبضة يدها والتي ضربت على ساقيها بعصبية مفرطة تخرج بحدة لأول مرة وكأنها قد فقدت القدرة على تجميع افكارها من الغضب والذي احتلها بلحظة
"كفى يا جواد ، لا اريد سماع اي تبريرات منك لن تشفع عندي كل ذنوبك والتي اقترفتها بحقي وبحق الآخرين ، فقد تجاوزت الحد المسموح به بالصفح والسماح ، وكله بسبب حقدك المرضي والذي دمر حياتنا بأكملها وقلبي الملهوف عليكم....."
 
قطعت كلامها بنحيب صامت ما ان جثى امامها بقوة الذي اخفض رأسه عند ركبتها بلحظة وهو يتبعها بهمس خافت اقرب للتوسل الراجي
"اتوسل إليكِ يا امي لا تقولي مثل هذا الكلام وتلقي باللوم عليّ كاملا بكل شيء يحدث معنا ، فأنا بشر بالنهاية ولست ملاك الرحمة والذي يصفح ويسامح بعد كل ما جرى معنا ، انا اعترف بأنني قد اخطئت كثيرا ولم اسمع كلامكِ وارتكبت الكثير من الذنوب والتي لا تغتفر بطريق استعادة حق غنوة ، ولكن ماذا تتوقعين مني ان افعل وانا ارى شقيقتي الصغرى تموت امام عيني بدون ان يحاسب القاتل على جريمته ؟ وانا ارى كل من اعرفهم من اصدقاء واقارب ينقلبون ضدنا بلحظة ويضعون كل اللوم على غنوة بجريمة قتلها وبأنها لا تستحق الحياة بعد ان شوهت صورتنا امام الناس بدون ان ينظروا بتفاصيل الجريمة الحقيقية ! وبعد كل هذا تريدين مني ان اصمت واشاهد والجميع يعبث ويشوه بشرف غنوة كما يحلو لهم ويرون ! وكل هذا لأن والدي غير موجود ليوقفهم عند حدهم...."
 
قاطعته الهمسة المنتحبة من التي ضمت قبضتيها معا امام صدرها المذبوح على ضناها
"كفى يا جواد ، ارجوك"
 
تجمدت ملامحه لوهلة قبل ان يتابع كلامه بدون ان يأبه بارتجاف جسدها امامه وهو يسند جبينه على ركبتها بسكون وبملامح اختفى عنها كل سبل الرحمة
"صدقيني يا امي ما فعلته لا شيء مما يستحقه هذا النوع من حثالة البشر ، لقد كنت انتظر بفارغ الصبر حتى يقوى عودي قليلا واستطيع مجابهتهم بنفس قوتهم واذاقتهم العذاب والويل لتجربة القليل مما اذاقوه لشقيقتي ولنا ، وجعلهم يتمنون الموت رحمة لهم من عذابي لكي يندموا على اللحظة والتي وضعوا بها شقيقتي يوما بمخططهم ، وعليهم ان يكونوا ممتنين بأنني قد تركتهم بالنهاية لعقاب السجن وتسليم نفسهم للشرطة بعد ان اذقتهم كل انواع التعذيب المعنوي والجسدي ، وقد فكرت كذلك كثيرا بطريقة مناسبة لتعذيب صاحب الجريمة والقاتل الحقيقي ، وعندما اكتشفت بوجود شقيقة له قررت بتلك اللحظة ان ألعب بنفس طريقته وعلى نفس المستوى ، فقط من اجل ان يعرف بشناعة جريمته ويكتشف ذلك الشعور بتذوق نفس الكأس باستخدام اقرب الناس له ، ولكن....."
 
حبست شهقتها بكفها بارتجاف وهي تنظر للوجه والذي ارتفع نحوها وهو يكمل بطعن قلبها بهمس لا يكاد يسمع
"ولكنني بالنهاية اختلفت عنهم جميعا يا امي ، فأنا لم انفذ انتقامي بحذافيره ولم اكمل تعذيب كل من خاصمونا وعذبونا ، لو كنت كما تتخيلين حقا لما تزوجت من صفاء بعقد زواج حقيقي وبعكس ما حدث مع غنوة ! لو كنت حقا مثل عمي لما تركته على قيد الحياة لهذه اللحظة وانا اتجاهل كل قباحة تصرفاته بدون اي عقاب ! هل سمعتِ يا امي انا لست بكل هذا السوء فما ازال احمل بعض الضمير والرحمة وتلك التعاليم والأخلاق والتي تربيت عليها منذ الصغر ؟ وهذا الذي دفعني لأؤمن دائما بأن كل ظالم وكل جبار بالحياة سيعاقب على شر اعماله يوما ما ، إذا لم يكن الآن فهذا سيحدث اكيد بالحياة الآخرة ، أليس هذا ما كنتِ تقولينه دائما ؟"
 
اخفضت يديها بعيدا عن شفتيها بهدوء وهي تمسح على رأس ابنها القابع على ركبتها ، لتسيل دموعها من عينيها الواسعتين بانحدار وهي تهمس بخفوت واهي وببسمة خفية بحزن
"اجل هذا ما قلته لك ، لكل ظالم رب يحاسبه ولكل مظلوم رب يناجيه ، لذا دع العبد للخالق"
 
قبض بيديه على عباءة والدته بقوة حتى لم يعد يشعر بالألم الموحش القابع بداخله ليتحرر على شكل دموع خفية وهو يدفن وجهه اكثر بقماش تلك العباءة السوداء ليبث بها آلامه واحزانه والتي كبتها على مرور سنوات ، وهو يهمس بتحشرج مرير مثل العلقم يخرج لأول مرة بصوته الخشن
"سامحيني يا امي واعفي عني هذه المرة ، فأنا لا اريد خسارتك كذلك ولا اريد ان تستمري بهذا الغضب عليّ ، فأنتِ عندي كل شيء املكه وما افعله فقط من اجل رضاكِ ومن اجل ان امسح ذلك الألم الساكن بعينيكِ منذ وفاة شقيقتي وابنتنا الصغرى"
 
شهقت بدموع اكثر وبغصة نحرت ما تبقى من فتات قلبها الباكي ، وهي تبعد يديها عن شعره بلحظة لتطوق رأسه بين احضانها بقوة وهي تهمس بخفوت حاني عاد ليتدفق نحو ابنها الوحيد بعطف
"اكيد انا اسامحك يا بني ، وليس لأنك اعتذرت عن خطأك واظهرت ندمك به فقط ! بل لأنك ابني الوحيد وقطعة مني واول فرحة لي بهذه الحياة منذ ان ولدت ، وآخر امل تبقى لي بهذه الحياة لأعيش عليه وعلى تربية عائلتك المتبقي من عمري ، فقط توقف عن جرح قلب والدتك وهجرها وسأكون عندها اكثر من سعيدة وراضية"
 
تنهد بعمق للحظات وبراحة تجتاحه لأول مرة لم يشعر بها منذ زمن بعيد ، وهو ما يزال يريح وجهه بأحضان والدته الحانية هامسا بخفوت متأني
"اعدك يا امي ، فقط اريد منكِ ان ترضي عني"
 
مسحت دموعها التي ما تزال تهطل على وجهها الشاحب بغزارة ، لتريح بعدها كفها فوق رأسه وهي تهمس بابتسامة صغيرة بسعادة بدأت تطفو على ملامحها
"انا دائما راضية عنك يا بني لآخر يوم بحياتي ، وكل ما ارجوه ان تتوقف عن إيذاء الناس من حولك ، وان تزيل كل الحواجز بينك وبين شقيقك اوس ، وان ترحم قليلا زوجتك الصغيرة من قسوتك عليها ، فليس هناك ارق واجمل من قلوب النساء واللواتي يسامحن دائما بدون اي شروط ، وليس هناك اقسى من جرح قلوب النساء عندما يصل الأمر للخيانة من اقرب المقربين منهم ! تذكر هذا بني"
 
اومأ برأسه بحركة طفيفة بدون اي رد فعل وكأنه لا يأبه لكل كلمة نطقت بها بحق زوجته ، والتي نسي وجودها بالمنزل وبأنها كانت تتنصت على كل كلمة نطقوا بها عند باب الغرفة الذي تركوه مفتوحاً ، وهي تنشج بمكانها بدون صوت وبدموع غرقت وجنتيها المحمرتين باحتقان ويديها تغطي على شهقاتها المنتحبة من الخروج وروحها على وشك الاحتضار بمكانها بأية لحظة ، وبعد ان عرفت كل ما هو مستور ومدفون بهذه العائلة والتي كانت سبب فرعي بدمارها وهو ما سحق كل جمال كان ينبت بحياتها المثالية كانت تتوهم به يوما ....
___________________________
سارت بالممر الطويل بخطوات ثابتة وهي تمسك بأطراف ثوبها الطويل بيديها بقوة...بدون ان تلقي اهتماماً لكل ما يجري من حولها وهي تصطدم بكل من يعترض طريقها بلا مبالاة وبغضب استبد بها وسيطر على ذرات صمودها الجبار امام كل ما يحدث معها ووصلت له...بالرغم من شخصيتها المعروفة بقوة الاحتمال الفولاذية والتي لم يستطع احد التفوق عليها فيها بهذا المجال وبشهادة الكثيرين بسبب كل ما مرت به منذ مولدها حتى هذه السن...وهو ما اعطاها مناعة وقوة لتتأقلم مع بيئتها الحالية وتتقدم بحياتها بقوة وإصرار مع كل الظروف والتي كانت تحيطها آن ذاك...ولكنها الآن تشعر بأنها قد استنزفت حقا كل ما لديها من طاقة احتمال كانت تفخر بها يوماً امام كل الكائنات المريضة بحياتها والذين اكثر ما كانوا يفعلونه معها هو استفزازها ومضايقتها بكل فرصة تسنح لهم ليخرجوها عن سيطرتها وعن برودها الجليدي...ولكن ما تشعر به الآن بنفسها وهي تتحول وتتقلب بكل ثانية بمشاعر غريبة غير مألوفة هو النقيض تماما عن شخصيتها الاصلية وعن كل ما تربت عليه بالسابق !
 
توقفت للحظات بجمود وبملامح متلبدة ساكنة بهدوء العاصفة بداخلها وليس بسبب تيارات افكارها والتي عصفت بذهنها بثانية وما وصلت له من تناقضات ، بل بسبب التي كانت تقف بنهاية الرواق تبعد عنها عدة امتار تشعر بها مثل الاميال بدون ان يحيل بينهما شيء ، لتبادر بعد عدة ثواني التي سارت امامها بخطوات خافتة بهدوء وهي تقطع الاشواط بينهما بقربها اكثر وبنظرات كانت تدور بكل مكان من حولها بدون ان تتجرأ على مشاركتها بنفس نظرات الاخرى والتي لم تتوقف عن التحديق بها لثانية .
 
وما ان اصبحت على بعد خطوات منها حتى تحركت التي خرجت عن جمودها وهي تسير نحوها مباشرة بصمت ، قبل ان تتجاوزها بهدوء بدون ان تعيرها اهتمام وهي تكمل طريقها بعيدا عنها ، توقفت فجأة ما ان سمعت الهمس الخافت من التي تركتها خلفها
"انا اعتذر"
 
تغضن جبينها بتصلب لبرهة بتعابير هادئة اخذت منها عدة لحظات قبل ان تتابع خطواتها ، ولكن ما لم تتوقعه ان تقف امامها بلحظة التي اندفعت قائلة بقوة مفاجئة
"انتظري قليلا....."
 
اجفلت بانتفاض ما ان نطقت المقابلة لها بضيق خافت وهي تلوح بذراعها جانبا لا إراديا
"ماذا تظنين نفسكِ فاعلة ؟"
 
ابتلعت ريقها بارتباك وهي تخفض وجهها بهدوء لتهمس مجددا بعبوس
"انا اعتذر مجددا"
 
زمت (ماسة) شفتيها بضيق وهي تنفض ذراعيها للأسفل هامسة بغيظ
"توقفي عن الاعتذار هكذا بدون سبب ! ام انكِ تحبين إذلال نفسك هكذا امام الآخرين ؟"
 
رفعت وجهها بسرعة وهي تهمس بخفوت وبابتسامة انحرفت بارتجاف
"بل لدي هناك سبب ، انا اقصد لقد كنت اعتذر عما سببته لكِ ببداية حياتكِ الزوجية ، فقد حدث كل هذا بدون إرادة مني والتي ارغمتني على اقتحام حياتكما بهذا الوقت تحديدا"
 
ضيقت عينيها للحظات وهي تعبس ببطء قبل ان تهمس بخفوت ذو مغزى
"عن ماذا تتكلمين يا آنسة ؟ فأنا لم افهم اي حرف مما نطقتِ به الآن ! هل تعانين من مشكلة وتجدين صعوبة بإخباري بها ؟"
 
ارتفع حاجبيها بتوتر وهي تقبض على يديها معا وكأنها تحاول صياغة الكلام بصراع مع نفسها ، ليخرج كلامها بالنهاية بتوتر شديد بدون ان تنظر لها
"لا لم اقصد هذا ، انا كنت اقول....."
 
صمتت وهي تعض على طرف شفتيها بألم عندما لم تجد القدرة على المتابعة اكثر بهذه اللعبة الخاسرة والتي تشعر بها اكبر من مقدرتها على الاستمرار وهي تعلق بها حياتها بأكملها ، قالت (ماسة) بعدها بخفوت عندما ضاقت ذرعا من انتظار المتخبطة امامها
"ما هو اسمكِ يا آنسة ؟"
 
اتسعت عينيها بلحظة وهي تجيب بخفوت متوجس
"اسمي هو وفاء ، اجل هذا هو اسمي"
 
اومأت برأسها بانتباه وهي تكتف ذراعيها بقوة لتعود للكلام قائلة بابتسامة هادئة بتفكير
"ولماذا جئتِ لهذا الفندق يا وفاء ؟"
 
ترددت قليلا بعبوس لوهلة قبل ان تهمس بوجوم
"الحقيقة لقد تعرضت للتهديد عدة مرات من قبل عائلتي ، لذا لجأت لمساعدة زوجك شادي من اجل ان يخبئني بهذا الفندق لبعض الوقت"
 
كانت تراقب كل انفعالات وجهها وهي تتكلم بتوتر مفرط بدون ان تحيد بنظراتها بعيدا عنها قبل ان تهمس بعد عدة لحظات بحيرة خافتة
"ولماذا كنتِ تتعرضين للتهديد ؟"
 
شددت اكثر على يديها بدون إجابة وهي تعاني بمشكلة عويصة بصياغة الجواب المناسب ، وقبل ان تجيب اكملت كلامها التي ابتسمت ببهوت بدون اي تعبير
"هل هو بسبب الطفل ؟"
 
حدقت بها بارتجاف شل حركتها بثواني بدون كلام والصمت يحاوط حديثهما بسحابات باردة على وشك العصف بهما بأجواء صقيعية جليدية ، لتتابع بعدها بلحظة التي شددت من تكتيف ذراعيها بقوة وهي تميل قليلا بوجهها قائلة بمغزى
"انتِ تبدين فتاة صغيرة لم تتجاوز منتصف العشرين بعد ، وايضا بسيطة الحال لستِ من طبقة الفتيات الاثرياء ، ولكنك تخفين اسرارا خطيرة وفواجع خلف مظهركِ الضعيف وما يوحي به شكلك ، وهذا قد يكون ايضا له عامل من اعراض الحمل والذي يبدو قد اثر على صحتك كثيرا وليس على حياتك فقط ، والسؤال الذي يطرح نفسه بين كل هذه الحقائق هو كيف حدث هذا الحمل ومن يكون والد الطفل ؟"
 
انفرجت شفتيها بارتعاش وهي تتراجع بخطواتها قليلا من كل الجدران والتي اصبحت تحاصرها الآن والتي فرغت من الجميع سوى من نظراتها والتي ما تزال مسلطة عليها بقوة واستجواب ، لتخفض رأسها بسرعة وهي تهمس بنحيب مرتجف
"لا استطيع ان اجيبكِ فهذا امر شخصي يخصني وحدني ، ولا استطيع البوح به"
 
نفضت ذراعيها وهي تصرخ فجأة بانفعال هادر بإصرار غريب
"ولكن زوجي هو من مد يد العون لكِ ، إذاً فقد اصبح الأمر يخصني ايضا !"
 
