الفصل الأول الجزء 2

196 7 3
                                    

كانت تحرك الملعقة بداخل كوب القهوة بصورة رتيبة وعينيها شاردتين بالسائل الاسود اسفلها والذي شكل دوامات وحلقات صغيرة بسطحه ، بدون ان تهتم للنظرات الكثيرة من حولها والتي اصبحت تلاحقها مؤخرا بكل مكان بالرغم من انها معتادة على مثل هذه النظرات والتي لا تتركها وشأنها ولكن هذه المرة مختلفة فقد اصبح يرافق تلك النظرات تمتمات خافتة تصلها بوضوح وكأن صاحبها يتقصد وصولها لمجرى اذنها وهي تحوم من حولها بكل زاوية تكاد تخنقها بمكان تواجدها ، بينما تراقبها نظرات عسلية أخرى جالسة امامها بكافتيريا الجامعة وهي تحدق بها بحزن متوجس لما يدور بذهن صديقتها المقربة والشقيقة والتي لم تلدها والدتها ، وهي التي تعرفها منذ كانت طفلة تلعب بجنينة منزل عمها (قيس) والذي كانت دائمة الذهاب إليه بشكل شبه يومي لتلعب مع بنات زوجة عمها ، ولكن تلك الزيارات قد اختفت تماما بل اصبحت شبه معدومة منذ وفاة زوجة عمها وانتقال عائلة صديقتها لمنزل بعيد بحيّ يبعد مسافة طويلة عن منزلهم .
زفرت انفاسها بابتسامة ناعمة وهي تهمس بمودة ناظرة لكوب القهوة امامها
"إذاً يا ماسة كيف حالكِ ؟ ألن تخبريني عن طبيعة السكن الجديد مع عائلة خالك ؟ فأنتِ لم تخبريني بشيء عنهم منذ انتقالك للسكن عندهم !"
لم يظهر على (ماسة) بأنها قد سمعتها وهي تحرك الملعقة بالكوب بصورة مستمرة واكثر حدة ، لتعقد بعدها حاجبيها البنيين بأسى وهي تفهم جيدا جمودها والذي يجعلها دائما بعيدة عن الجميع وعن كل ما يحيطها ، وما ان كانت ستعاود الكلام حتى سبقتها (ماسة) وهي تقول ببرود مشتد
"لا جديد اخبركِ عنه ، وكما ترين ما زلت كما انا"
زمت المقابلة لها شفتيها الورديتين بضيق وهي تضم كفيها امامها فوق الطاولة لتقول بعدها بنفاذ صبر
"حقا يا ماسة ! أتريدين خداعي وتصديق بأنكِ مرتاحة حقا بحياتكِ مع عائلة خالك والتي كنتِ من قبل تقسمين بأنكِ لن تدوسي عتبة بيتهم ؟"
توقفت عن تحريك الملعقة بالكوب وقد وصلت صديقتها لما تريده وهو جذب نظرها وتركيزها لها بعيدا عن قوقعة جمودها ، لترفع بعدها احداقها الزرقاء الداكنة بجمود وهي تهمس بانقباض
"لن يدوم هذا الحال كثيرا يا صفاء ، فهذه الإقامة مؤقتة حتى تجد روميساء سكن آخر لنا وتستطيع تأمين المال الكافي لذلك !"
عبست ملامحها الناعمة وعينيها العسليتين متسعتين بوجل لتقول بعدها بهدوء وهي ترفع يدها لتمسك بيد صديقتها من على الطاولة
"اسمعي يا ماسة انا ارى بأن الحياة قد ابتسمت لكِ اخيرا ولشقيقتك روميساء بعد ان تخلصتما من شرور عمي قيس ، وها هو الآن يتحاسب على ما ارتكبه بحياته وبحقكما ، لذا لما تضيعين فرصة العيش بين عائلة تحبك وتقرب لكِ ويتقبلونكِ بينهم وغير هذا حياة مرفهة بدون الاضطرار للتعرض للمزيد من الذل والهوان ؟"
تجمدت ملامحها ببأس بدون اي تعبير قبل ان تسحب كفها برفق وهي تهمس بابتسامة ساخرة بمرارة
"لقد فات الأوان على مثل هذا الكلام يا صفاء ، وما فعلته حياة السنين السابقة لن تغيره بضعة ايام مع خال ظهر لنا من العدم بعد ان اقتنعنا وآمنا بأنه ليس هناك اي احد موجود بعالمنا المظلم ! فبالنهاية كان قيس هو الوحيد والذي اعترف بوجودنا وتقبلنا بحياته بعكس اقاربنا المزعومين والذين كانوا يعيشون برفاهية وترف !"
قبضت (صفاء) على كفيها وملامحها ذات القسمات الناعمة تتصارع بتفكير عميق ، قبل ان تتمتم ببعض الامتعاض ممزوج بالحزن
"ولكنها مع ذلك لم تكن تلك بحياة فقد كان عمي قيس رجل فاشل بحياته واتكالي لأبعد الحدود وقد استخدمكِ انتِ وروميساء كخدم عنده لكي تساعدوه بمهام حياته اليومية ! وقد استغل عجزكما وقلة حيلتكما وبأنه لم يعد هناك اي احد لكما ليتكفل هو مسؤوليتكما بذلك السن ، حتى انني لم اصدق عندما عرفتُ بدخوله للسجن وعمله بصفقات غير قانونية وقد صُدم والدي بشدة من هذا الخبر واخبرني بأنه يستحق كل ما يحدث له !"