تشنجت ملامحها بلحظة وهي تهمس تلقائيا بوجل
"إذا كنتِ تريدين معرفة كامل القصة ، لما لا تخبري زوجك بهذا وهو سيخبركِ بكل شيء حدث معي ؟"
 
تجمدت (ماسة) بمكانها بدون ان يعلو اي تعبير ملامحها الجليدية والتي بدأت القسوة بالنبض بداخلها وبألم جديد احتجز حدقتيها البحرية بدون إرادة منها ، لتبتسم فورا ببهوت وهي تعيد خصلات شعرها لخلف اذنها برفق هامسة بغموض
"لقد عرفت هذا مسبقاً"
 
عقدت (وفاء) حاجبيها بتوجس بدون كلام وهي تنتظر نهاية هذا الحديث المهلك والذي اخذ كل مقدرتها على الاحتمال ، لتنتفض داخليا ما ان شعرت بيد تربت على كتفها بقوة وصاحبتها تميل بوجهها امامها هامسة بابتسامة شرسة تبعث الريبة والخوف بقلب محدثها
"اسمعيني جيدا يا حلوة ، انا لا اعرف ما هي طبيعة علاقتكِ بشادي الفكهاني ؟ وما لذي يربط بينكما بالواقع ؟ ولكن الذي عليكِ معرفته والتنبه له مستقبلا لكي لا نتعرض للمزيد من الإهانات والتجريح هو بأن شادي قد اصبح زوج ماسة الآن ، يعني هو ملك فتاة واحدة وليس ملك لكل من ترغب به وتستنجد مساعدته ، وإذا اكتشفت ولو بالصدفة بأنكِ تخططين لتدمير حياتي بأي وسيلة كانت ، فأنا عندها لن اكتفي بالتهديد مثلما تفعل عائلتك معك بل سأصل لمستويات لم اصل لها بحياتي وقد تودي بحياتك للهلاك انتِ وابنكِ الذي لم يخرج للحياة بعد ، ومهما كانت مدى معاناتك الآن ومأساتها هذه فلا تواصلي كثيرا بالاستنجاد بزوجي لأني لن استطيع ان احمل صبر وشفقة كثيرة عليكِ وقد ينتهي كل هذا قريبا جدا ، فأنا قاسية جدا عندما يصل الأمر للاستيلاء على ممتلكاتي الخاصة والتي سبق ووقعت عهد امتلاكها بحياتي"
 
تسمرت بمكانها والدماء تنحصر بوجهها الذي شحب فجأة بشكل مريع ، بينما ابتعدت التي استقامت بمكانها وهي تنفض خصلات شعرها للخلف بإيباء وبابتسامة صغيرة بازدراء لا تحمل اي محبة ، قبل ان تغادر بعيدا عنها بجمود وثبات وبشخصيتها التي عادت لتقمصها بلحظة .
 
نظرت لها التي تركتها وحيدة شريدة بالممر وهي تهمس بأنفاس ذاهلة ما يزال تأثير كلامها يضرب روحها المتخبطة مثل السياط
"ستغضب مني لينا على هذا ! وهذا ليس جيد ابدا"
_______________________________
فتحت باب الجناح بهدوء وهي تخطو للداخل عدة خطوات صامتة....قبل ان تغلق الباب من خلفها بهدوء وهي تسند ظهرها به بسكون تام...زفرت انفاسها عدة مرات بتشنج وهي تمسح جبينها بظاهر كفها بارتجاف...لترجع بعدها لا شعوريا لشعرها الفوضوي وهي تتخلله بأصابعها ليعود للخلف بقوة وينصاع لأمر اصابعها .
 
رفعت رأسها للأعلى وهي تعبس بارتجاف هامسة بلا وعي بعد ان فقدت جموح كيانها
"لماذا فعلتُ هذا ؟"
 
ضربت رأسها بالباب خلفها برفق وهي لا تصدق للآن كل ما تفوهت به شفتيها امام تلك الفتاة الغريبة !...لقد قالت كلام لم تفكر به يوما ولم يكن من ضمن مخططاتها وحساباتها القادمة !...ألم تكن تسعى دوما نحو الحرية والافلات من كل انواع القيود المحيطة بها منذ ان ولدت بهذه الحياة ؟...فما لذي تغير الآن بعد كل تلك السنوات بالعراك لتتصرف على هذا النحو المتناقض عن شخصيتها وعن منطقها ومنظورها بالحياة ؟
 
عضت على طرف شفتيها بكبت وهي تخفض كفها بعيدا عن شعرها...لتريحها فوق صدرها النابض من تحت سترتها وهي تستشعر صوت خفقات قلبها المنهك بطنين اصم اذنيها ما يزال تحت تأثير ما آلت إليه الأمسية...قبضت على يدها تلقائيا وهي تخفضها غصبا مذكرة نفسها بالحقيقة التي اكتشفتها بعد الزواج بدون ان تضع لها حساب او قرار...وما سيكون وضع علاقتها مع تلك المرأة الحامل بابن غير معروف الهوية ؟...ومع كل هذه التناقضات بحياتها ما تزال تتشبث بذلك الرباط الوهمي والذي يربطها بذلك الرجل الغريب القريب والذي اجتاح حياتها الفوضوية على حين غفلة...فما لعمل الآن وكيف ستتصرف مع كل هذه المشتتات الذهنية والعاطفية والتي اصبحت تحوم من حولها ؟
 
رفعت نظرها بهدوء باتجاه الذي وقف امامها على بعد خطوات وهو يقول بابتسامة جانبية بغموض
"واخيرا عدتِ ! لقد بحثت عنكِ بكل مكان بعد اندفاعك العنيف بين الحضور المتجمهرة من حولك والتي لفتت كل الانظار نحوكِ"
 
عبست ملامحها بصمت وهي تنظر له باتساع احداقها البحرية بدون اي تعبير او شعور سكن بدواخلها بثانية ، قطب جبينه بلحظة بارتياب وهو يتقدم امامها قليلا قائلا بصوت خافت مشتد
"صحيح اين كنتِ طول هذه الفترة ؟"
 
توقف بمكانه فجأة وقبل ان يصل لها ما ان نطقت صاحبة الملامح الجليدية بصوت خافت منحوت من حجر
"هل تعرف فتاة اسمها وفاء ؟"
 
تصلبت ملامحه للحظات نحتت بتقاسيم وجهه بقسوة نادرة ، ليبتسم بعدها ببساطة وهو يعود لغلاف البرود قائلا بتفكير حائر
"هل قابلتها ؟"
 
عقدت حاجبيها ببوادر الغضب وهي تحاول كبح جماحها وتقييدها بداخل خلجات روحها ، لتحرك بعدها ذراعها بلا مبالاة وهي تهمس بابتسامة صغيرة بغيظ
"لقد قابلت من لحظات فتاة غريبة اعترضت طريقي تدعى وفاء ، وكانت تحاول الاعتذار مني بسبب ذنب لم اعرفه ، وقد كانت تبدو بحالة يرثى لها وميؤوس منها اثارت شفقتي عليها ، ولكن ما لفت انتباهي بأنها قد جاءت لهذا الفندق لتستنجد بك تحديدا وتحميها من المخاطر المحدقة بها من حولها ، الحقيقة جميل ان تكون صاحب قلب كبير ومحب بتقديم الخير ومساعدة الفتيات المحتاجات ، ولكن ألا ترى بأنك قد بالغت هذه المرة بإعطاء هذا الاهتمام الزائد لتلك الفتاة !"
 
كان ينظر لها بهدوء بدون اي ردة فعل تعلو ملامحه الجامدة قبل ان يحرك رأسه بقوة وهو يتمتم بابتسامة ساخرة بمرح
"هل هذا تلميح بأنكِ تشكين بنوايا زوجك ؟ ام هو تهديد من نوع آخر خاص بزوجتي العزيزة ؟ والحقيقة الخيار الثاني يروقني اكثر"
 
زمت شفتيها بانفعال لوهلة وهي تخرج عن هدوئها بلحظة قائلة بضيق واضح
"انا لا امزح هنا ! وانت تعلم جيدا ما اريد الوصول له بكلامي ، لذا توقف عن لعبة الاستفزاز هذه"
 
ردّ عليها من فوره بجمود متصلب
"لا لم افهم ، وضحي سؤالك اكثر لأستطيع الإجابة عليه ونتوقف عن هذه اللعبة والتي بدأتِ بها اولاً !"
 
قبضت على يديها بقوة وهي تخفض نظراتها بارتجاف لا إرادي سيطر على نبضات قلبها الذي اصبح يضرب بقفصها الصدري بألم ، لتعض بعدها على طرف شفتيها بكبت وهي تتنفس من بينهما ببطء شديد دام للحظات قبل ان تهمس اخيرا بخفوت بدون ان تمنع الارتجاف من الخروج بصوتها
"ما لذي يربطك بتلك الفتاة لتستنجد بك تحديدا ؟"
 
سكنت الاجواء بينهما للحظات طويلة دفعتها لترفع رأسها ببطء وبعد ان يأست من عذاب الانتظار ، لتقع عينيها البحريتين على عينيه السوداوين الباردتين واللتين جمدتاها بمكانها بمشاعر غريبة كانت تلوج بداخل كل منهما وبقوة تحدي نظراتهما ، قبل ان يجيبها الذي تنازل بإبعاد عينيه عنها لأول مرة تحدث من بين كل منافسة تدور بينهما وهو يتمتم بصوت غير مبالي
"ليست بالشخص المهم الذي تظنين ، ولا تعودي لطرح مثل هذا الموضوع مجددا فهو من الأمور الخاصة بي وليس على احد حق التدخل بها"
 
اتسعت عينيها بصدمة وهي تتلقى صفعة التهديد والجواب اقسى من تهديدها السابق ! فهل يحاول تحديها بالمثل ومجاراة كلامها الاخير ؟ لتهمس من فورها باستياء مذهول وهي تتأكد مما سمعت
"ماذا افهم من هذا الجواب ؟"
 
نظر لها بهدوء وهو يقترب منها قاطعا الخطوات الباقية بينهما قبل ان يصبح امامها تماما ، ليريح بعدها يده على الباب من خلفها وهو يدنو بوجهه قليلا بالقرب منها هامسا بصوت اجش خافت
"لا تفكري كثيرا بالجواب ، فأحيانا قلة التفكير بالحياة تجلب السعادة وراحة البال افضل من قضاء حياتكِ تفكرين بنفس المعضلة ! وانا كل ما اريده هي حياة هادئة ومريحة لا يوجد بها اي صعوبات او مطبات"
 
حركت رأسها بعنف وهي ترفع عينين متمردتين هامسة باستياء حانق ويديها تقبضان على ثوبها بتوتر متخبط
"لا ليس هكذا تحل الأمور ! ولن تستطيع الهروب من السؤال بهذه الاجوبة المبهمة والتي لا تقنعني ، فأنا لن يهدأ لي بال حتى اعرف الحقيقة كاملة وكل شيء يخص حياتك الماضية والتي سبقت دخولي لها"
 
ارتفع حاجبيه بخفة وهو يقترب اكثر امام وجهها ليهمس بابتسامة مسرحية بدهشة
"ماذا تقولين يا ماسة ؟ هل اصبحتِ تهتمين بحياتي لهذه الدرجة من التشوق والحماس لمعرفة كل تفاصيل حياة زوجك ؟"
 
كتفت ذراعيها بقوة مهتزة وهي تهمس بابتسامة ممتعضة بتصميم
"وماذا ان اخبرتك بأن هذه هي الحقيقة ؟ هل ستجيبني عندها على اسئلتي ؟"
 
عقد حاجبيه بهدوء وهو يقترب من جانب اذنها ليهمس بها بصوت عميق بعث الرعشة على طول ظهرها والذي تصلب فجأة بتحنط
"حسنا يا ألماستي إذا كنتِ تريدين الإجابات على اسئلتك ، فعليكِ انتِ ايضا بالمقابل الإجابة على جميع اسئلتي المتعلقة بماضيكِ كاملة بدون ان تخفي عني شيء ! هل انتِ مستعدة لتخوضي مثل هذا النوع من التحدي ؟"
 
زمت شفتيها بارتعاش وهي تهمس بعبوس متصلب
"ولكنك اصبحت تعرف كل شيء عني ، ماذا تريد ايضا ؟"
 
ردّ عليها بسرعة بكلمة واحدة بحدة
"كاذبة !"
 
اشاحت بوجهها بعيدا عنه لوهلة وهي تنشج بمكانها بانقباض احتل اطرافها ببرودة واظافرها تخدش خشب الباب البارد من خلفها لا شعورياً ، تصلب جسدها بلحظة ما ان امسك بذقنها بقوة ليدير وجهها ناحيته ببطء ، وما ان تقابلت النظرات بينهما لوهلة حتى لانت ملامحه بابتسامة صغيرة وهو يهمس بخفوت اجش
"يبدو بأننا قد تشاركنا اخيرا بنفس النقطة الماضي المجهول والحقائق المخفية خلف حواجز ثابتة ! ولكني اعدك بأنه ما ان تفتحي لي المجال لدخول عالمكِ المخفي وتفصحي عندها عن كل مكنوناتك ، فقط عندها سأجيبك عن كل اسئلتك الواردة وكل ما تودين معرفته !"
 
زمت شفتيها بعبوس بدون كلام وهي تنظر له بعيون زرقاء لأول مرة ينضح منها الحزن والاستسلام الخانع ، ليرفع بعدها اصابعه عن ذقنها بلحظة وهو يتجول بنعومة على شفتها السفلى بهدوء عدة مرات ، قبل ان تأخذ شفتيه مكان اصابعه وهو يقبلها برفق وببطء شديد عبث بخفقات صدرها بتشتت مشاعرها الوليدة والتي انحدرت لمستوى جديد دمرت معها باقي حواجز ألواح قلبها الجليدية والتي بنتها على مرور سنوات .
 
ابتعد عنها بنفس الهدوء وبصمت تام وهو يخفض يديه عنها ، وما ان استدار باللحظة التالية حتى انقضت عليه التي امسكت بذراعه بقوة وهي تتبعها بالهمس بخفوت مرتجف سيطر على ذرات انفاسها
"هل ما يربطك بها شيء اقوى من ان تستطيع ان تتخلى عنه ؟ هل هناك طفل بينكما ؟"
 
التفت نحوها بنصف وجهه للحظات وهو يهمس ببرود قاتم
"اجل ما يربطني بها شيء اكبر بكثير مما تتخيلين فهو يتجاوز إرادتي وإرادتك !"
 
ارتمت يديها جانبا بصمت تام احتل تقاسيم ملامحها المنحوتة بصورة الانذهال والذي اخترق صميم روحها بجليد قاسي وهو يصم اذنيها عن سماع المزيد من طرب خفقات صدرها ، اتسعت عينيها ببهوت ما ان سمعت صوته مجددا وهو يتابع كلامه بابتسامة هادئة بمغزى
"ابعدي عنكِ هذه الأفكار المنحرفة ، فأنا لست من هذا النوع من الرجال !"
 
تغضن جبينها بوجوم وهي تراقب الذي دخل للغرفة امامها بصمت احتل الاجواء من حولها بسكون ، لتزفر بعدها انفاسها بارتباك لوهلة وهي تمسح وجهها بكفيها بتعرق تشعر به يتصبب من كل زوايا وأروقة روحها الباردة ، لتخفض بعدها يديها فجأة وهي تبتسم ببهوت شاحب بلا وعي واصبعها يتلمس على شفتها السفلى بهوس ، قبل ان تهمس امام اصبعها الطويل بعتاب حانق
"احمق شادي الفكهاني"
_____________________________
جالسة على ارض الغرفة الباردة بسكون وهي تسند ظهرها لخشب السرير بهدوء تام اجتاح حياتها لوهلة وبعيدا عن كل احلامها العاطفية والطفولية والتي كانت ترسخ بذهنها على مدار سنوات وبعيدا عن ثرثرتها الفارغة والتي لم يعد لها طائل بحياتها...وهي تشعر بأمور غريبة واشياء قد تغيرت بداخلها وكأن رغبة الحياة المثالية قد انطفئت بظلام قلبها الخاوي والذي فقد كل شعور جميل طاهر ونقي وكل تلك المشاعر الجياشة بحياتها للأبد...حتى لم يتبقى لها اي سعادة حقيقية او نور تعيش عليه بعد كل تلك الأكاذيب الموجعة والتزييف بالمشاعر افقدتها حتى الثقة بالنفس وجزء من شخصيتها النقية المفعمة بالحياة...وفقط كل ما تريد معرفته ويُلح عليها بشدة هل احبها احد من قبل بنفس قوة مشاعرها بحياتها والتي كرستها لكسب محبة الآخرين بكل صدق مشاعرها ؟ ام انها كانت اضاعة للوقت الطويل ولمشاعرها الهادرة ومن اجل امر لا يستحق ؟!...
 