كانت (ماسة) من بين حديث صديقتها شاردة بعيدا بعالمها القاتم وهي تفكر بأنها لم تنسى ولن تنسى ابدا حياتها والتي انقلبت رأساً على عقب بعد وفاة والدتها عندما اصبحت هي وشقيقتها كالعبيد عند زوج والدتهما ، وهما تنفذان كل اوامره بطاعة تامة لكي لا يطردهما من حياته ويصبح الشارع هو بيتهما ، كانت بوقتها بالعاشرة من عمرها وشقيقتها بالخامسة عشر عندما وزع عليهما ادوارهما الجديدة بحياته لكي يتقبلهما تحت سقف منزله ، لتصبح من حينها هي خادمة المنزل الصغيرة والتي تهتم بالطبخ والتنظيف على طفلة بالعاشرة لا تعرف سوى اللعب واللهو ! بينما جعل شقيقتها (روميساء) تعمل بمحل بقالة لصديقه ليل نهار لتوفر له المال ثمن سكنهما بمنزله وتناول الطعام معه !
تنهدت بكبت وهي تشدد من القبض على الملعقة بكفها قائلة بقتامة كزرقة عينيها المظلمة
"ولكنه يبقى افضل من العيش بالملاجئ !"
زفرت (صفاء) انفاسها بحزن على حال صديقتها والتي وصلت لها فهي كانت معها منذ بداية مشوار الحياة وكم تشعر بالغيظ من مسبب كل هذه المشاكل بحياتها والذي يكون عمها الوحيد ، وهي التي لم تحبه يوما او تتقبله طول سنوات حياتها السابقة وحتى والدها وكل العائلة لم يتقبلوا وجوده فيها وما كان يفعله ويسببه بحياته دائما !
قالت بعدها بلحظات مخترقة غمامة الحزن والتي لم تفارقهما ابدا بخفوت شديد  
"ولكن هذا لا ينفي بأنه كان السبب..."
قاطعتها (ماسة) بعصبية وهي تعود لتحريك المزيج بداخل كوب القهوة بالملعقة بقوة
"توقفي عن إعادة نفس الموضوع بكل مرة وكأنه ليس هناك شيء تتكلمين عنه سوى عن حياتي !"
عضت على طرف شفتيها بحنق وهي تسكتها بطريقتها الخاصة وقد عادت لتعصيبها والذي نادرا ما يخرج منها ، لترفع بعدها يدها بهدوء وهي ترجع خصلات من شعرها البني والذي يميل للون العسلي والمنفلتة من ذيل حصانها الطويل للخلف لتنساب مع باقي خصلات شعرها الأخرى ، قطع الصمت بعدها صوت (ماسة) وهي تقول ببرود رسمي  
"كيف هي احوال العم جلال ؟ وكيف هي صحته الآن ؟"
اتسعت ابتسامتها بهدوء وهي تتمتم بشرود رقيق
"لقد اصبح بأفضل حال ولم يعد يصاب بالانتكاسات بعد النوبة القلبية الأخيرة والتي اصابته قبل اسابيع ، ولكني ما ازال قلقة على حالته والطبيب قال بأن عليه الراحة بين الحين والآخر وهو يصر على الدوام على عمله بدار النشر كل يوم ضاربا بكلام الطبيب عرض الحائط !"
اخفضت كفها عن الملعقة وهي تنظر بسكون للموجات الصغيرة السوداء بكوب القهوة والتي لونت حياتها لسنوات ، وهي تفكر بالرجل الكبير شقيق (قيس) ووالد (صفاء) ذلك الرجل والوحيد والذي كان يزورهم بمنزلهم القديم لرؤية شقيقه الوحيد ، ولكنه اختفى بعدها من حياتهم بعد انتقالهم للمنزل الآخر والبعيد عن مكان سكنهم ، وحتى الآن لم تستطع نسيان الرجل والذي لطالما كان النقيض عن (قيس) تماما ليس بالشكل فقط بل بالتعامل وبطريقة الحياة ! وهي التي لم ترى منه سوى كل خير وهو يعاملها كابنته (صفاء) تماما بوقت كان الحنان ابعد ما يكون عنها بعائلة تسودها مشاعر من الجشع والأنانية والقسوة هي عنوانها !
زمت شفتيها بغيظ وهي تلقي نظرة حادة للجمع الغفير والذي ازداد بقرب طاولتهما وكل واحد منهم يضع رأسه بأذن الآخر واعينهم ملتصقة بطاولتهما بتركيز ، لتقبض بعدها على يدها وهي ترفعها لذقنها باهتزاز كعلامة التحفز والترقب ، وما ان كانت على وشك النهوض حتى اوقفتها (صفاء) وهي تمسك بذراعها قائلة بحزم وروية
"اهدئي يا ماسة وتجاهلي وجودهم تماما فهذا ما يريدون الوصول له وهو استفزازك ، لذا كل ما عليكِ فعله هو الصبر والتروي وعدم اعطائهم ما يريدون"
نفضت ذراعها بعيدا وهي تنظر من حولها بجمود بحدقتيها الزرقاوين واللتين ازدادتا قتامة عن السابق ، قبل ان تعود بنظرها لصديقتها وهي تقول بإصرار غريب
"صفاء اريد منكِ ان تجدي لي عمل"
انفرجت شفتيها الورديتين بصدمة قبل ان تهمس بعبوس متوجس
"ما هذا الكلام يا ماسة ! لما تريدين العمل وما حاجتك به ما دامت روميساء تعمل بالفعل ؟ وانتِ لم تنهي دراستك الجامعية......"