وماذا عن حب والدها والذي تشعر به الآن فقط بنقص وفوارق تفصلها عنه اميال وكأنه ليس والدها والذي عشقته منذ مهدها حتى هذه اللحظة ليكون التعويض عن وجود والدتها بحياتها ؟....وهي الآن تكتشف بكل شيء قد تغاضت عنه بعلاقتها بوالدها والذي لم يحبها ذلك الحب الابوي والذي يغدقه الوالد على اولاده...فهو ما يزال يفضل ابنه الكبير (مازن) عليها وهو ما اثبته عندما تستر على فعلة ابنه الخطيرة واستطاع حمايته بكل ما يملك لكي لا يصل لعقاب السجن واسوء...واما هي فقد كانت مجرد ثقل عليه طيلة تلك السنوات ليتخلص منها بزواجها وتركها بحال سبيلها وكل تلك المشاعر ما هي ألا تكلف ورسمية اتجاه الابنة الوحيدة لديه والتي ما ان تزوجت حتى اختفت معها كل تلك المشاعر اليتيمة...وهذا هو السبب وراء عدم السؤال عنها او الاتصال بها طيلة فترة زواجها وما ان اصبحت تحت مسؤولية رجل آخر .
 
شددت فجأة على قبضتيها وهي تنظر لضياء القمر البعيد من زجاج النافذة وذلك الصوت الذي اختفى منه كل لمحة حنان ما يزال يزرع الظلمة بقلبها الذي يقصف بصدرها بقوة بين كلماتها الباردة بدون اي حياة وكأنهما تتشاركان بنفس الخواء
"لقد ماتت غنوة بسبب طلقة رصاصة طائشة وصاحب السلاح الذي قتل غنوة هو شقيقك مازن جلال ، فهو بالحقيقة من استدرج غنوة لذلك الفخ والذي وقعت به بين براثن عصابة شريرة ، ولا اعلم ما حدث هناك وتفاصيل القصة جيدا ، ولكن ما حصل بعد تلك الجريمة هو محاولة والدك رشوة السيد متحت عم غنوة من اجل ان يبعد اصابع الاتهام عن ابنه ويسقط حقه بالمحكمة ، وهذا ما فعله متحت تماما وبدون اي تردد ما ان تقاضى اجره ، لتغلق بعدها القضية منذ ذلك الحين وكتب بملفها الشخصي بأن سبب الوفاة هو اصابة عرضية غير مقصودة"
 
ضربت فجأة على ساقيها بقبضتيها بقوة وهي تميل برأسها للأمام بحركة لا إرادية ، لتهمس بهدوء شديد وبحرقة ما تزال تسكن روحها وكأنها تهذي مع نفسها
"لما يا ابي ؟ لما فعلت هذا بي ؟ لما دافعت عن مازن وابعدته عن الخطر حتى تحولت انا لضحية افعاله ؟ ألم تكن تعلم بأن كل شيء بالحياة له ثمن وما تفعله سيرد لك عاجلاً ام آجلاً ! هل نسيت كل هذا من اجل الحفاظ على ابنك ؟ وانت تتناسى ابنتك الصغيرة والتي اوهبت حياتها بأكملها من اجلكما انت ومازن ، بالمقابل ما لذي فعله مازن لأجلك لتدافع عنه وتحبه اكثر مني ! لماذا لم تحبني يا ابي كما احببتك دائما ؟"
 
رفعت رأسها بقوة وهي تتنفس بارتجاف عنيف سرى بكامل جسدها بغصة تكاد تفتك بقلبها الحزين على عائلة تدمرت بفعل يديّ عائلتها واقرب الناس لقلبها ، رفعت يديها وهي ترجع شعرها الكثيف بأصابعها المخدرة لخلف وجهها المستريح على خشب السرير البارد ، لتنحني زاوية من ابتسامتها بذبول باهت وعقلها يرسم خيالات بعيدة عن واقعها وهي تهمس بخفوت تدفقت معها الدموع وهي تسيل من مقلتيها الواسعتين من جديد
"لقد اشتقت لكِ يا امي ، انظري ماذا فعلت بي عائلتك ؟ انظري ماذا فعل ابنكِ من جريمة شنعاء لا تغتفر ؟ حتى والدي لم يحاسبه على فعلته بل وقف بصفه وساعده بالإفلات من جريمته ! هل انا غير محبوبة يا امي ؟ هل ستكونين مثلهم لو كنتِ على قيد الحياة ؟ ليس عدلا ان اعاني كل هذا من عائلتي والتي قدمت لها كل شيء املكه ! هل هذه هي مكافئتي على اعطاء محبتي بدون حساب ما إذا كان سيبادلني الطرف الآخر نفس المحبة يا امي ؟ اريدكِ يا امي احتاجكِ بشدة !"
 
اخفضت رأسها ببطء وهي تدفن وجهها بلحظة بين ركبتيها بنشيج خافت وبنحيب صامت بدأ يخرج عن سيطرتها وهو يتحول لأنين موجع مذبوح وكأنها إيل مصابة قد تم اطلاق عيار ناري عليها من اسلحة البشر ، لترفع بعدها رأسها قليلا لضوء القمر لم تظهر منها سوى عينيها النديتين بالدموع وهي تخفض جفنيها فوقهما لثانية لذكريات بعيدة اخذتها لها مخيلتها ، وهي تعود الطفلة الباكية الشريدة والتي تبكي لأقل الأسباب التافهة ولكل حادثة بسيطة قد تأثر على قلبها الصغير بجرح كبير ، عندها كانت تجلس على سلالم الباحة الخلفية للمدرسة وهي تبكي بنحيبها المعتاد طفلة بالتاسعة من عمرها ، ليخترق بكاءها الصوت المغتاظ بنبرة طفولية وهي تقف على بعد درجتين منها
"كنت اعلم بأنني سأجدك هنا ايتها الباكية ! فأنتِ لا يحلو لكِ البكاء سوى بهذا المكان"
 
تجاهلتها وهي تستمر بالبكاء بنحيب مرتجف هز جسدها الصغير ، لتعاود الكلام التي اصبحت بجانبها تماما وهي تقول بنبرة صوتها الغاضبة وبشراسة بدأت تظهر بالعيان
"إذاً من الذي ضربك هذه المرة يا صفاء ؟ هيا اخبريني من اجل ان اخدش وجهه بأظافري وانهش لحمه بأسناني...."
 
انتفضت التي رفعت وجهها الصغير نحوها بوجل وهي تهمس بذعر مما تفكر به
"لا لم يحدث اي شيء مما تفكرين به ، وإياكِ والاقتراب من احد وألا سنطرد هذه المرة من المدرسة بأكملها بسبب تهورك"
 
تبرمت شفتيها بعبوس وهي ترتمي جالسة بجوارها على نفس الدرجة ، لتقول بعدها بأطراف عينيها بضيق واضح
"إذاً ما لذي يحزنك هكذا ؟ وما جعلكِ تهربين من الفصل بوقت الفسحة !"
 
زمت شفتيها بارتجاف وهي تنظر امامها بدموع صغيرة ما تزال تسيل على وجنتيها بشكل خيوط رفيعة ، لتعانق بعدها ساقيها بهدوء وهي تهمس بخفوت باكي مثير للشفقة
"لقد طلبت مني المعلمة ان اكتب تعبير يتكلم عن محبتي لوالدتي ، وهذا لأنني تأخرت بتسليم وظيفتي دون عن باقي الطلاب وإذا لم اكتب فلن تضع لي درجة جيدة"
 
ارتفع حاجبيها بتفكير لبرهة قبل ان تلوح بكفها الصغيرة قائلة بسخط
"هذا سخيف ، كم اكره هذا النوع من الوظائف الغبية والتي لن تحدد مستوى ذكاء الطالب ! ولما لم تخبري تلك المعلمة البلهاء بأن والدتك غير موجودة لكي تعفيكِ من كتابة ذلك التعبير الفارغ ؟"
 
ردت عليها بهمس باكي وهي تمسح دموعها بكفها الصغيرة بصمت
"لم املك الجرأة على فعلها ، لقد خفت من ان تنظر لي بشفقة او ان تقول لي تلك الكلمات المواسية والتي سئمت من سماعها !"
 
كتفت (ماسة) ذراعيها فوق صدرها بتفكير وهي تقول بعبوس مستاء
"إذاً عليكِ كتابة اي شيء واختلاق موضوع التعبير من عقلك ، وهي اكيد ستصدق بدون اي شك"
 
نظرت لها للحظات وهي تهمس بخفوت حائر
"هل هذا ما فعلته بموضوع التعبير انتِ ايضا ؟"
 
اومأت برأسها الصغير بثقة وهي تهمس بابتسامة شقية بمرح
"وألا كيف ظننتِ اني سلمتها موضوع التعبير ؟"
 
اتسعت عينيها العسليتين لوهلة وهي تهمس بدهشة خافتة
"ولكن والدتك على قيد الحياة ويمكنك التعبير عن مشاعرك نحوها وكتابتها بصدق ؟ أليس افضل من التزييف !"
 
عبست ملامحها بهدوء وهي تريح كفها فوق وجنتها هامسة بلا مبالاة
"انتِ تعلمين بأن امي حياتها بأكملها دائرة بين العمل بالصباح والاهتمام بالبيت بالمساء ، وهذا يعني بأني نادرا جدا ما ان اتقابل معها او اتحدث معها بأي موضوع ، وحتى لو حاولت طلب مساعدتها بوظائفي المدرسية فهي ستراها اشياء تافهة وغير مهمة"
 
اخفضت عينيها العسليتين بحزن وهي تهمس بوجوم شارد
"انتِ محظوظة جدا بوجود والدتكِ بحياتكِ ، فأنا لطالما كنت اتمنى لو كانت والدتي معي مثل جميع الطلاب بالمدرسة لكنت عندها اسعد طفلة بالعالم"
 
التفتت نحوها بهدوء وهي تخفض كفها هامسة بجمود باهت
"يا لكِ من طفلة حالمة يا صفاء ! فليس كل ما هو ظاهر امامك حقيقي ، انا ارى بأنه من الأفضل ان تحافظي على الموجودين بحياتك حالياً بدون ان تفكري بالمفقودين ، فلا احد يعلم قيمة الموجود بين يديه سوى فاقده"
 
ارتفع حاجبيها الصغيرين باستغراب وهي تهمس ببراءة بما فسره عقلها الصغير
"هل تقصدين بأنكِ تفتقدين والدكِ كما انا تماما افتقد والدتي ؟"
 
اتسعت حدقتيها الزرقاوين بلحظة وهي تخفض نظرها لساقيها امامها قبل ان تتمتم بحزن طغى على صوتها الخافت
"لا اعلم حقا يا صفاء ! انا حتى لا اذكر اي لمحة ذكريات عنه ؟ لذا لا اشعر بأي حزن او حنين على فراقه من وجوده ، ولكن أتعلمين هذا افضل بكثير من تذكره فلو بقيت معي ذكرياته بعد رحيله لكان ألم فراقه اكثر ألماً وحرقة ! ولما استطعت تجاوز امر رحيله وتركي لي وحيدة بالحياة بعد ان تنعمت بوجوده من حولي وتعلقت بمشاعره الدافئة التي كان يحيطني بها ، لذا كوني سعيدة بما انتِ فيه يا صفاء فأنتِ تعيشين بنعمة يتمناه الكثيرون"
 
رفعت عينيها الدامعتين للحظات قبل ان تهمس بشفتين مرتجفتين بمرارة الواقع
"ولكني افتقدها بشدة يا ماسة ، احيانا احلم بها كثيرا بنومي ويقظتي ، وعندما استيقظ واكتشف الواقع ابدأ بالبكاء بشدة واتمنى لو بقيت بالحلم معها ولم اخرج منه ، عندما ارى امهات الطلاب بالمدرسة كيف يكونون سعداء بقربهم ، اشعر بالغبطة نحوهم واليأس الشديد ، ويصل تفكيري اليائس لو ان والدي يستبدل بوالدتي....."
 
قاطعتها التي وقفت فجأة بقوة وهي تقول باستنكار عاتب
"ما هذا الكلام الاحمق يا صفاء ! كيف يصل تفكير فتاة مؤمنة مثلك لهذا المستوى السيء ؟ هل تتمنين الموت لوالدك لتعيش والدتك ؟ صدقيني حتى لو حدث هذا لكنتِ الآن تتمنين العكس وان يكون والدك هو الذي على قيد الحياة ، لا تفكري مجددا بهذه الطريقة وكوني ممتنة للحياة بأنها لم تحرمكِ من كليهما"
 
شهقت ببكاء وهي تعود لدفن وجهها بين ركبتيها بنحيب زاد عن السابق ، وهي تهمس بتعثر انفاسها بتشتت حزين
"انا اعتذر يا ماسة ، لا اعلم ماذا اصابني لأقول مثل هذا الكلام ! لقد اصبحت طفلة مزعجة وبكاءة بالفترة الاخيرة ، ويبدو بأن مازن كان على حق عندما قال عني بأني طفلة مثيرة للشفقة ويستطيع اي احد ان يضحك عليّ بكلمة صغيرة طائشة !"
 
تأففت بنفاذ صبر وهي تنظر بعيدا عنها بهدوء للحظات ، لتسير بعدها امامها وهي تنزل درجة واحدة تفصلها عنها قبل ان تمسك بذراعها وهي تهمس بابتسامة صغيرة بحماس
"اسمعي يا صفاء لقد وجدت لكِ الحل المناسب لمشكلتك هذه"
 
توقفت عن البكاء قليلا بدون ان ترفع وجهها نحوها ، لتتابع المقابلة لها كلامها بتشجيع وهي تهمس بابتسامة كبيرة بسعادة
"انا اقترح عليكِ ان تكتبي كل ما يشعرك بالحزن والاحباط بورقة بيضاء فارغة ، تكتبين بها كل ما يحلو لكِ وكل ما يعتمل بداخلك ، وصدقيني هذا سيريحك كثيرا ويخفف عنكِ وطأة الحزن قليلا وكأنك تراسلين والدتك حقيقة بدون ان تصل لها الرسالة"
 
رفعت رأسها ببطء وقد بدأت تتجاوب مع كلامها ، لتشرق ابتسامة خفية على طرف شفتيها الصغيرتين بارتعاش وهي تهمس بخوف متردد
"هل استطيع فعل هذا حقا ؟ وهل سينجح ؟"
 
شددت على ذراعها برفق وهي تبتسم لها بقوة مساندة لتوقفها بلحظة على قدميها وهي تستمد العون منها ، لترفع بعدها يدها الصغيرة امام شفتيها لتشير بأصبعي السبابة والإبهام بذلك العهد القديم هامسة بابتسامة متسعة بفرح
"ابتسمي فلا شيء يستحق حزنك"
 
زفرت انفاسها بهدوء وهي تغطي عينيها بكفها بخمول تسرب بجسدها مثل السحر على اثر تلك الذكرى البعيدة ، والتي تذكرها بعد كل شيء حدث معها بأنها لم تخسر كل جوانب شخصيتها العاطفية فهي ما تزال تحافظ على نقاء صداقتها والتي كانت العوض لها بهذه الحياة الكاذبة والتي خرجت منها بأحزان ومآسي اثقلت كاهلها الصغير .
 