قاطعتها (ماسة) بحنق متجهم  
"انسي موضوع الدراسة يا صفاء فأنا احتاج لهذا العمل بشدة لأساعد روميساء بتوفير المال لنخرج من عائلة محراب بشكل اسرع ! وايضا عمل روميساء كمعلمة للصفوف الابتدائية اصبح مهدد بخسارته بعد ان تلطخت سمعتنا بين الناس ! لذا اريد منكِ ان تجدي لي العمل ولو بدار النشر الخاص بوالدك"
عقدت حاجبيها بوجوم وهي تهمس بتفكير
"ولكني لستُ متأكدة إذا كنتُ سأستطيع إيجاد عمل مناسب لكِ بدار النشر ، فأنا اعمل بها بأيام عطلتي لأساعد والدي هناك وحسب معرفتي فهي ليست من مجال دراستنا ابدا"
امتعضت ملامحها وهي تتمتم بسخرية
"وماذا عن شقيقك المهرج ألا يعمل بدار النشر مع والده ؟ ام ما يزال يتسكع بالطرقات بدون عمل !"
زفرت انفاسها بغضب وهي تنفخ خديها الورديين بضيق قائلة بتجهم خافت
"لا اريد التكلم عنه ابدا ، وأنا لا اعلم شيئاً عنه منذ شجاره الأخير مع والدي قبل ايام ومغادرته للمنزل غاضبا ناقما !"
امتقعت ملامحها بشحوب وهي تحرك عينيها بعيدا عنها باشمئزاز ما ان تذكرت المدعو شقيقها والذي لا يشبه والده بشيء ، ذلك المهرج السمج ورئيس عصابات الحارات والتي كان يقودها بكل مكان منذ طفولته ليتنمر على كل اطفال الحيّ بالطرقات وبالمدرسة وبالحدائق العامة حتى لم يستطع اي احد ان ينفذ من شره .
عادت (ماسة) بنظرها لصديقتها والتي كانت تقول بتلعثم مرتبك
"لم اكن اريد قول هذا ، ولكنه قد صرعني كثيرا من إلحاحه عليّ لأخبركِ بأنه لن ينسى ابدا الاتفاق بينكما حتى لو ابتعدتِ لآخر العالم ! وانتِ بالمقابل عليكِ ألا تنسي حفاظاً على ما تبقى لديك من كرامة !"
تجمدت ملامحها بتصلب وهي تنظر بعيدا عنها وكلامه ما يزال يتردد بذهنها منذ ايام قبل دخول (قيس) للسجن وهو يقول ببساطة لطالما استفزتها
(ماسة الفاروق استسلمي لمالككِ الحقيقي والذي انتظر كثيرا لتأتي هذه اللحظة بالذات وتقعي بين يديه ليتلقفك هو بكل رحابة صدر ، فقد تحملتُ مقاومتكِ وكبريائكِ كثيرا ولسنوات طويلة ، لذا قد حان الوقت الآن لنصفي كل ما كان بيننا من حروب وصراعات بهدنة طويلة يا دمية عمي قيس)
انتفضت فجأة واقفة عن الكرسي باندفاع وكلامه يضرب اذنيها بقوة مثل السوط وكباقي كلماته المستنفرة والتي كان يقولها لها دائما بكل مواجهة تحدث بينهما ، وهو يصر على تلقيبها (بدمية قيس) وكل هذا بسبب قبولها بالسكن مع عمه (قيس) وامتلاكه لحياتها وخدمته بكل شيء ، وقد كان دائما يزورهم بالمنزل القديم وحتى الجديد بشكل شبه يومي ليضايقها بكلامه وبتصرفاته المزعجة والتي كانت تغيظها على الدوام وهذا بجانب اصدقاء (قيس) والذين كان يتجمع معهم دائما .
زفرت انفاسها باضطراب وهي تقول بحدة بالغة ممسكة بحزام حقيبتها لتضعها على كتفها باتزان
"لا تنسي ما اخبرتكِ به يا صفاء حاولي ان تجدي عمل لي وبأسرع ما يمكن ، انا اعتمد عليكِ بهذا لذا لا تخذليني"
كانت (صفاء) على وشك قول شيء قبل ان تسبقها الاخرى بالانسحاب بعيدا عن الطاولة وهي تتجه لباب الكافتيريا بهدوء ، لتقول بعدها بسرعة من خلفها بارتفاع حانق
"إلي اين انتِ ذاهبة يا ماسة ؟ لم تبدأ المحاضرة بعد !"
عبست ملامحها الرقيقة ما ان نظرت لأثر صديقتها والتي اختفت عن نظرها تماما وما تزال العيون تراقب انسحابها بإصرار غريب ، وبعض الكلمات قد بدأت بالارتفاع والوصول لأذنها بلغة عدائية   
"أرأيتِ هذه من اخبرتكِ عنها ابنة المجرم قيس ورئيس العصابات المعروف بالبلد ؟ وهم يعيشون بحيّ الحبشة والمعروف بحيّ المجرمين وخريجين السجون ، لا اعرف حقا كيف يستقبلون مثل هذه الأشكال بالجامعات المرموقة ؟!"
حركت (صفاء) عينيها العسليتين الحزينتين بعيدا عنهم وهي تنظر لكوب القهوة الخاص بصديقتها والذي لم تشرب منه ولا رشفة وهو ما يزال ممتلئ بالسائل الأسود والذي تصر دائما على طلبه بدون ان تشربه وكأنها تثبت لهم بأن سبب مجيئها لهذه الكافتيريا ليس شرابهم ، بل من اجل إمتاع نفسها بكلام الناس الجارح وبنظراتهم المهينة لها والتي لم تتركها وشأنها لسنوات .
_______________________________
نزلت درجات السلم بعجلة وهي تعدل من وضع حقيبتها على كتفها قبل ان تتوقف بنهاية السلالم ما ان اصطدمت بالجسد الواقف والذي ظهر امامها فجأة بدون ان تراه ، لترفع بعدها بسرعة نظراتها الخضراء المرتبكة وهي تنظر لهوية الرجل الغريب امامها ، لتتسع بلحظة عينيها الشاحبتين بتوجس وهي تتعرف عليه والذي يكون ابن العائلة الكبير وابن خالها البكر .
كانت (روميساء) تتنقل بنظرها بتفاصيله عن قرب من ملامحه الهادئة الرزينة للشعيرات البيضاء التي تغزو جزء من مقدمة ذقنه بدون ان تقلل من مهابته كوالده تماما ، وهو يملك عينين سوداوين تداخلت بهما بعض الخيوط من اللون الرمادي لتصل بالنهاية لخطوط ابتسامته العميقة والتي زادته قوة تناسب مكانة عائلته العريقة ، بينما كان (احمد) بالمقابل ينظر لها بتركيز وهو يدور بعينيه على ملامحها البيضاء الشاحبة والتي لم تستطع اخفاء آثار الخطوط المنتشرة بقسمات وجهها المحفورة والتي تدل على الإرهاق الشديد وقلة النوم والتي تعرضت لها بالأيام السابقة ، ليتوقف كالعادة امام عينيها الخضراوين الشاحبتين ببهوت واضح يكاد يختفي اللون من حدقتيها الكبيرتين باتساع غريب وفاتن !
رمشت بعينيها عدة مرات قبل ان تبعد وجهها بعيدا عنه وهي تقول بإحراج
"اعتذر فلم ارك امامي عندما كنتُ انزل درجات السلم من فوق"
حرك (احمد) رأسه باتزان وهو يهمس بخفوت
"لا بأس مرت على خير"
نزل بنظراته لملابسها العملية والبسيطة والتي تدل على انها كانت ستغادر المنزل الآن قبل ان يقطع عليها الطريق ، وهي ترتدي قميص بني باهت طويل يصل لركبتيها واكثر وحزام من الجلد معقود حول خصرها مع بنطال جينز بلون الذهبي ، عاد بعدها بنظراته لوجهها وهو يتمتم بغموض
"هل كنتِ على وشك مغادرة المنزل ؟"
حركت عينيها نحوه بهدوء وهي تعقد حاجبيها بريبة لتقول بعدها بابتسامة رسمية
"اجل صحيح ، فأنا اعمل بمدرسة الزهور الابتدائية بدوام يومي وعليّ الذهاب الآن لعملي"
ارتفع حاجبيه باستنكار ولم تعجبه فكرة عملها ابدا بل لم تدخل عقله بتاتا وهو يفكر بأن فتاة من عائلة كبيرة مثلهم تعمل عند اناس لتكسب منهم بعض القروش ! قال بعدها بتجهم مستاء وبدون ادنى تفكير
"ولكن لما العمل وكل شيء موجود بحياتكما بدون الحاجة للعمل عند احد من اجل بعض المال والذي يوجد الكثير منه عندنا ؟"
عبست زاوية من شفتيها بضعف وهي تتذكر كلام (ماسة) بالأمس عن الخروج من هذه العائلة والتي لم تقدم لهما شيء طيلة حياتهما عندما كانا بحاجة ماسة لأي قريب ليعترف بوجودهما ، لترفع بعدها ذقنها بإيباء وهي تهمس بخفوت مشتد
"شكرا على كرمك يا سيد احمد ، ولكني لا اعتقد بأنني سأستطيع تقبل هذه الحياة الجديدة عليّ وعلى شقيقتي او ان اغير من نمط حياتي والذي سرت عليه لسنوات طويلة ! لذا ارجو منك ان لا تتدخل بسير حياتنا فنحن نعرف جيدا مصلحة انفسنا"
اتسعت عينيه بتجهم ليس من كلامها الواثق والذي ضربه بمقتل بل من تلقيبها له بسيد (احمد) وكأنه غريب عنها او رئيسها بالعمل وليس ابن خالها البكر ! وما ان كان سيرد عليها بغضب حتى تجاهلته تماما وهي تتجاوزه بسرعة لتسير باتجاه البهو الواسع ، ليقول بعدها من فوره بقوة صارمة
"انتظري على الأقل حتى تتناولي طعام الفطور مع العائلة بقاعة الطعام ، ام تريدين الرحيل لعملكِ وإغضاب كبير العائلة بعد ان استقبلكم بمنزله ورحب بكم ببشاشة !"
توقفت بمكانها وهي تعض على طرف شفتيها بتفكير وجزع من الورطة والتي قد تقع بها الآن فهي لم تصل لهذا المنزل سوى بالأمس وإغضاب كبير العائلة لن يكون بصالحهما ابدا ، وهي حتى الآن لا تستطيع التضحية بأي شيء بعد ان خسروا كل ما يملكون بحياتهما وقد يكون عملها هو الخسارة التالية !
ابتسم (احمد) بهدوء راضي ما ان قابله الصمت والسكون منها والذي يدل بأنها قد فهمت مقصده جيدا ، ليسير بعدها بعيدا عنها ببرود وتحديدا باتجاه قاعة الطعام المقصودة ، بينما كانت (روميساء) تبتسم بحزن شارد وهي تفكر بشقيقتها والتي ذهبت لجامعتها قبل ان تشرق الشمس بساعات كعادتها بدون ان تعطي اي اعتبار لأحد بالعائلة وبأنها قد انتقلت لمنزل جديد يبعد عن مقر جامعتها بمسافة تبعد امتار ، سارت بعدها بلحظات بخطى ثابتة باتجاه قاعة الطعام قبل ان يحدث ما لا يحمد عقباه بما انه ما يزال لديها متسع من الوقت قبل دوامها بالمدرسة .