تحركت من مكانها وهي ترفع نفسها على ركبتيها لتمسك بالمفكرة من المنضدة بجانب السرير...لتعود للجلوس على الارض مجددا كما كانت تفعل...وهي تلتقط القلم بداخل المفكرة الصغيرة قبل ان تتصفح بها قليلا...لتتوقف امام الورقة الفارغة وهي تبدأ بالكتابة عليها بهدوء بكل ما يعتمل بصدرها وكما علمتها صديقتها الوحيدة (ماسة) حتى نسيت مفعول هذه الطريقة بخضم مجريات حياتها الاخيرة...وها هي تعود مجددا لنفس الطريقة لتناجي بها وحدتها وحزنها مثل الظمآن والذي وجد بركة ماء ليرتوي بها عطشه ومثل المسافر والذي مهما باعدت المسافات بينه وبين وطنه فهو عائد بالنهاية لا محالة ...
_______________________________
كانت تفرك قبضتيها معا بتوتر بحجرها وهي تبتلع ريقها كل حين بارتباك تجلى على ملامحها الشاحبة بوضوح...وعينيها الدامعة تتابع حركة السائرة امامها بانتباه مشدود والتي كانت تتحرك جيئاً وذهاباً بعصبية واضحة على صوت طرقات حذائيها العاليين والذين يكادان يخترقان الأرض من تحتهم....لتخفض وجهها بانتفاض على صوت التي التفتت نحوها مباشرة وهي ترتكز على كعبي حذائيها قائلة بغضب مشتعل افترس ملامحها الجميلة
"إذاً ما هو تبريرك لما حدث ؟ وما هو عذركِ الذي منعكِ عن تنفيذ اوامري حسب الخطة المعطاة لكِ ؟ وانتِ بهذا التصرف الاخرق قد خرجتِ عن مسارنا الصحيح ، ما لذي لم تفهميه بالخطة لتفسدي كل ما بنيناه بلحظة غباء ؟"
 
زمت شفتيها بضيق وهي تهمس من بينهما بانفعال مرتجف
"اخبرتكِ بأن الأمر لن ينجح ، فأنا لا استطيع فعل مثل هذه التمثيلية الرخيصة وان اصل لهذا المستوى المنحط من اجل ان ارضي حضرتك....."
 
صمتت بارتجاف ما ان اصبحت تقف امامها التي انحنت نحوها بلحظة وهي تهمس بابتسامة جانبية بدون اي مرح
"حقا ما تقولين ؟ لقد كنت على وشك تصديق نواياك النقية لوهلة ، من يسمعك لن يصدق بأنكِ نفس الفتاة التي هربت من عائلتها وسافرت لبلاد اخرى بهوية جديدة لتقيم علاقة مع اول رجل قابلته بحياتها وتحمل بطفله بدون اي رباط رسمي بينهما !...."
 
قاطعتها التي رفعت رأسها بعنف وهي تهمس بانتحاب منفعل احمر معها وجهها بخزي المهانة
"غير صحيح لقد تزوجني رسميا ولم تكن علاقة عابرة...."
 
قاطعتها مجددا التي ابتسمت باستهزاء وهي تهمس بتعديل ساخر
"تقصدين لقد كان زواج عرفي ومزيف ! يعني لا وجود له بالواقع ، ولا يختلف عن الذي نطقت به قبل قليل"
 
اخفضت وجهها بخزي اكبر وهي تشدد من القبض على يديها حتى شعرت بالدموع وهي تسيل على خديها بسكون تام ، لتتصلب بعدها بمكانها ما ان امسكت بوجهها وهي ترفعه بقوة قبل ان يتبعها ابتسامة شامتة وهي تهمس بأمر
"هذا ليس الوقت المناسب للبكاء على ما ذهب ورحل ، بل عليكِ البكاء على مصيرك القادم إذا لم تنفذي كلامي جيدا ولم تسيري حسب ما هو مخطط ان يحدث واريد ، وألا اعدكِ بأن تكون ايامكِ القادمة مليئة بالحزن والآلام واكثر مما كانت عليه بالماضي !"
 
عبست ملامحها بارتجاف وهي تهمس بخفوت باهت بدون اي حياة
"هذه طريقة مهينة باستغلال نقطة ضعفي واستخدامها سلاح لتحركيني كما تسعين ونحو اهوائك الخاصة ، ألا تملكين اي رأفة وانتِ تخططين لتدمير حياة شخص لم يسبب لكِ الاذى بحياته ؟ فقط من اجل ان تحققي مآربك بطريقة لا تمت للحب بصلة !....."
 
انتفضت التي استقامت بمكانها بلحظة وهي تلوح بأصبعها امام وجهها بتحذير وبهمس شرس متعالي قلبت ملامحها للشر الساكن بداخلها
"اخرسي ولا تنطقي بحرف ، فأنا لا اسمح لحثالة من طبقتك ان تحاسب ابنة الوزير على افعالها والتي لا تقارن ببشاعة ماضيك وما ينتظرك بحاضرك ، وانا ارى بأنه من اجل الحفاظ على ما تبقى من جمال حاضرك ومن اجل مستقبل مشرق لك ولابنك الغالي هو اطاعة اوامري بالحرف الواحد ، فلا تنسي بأن قصتك ما تزال طي الكتمان ولا احد يعلم عن خفاياها كاملة سوى ثلاثتنا ، ولكن ماذا سيحدث عندما تتحقق تلك الكذبة الصغيرة ويصل امر الطفل لفرد من عائلتك بالخارج ؟ ماذا سيكون رأيه بالأمر ؟"
 
مسحت الدموع عن وجنتيها بقوة وهي تهمس بعبوس حزين
"ألا ترين بأنكِ تبالغين بتصوير قدري القادم ؟ فأنا لم اعد وحيدة بهذه الحياة وشقيقي ما يزال بصفي ولن يتخلى عني بهذه البساطة...."
 
قاطعتها بضحكة ساخرة قريبة من السعال المتشنج وكأن بلعوم قد علق بمنتصف حلقها ، لترجع بعدها بلحظات خصلات شعرها القصيرة لخلف اذنيها بنعومة وهي تهمس من بين ضحكاتها الصغيرة بخفوت مستهزئ
"تقولين شقيقك صحيح ! انتِ تعلمين اكثر من اي احد آخر بأن شادي لا يعترف بك شقيقة او اي شيء آخر ، بل هو يشمئز حتى من كلمة شقيقة له تكون من والدته التي تخلت عنه ورحلت لتتزوج من رجل آخر ؟ وتتوقعين منه ان يسأل عنكِ او يعطيكِ جزءً من اهتمامه ؟ صدقيني لو كان بيده لسلمك واعادكِ لعائلتك منذ لحظة معرفته بوجودك ، ولكن يبدو بأنه ينتظر بعض الوقت قبل ان يفعلها !...."
 
قاطعتها التي وقفت باندفاع وهي تصرخ باستنكار منتحب
"لا لن يفعلها !...."
 
ارتفع حاجبيّ (لينا) بخفة ساخرة برسالة واضحة تقول لها بالحرف الواحد بأنها كاذبة وفقط تحاول اقناع نفسها بتلك الكذبة ، لتمسك بعدها بكتفيها بقوة وهي تهمس لها بابتسامة رقيقة بخبث الافاعي
"هل ستعلقين آمالكِ حقا على تلك الكذبة الواهية حتى ينتهي بكِ الامر بين براثن عائلتك والتي لن ترحمكِ ؟ لا تحاولي اقناعي بموضوع يخص شادي فأنا اعرفه اكثر من اي شخص آخر بالعالم حتى من نفسه فهو لطالما كان صديقي وعشيقي وانا كنت كل شيء بالنسبة له ، لذا اريد منكِ ان تساعديني بمهمة هزيمة تلك الحرباء ابنة عمته وازاحتها عن طريقنا لتحلو لنا الحياة ويبتسم لنا القدر !"
 
عبست ملامحها بارتجاف وهي تنظر لها بتمعن هامسة بخفوت واجم
"هل انتِ متأكدة من هذا ؟ اقصد ماذا سيحدث لو اخبرها شادي بالحقيقة كاملة وبقصة الطفل ؟ هكذا لن نستطيع خداعها بالتمثيلية وتدمير العلاقة بينهما !"
 
اتسعت ابتسامتها الجميلة بثقة وهي تهمس بلحظة بخفوت رقيق اقرب للغرور
"كما قلت قبل قليل انا اعرف شادي اكثر من نفسه ومن عائلته ، فهو اكثر ما يتصف به هو الصمت التام وعدم الافصاح عما يلوج بدواخله من مشاعر واسرار لا احد يعلم عنها ، مثل صندوق الاسرار المغلق والذي يكتم عليها لآخر نفس بحياته ، وخاصة بأن الأمر يتعلق بفضح شرف وسمعة مثل قصتك ، فهذه مساحته الخاصة بالحياة والتي لم يستطع احد تجاوزها فهي بمثابة الخطوط الحمراء بالنسبة له ، حتى انا اقرب صديقة له لم يسمح لي يوماً بتجاوزها !"
 
اخفضت نظرها بهدوء لوهلة وهي تقبض على يديها هامسة بضعف خانع
"سأفعل ما تريدين بشرط ان لا يصل هذا الخبر لعائلتي ولا لأي احد آخر ، فأنا اريد المحافظة على نفسي وعلى ابني ، ارجوكِ"
 
ربتت على كتفها بقوة وهي تقول بابتسامة كبيرة بسعادة مزيفة
"لا تقلقي يا عزيزتي سرك سيبقى دائما بمأمن معي ، ولكن إياكِ وان تخطئي مرة اخرى بتمثيل شخصية حبيبة شادي ، وألا لن اغفر لكِ هذه المرة زلتك ، حسنا !"
 
اومأت برأسها بشرود متصلب بدون اي شعور ، لتبتسم المقابلة لها باتساع انثوي وهي تستدير بعيدا عنها بلحظة ، لتتوقف من فورها ما ان همست صاحبة الصوت الهادئ بملامح باردة كالجليد
"لم تخبريني بأن زوجة شادي تعرف عن امر الطفل ! هذا لم يكن بالاتفاق ؟"
 
التفتت بنصف وجهها وهي تهمس بشبه ابتسامة باردة
"هذا ليس من شأنك ، فأنا ادرى بمصلحة خطتي جيدا وما ستكون عليه نتائجها المضمونة وإلى اين ستوصلنا ، انتِ فقط عليكِ باتباع كلامي بدون اي اعتراض او تذمر"
 
عضت على طرف شفتيها بكبت وهي تهمس بابتسامة هادئة بدون ان تمنع نفسها
"ولكن عليّ ان احذركِ هنا بأن منافستكِ بهذه اللعبة ليست بالخصم السهل الذي تتخيلين ويصوره عقلك ، فهي تبدو متعلقة بشدة بزوجها والذي ترسمين من حوله احلامكِ الكبيرة ولن يكون من السهل انتزاعه منها ! وقد لا تكون من النوع الذي يخدع او يتأثر بمثل هذه الألعاب والتي تلعبينها عليها ، لقد توجب عليّ تنبيهك فقط من اجل مستقبلكِ ومن اجل ألا تخسري ما تبقى من كرامتكِ المهدورة امامها بمنافسة تحددت نتيجتها مسبقا"
 
مرت لحظات هادئة جدا محملة بالبرود الجليدي قبل ان ينطق الجسد الجامد بمكانه ببساطة بدون ان تتأثر بأي كلمة نطقت بها
"هل انتهيتِ من ثرثرتك الفارغة ؟ فقد آلمتِ رأسي حقا بدون الداعي لذلك ! ومرة اخرى إياكِ والنطق بكلام زائد لم اطلبه منكِ ولم اعطيكِ الإذن به ، بل افعلي فقط ما ينطوي عليه دورك حفاظا على سلامتكِ انتِ وابنكِ"
 
شددت (وفاء) على يديها بصمت وهي تراقب التي خرجت من الغرفة بأكملها بهدوء وهي تتهادى على كعبي حذائيها بغرور واضح ، وما ان خفت صوت ضجيج حذائيها حتى ارتمت جالسة على طرف السرير بخمول وهي تنظر للفراغ امامها بلا هدف او قرار تستقر عليه بحياتها التي ازدادت تشتت وتعقيد ، ويدها تستريح على اعلى بطنها بشرود واجم وكأنها تحاول طمأنة نفسها وطفلها من العواصف القادمة بطريق حياتهما الشائكة والتي لم تخلو منها يوما .
______________________________
صباح اليوم التالي......
تأففت بنافذ صبر للمرة التي لا تعلم كم بعد ان توقفت عن عدها من التشنج والانتظار والذي يكاد يفتك بها ! وهي تحرك ساقيها بعصبية مفرطة وعينيها ساهمة امامها بثبات جالسة ببهو المنزل الواسع وبعد ان عادوا للمنزل بالصباح الباكر وانتهى شهر العسل الخرافي .
 
زفرت انفاسها بتعب لوهلة قبل ان تعبس ملامحها بلحظة ما ان شعرت بخصلاتها الطويلة وهي تشد بفعل اصابع الجالس بجانبها ، لتحيد بنظراتها قليلا وهي تراقب الذي تكلم بابتسامة ملتوية بجمود
"توقفي عن ملامح الاحباط واليأس هذه وكل من يراكِ يظن بأنكِ قد فقدت زوجك بحادثة مروعة ولستِ عروس جديدة لم يكد يمر يومين على زواجها ! ابتهجي قليلا لكي لا تأخذ الناس فكرة سيئة عنكِ"
 
ضيقت عينيها الزرقاوين بحدة وهي تشيح بوجهها بعيدا عنه هامسة بخفوت خاوي
"لو انني قد فقدته بحادثة كما تقول افضل بكثير من كل ما اكتشفته بالأمس من حقائق لم تدع اي مجال للشك"
 
اختفت ابتسامته بلحظة بصمت وهو يخفض يديه بعيدا عنها قبل ان يسند كفيه على ركبتيه وهو يقول بتصلب ناظرا امامه كما تفعل
"لا تأخذي كل شيء على محمل الجد وكما يرغب عقلك ، فليس كل ما هو ظاهر امامكِ سيكون حقيقي بالموجز ، كما اننا لسنا ملزمين لنظهر حقائق بعضنا للآخرين قد تدمر آخر ما تبقى من ثقتنا بأنفسنا حتى لو كان هذا الشخص اقرب الناس لكِ"
 
تنفست بغيظ وهي تشدد من القبض على يديها المستريحتين فوق ركبتيها لتهمس من بين اسنانها باستياء تجلى على ملامحها
"إذاً مصر على قرارك بعدم الاعتراف لي بما تخفيه من حقائق ! وانا بالمقابل لن اقول لك عن اي شيء يخص حياتي الماضية وكل ما يتعلق بها ، وهكذا ستكون اللعبة اكثر تكافئ بيننا"
 
صمت للحظات قصيرة زادت الشقوق بينهما قبل ان يهمس بابتسامة باردة بدون اي تعبير
"حسنا لا بأس إذا كنتِ ستتوقفين عن طرح الاسئلة والبحث عن اجوبتها"
 
غرزت اسنانها بطرف شفتيها ببؤس ما ان حدث عكس ما توقعته وهو يزيد من غموض اجوبته المبهمة بتخبط تفكيرها ، لتتنفس بعدها وهي تعود للشرود هامسة ببرود حانق
"سحقا لك من مراوغ !"
 
تأوهت بألم ما ان شد خصلات شعرها مجددا وهو يهمس بهدوء جاد
"اصمتِ الآن فقد جاء من كنا ننتظرهم"
 
ضربت يده بعيدا عن شعرها وهي تنظر امامها باتجاه الذي كان يسير نحوهما مباشرة ، وقف (شادي) من فوره وهو يستقبل شقيقه بالأحضان وهما يتعانقان بقوة رجولية ، ليقول بعدها الذي كان يربت على ظهره بسعادة كبيرة
"اهلا بعودتك يا عريس ، لقد نورت المنزل بعودتك اخيرا ، كنا قد تأقلمنا على عدم وجودك بالمنزل وارتحنا قليلا من مشاكلك والتي تجلبها معك....."
 