دخلت (روميساء) خلف (احمد) تماما لتتجه كل العيون نحوهما بين حائر وممتعض وجو من الوجوم بدأ يسود من بين افرادهم بثقل ، قطع الصمت بعدها صوت (سلوى) وهي تنتفض بعيدا عن مقعدها قبل ان تتعلق بذراع زوجها وهي تقول بدلال متعمد
"اين كنت يا احمد ؟ ولما تأخرت عني ؟ أيعجبك ان تجعلني انتظرك كل هذا الوقت الطويل وانا اكاد اموت من الجوع والشوق إليك !"
كان (احمد) يحرك رأسه بوجوم من تصرفاتها الوقحة امام العائلة بدون اي حياء ، ليخترق بعدها سكون القاعة صوت (محراب) والذي كان يجلس على رأس الطاولة وهو يقول بقوة
"كفى كلام ، وليجلس الجميع بمقاعدهم امام المائدة بهدوء"
سحبت (سلوى) زوجها من ذراعه بسرعة وهي تلقي نظرة مشمئزة ومتعالية نحو (روميساء) والتي كانت تفكر بعيدا عنهم ، لتتقدم بعدها (روميساء) بصمت نحو المائدة وهي تتخذ مقعدا بعيدا عنهم بجانب الصغير (زين) وبالجهة المقابلة لهما كان يجلس فيها (احمد) وزوجته ، ويجلس بجانبهم (شادي) والذي كان يتناول الطعام امامه بشرود غير آبه بأحد .
قال (محراب) بعدها بلحظات بتفكير حائر  
"اين هي شقيقتكِ ماسة ؟ انا لا اراها معكِ !"
رفعت نظرها بارتباك نحو (محراب) قبل ان تقول بإحراج خافت
"الحقيقة لقد ذهبت ماسة لجامعتها بوقت مبكر جدا ، فهي لا تستطيع التأخر عن محاضرتها الأولى والتي تبدأ من الساعة السابعة صباحا"
كان (محراب) يحرك رأسه باتزان جامد بدون كلمة ، ولم ينتبه احد للنظرات الحادة والتي كانت موجهة من (شادي) نحوها وقد عرف الآن ما لسبب والذي جعلها تخرج بذلك الوقت المبكر جدا خارج منزلها ! ونفسها من رآها بليلة امس بالمطبخ وقد عرف الآن كل شيء يخصها فدراستها بالجامعة تعني بأنها لم تتجاوز عمر الشباب بعد وقد تكون ما تزال ببداية العشرين للآن وهذا يعني بأن فورة المراهقة المجنونة هي ما تحركها الآن نحوه ! وليس هناك تفسير آخر على تصرفاتها الغريبة معه بأول مقابلة بينهما .
عاد (محراب) للكلام وهو يقول بصوت جهوري مبتسم بوقار
"اخبريني القليل عن حياتكما وما هي مجال دراستكما ومن الذي كان يتكفل بكل مصاريف تعليمكما آنذاك ! فهذه التفاصيل تهمني كثيرا معرفتها عن حياة بنات شقيقتي مايرين"
تنهدت (روميساء) باهتزاز ما ان اجتاحتها ذكريات الماضي وهو يتكلم عن عدم معرفته بطريقة حياتهما ببساطة وكأنه ليس نفسه من نبذهما منذ سنوات ولم يعد احد يعترف بهما ليتقبلا عندها بأقل احتياجات الحياة والتي تأمن لهما الاستمرار بالعيش بأمان وتحت سقف منزل على من في مثل سنهما ! شددت بعدها بقبضتيها على مائدة الطعام وهي تقول بدون اي تعبير بعد ان حل السكون بكل انحاء القاعة
"لقد كان عمي قيس هو من يهتم بمصاريف تعليمنا بجانب عملي الدائم بمحل بقالة قريب من منزلنا ، وهو من اختار مجال دراستي بمهنة التعليم وتكفل بمصاريف الجامعة كاملة ، بينما ماسة هي من اختارت مجال دراستها بنفسها بما انها قد حصلت على منحة من وزير التعليم بسبب تفوقها الاكاديمي بالمدرسة تأمن مصاريف تعليمها كاملة وهي الآن تدرس بمجال الهندسة الاقتصادية"
تنفست بارتجاف ما ان انتهت من كلماتها والتي قالتها بكل برودة تملكها بقلبها وكأنها تقص عليهم قصص من وقائع حياة الناس وليس عن حياتها ، ساد من بعدها جو من الهدوء القاتم والذي حل على كل ساكني المنزل للحظات قبل ان تقطعه (روميساء) مجددا وهي تتابع كلامها ببساطة ناظرة لكل الوجوه الواجمة بابتسامة عملية
"وايضا نسيت ان اخبركم بأنني اعمل بمدرسة الزهور الابتدائية وقد تأخرتُ على عملي بالفعل ، لذا عذرا منكم عليّ الذهاب الآن ، وبالهناء والشفاء"
نهضت (روميساء) بسرعة من على الكرسي امام نظراتهم المصدومة قبل ان تنسحب بعيدا عنهم لخارج قاعة الطعام بصمت وبدون ان تلمس طبقها حتى او ان تتناول شيئاً من الأطعمة المنوعة والموزعة بترتيب على مائدة الطعام ، لتخلف من بعدها سكون تام وكل واحد منهم قد عاد لتناول الطعام من امامه بصمت وكأن شيء لم يكن ، بينما كانت نظرات (محراب) القوية عالقة بمكان اختفاءها وهو يحرك رأسه بتفكير عميق شارد فيبدو بأن بنات شقيقته ما يزالون يحملون بقلوبهم الضغينة لكل من حولهم ومن يربط بهما قرابة تخلى عنهما يوما ما .
______________________________
"لم يعد هناك اي وظائف شاغرة لكِ ، فأنا لا اتشرف بعملكِ هنا بعد الآن ، فأهم شيء عندنا بهذا المكان هي سمعة المدرسة والتي ستبقى دائما نظيفة بعيدا عن امثالكم !"
كان يصرخ بحدة وفظاظة وهو يجلس امام المكتب ناظرا امامه بملامح قاسية ، بينما كانت (روميساء) تخفض رأسها بخزي وإحراج وهي تتلقى ما كانت تتوقعه وتخشاه وعملها الطويل بهذه المدرسة لم يشفع لها ليطير مع مهب الريح وكأن كل شيء قد اصبح يتضامن ضدها بعد دخول (قيس) للسجن ، رفعت بعدها كفها بارتجاف لتعيد الخصلات السوداء بعيدا عن جانبيّ وجهها قبل ان تهمس بوجوم خافت
"ولكني قد اخبرتك يا سيدي المدير بأنه لا علاقة لي بما فعله زوج والدتي قيس ، لتتهمني انا بأفعاله بدون اي وجه حق ! ولا شيء يربطني به سوى سقف المنزل والذي كنتُ اعيش فيه معه !"
ضرب المدير على سطح المكتب بكفه بصلابة وهو يتمتم ببرود جليدي
"بغض النظر فهو يكون والدك الروحي وزوج والدتك والذي تربيتِ معه تحت سقف منزله واي شيء يمسه ويفعله سيمسكِ انتِ ايضا ، ولا اعلم حتى الآن ما لذي سيخرج من عائلة غريبة الأطوار مثلكم تدور من حولها الشبهات دائما والتي تربت على اكل مال الغير والعمل على مخالفة القانون !"
ابتلعت ريقها بتصلب وهي تنظر بعيدا عنه بشرود وكلماته تخترق سمعها بألم من كلام اعتادت على سماعه من كل من تصادفهم وتقابلهم بحياتها وكله بسبب ماضي والدتها وزوجها والذين لطخوا سمعتهما لتكون وصمة عار تلاحقهما طيلة العمر ، وحتى عملها هنا كان دائما مرهون بالفشل ولولا الواسطة والتي حصلت عليها من اصدقاء (قيس) والذين لا يقف امامهم حائل لما كانت استطاعت ان تتوظف بهذه المدرسة المحترمة والعريقة .
عادت بنظراتها الخضراء الجامدة نحو المدير وهي تقول بابتسامة هادئة بقهر
"وماذا عن سنوات عملي المتواصلة بهذه المدرسة ؟ منذ خمس سنوات وانا اقدم لكم كل ما املكه من خبرة وجهد والتزام بدون ان يصدر مني اي خطأ يسيء لسمعتكم ولسمعة مدرستكم ! أهكذا تكافئني على تعب السنين والتي بذلتها بالرفع من مكانة مدرستكم لتبقى بالقمة دائما ؟"
امتقعت ملامح المدير وهو يقول بصرامة حادة
"كل هذه الإنجازات والتي فعلتها للمدرسة لن تنفعكِ بشيء عندما يتعلق الأمر بسمعة الموظفات هنا وخلفية كل واحدة منهن ، واقصد بكلامي طريقة حياتهن ومكان معيشتهن وسمعة عائلاتهن ومن هذا القبيل ! ومثل هذه الأمور تؤثر كثيرا ليس على سمعة المعلمة فقط بل على سمعة المدرسة بأكملها ، وليكن بعلمكِ فقط بأن توظيفكِ بهذه المدرسة كان خطأً كبيرا مني ولا يغتفر مع سمعة عائلتكِ وخلفية مكان سكنكِ والذي لا يسر مخلوق ابدا"
زمت شفتيها بوجوم قبل ان تهمس بوجل
"ولكن يا سيدي المدير انا لا استطيع خسارة هذه الوظيفة....."
قاطعها المدير بحزم وهو يصرخ بنفاذ صبر
"روميساء الفاروق لقد انتهت مهلة عملكِ معنا هنا ، ولم يعد يلزمنا شيء من خدماتكِ والتي قدمتها لمدرستنا لفترة طويلة ، لذا من فضلكِ اخرجي من هنا من غير مطرود"
شددت (روميساء) من القبض على كفيها بجانبيّ جسدها بقهر وهي تشعر بظلم غير مبرر موجه نحوها من كل صوب ومنذ سنوات طويلة ، لتخفض بعدها عينيها المنكسرتين بعيدا عنه بخذلان قبل ان تسير بتثاقل باتجاه باب المكتب ، وما ان امسكت بمقبضه حتى قالت بخفوت قاتم لا يكاد يسمع
"وداعا يا سيدي المدير وشكرا لك على كل شيء قدمته مدرستكم لي ، لقد تشرفتُ كثيرا بالعمل معكم"
غادرت بعدها لخارج الغرفة بدون ان تضيف كلمة أخرى قبل ان تستند بظهرها على سطح الباب من خلفها وهي تشعر بخنوع ورخاء تام احتل كل اطراف جسدها بعد ان خسرت النور الوحيد والمتبقي لهما بحياتهما المظلمة ، رفعت بعدها نظراتها الجامدة للأعلى وهي تتنفس بنشيج واضح وكفيها ما يزالان مقبوضين بقوة حتى ابيضت مفاصل اصابعهما .
اغمضت عينيها بقوة وهي تستغفر ربها بخفوت ليلهمها الصبر لما هي مقدمة عليه الآن بعد ان خسرت بارقة املهما الأخيرة للحياة الهانئة والتي حلما بها كثيرا ، استقامت بعدها بسرعة بعيدا عن الباب وهي تمسح عينيها بكفها برفق حتى احمرتا بشدة بإنهاك واضح ، لتسير بلحظة بخطوات حاولت جعلها متوازنة بثبات وهي تنظر لموقع قدميها بلا مبالاة وبما يجري حولها ونظرات كل من تمر بهم تلاحقها بغموض ، لتشدد من القبض على حزام حقيبتها بضعف شديد يداهمها لأول مرة بعد سنوات طويلة من الكفاح بالعمل وبالدراسة من جهة وبالاهتمام بالمنزل مع شقيقتها من جهة أخرى حتى اصبحت حياتها بأكملها مكرسة فقط للجميع دون سواها .