قاطعه الذي ابتعد عنه وهو يضرب صدره بقبضته قائلا بابتسامة جانبية بصرامة مزيفة
"إذاً عليك ان تبدأ بالتأقلم على وجودي هنا دائما ورؤية وجهي بكل صباح ، فأنا لن اترك هذا المنزل ليحلو لك الجو به ، بل سأبقى مرابط به مهما ازداد عدد افراد عائلتي حتى تشعر بالضجر مني وتقرر الفرار بجلدك وبعائلتك من تلقاء نفسك"
 
ضحك (احمد) بقوة وهو يربت على كتف شقيقه بقبضته قائلا بابتسامة هادئة بسعادة
"اهلا بك بعالمي وبحياة الزوجية ، وقُل وداعاً لحياة العزوبية"
 
ابتسم بالتواء طفيف بشفتيه بدون ان ينطق بكلام آخر ، لتنهض الصامتة بمكانها باندفاع وبعد ان استبد بها الانتظار والتوتر لأقصى درجاته وهي تقول بوجوم عابس
"احمد اين هي روميساء ؟ لما لم تأتي لاستقبالي ؟....."
 
تدخلت فجأة التي خرجت من خلف (احمد) بدون ان ينتبه احد لوجودها
"انا هنا"
 
اتسعت حدقتيها الزرقاوين بتجمد لبرهة وهي توجه نظراتها لصاحبة الصوت الخافت الرقيق والتي وقفت بجانب زوجها بهدوء ، وهي تمرر نظرات خاطفة على هيئتها الجديدة والتي تبدو مختلفة تماما عن التي تركتها قبل يومين وافترقت عنها عند قاعة حفلات الزفاف ، عندما كانت حينها مثل الاميرة الحزينة بواجهة الضيوف والمدعوين بالحفلة بدون اي روح تسكن تلك الملامح الجميلة ، ولكنها الآن تستطيع استشعار هالة سعادتها الفريدة والبهجة تكاد تطل من عينيها الزاهيتين باخضرار وبتقاسيم ملامحها الشاحبة والتي ازدادت توردا وجمالا مختلف عن جمالها بالحفلة والذي لم يكن ملموسا بأي شكل ، وكأنها هي العروس الحقيقية بينهما والتي لم يمر ايام على زواجها وليس شهر كامل !
 
ابتلعت ريقها بارتباك ما ان وصلت امامها التي عانقتها بقوة بذراعيها وهي تهمس بمحبة وبراحة غريبة عليها
"انا سعيدة جدا بعودتكِ اخيرا ، لقد افتقدتك كثيرا بغيابك"
 
زمت شفتيها بوجوم لوهلة وهي تربت على ظهرها هامسة بخفوت متصلب
"لم اغب عنكِ سوى يومين يا روميساء !"
 
ابتعدت عنها وهي تمسح على رأسها برفق هامسة بابتسامة حنونة
"ولكني مع ذلك لم اعتد على غيابك طول هذه المدة ، المهم ان تكوني بخير يا عزيزتي وسعيدة ببداية مسيرة حياتك الجديدة ، واكثر ما يفرحني بأنكِ سوف تعيشين معنا وامام عينيّ ولن نضطر للابتعاد عن بعضنا ابدا"
 
حركت (ماسة) رأسها جانبا ما ان قال الواقف بجوارها بابتسامة متسعة بثقة
"ونحن اكثر من سعيدين بسكننا معكم يا روميساء ، وأنا متأكد بأن ماسة اكثر سعادة مني بسكنها مع شقيقتها الوحيدة ومشاركتها كل تفاصيل حياتها بدون ان تضطروا للافتراق عن بعضكما مجددا ، فكل شيء يسعد زوجتي يسعدني انا ايضا"
 
زمت شفتيها بضيق وهي تعود بسرعة بنظرها لشقيقتها هامسة بعبوس خافت
"لما تأخرتِ بالحضور لاستقبالي ؟ لقد شعرت بالملل الشديد وانا انتظر قدوم اي احد يستقبلنا بالمنزل وكأنه غير مرحب بنا هنا !"
 
عقدت حاجبيها بإحراج غزى ملامحها بلحظة وهي تربت على كتفها هامسة بابتسامة صغيرة بارتباك
"اعتذر على هذا يا صغيرتي ، ولكني قد نسيت بأن اليوم يكون موعد عودتكم من شهر العسل ، ولم اتوقع مجيئكم بالصباح الباكر فقد استغرقت بالنوم ونسيت الأمر تماما ! لذا اعذري اهمالي بدقة مواعيدي"
 
ردت عليها التي همست ببهوت مندهش
"هل تقولين بأنكِ كنتِ نائمة ؟"
 
قالت بسرعة التي ابتسمت بهدوء وهي تحاول التبرير بطريقة لطيفة بدون ان تشعرها بقلة اهتمامها
"نعم لقد استغرقت بالنوم طويلا بسبب سهري بليلة البارحة ، ولم استطع الاستيقاظ بالموعد بسبب عدم سماعي لصوت المنبه ، والجيد بأن احمد قد ايقظني ونبهني على موعد مجيئكم....."
 
قاطعتها بذهول اكبر وهي تعقد حاجبيها بعدم استيعاب
"هل عدتِ للنوم مع احمد بنفس الغرفة ؟"
 
ارتبكت ملامحها باحمرار الحياء الممزوج بالإحراج والذي يكاد يفتك بها من فحوى سؤالها المخجل وعلى اسماعهم ، لكزها (شادي) بذراعها وهو يهمس بتأنيب خافت
"توقفي عن هذه الاسئلة الغبية والتي تحرجين بها شقيقتك !"
 
تجاهلت وجوده تماما وهي تنظر لشقيقتها بنظرات مختلفة قائلة بنبرة اتهام مبطن
"ما لذي يحدث معكِ يا روميساء ؟ وما لذي تخفينه عني ؟"
 
اتسعت العيون الناظرة لها لوهلة صامتة ، لتتدخل من فورها التي عادت لابتسامتها الجميلة وهي تقول بهدوء متزن
"ليس هناك شيء يا ماسة ، كل شيء قد اصبح يسير على ما يرام بل افضل بكثير"
 
عقدت حاجبيها بلحظة وهي تهمس بعبوس غير مقتنع
"ماذا تقصدين ؟ هل هناك ؟...."
 
صمتت (ماسة) ما ان امسكت الاخرى بذراعها بقوة وهي تهمس لها بابتسامة رقيقة بجمال وعينها الخضراء تغمز لها بالخفية
"تعالي معي يا ماسة ، اريد التحدث معكِ قليلا ، فأنا قد اشتقت لكِ واريد الاطمئنان عليكِ اكثر"
 
عبست الوجوه الناظرة لها وهي تلتفت نحو الذي جمدته الصدمة قائلة له بمودة لطيفة
"عذرا ! ولكني مضطرة الآن لسرقة زوجتك منك لبعض الوقت ، ويمكنك عندها قضاء الوقت بالحديث مع احمد حتى انتهي منها"
 
اومأ (شادي) برأسه بهدوء وهو يراقب التي تحركت بعجلة وهي تسحب معها زوجته باتجاه السلالم بعيدا عنهما ، وهو يفكر بصحة تركها الآن مع شقيقتها والتي تبدو تصرفاتها لا تختلف كثيرا عن زوجته المجنونة واللتين على ما يبدو يخططان لجعل ازواجهما يدوران حول محورهما فقط ! ليهمس بعدها بشرود للساكن بمكانه ما يزال ينظر بأثرهما بابتسامة مرتابة
"اهلا بك بعالم بنات مايرين"
 
______________________________
سارت لداخل الغرفة بسرعة وهي ما تزال تسحبها معها بيدها بقوة ، وما ان وقفت (روميساء) اخيرا حتى افلتت يدها لتهمس عندها بامتعاض التي كانت تدلك يدها بكفها الاخرى
"ماذا هناك يا روميساء ؟ لما سحبتني هكذا فجأة بدون ان تجيبي على اسئلتي !"
 
استدارت (روميساء) امامها بقوة وهي تتجاوزها بعيدا عنها لتغلق بلحظة باب الغرفة من خلفهما بهدوء ، ارتفع حاجبيها بارتياب وهي تراقبها بتوجس من تصرفاتها الغريبة والتي زادت الشك برأسها من ان تكون هناك مصائب قد حدثت بفترة غيابها !
 
ابتلعت (ماسة) ريقها بوجل ينتابها لأول مرة وهي تحاول الكلام هامسة بخفوت قلق
"روميساء هل انتِ حقا بخير ؟ انا....."
 
صمتت ما ان استدار جسدها نحوها مجددا وهي تتقدم امامها عدة خطوات سريعة بلمح البصر ، وقبل ان تعاود الكلام سبقتها التي امسكت بكتفيها وهي تدفعها للجلوس على طرف السرير قائلة بأمر
"اجلسي"
 
لكنها لم تنصاع لأمرها وهي تنتفض واقفة هامسة بعبوس غاضب
"لن اجلس قبل ان تجيبيني !....."
 
تأوهت بألم ما ان دفعتها بقوة اكبر للجلوس حتى كادت تكسر كتفيها وهي تهمس بخفوت خطير بعث الرهبة بأطرافها
"قلت لكِ اجلسي يا ماسة"
 
عضت على طرف شفتيها بحنق وهي تدير عينيها الزرقاوين بعيدا عنها هامسة بغيظ
"حسنا فهمت لا داعي لهذا الغضب الغير مبرر !"
 
استقامت بهدوء وهي تدور من حولها لتجلس بجانبها بلحظة قبل ان تزفر انفاسها براحة غريبة ، نظرت لها بتركيز لبرهة قبل ان تهمس بعد ان فقدت الأمل من كلامها بحالتها المريبة
"هل ستتكلمين عن سبب كل هذا ؟ وما لذي تريدين ان تكلميني عنه حتى احضرتني إلى هنا ؟"
 
زمت شفتيها بصمت وهي توجه نظراتها نحوها للحظات لتهمس بعدها بابتسامة هادئة بود
"كيف حالكِ يا ماسة ؟ وهل جرت عطلة زواجك على ما يرام ؟ اتمنى ألا تكوني قد افتعلتِ اي مشاكل جديدة هناك قد تعكر جو العطلة عليكما...."
 
قاطعتها بعبوس وهي تشيح بوجهها بعيدا عنها ببرود
"لا تقلقي كل شيء على ما يرام كما ترين ، وكما كان من المفروض ان يحدث ، وانا سعيدة جدا لعودتي اخيرا لحياتي الطبيعية"
 
عقدت حاجبيها بشك وهي تهمس بتفكير مستاء
"ولكن لما لا ارى تلك السعادة تطل من عينيكِ ؟ انتِ حتى لم تحاولي تكلف ولو ابتسامة صغيرة على وجهك تظهر سعادتك بزواجك ! اشعر بأنكِ قد عدت كما تركتك ولكن مع حزن وهدوء اكبر"
 
زفرت انفاسها بكبت وهي لا تصدق مدى مقدرتها على كشف كل خفاياها بنظرة واحدة لها وكأنها كتاب مفتوح امامها ! لتهمس بعدها من فورها ببهوت ساخر وهي تنظر امامها بلا حياة
"اعتذر لأنني لم اظهر لكم سعادتي على عيناي لتصدقوا بأني زوجة سعيدة ، ولكني سأحاول بالمرة القادمة تكلف بعض السعادة المزيفة امامكم....."
 
قاطعتها بصرامة وهي تعقد حاجبيها بغضب
"ماسة انا اتكلم معكِ بجدية ! لذا توقفي رجاءً عن سخريتك للحظة واجيبِ عن اسئلتي ، فأنا اريد الاطمئنان عليكِ وبأنكِ حقا سعيدة ولا تعانين من اي مشاكل ببداية مسيرة حياتكِ الزوجية !"
 
ردت عليها بغيظ وهي تلوح بذراعها بحدة
"ماذا تريدين ان تعرفي مثلا ؟ بأنني فتاة طبيعية واصلح للزواج مثل كل الفتيات بالعالم ، ام تريدين ان تعرفي بأنني لم ادفع زوجي للطلاق مني باليوم الثاني ! ام تريدين ان تتأكدي بأنني لم اقترف اي خطأ بأول ليلة بعد زواجنا ؟......"
 
صرخت فجأة التي احمر وجهها بغضب محتقن بهياج
"ماسة اخرسي"
 
زمت (ماسة) شفتيها بوجوم وهي تحيد بعينيها نحوها لوهلة بعد ان افقدتها اعصابها كما تفعل عادةً بنهاية كل شجار يحدث بينهما ، لتتنفس بعدها عدة مرات بقوة وهي تميل بجسدها قليلا لتسند كفيها فوق ركبتيها قبل ان تهمس بخفوت ساكن
"انا سعيدة بحياتي الحالية يا روميساء ، وليس هناك داعي لقلقك وخوفك الدائم عليّ ، فأنا بالنهاية فتاة ناضجة وواعية واعرف جيدا كيف عليّ ان اتصرف بحياتي الجديدة والتي دخلت لها بملك إرادتي الحرة ، لذا ارتاحي واطمئني"
 
نظرت لها بلحظة وهي تبتسم باتساع حتى وصلت لخضار عينيها الحنونتين ، لتربت بعدها على كتفها برفق وهي تهمس بخفوت رقيق
"حسنا يا ماسة ، المهم ان تكوني سعيدة بحياتك مع ابن خالك وزوجك والذي اصبح الآن كل شيء بحياتك ، وإذا تعرضتِ لأي مشاكل من اي نوع فأنا سأكون هنا بجوارك بدون ان اغادر مجال حياتك ، فقد خلقنا لنكون معا دائما ونتشارك نفس الحياة ونفس قرابة ازواجنا لآخر نفس بحياتنا"
 
حادت بنظراتها نحوها وهي تعض على طرف شفتيها لا شعوريا هامسة من بينهما بمرح
"طريقة رائعة من اجل استغلال مشاعري عاطفياً لأبوح لكِ عن كل ما تريدين الوصول له ، صحيح يا روميساء ؟"
 
ضحكت بخفوت وهي ترفع قبضتها لا إراديا لتستريح فوق صدرها النابض بسكون ، اعتدلت (ماسة) بجلوسها ببطء وهي تتابع كل انفعالات وتشنجات ملامح شقيقتها والتي انقلبت بلحظة لحالة من الاستقرار والهدوء ، همست بعدها بلحظات وهي تكتف ذراعيها بقوة
"هل ستخبرينني الآن عن سبب تغير تصرفاتك اليوم ؟ وما لذي حدث معكِ بفترة غيابي ؟"
 
اخفضت نظراتها وهي تهمس بشبه ابتسامة زاهية
"ماذا تقصدين ؟ ومن اي ناحية تغيرت ؟"
 
ضيقت حدقتيها الزرقاوين وهي تميل ناحيتها قليلا بتلك الطريقة الاتهامية والتي لا مجال للشك بها وهي تعري الشخص من خفاياه فقط بالنظر لها ، لتقول بعدها بنبرة واضحة بدون اي مواربة
"حقا يا روميساء ! لا يوجد شيء ؟"
 
زفرت انفاسها بابتسامة ناعمة وهي تتمتم بسعادة خفية وقبضتها تنزل تلقائيا لأعلى بطنها تحت قماش قميصها القطني
"الحقيقة يا ماسة ، هو بأنني قبل فترة ليست ببعيدة ادركت....."
 