كانت تسير بساحة المدرسة باتجاه باب الخروج بخطوات متمهلة قبل ان تتوقف فجأة ما ان سمعت الهتاف العالي باسمها ، لتستدير بعدها بسرعة للخلف وهي تنظر بصدمة للطفلتين واللتين كانتا تجريان نحوها بأقصى سرعتهما وزيهما المدرسي يتطاير من حول ساقيهما بحرية ، وما ان وقفتا امامها تماما حتى قالت احداهما بحزن طفولي
"هل حقا ستغادرين المدرسة يا معلمة روميساء ؟"
ابتلعت (روميساء) ريقها بتشنج وهي تنظر للطالبتين المميزتين عندها بالفصل والمقربتين منها من بين جميع الطلاب ، بل جميع وكل من بالمدرسة طلابها المفضلين وابناءها والذين وجدت بهم وحدتها وطفولتها الضائعة .
تصلبت شفتيها بدون ان تنطق بأي كلمة وهي تحرك رأسها بالإيجاب بوجوم وحزن يقارب حزن الطفلتين ، لتقول بعدها الطفلة الأخرى برجاء وهي تمسك بكفها بقوة
"لا ارجوكِ يا معلمة روميساء لا تتركينا الآن ، ونحن نعدكِ بأننا من الآن وصاعدا سنكون اكثر تهذيبا ولن نسبب لكِ المشاكل بالفصل"
حركت الطفلة بجانبها رأسها بلهفة وهي تضم قبضتيها الصغيرتين قائلة بتوسل طفولي
"اجل يا معلمة روميساء ، لا تتركي المدرسة وكل من فيها ، فنحن نحبكِ كثيرا وجميع من بالفصل يحبكِ ايضا"
ابتسمت بضعف وهي تحاول الحفاظ على ثباتها امام الطفلتين ورجائهما يخترق هشاشة مقاومتها وقلبها والذي تعلق بأصحاب هذا المكان اكثر من الوظيفة نفسها بعد ان اصبحت جزء من عالمهم واصبحوا يمثلون لها راحتها المؤقتة ، عضت بعدها على طرف شفتيها بقهر المظلوم من خسارتها الفادحة واكثر من أي خسارة سابقة وهي تفقد كل حياتها المريحة والذي يمثلها لها هذا المكان بغمضة عين !
عادت بنظرها للطفلتين بحزن قبل ان تنحني على ساقيها لتصل لمستواهما وهي ترفع ذراعيها معا وتعانق اكتافهما الصغيرة بكل حنية تملكها لهذا المكان ، لتبعد بعدها ذراعيها بسرعة عنهما قبل ان تنحدر اكثر مع عواطفها المنهارة وهي تقول بابتسامة حاولت جعلها لطيفة رغم الألم المحفور بداخلها
"لا داعي لكل هذا القلق فأنتما ليسا لكما علاقة بمغادرتي للمدرسة ، فقد انتهت وظيفتي بهذا المكان وقد حان الوقت لأغادر بعيدا وابحث عن حياة اخرى تتقبل وجودي بها ، لهذا اريد منكما ان تعداني بأنكما ستبقيان دائما كما اعرفكما ، وحتى لو ابتعدتُ لآخر العالم فأنا من المستحيل ان انسى طلابي المجتهدين والمميزين بكل شيء لأني من ربيتهم وعلمتهم كل شيء اعرفه بنفسي"
عبست الملامح الصغيرة للطفلتين قبل ان يحركوا رؤوسهما بحزن لمع بزوج احداقهما الصغيرة ، بينما كانت (روميساء) تربت على رؤوسهما بكفيها بحنية وهي تحاول الابتسام بسعادة بقدر ما تستطيع امامهما ، لتنتصب بعدها بوقوفها بثبات بدون ان تفقد ابتسامتها وهي تهمس لهما بحزم مزيف
"هيا الآن اذهبا لفصلكما قبل ان تعاقبا ، واياكما والخروج بوقت الحصة مرة أخرى كما فعلتما الآن وألا غضبتُ منكما بشدة !"
تحركت الطفلتين بسرعة بعيدا عنها باتجاه نفس الطريق والتي جاءوا منها وهم يلوحون لها بأيديهما الصغيرة بمرح عاد للتوهج بملامحهما ، لتختفي بعدها ابتسامتها ما ان اختفوا عن نظرها تماما ككل شيء جميل بحياتها لتشيع عندها بنظراتها الأخيرة لبناء المدرسة الحديثة والتي ستشتاق لمرآها كثيرا بعد ان اصبحت منزلها الثاني منذ خمس سنوات .
استدارت بعيدا عن البناء لتتابع سيرها لخارج البوابة بخطى سريعة وهي تفكر بالخطوة القادمة والتي عليها فعلها وتتضمن العمل بمكان آخر يتقبل خلفيتها المشوهة ، وما ان اصبحت على الطريق المقابل للمدرسة حتى رفعت كفها بسرعة وهي تلوح لأول سيارة أجرة تخرجها من هذا المكان والذي يحمل لها كل ذكرى جميلة ستبقى محفورة بقلبها اليتيم للأبد .