بترت كلامها الاخير ما ان قالت الجالسة بجوارها وهي تتبع حركة كفها على بطنها بشك
"هل يعقل بأن تكوني حامل ؟"
 
زمت شفتيها لوهلة وهي تنظر لها عن قرب قبل ان تومأ برأسها بهدوء وحذر وهي تتمتم برفق
"اجل انا حامل منذ اسبوع وقد اكتشفت هذا قبل يومين"
 
ارتفع حاجبيها ببطء شديد وهي تحاول الهمس بخفوت مرتبك
"هل انتِ متأكدة ؟"
 
اومأت برأسها مجددا بقوة اكبر وهي تهمس بسعادة غامرة اجتاحت ملامحها بلحظة
"اجل متأكدة يا ماسة ولم ادع هناك مجال للشك ، انا حامل"
 
اتسعت عينيها الزرقاوين ببهوت ساكن وهي تتراجع قليلا للخلف بصمت ، لتضم بعدها قبضتيها معا بحجرها وهي تهمس بابتسامة صغيرة وببهجة بدأت تطفو على سطح ملامحها الجليدية
"هذا رائع مبروك ، لا اعلم ما اقول حقا ؟ ولكني لم اتوقع ان يحدث بهذه السرعة ! كنت قد ظننت بأن الأمر يحتاج لفترة اطول ! ولكن يبدو بأنني انا التي لم اعد اشعر بما يدور من حولي ؟"
 
ابتسمت بعطف متدفق بمحياها المتورد وهي ترفع يدها الاخرى لتمسح على رأس شقيقتها الصغرى هامسة لها بمحبة
"لا بأس يا صغيرتي فأنا افهمكِ جيدا ، كل ما اريده منكِ ان تعبري عن مشاعرك الداخلية بطريقتك الخاصة ، وان تريني فرحتك بوجود طفل ابن شقيقتك والذي سيغير حياتنا للأفضل لأعيش دور الأم من جديد ، أليس هذا رائعاً ؟"
 
رفعت وجهها ببطء وهي توجه نظراتها لكفها المستكينة فوق بطنها قبل ان تهمس بشفتين مرتجفتين بتردد
"هل انتِ سعيدة بوجوده ؟"
 
ارتفع حاجبيها بدهشة لحظية لتحين منها نظرة على مكان كفها وهي تتلمس بطنها بأصابعها بحنية لا شعورية ، لتقول بعدها بشرود وبحزن غيم على ملامحها الهادئة
"الحقيقة لقد كان الأمر مفاجئ بالنسبة لي وغير مخطط له ، وقد كنت ارفض تماما التفكير بهذا الأمر والسابق لأوانه ، ولكن ما ان حدث حتى اصابتني حالة ذهول وحزن غير مبرر وتقلب غريب بمشاعري بأول معرفتي بوجود طفل يقبع بداخلي ، وكل هذا بسبب تفكيري المتشائم بحياة الاطفال والبيئة والتي نشأنا منها ، فقد قطعت عهد على نفسي منذ سنوات ألا اسمح للمزيد من الاطفال بالعيش بهذه المعاناة الغير مجبرين على التأقلم معها مثلما حدث معنا تماما ، ولكن بما ان حالنا قد تغير الآن ولا نملك المقدرة على تغيير ذلك الماضي القاسي وكل ما نستطيع فعله هو تجميل حاضرنا وكتب مستقبل جديد ومشرق لنا ، لذا استطيع ان اقول لكِ الآن بأنني سعيدة جدا بوجوده بل اكاد اطير من الفرح عندما اتخيل طفل صغير سيكون جزء من عائلتنا وسنعوضه عن كل ما فاتنا بطفولتنا"
 
كانت تنظر لها بصمت مع ابتسامة حزينة علقت عند طرف شفتيها بتثاقل بدون ان ترتفع اكثر من هذا ، لتمسك بعدها بيدها المستريحة على بطنها وهي تهمس لها بسعادة متناقضة عن جمود ملامحها الجليدية
"إذا كنتِ انتِ سعيدة بوجوده بيننا فأنا ايضا سعيدة ، فأي شيء يفرحك ويسعدك هو يفرحني كذلك ، فقط اهتمي بنفسكِ اكثر من اجلي"
 
اومأت برأسها بابتسامة اتسعت بملامحها بجمال قبل ان تعانق كتفيها بذراعها وهي ما تزال تتلمس بأصابع يدها الاخرى مكان موضع الجنين ، لتهمس فوق رأسها بسعادة بالغة وهي تودي بها كل حنانها نحو اطفالها الصغار
"لا تقلقي يا عزيزتي سأكون بخير ما دامت عائلتي تحيطني من حولي لن يؤثر بي شيء ، وبخصوص مكانتك عندي فلن تتغير ابدا حتى بعد ان يأتي الطفل ، فأنتِ ما تزالين ابنتي الأولى وسبب شغفي بحب ورعاية الاطفال ، وهذا الأمر لن يتغير حتى لو اصبح لدي مئة طفل !"
 
زمت شفتيها بارتجاف لوهلة وهي ما تزال تضغط بيدها على كفها هامسة بخفوت
"ألم يعلم احد بموضوع حملك !"
 
ردت عليها باتزان بدون ان تفقد ابتسامتها
"لقد علم الجميع تقريبا ، لم يتبقى سوى شادي وسلوى"
 
همست بعدها بهدوء مفاجئ بجدية وبعد ان تغيرت نبرة صوتها
"عليكِ ان تكوني اكثر انتباها وحرصا من الآن وصاعدا فقد اصبحتِ تحملين بداخلك حفيد عائلة الفكهاني ، ولن يكون من السهل الحفاظ عليه بهذا المحيط الخطير والذي يهدد بتدميرنا"
 
عادت لتربت على رأسها ببساطة بدون ان تهتم بنبرة الخطر بصوتها وبجديتها بهذا الموضوع المهم ، وهي تهمس لها بنفس ابتسامتها الحنونة باطمئنان
"اخبرتكِ ألا تقلقي من شيء ، فقد اصبح الآن مسؤوليتي الاعتناء به وحمايته مثل جوهرة غالية سأحميها من الخدش او الكسر ، وهذا لن يكون صعب على طفلة تحملت الاعتناء برضيع وهي بعمر الخامسة !"
 
تنهدت بهدوء وهي تريح جانب رأسها على كتفها بكسل قبل ان تتمتم بمرح وبعد ان اختفت ملامح الجمود عن وجهها وتفاصيل حياتها
"حسنا إذاً بالتوفيق بمهمة حماية الجوهرة ، واتمنى لكِ النجاح واحضار الطفل بأمان وسلامة"
 
ابتسمت بسعادة وهي تريح جانب وجهها كذلك على رأسها بدون كلام آخر ويديهما متصلتان معا بتشابك فوق مكان موضع الجنين وبراحة تامة اجتاحت حياتهما فجأة بهالة من الرقة والجمال تاقتا إليها كثيرا .
 
____________________________
اجتمع افراد العائلة حول مائدة الفطور بثواني بجو من الهدوء والصمت ، رفع الجالس على رأس المائدة نظره باتجاه ابنه الثاني وهو يقول له بصوته الجهوري الصارم
"مرحبا بعودة العريس الغائب ، جيد بأنك قد تذكرت امتلاكك لعائلة تسأل عنها وتهتم لأمرها بعد زواجك !"
 
ابتسم (شادي) بتلك الطريقة الباردة والتي يتقنها امام والده وهو يقول بهدوء غير مبالي
"انت تعلم جيدا يا ابي بأني من المستحيل ان انسى معروف عائلتي عليّ والتي اوهبتني نعمة الحياة والانتماء بهذا المنزل ، فمهما حاولنا الابتعاد والهروب عن حقيقتنا ونسبنا فسوف نضطر بالنهاية للعودة لنفس مكان نشأتنا لأن الدماء هي التي تحكم تقاربنا ! وهذا الأمر ليس بمقدور احد تغييره"
 
تصلبت ملامحه اكثر وهو يضيق عينيه الحادتين قائلا بخشونة صارمة وبعد ان نفذ صبره منه
"هل تحاول السخرية مني يا ولد ؟"
 
حرك رأسه بالنفي وهو يهمس من فوره ببساطة
"ما هذا الكلام يا ابي ! انا فقط كنت اوضح وجهة نظري والسبب والذي يدفعني للعودة للمنزل بكل مرة ، فأنا احب كثيرا هذا المنزل ورائحة الذكريات الساكنة بداخله واريد العيش به مع زوجتي طيلة حياتنا القادمة ، واتمنى ألا يكون لديك مانع بهذا ؟"
 
عقد حاجبيه بقوة زادت من حدة عينيه الرماديتين وهو يقول باتزان متجاهلا كلامه الاخير
"كيف سارت امور عطلتك بالفندق ؟"
 
ادار عينيه للأمام وهو يقول بعملية بدون اي اهتمام حقيقي
"لقد كانت عطلة من افضل ما يكون ، ولكن شكرا لك على الاهتمام"
 
ارتفع حاجبيه بتجهم وهو يقول بحيرة متصلبة
"ولماذا لا ارى زوجتك الصغيرة برفقتك ؟ هل يعقل بأن تكون قد هربت منك بعد الزواج ؟"
 
ما ان ادار وجهه ناحيته وبعد ان تخلى عن ابتسامته الباردة حتى سمع صوت وقع اقدام قريب منه للفتاتين الغائبتين وآخر من تبقى من العائلة ، ليتبعها بعدها بلحظة صوت الكبرى وهي تقول بإحراج خافت
"نحن نعتذر عن التأخر"
 
حرك (محراب) رأسه باتجاههما لبرهة وهو يقول بجمود بنبرة صوته الجهورية
"لا بأس يمكنكما الدخول"
 
تحركت (روميساء) بسرعة التي اتخذت مقعدا قريبا بجوار زوجها ، وما ان سارت الساكنة بمكانها عدة خطوات حتى اوقفها الصوت الجهوري وهو يقول بخشونة اخفت
"كيف حالكِ يا زوجة شادي ؟ وكيف جرت امور العطلة معكِ ؟"
 
تصلبت قليلا بمكانها بدون اي حركة ما ان اكتشفت بأن السؤال موجه لها تحديدا بأول مبادرة منه لم تحدث معها من قبل ، حتى بيوم زفافها وحضوره ليأخذ مكان ولي امرها الذي يسلم ابنته لزوجها وشريك حياتها لم تسمع منه اي كلمة او بادرة منطوقة وهو يتصرف معها مثل الجبل الجليدي المجرد من المشاعر والمرغم على فعل كل هذا ! فما لذي دفعه الآن ليسأل عنها ويستفسر عن احوالها ؟
 
قبضت على يديها بقوة وهي تهمس باختصار بدون اي شعور
"بخير"
 
اكملت سيرها من فورها بثبات قبل ان تجلس بجانب الذي كان ينظر لها بصمت وبابتسامة كسولة كانت تعلو طرف شفتيه ببرود ، ليقول بعدها بمرح الفرد الصغير الصامت والغير مرئي تقريبا
"عودة سعيدة ، لقد اشتقنا لكما كثيرا ، يبدو بأنه لم يبقى غيري بهذه العائلة لم يجرب الزواج بعد !"
 
ساد جو من الصمت الثقيل مع شحنة مشاعر متنافرة بدون ان تتخلل بهجة الصغير بينهم ، ليقطع الصمت بلحظات التي قالت بابتسامة ساخرة بنبرتها الصخرية
"الافضل ألا تحاول تجربة شيء لا تعرفه ، فقد تخدعك المظاهر وتقع بفخ سوء الاختيار عندما يكون قد فات الآوان على الندم !"
 
انتقلت الانظار نحوها بلحظة بين صدمة واستنكار بدوامة من الصمت المهلك ، ليسرع بالكلام الذي تدارك الموقف وهو يقول بابتسامة مقتضبة بانفعال هادر على وشك التحرر بداخله
"زوجتي تجيد اطلاق الحكم ، ولكنها احيانا تخطئ بالتعبير عن المعنى المنشود وتتداخل معها الكلمات لتعرض نفسها لإحراج الموقف ، وهي ما تقصده بأن لكل تجربة وقت محدد وعلينا ألا نسرع باتخاذ القرار"
 
ابتسمت الوجوه بدون اي كلام ليعود كل منهم لتناول الطعام من طبقه بصمت وكأن شيء لم يكن ، تجهمت ملامحه لوهلة ما ان سمع نبرتها الباردة وهي تهمس بوجوم
"ما لذي كنت تهذي به الآن ؟"
 
ضغط على شفتيه بأسنانه بتصلب وهو يهمس من بينهما بصوت حاد مكتوم
"اصمتِ يا ماسة فنحن الآن لسنا لوحدنا لتبدأي بكلامك الطائش وما يطلقه لسانك الاحمق ، ألا تستطيعين تعلم كبح جماحه قليلا !"
 
نظرت للطبق امامها بسكون وهي تمسك بالملعقة هامسة ببرود متعمد
"اعتذر ولكني لم اتعلم بحياتي كيف استطيع كبح جماحه ؟ فهي غير موجودة بمناهج التعلم لأستطيع دراستها !"
 
حاد بنظراته نحوها بهدوء وهو يزفر انفاسه بيأس من هذا الجدال العقيم ، ليقول بعدها من بين اسنانه باستياء
"حقا لا طائل من الجدال معكِ ! فكل من يحاول الكلام معكِ عليه ان يتحول لمجنون رسمي"
 
حانت منها التفاتة نحوه وهي تهمس بامتعاض خافت
"عن ماذا كنت تتكلم ؟"
 
ارتفع حاجبيه بخفة وهو يهمس ببرود ليغير مسار الموضوع
"صحيح عن ماذا تحدثتما انتِ وشقيقتك حتى اخذتما كل هذا الوقت ؟"
 
عقدت حاجبيها بجمود وهي تشيح بوجهها جانبا قائلة بلا مبالاة
"امور لا علاقة لك بها"
 
ارتفع حاجبيه بدهشة مصطنعة وهو يدير عينيه للأمام ببرود فقد كان يتوقع مثل هذا الجواب منها ! وبعد عدة لحظات خرج صوت التي دخلت لقاعة الطعام بكعبي حذائيها العاليين والذي لفت الانظار نحوها بثواني ، قبل ان تهمس بعدها بخفوت هادئ وهي تقف امامهم بتعالي واضح
"اعتذر على مقاطعة مائدة الفطور عليكم ، ولكن الآن كانت عودتي من منزل عائلتي"
 
قال (محراب) من فوره وهو ينظر لها بتركيز حاد
"ماذا هناك ؟ لقد اطلتِ كثيرا هذه المرة بمدة الإقامة عند عائلتك على غير العادة ! اتمنى ان تكون كل اموركِ بخير"
 
ابتسمت بهدوء وهي تحرك يدها هامسة بدلال مغري
"كل شيء بخير يا عمي ، فقط اشتقت لعائلتي كثيرا بسبب عدم زيارتي لهم منذ مدة طويلة ، لذا احببت السكن عندهم ولم اشعر بالأيام وهي تمر بسرعة ، ولكن شكرا لك على اهتمامك بأمري وشعورك بغيابي ، واعتذر مجددا على اثارة قلقكم"
 
اومأ برأسه بتفهم وهو يدير وجهه للأمام قائلا باتزان
"حسنا لا بأس ، يمكنكِ مشاركة مائدة الفطور معنا بما انكِ قد وصلتِ الآن ، وسأطلب من الخدم تحضير اطباق جديدة لكِ"
 
اومأت برأسها بهدوء وهي تهمس بابتسامة متسعة بنعومة
"شكرا لك يا عمي ، وسعيدة بعودتي للمنزل"
 
كان الجميع ينظر لها بصمت بدون اي تعليق او تدخل وهي تنظر لهم بعدم مبالاة وبإيباء متعالي قبل ان تصل بنظراتها لزوجها الجالس بصمت بدون اي ترحيب او رد فعل على عودتها ، ويبدو بأن وجودها وعدمه لم يؤثر به ما دامت زوجته الحقيقية بجانبه الآن وبحياته ! اهتزت ابتسامتها بوجوم سقط معها كل غرورها الواثق وهي تنظر لزوجته الجميلة والتي تبدو متألقة عن السابق واكثر من اي مرة ، بينما هي ملقاة بالزاوية وبعيدا بمنزل عائلتها تبكي وترثي مستقبلها وحاضرها والذي سرق منها بدون إرادة وبدون قدرة على اعادته كما كان ، وقد بدأت تشك الآن بوضع موقعها بحياتهم لهذه اللحظة ؟
 
جلست بالنهاية بعيدا عنهم وبجمود صامت وبابتسامة مغتصبة بتعالي سحق بكرامة مهدورة ، انتقلت العيون بسرعة باتجاه الذي نهض عن مقعده وهو يقول بابتسامة متسعة تحمل التفاؤل والسعادة معا
"حسنا بما ان العائلة قد اجتمعت الآن ، اريد ان افصح لكم عن خبر مهم يخص حياتي الشخصية وحياة جميع افراد عائلتنا ، وهذا اكيد بشارة خير ستغير مسار حياة العائلة للأفضل وستدر علينا بالسعادة والبهجة"
 
صمت الجميع بتأهب ليتابع كلامه بعد لحظة صمت وهو يشيح بنظراته لزوجته بجواره والتي كانت تقابله بنفس النظرات المليئة بالمحبة والسعادة
"بالحقيقة نصف العائلة قد عرفت بالخبر ولكني سأقولها امامكم مرة اخرى ، انا وروميساء سيصبح لدينا طفل صغير بالقريب العاجل ، لأن زوجتي تحمل طفلنا الأول وحفيد عائلة الفكهاني ، وهذا يعني بأن العائلة سترزق اخيرا بطفل بعد كل هذه السنوات ، لذا ارجو منكم ان تهتموا جيدا بطفلي فهو الآن قد اصبح اغلى ما املك وثمرة حياتي"
 
اخفضت (روميساء) نظراتها بحياء وهي تزيد من ضم قبضتيها معا بقوة وبإحراج استبد بها ، ليكون اول من يبادر الذي وقف عن الكرسي بقوة وهو يقول بابتسامة مندهشة بسعادة حقيقية وقبضته تضرب على صدره بقوة
"لما لم تخبرني بهذا يا رجل ؟ كيف تتركني غافلا عن سماع مثل هذا الخبر ! هكذا تكون الاخبار السعيدة"
 
ومن بين كلامه كان يدور حول المائدة بلمح البصر ليتقابل مع شقيقه بلحظات قبل ان يعانقه بقوة كاسرة بعناق يظهر مدى المحبة والسعادة الخالصة والتي تربط بينهما ، ليقول بعدها وهو يضرب بقبضته على ظهره بقوة اكبر وبصدق خالص
"مبروك يا شقيقي الغالي وصديقي العزيز ، انت تستحق كل سعادة العالم واكثر ، واتمنى ان يصل طفلك بكامل صحته وعافيته وتفرح به دائما ويكون خير السند والنعمة ، ولكن لا تنسى ما ان يصل سأكون انا اول من يحمله بين ذراعيّ فهو ابن شقيقي واول حفيد للعائلة ، واخيرا ستنير هذه العائلة الكئيبة بطفل صغير سيجلب كل انواع السعادة والبهجة والتفاؤل لها"
 
ضحك (احمد) بقوة رجولية بدون ان يمنع نفسه اكثر وهو يشدد من معانقته قائلا ببشاشة وبراحة وكأنه قد وصل لبر الأمان اخيرا بعد كل ذلك التشتت بمشاعره
"شكرا لك يا شادي ، واتمنى ايضا السعادة لك وان ترزق ايضا بالأطفال والكثير من الصبيان والبنين حتى يمتلئ هذا المنزل بأكمله ولا يستطيع ان يتسع لكلينا !"
 
ردّ عليه بقوة وبصوت اجش عميق
"اعدك يا احمد ، وإياك وان تتراجع عن هذا الكلام مستقبلا"
 
كان زوجين من العيون الدامعة تشاهد المشهد الاخوي والذي تجسد امامهما بكل مشاعر المحبة والصدق ، ومنهما العينين الخضراوين التي كانت تدعو من كل قلبها ان يتم سعادتهم ويصل طفلها بسلامة وامان ليحظى بالحب بين عائلة ترغب به وتحبه ، والاخرى البعيدة عنهما والتي كانت تدمع بعينيها البحريتين بدون شعور من مشاعر صدق تستشعر هالتها الدافئة وهي تكتشف صفة جديدة بزوجها والذي يستطيع اظهار مشاعره بمصداقية وببساطة كبيرة بعكسها تماما ، حادت بنظراتها تلقائياً وهي تلمح التي غادرت قاعة الطعام بصمت تام وبدون ان يلاحظ احد انسحابها المريب ، لتتنفس بعدها بهدوء وهي تمسح عينيها الدامعة بقوة وبإصرار بعدم السماح لأي شكل من اشكال الخطر بالاقتراب من سعادة شقيقتها الوليدة والتي اوشكت على الانطلاق بسماء عالمها وبشاطئ احلامها الوسيعة .
______________________________
تنهدت بهدوء وهي تتهادى بخطواتها البطيئة عند سياج الحديقة الخلفية بالصباح الباكر ، وهي تدس كفيها بجيبي قميصها الرياضي وهواء الشتاء مع دفء اشعة الشمس الصباحية تعطيها طاقة غريبة تخللت بخمول جسدها الضعيف وبسكينة بروحها التائهة عن منبرها ، وهو اجمل وقت قد تفضل به ان تقضيه مع نفسها والاستمتاع بلحظات خلوتها الهادئة والتي تستطيع بها ان تصفي ذهنها بعيدا عن ضغوطات الحياة والتي اهلكت مقدرتها على الاستمرار بخوض المزيد منها .
 
وقفت للحظات وهي ترفع رأسها ببطء باتجاه اشعة الشمس الصافية بهذا الوقت المبكر والذي تكون به معتدلة بدون اي رياح عاتية او موجات من حرارة مرتفعة ، لتبتسم بعدها بإشراق باهت لوجه الشمس وكأنها ترحب بها وتستقبل نور اشعتها الدافئة بسعادة كبيرة غمرت قلبها الصغير بالتفاؤل وبأمل جديد انزرع بمنتصف روحها الساكنة ، تغضن جبينها فجأة وهي تضيق عينيها بهالة مزعجة عادت لتجتاح عالمها الصافي بصوت اقدام الاطفال من حولها وهي تشكل حلقة تقترب من مجالها تدريجيا ، وصوت الضحكات تملئ المكان المتواجدة به مترافق مع صراخهم وحماسهم الذي يزداد من محور حياتها رويدا رويدا بدون طريق للخروج منه
"هيا يا غزل اركضي ، اركضي قبل ان تمسك بكِ"
 
ارتجفت ابتسامتها كما ملامحها التي شحبت بذبول ما ان عادت للذكرى والتي توقف بها كل شيء جميل بحياتها ، وهي تحاول الجري بقدميها الصغيرتين بكل سرعة بدون ان تستطيع مجاراة سرعتهم حتى انتهى بها الطريق ما ان تعثرت لتقع ارضا بقوة بدون اي حراك او شعور سوى بنبضات قلبها والتي اصبحت تقرع بأذنيها بطنين مزعج ، وبعض الاصوات عادت لتخترق غمامتها بتداخل غريب وبعد ان اختفى صوت الفرح ليحل مكانه الحزن
"لقد وقعت غزل ارضا ، علينا اخبار المعلمة ، لما لا تتحرك ؟ هل هي بخير ؟ هل هي تتنفس ؟ هل هي على قيد الحياة ؟"
 
اخفضت وجهها بقوة بعيدا عن اشعة الشمس وهي تحك جبينها بارتجاف احتل مفاصلها لوهلة وبعد ان طغى على مفعول سعادتها بنور الشمس والتي حرقت قلبها بذكريات بعيدة ، زفرت انفاسها ببطء وهي تعود لتدس كفيها بجيبي قميصها بهدوء ظاهري ، لتتابع بعدها خطواتها بلحظة بجانب السياج حول الحديقة وهي تنظر لمسارها بدون اي هدف ، رفعت يدها للسياج لا إراديا وهي تتلمس بأصابعها على سطح خشبه البارد بهدوء وكأنها ترسم معزوفة خاصة بها وبخط طريق حياتها المستقيم .
 
تجمدت بمكانها لوهلة وهي تستمع لصوت خطوات منتظمة بطريق مسارها تقترب من مجالها تدريجيا ، لتتنفس بعدها بارتجاف احتل كيانها بلحظة وهي تفكر بهوية الشخص الذي سيحاول تتبع خطواتها الآن بهذا الوقت المبكر من الصباح ؟
 
زمت شفتيها بتوجس ما ان توقفت الخطوات عن الاقتراب منها نهائيا ، لترفع قبضتها لصدرها تلقائيا وهي تدعو بداخلها بذعر ان يكذب ظنها ولا يكون من تفكر به ! زفرت انفاسها بثواني وهي تستدير ببطء للخلف وبشك بدأ يزداد بقلبها حتى تحول لليقين ، لتتسمر بعدها بمكانها بذهول وهي تخفض قبضتها بسكون ما ان وقعت عينيها المتسعتين على من كانت تفكر به من لحظة وعلمت بوجوده وكأنه هاجس اصبح يلاحقها منه !
 
امتعضت ملامحها بلحظة ما ان تأكدت من وجوده وبأنه ليس وهم من خيالها ، لتقول من فورها بوجوم وهي تشتت نظراتها بعيدا عنه
"ما لذي تفعله هنا ؟"
 
ارتفع حاجبيّ (هشام) وهو يقول بابتسامة متزنة بدون ان يتأثر بنبرة صوتها الساخطة وطريقتها بتفادي النظر له
"هذا ليس اسلوب لطيف بالتكلم مع استاذك والذي يجدر بكِ ان تكنّي له الاحترام والوقار !"
 
عقدت حاجبيها باستهجان لوهلة وهي تهمس بخفوت محتد
"من قال بأنك ما تزال استاذي ؟ انت الآن مجرد شخص غريب عني لا يربطني به اي صلة ، وبالمقابل لست مضطرة لأكن لك اي احترام او ان اتعامل معك بلباقة ، سمعت يا هشام ؟"
 
اتسعت ابتسامته بقوة وهو يمرر نظرات سريعة عليها هامسا بصوت اجش ساحر
"إذا كان ترك مهمة تعليمك ستدفعك لنطق اسمي مجردا ! فأنا موافق على هذا"
 
فغرت شفتيها بارتعاش وهي تخفض نظراتها بتخبط استبد بها قبل ان تهمس بإحراج
"ما لذي تتكلم عنه ؟ انا اتكلم معك بجدية ! لما لا تأخذ كلامي على محمل الجد ؟"
 
عض على طرف ابتسامته بتمهل وهي ينظر لها مثل طفلة متذمرة تحاول مجاراة حركات الكبار بدون ان تفلح بذلك الدور ، ليتنفس بعدها بهدوء للحظات قبل ان يقول بجمود
"سأتكلم معكِ بجدية عندما تتوقفي عن هذا الاسلوب الوقح بالتكلم مع استاذك ، عندها قد اعرف كيف اتعامل معكِ وما لذي يناسب طفلة مشاغبة مثلك !"
 
رفعت عينين متسعتين بوجوم وهو ما يزال يسخر منها كعادته بعد كل ما فعله معها سابقا ! وبدون ان يشعر بأي ذرة تأنيب ضمير ؟
 
اخفضت نظراتها بعيدا عنه وهي تهمس باستياء
"كيف عرفت انني هنا ؟ ومن اعطاك الإذن بدخول حديقة منزلي ؟"
 
ردّ من فوره بابتسامة هادئة
"الخادمة اخبرتني بذلك ، ولم اشأ ان اضيع مثل هذه الفرصة"
 
عضت على طرف شفتيها وهي تهمس بسخط
"امي"
 
رفعت عينين مشدوهتين ما ان قال الذي تابع كلامه بابتسامة جانبية بتفكير
"ولكني ارى بأن فكرتكِ هذه رائعة ولم تخطر على بالي من قبل ! تغيير بيئة التدريس من جو الغرفة والتي تبعث على الملل لتجربة التدريس بالخارج وبهذا الطقس الجميل والذي يبعث على النشاط والتفاؤل ، والافضل من هذا بأنه لن يؤثر على صحة قلبك بل على العكس سيكون تنشيط افضل له"
 
ارتفع حاجبيها بصدمة قبل ان تعبس بلحظة وهي تهمس بحدة اكبر لا تناسب نبرة صوتها الرقيقة
"توقف عن هذا الكلام ، لقد اخبرتك بأني لا اريدك ان تكون استاذي بعد الآن ، ما هو الغير مفهوم بكلامي ؟"
 
حرك رأسه بهدوء وكأنه لم يسمعها وهو يقول بابتسامة واثقة بدون اي تأثر
"اعتذر ولكني لم افهم اي كلمة مما نطقتِ به الآن ! بل ما اعرفه بأنكِ كنتِ متعبة ومريضة لذا لم تستطيعي الحضور عند زيارتي بالأمس"
 
عبست ملامحها بضيق حتى كادت تنفجر من غيظها مما يجري من حولها ومن تصرفات والدتها الغير معقولة والتي تجاوزت الحدود ! لتحاول بعدها التنفس بهدوء وهي تنظر له بإيباء قائلة بابتسامة جادة وبكل عزم حاولت التحلي به
"حسنا بما انك مصر على كلامك ولا تريد استيعاب شيء ، سأخبرها لك بطريقة اخرى مباشرة ومفهومة ، انا لم اعد احتاج لخدماتك بعد الآن يعني لقد طردتك من هذه الوظيفة ، ولا اريدك ان تشرف على مساقات دراستي لأني لم اعد اريدك ان تأخذ هذا الدور بحياتي ، هل فهمت الآن ام اعيد مجددا ؟"
 
كان يراقبها بهدوء وبصمت تام بدون اي انفعال يعلو ملامحه ، ليقول بعدها بنبرة غريبة وبابتسامة واثقة بقوة
"لا تستطيعين لأن الخيار ليس بيدك ، وهذا الذي تفعلينه مجرد هدر للوقت القيم بأمر محتوم المصير !"
 
انفرجت شفتيها مع اتساع حدقتيها العسليتين بآن واحد بدهشة دامت بينهما لدقائق ، لتتمالك بعدها نفسها بسرعة وهي تلوح بذراعها بعنف هامسة باستنكار غاضب
"لا تستطيع فعل شيء ، فأنا التي اقرر مصير دراستي هنا وليس انت !"
 
ردّ عليها بسرعة بثقة اكبر
"بل استطيع"
 
تجهمت ملامحها اكثر وهي تهمس بعصبية حانقة
"لا تستطيع"
 
زادت ابتسامته اتساعا وهو يهمس بمرح متسلي
"بل استطيع"
 
زمت شفتيها بضيق وهي لا تستطيع الاستمرار بهذه المنافسة والتي استنزفت منها كل طاقتها مع كرامتها المهدورة مسبقا ، بينما لانت ملامح الواقف امامها وهو يشعر بأنه قد تجاوز الحد بالفعل معها واكتفى من لعبة المراوغة هذه وبعد ان تسلى بمتعته الخاصة والتي اشتاق لها كثيرا مع هذه الطفلة المشاغبة ، ليتقدم بعدها امامها عدة خطوات وهو يقول بجدية هادئة بعد ان توقف عن لعبة الهزل اخيرا
"اسمعي يا غزل انا......"
 
تصلب بمكانه فجأة ما ان تراجعت للخلف تلقائيا بارتعاش صدمه بشدة ، وما ان رفع نظراته نحوها بهدوء حتى تحركت بسرعة بعيدا عنه وهي تحاول تجاوزه بصمت ، لتتوقف بآخر لحظة ما ان امسك بذراعها برفق بدون مقدمات شلتها عن الحركة تماما بارتجاف سرى على طول ذراعها بلحظة خاطفة .
 
حادت بنظراتها نحوه بارتباك ما ان افلت ذراعها بلمح البصر وكأن تيار كهربائي صعقه للتو ، ليتغضن جبينها بوجوم وهي تستمع لصوته ما ان عاد لثباته المعهود
"اسمعي اريد التكلم معكِ بشأن ما حدث بذلك اليوم....."
 
قاطعته لا شعوريا بابتسامة باهتة
"لا بأس ، ليس بالأمر الجلل الذي يحتاج للاهتمام....."
 
قصف صوته بقوة وهو يستدير نحوها بكلتيه قائلا بجدية صارمة
"لا تقاطعي كلام استاذك عندما يتكلم يا غزل"
 
اشاحت بوجهها بعيدا عنه بعدم اهتمام ، ليتابع كلامه بهدوء وبابتسامة متزنة بقوة
"ما حدث بذلك اليوم لم يكن خطأك ، لقد تماديت كثيرا بكلامي وقلت امور لم يكن عليّ قولها ، ولكن رؤيتك مع ذلك الرجل الغريب عنكِ دفعني لأفكر بأنكِ من ذلك النوع من الفتيات واللواتي يقيمون علاقات مع شبان بمسمى الصداقة ، فقد رأيت من هذه العينات الكثير بمسيرة عملي بالجامعة ، وايضا بحياتي الشخصية كذلك ، لذا اعتذر عما بدر مني !"
 
ادارت وجهها نحوه ببطء وهي تتابع كل كلمة نطق بها بانتباه مشدوه صدمها بشدة وكأن شخص آخر من يتكلم امامها الآن وليس استاذها الصارم الذي يهوى السخرية منها ولا يعترف بأخطائه ! وكل هذا لا شيء امام اعتذاره الاخير والذي يخرج منه لأول مرة وبندم واضح .
 
عضت على طرف شفتيها بارتعاش ما ان نظر لها بقوة لتقول من فورها بابتسامة حاولت ان تجعلها غاضبة
"حسنا لا بأس ، ولكن لم تخبرني هل وصلت الهدية لحبيبتك المجهولة ؟"
 
ارتفع حاجبيه بتركيز وهو يرفع معه رأسه قائلا بتفكير
"هدية ! لا اتذكر اي شيء عن الهدية ؟"
 
عبست بغضب وهي تهمس من فورها بثورة
"انا اقصد ذلك العقد والذي اخترته هدية من اجل فتاة ، وكنت تريد اخذ رأيي به"
 
اخفض وجهه بلحظة وهو يقول بحاجبين مرتفعين بسخرية
"اجل تلك الهدية ، وما دخلك انتِ ؟"
 
تبرمت شفتيها وهي تكتف ذراعيها هامسة بغرور مزيف
"لأنني انا من اخترت العقد ، واريد ان اتأكد بأنه قد وصل لصاحبه وحضي على إعجابه"
 
دس يديه بجيبي بنطاله وهو يميل بجسده امامها قليلا جمدها بمكانها قبل ان يتمتم بابتسامة بمغزى
"اجل لقد اعجبها كثيرا وطارت من الفرح عندما اعطيتها إياه وكأنها لم ترى هدايا من قبل"
 
عقدت حاجبيها بقوة وهي تتراجع قليلا للخلف هامسة بخفوت حاد
"هذا جيد لقد ارحتني حقا"
 
استقام بمكانه لوهلة وهو يعود للكلام بجدية متزنة
"إذاً هل ما تزالين غاضبة مني بسبب ما حدث ؟ ام عليّ ان اعيد شرح الوضع مجددا !"
 
رفعت عينيها بارتباك وهي تلوح بيدها هامسة ببرود
"لا لا داعي لذلك ، كل شيء بخير"
 
تنفس براحة بعد ان انتهى من هذه المهمة العصيبة والتي اخذت تفكيره لأيام ، ليقول بعدها بعملية جادة وهو يعقد حاجبيه بقوة
"حسنا هل نستطيع الآن متابعة المحاضرة والتي توقفنا عليها ؟ ام ستستغلين الفرصة لتأخذيها إجازة من الدراسة !"
 
تنفست بارتجاف وهي تضم قبضتيها معا هامسة بابتسامة صغيرة برجاء
"هل نستطيع استئناف اليوم من المحاضرات ؟ ارجوك واعدك ان نعوضها بالأيام القادمة"
 
ابتسم بهدوء وهو يستمتع بنبرة صوتها الحزينة والتي عادت لطريقتها السابقة ، ليحرك رأسه بيأس منها وهو يقول بابتسامة جانبية
"حسنا لا بأس ، لن نأخذ هذه المرة محاضرة ، ولكن إياكِ وان تتمادي اكثر بطلباتك فأنا لن اتساهل معكِ بالمرات القادمة"
 
اومأت برأسها بطاعة وهي تهمس بابتسامة مشرقة
"شكرا لك يا هشام"
 
ابتسم بهدوء وهو يعود لسماع اسمه مجردا منها ويبدو بأن لسانها الصغير قد اعتاد على نطقه مجردا وليس من السهل ان ينزعه عنها ، ليستدير بعدها للجهة الاخرى وهو يقول بهدوء
"حسنا وداعا الآن يا مشاغبة ، ولنا لقاء آخر غدا ، لا تنسي"
 
ليتابع بعدها طريقه بعيدا وهو ما يزال يبتسم بقوة بدون ان يمنع نفسه وبعد ان كسب اسمه منها والذي سيكون ضمن اشياء كثيرة سيكسبها منها مستقبلا حتى يربح بها كاملة بالنهاية وكما يتمنى .
______________________________
دخل للمنزل مباشرة بدون مقدمات وهو يصطدم بالخادمة التي اطلت عليه وهي تتراجع للخلف بذعر من هيئته الهمجية الشرسة ، ليقطب جبينه بلحظة وهو يقول بفظاظة شرسة
"من انتِ ؟"
 
انتفضت الخادمة الكبيرة التي تبدو بعمر الخمسين واكثر وهي تهمس بارتجاف
"انا الخادمة الجديدة والتي توظفت من جهة الآنسة صفاء ، من اجل ان اهتم بأمور الطبخ والتنظيف بالمنزل و....."
 
قاطعها الذي صرخ بنفاذ صبر وهو ينظر لها بقتامة
"اخرسي كفى ، اين هو ابي الآن ؟"
 
اجابت بسرعة بطاعة تامة
"السيد جلال موجود بغرفته الآن"
 
حرك عينيه العسليتين بعيدا عنها بهدوء قبل ان يتجاوزها بلمح البصر باتجاه السلالم بدون اي كلمة اخرى ، ليترك من خلفه التي كانت تتنفس الصعداء وهي تهمس بتفكير واجم
"يبدو بأن هذا هو ابنه الكبير مازن ! ولكن لما يبدو بهذه الحالة المخيفة وكأنه خارج من حرب ثيران ؟"
 
وصل (مازن) لغرفة والده بلحظات ليفتح الباب من فوره بقوة بدون استئذان وهو ما يزال يتنفس بتعب ثائر ، ارتفع رأس الجالس على الكرسي بجانب نافذة الغرفة بهدوء قبل ان تتسع عينيه المجهدتين بصدمة بجفنيه النصف مغلقتين وهو ينظر لابنه الكبير والغائب عن العالم والذي لم يراه منذ شهرين تقريبا حتى فقد الأمل من عودته .
 
ابتسم بتغضن زوايا شفتيه بهدوء وهو يقول بسعادة غريبة بدون اي تعبير
"واخيرا عدت للمنزل يا مازن ! وتذكرت بأن هناك رجل كبير بالسن ينتظر عودتك بفارغ الصبر وهو يودع لحظاته الاخيرة بالحياة بمفرده بدون ان يسأل عنه احد"
 
عقد حاجبيه بحدة وهو يتقدم عدة خطوات بعيدا عن إطار الباب ، قبل ان يقف قريبا منه وهو يهمس بعد عدة انفاس بوجوم عابس
"اريد التكلم معك بموضوع هام ، ولن اغادر قبل ان احصل على جميع إجاباتي"
 
ادار وجهه بعيدا عنه بصمت مريب وهو يهمس بخفوت ساخر بحشرجة صوته المتعبة
"لقد كنت غائب كل هذه المدة بدون ان تترك اي خبر عنك ؟ والآن تعود للمنزل فجأة بدون اي ترحيب لكي تطرح عليّ بعض من اسئلتك بكل وقاحة وانت تتوقع مني ان اتعامل مع الموقف ببساطة واجيبك على ما تريد سؤاله !"
 
تجهمت ملامحه بقوة وهو يقبض على يديه بلحظة قبل ان يقول من بين اسنانه باستياء غاضب
"اعتذر ولكني احتاج بشدة لمعرفة كل ما حدث بغيابي وما يجري الآن ، فليس عدلا ان يحصل كل هذا وانا آخر من يعلم !"
 
غيم الصمت من حولهما لدقائق طويلة لا يقطعها سوى تنفس هياج الواقف بالقرب منه ، ليصلب بعدها جسده بقوة وهو يهمس بخشونة هادئة بدون ان يسيطر على الهياج بصوته
"كيف تزوجت صفاء من ابن مصعب ؟ وكيف سمحت بحدوث هذا !"
 
سكنت الاجواء من حوله لثواني قبل ان يتكلم الجالس بالكرسي بدون ان يحرك نظره بعيدا عن النافذة
"وما دخلك انت بموضوع زواجها ؟ بعد ان غبت كل هذه الأيام بدون ان يظهر لك اثر ! تأتي الآن وتتبجح امامي بالسؤال عنها ؟"
 
ردّ عليه من فوره وهو يلوح بذراعه بغضب
"لأنها ما تزال شقيقتي وامرها يهمني"
 
ادار وجهه ناحيته فجأة بجمود وهو يتكلم معه لأول مرة بنبرة غاضبة ببؤس
"كاذب ؟ لو انك تهتم لأمرها كما تقول لما تسببت بكل هذه المشاكل بحياتنا والتي ما نزال نعاني منها للآن وبنتائجها ! لو انك حقا تفكر بسمعة وشرف شقيقتك لما جربت اللعب تلك اللعبة الخطيرة مع فتاة غريبة لا يربطك بها شيء ؟ الحياة دوارة من اخذت منه شيء سيعود عليك ويأخذه منك بنفس الطريقة ذاتها !"
 
كان ينظر له باتساع مهتز وهو يزيد من الضغط على اسنانه حتى كاد يحطم فكه ليهمس بعدها بدفاع
"غير صحيح انا لم ألعب بشرف احد ، انا حتى لم ألمسها ولم اقربها بسوء....."
 
قاطعه بصوت نافذ وهو يقول بهدوء ظاهري
"ولكنك خضت معها لعبة الحب وعلقتها بك بتلك الطريقة الشائنة حتى اصبح حبها قيد بعنقك وذنب لن يتركك ليوم الحساب !"
 
صرخ وهو ينفض ذراعيه للأسفل بهياج
"توقف يا ابي عن توسيع دائرة اتهامي وكأنني تقصدت حدوث كل هذا ، لقد كان خطأهم هم ولم يكن ذنبي انا"
 
ضرب على ذراع الكرسي بقبضته بقوة وهو يقول بصرامة هادئة تصلبت معها ملامحه المتغضنة
"لا تحاول ألقاء اللوم على الآخرين يا مازن ، فأنت المتهم الوحيد بالجريمة كاملة ومن قتلها بسلاحه"
 
ردّ بسرعة وهو يقول باستنكار مهتز
"لقد كان مجرد خطأ ، مجرد خطأ ، لم اكن اتقصد قتلها بتلك الرصاصة ، بل كنت احاول انقاذها من بين براثنهم ، ولكني فشلت ولم افلح"
 
حرك رأسه بهدوء وهو يعود بنظره للنافذة بسكون تام قبل ان يهمس بشرود
"غير مهم فقد حدث ما حدث وانتهى كل شيء ، وانت استطعت النجاة من هذه الجريمة والتي كانت على وشك سجنك خلف القضبان لبقية حياتك ، لذا عليك ان تكون ممتنا بوجود والد يسأل عنك ويهتم بمستقبلك"
 
ارتفع حاجبيه بوجوم للحظات قبل ان يحك جبينه المتعرق بقسوة وهو يهمس بخشونة
"ولكن يا ابي ماذا عن صفاء ؟ لقد تزوجت من شقيق تلك الفتاة وما تزوجها سوى لينتقم من عائلتنا على ما حدث لابنتهم ! هل ستتركها هناك تعاني بسبب ذنبي انا ؟ علينا استعادتها حالاً قبل ان يقتلها او يعذبها اكثر....."
 
صمت فجأة ما ان نطق الشارد بالنافذة بهدوء وهو يقول بنبرة خاوية بغرابة
"لن نفعل شيء ، فقد عقدنا اتفاقا من اجل ان تستمر الهدنة بيننا ولتبقى انت بعيدا عن دائرة اتهامهم علينا البقاء بما نحن عليه وبدون اي تدخل من الطرفين ، فلا تنسى بأن هذه ضريبة اخطائك ونحن علينا بدفعها"
 
قطب جبينه بضيق وهو يمسح وجهه بتخبط اكتسح ملامحه بلحظة ، ليخفض يديه بخمول تام وهو يهمس بخفوت متوحش
"ماذا يعني هذا ؟ هلا وضحت لي كلامك اكثر ؟"
 
ضم قبضتيه معا بسكون لبرهة قبل ان يهمس ببرود وبملامح متلبدة بهدوء
"لقد كنت اعلم بحقيقة هذا الزواج والهدف منه ، فقد خيرني بالفعل قبل الزواج بيوم بين القبول بتسليم ابنتي لدافع الانتقام وإيقاف الاحقاد وبين القاء القاتل الحقيقي خلف القضبان وقضاء باقي حياته بالسجن ولن يتوانى عن فعلها فهو يملك كل الأدلة والمؤكدة والتي يستطيع بها القضاء على مستقبلك بأكمله ، ولم يكن لدي خيار سوى القبول بتسليم صفاء لتدفع هي ثمن اخطائك انت ومن اجل ان انقذك من مصير مظلم سيقضي على مستقبلك ويحرمني منك ، وكل ما افعله للآن هو من اجل حمايتك وابعادك عن كل انواع الاخطار والتي قد تهدد حياتك"
 
كان يتابع كلامه وهو يستمع لنبرة صوته الهادئة بذهول زحف على تقاسيم وجهه الحادة ممزوج بالاستنكار مما يسمعه ويراه امامه ! ليحاول بعدها النطق بانفعال وكأنه يسخر من نفسه
"هل تخليت عن صفاء من اجل ان تنقذني من تهديده ؟ بدون ان تفكر بمصير تلك الطفلة بمثل هذه التضحية !"
 
زفر (جلال) انفاسه بحشرجة التعب وهو يتكلم بثبات ساكن
"اعلم ان هذا الخبر صادم لك ! واختياري بتسليم صفاء على ان اسلمك انت يبدو بمنتهى الأنانية ، ولكن بالنهاية لم يكن بيدي شيء افعله سوى ان انقذك انت واحمي مستقبلك من الدمار ، وايضا انا على يقين بأنها ستكون بخير فهي قوية وستتحمل....."
 
قاطعه بقوة بعد ان فقد السيطرة على نفسه وهو يهمس باستهانة
"هل تقول تتحمل ؟ انها مجرد طفلة صغيرة جبانة ؟ كيف ستتحمل مثل هذا الأمر ! مستحيل ان تستطيع مجابهة مثل ذاك الصرح الكبير وبحقد سيقتل حمامتك نهائياً !"
 
تنفس بهدوء وهو يكتف ذراعيه باتزان ليهمس بعدها ببرود وكأنه يتكلم عن شخص غريب عنه
"كل شيء سيكون بخير يا مازن ، فقط كل ما اريده منك ألا تعاود الاقتراب من تلك العائلة مجددا ، وان تنسى امر صفاء بالوقت الحالي من اجل مصلحتنا جميعا ولكي لا نخسرك كذلك معها وتذهب تضحيتها هباءً"
 
اتسعت عينيه العسليتين بتوحش وهو يحرك وجهه جانبا ببعض الصداع والذي شوش عليه تفكيره لوهلة من كل هذه التخاريف والتي يسمعها والصادرة من والده شخصياً ، ليستدير بعدها للخلف بهدوء وهو يدس كفيه بجيبي بنطاله بجمود صخري قبل ان يهمس بخفوت خاوي وهو يعود لصفحة الجليد
"اعتذر ولكني لن استطيع تنفيذ مطلبك الاخير ! فأنا الذي اعرف جيدا مصلحة نفسي واكثر من الجميع ، ولن تكون ابدا بتضحية الآخرين بأنفسهم لحمايتي من مصيري المحتوم ! فهذه حياتي انا وانا الذي اتحمل تبعات اخطائي وكل ما ينشأ ويصدر عنها"
 
التفت ببطء ناحية الذي خرج من الغرفة بأكملها بلمح البصر ، ليحرك بعدها رأسه بيأس وهو ينظر عاليا بقلب مثقل بالهموم وبتفكير لا يبارح عقله منذ وقت طويل ، ليهمس بعدها بالجملة والذي كررها على مدار ايام طويلة وبتعب ارهق كيانه
"سامحيني يا حمامتي الصغيرة على كل شيء ، وكل ما اتمناه ان لا يقسو قلبكِ عليّ ، فوالدك ما يزال يحبك"

نهاية الفصل......

بحر من دموع Dove le storie prendono vita. Scoprilo ora