_____________________________
دخلت للمنزل بهدوء شديد قبل ان تشعر بقبضة من حديد تمسك بذيل حصانها من الخلف حتى كادت تقتلع خصلاتها ، لتقربها بعدها امام وجهه وهو يهمس بفحيح خافت
"اين كنتِ يا منحلة بمثل هذا الوقت المتأخر من الليل متناسية بأنكِ تحملين سمعة العائلة بين يديكِ وانتِ تدورين بها بكل مكان تدوسين عليه ؟ ام تظنين بأنه ليس هناك أي رجال يحاسبونكِ على افعالكِ والتي تجاوزت حدودها !"
رفعت (صفاء) كفيها بألم وهي تحاول إفلات بعض من خصلات شعرها والتي تقطعت بين اصابع قبضته بدون ان تذرف اي دموع ، فقد اعتادت على مثل هذه المعاملة الفظة من شقيقها الكبير والذي يجدها دائما متنفس عن غضبه المقيت ، قالت بعدها بانتحاب غاضب وهو يشدد من هزها من ذيل حصانها بعنف
"لقد كنتُ عند صديقتي وقد اخبرت والدي بهذا ، لذا توقف عن حشر نفسك دائما بخصوصياتي فأنت لست ولي امري"
تجهمت ملامحه بغضب وهو يحرك عينيه بعيدا بلا مبالاة قبل ان يقترب من اذنها اكثر ويهمس بها بتفكير
"ومن هي تلك الصديقة ؟ هل يعقل بأن تكون دمية قيس ؟"
عقدت حاجبيها بجمود وهي تضيق عينيها العسليتين بقتامة قبل ان تقول بوجوم خافت
"توقف عن مناداتها بهذا اللقب فهي لم تعد تعيش مع عمي قيس لتلقبها هكذا ، فقد عادت لبيت خالها ولعائلته ولمكانها الصحيح"
تصلبت ملامحه بشراسة وهو يعود لهزها من ذيل حصانها بقوة اكبر قائلا بهدوء ينذر بالشر
"اخرسي يا صفاء واجيبِ ، هل كانت هي ام لا ؟"
صرخت (صفاء) بانفعال وهي تتلوى بألم بدون ان يرحم خصلات شعرها من قبضته
"لا لم تكن هي بل صديقة أخرى ، واترك شعري فورا فأنت تؤلمني كثيرا إذا لم تكن تعرف !"
كان يتنفس بغضب اهوج وهو يرجع ذيل حصانها للخلف مع رأسها قبل ان يتمتم بتصلب جاد  
"وماذا عن رسالتي ؟ هل اخبرتها عنها ؟"
توقفت (صفاء) عن المقاومة بعد ان شلت حركة عنقها وهي ترفع حدقتيها العسليتين والمتسعتين بحزن نحو وجه شقيقها من فوقها ، لتتمتم بعدها بابتسامة شاحبة بسخرية  
"لم اكن اريد اخبارها ، ولكن ما باليد حيلة لأتخلص منك ومن هرائك وسخافاتك !"
صرخ فجأة بهياج على كلماتها الاخيرة وهو يرفع كفه الآخر نحوها ينوي صفعها ، قبل ان يوقفه صراخ آخر من خلفه صارم بوهن
"توقف يا مازن واترك شقيقتك فورا"
عبست ملامحه بغضب قبل ان يفلت ذيل حصانها من قبضته بقسوة وهو يخفضها للأسفل بوجوم بدون ان يلتفت لمصدر الصوت من خلفه ، بينما استغلت (صفاء) الفرصة لتبتعد عنه بسرعة وهي تنظر له بنظرات حادة بحنق لتعدل بعدها من خصلات شعرها الحريرية والتي انفلتت من ذيل حصانها وهي ترجعها لخلف اذنيها برفق ، سارت من فورها نحو والدها والذي كان ينظر امامه بشرود متجهم لتمسك بلحظة وقوفها بكفه المجعدة وهي ترفعها لمستوى وجهها وتقبل ظاهرها باحترام كبير تكنه لهذا الرجل والذي يحمل كل معاني الأبوة بالنسبة لها .
رفع (جلال) كفه الاخرى ببطء شديد لرأسها وهو يربت عليها بحنية وهدوء اعتادت على الحصول عليها منه منذ ولادتها ، ليرفع بعدها نظراته المتغضنة بزواياها لابنه الكبير والذي ما يزال واقفا بمكانه وهو ينظر لهما ببرود جليدي وكأنه ليس فرد من العائلة ، فهو حقا لا يحمل اي شيء من بوادر الانتماء لهذه العائلة وهو يثبت له بكل مرة يتقدم فيها بالعمر بأن مجيئه لهذا العالم كان اكبر خطأ يقترفه بحياته للآن ، وكأن ولادة الذكور بالنسبة له هي اكبر نقمة بحياته وليس لتخفيف الأعباء عن الوالدين والاهتمام براحتهما بعد هذا العمر الطويل ، بل من اجل التسبب لهما بالمشاكل على الدوام وزيادة الهموم على الوالدين وكأنه ينقصهما هموم والتي ستجلب له بيوم ما ازمة قلبية لن يخرج منها حيا !
حرك (جلال) نظراته بعيدا عن ابنه ما ان تمسكت ابنته بذراعه وهي تسحبه معها بعيدا باتجاه الأريكة ببهو المنزل البسيط وهو يسير معها بثبات بدون اي اعتراض وكأنها العصا والتي يرتكز عليها ويسير معها بطريق الحياة الطويلة ، وما ان وصلت به (صفاء) للأريكة الوثيرة حتى ساعدته بالجلوس عليها برفق لتفلت بعدها ذراعه وهي تلتقط علبة الدواء من على المنضدة الجانبية ، لتُخرج من فورها حبة دواء صغيرة منها وهي تعيد العلبة لمكانها قبل ان تمسك بأبريق الماء وهي تسكبه بالكأس بجانبه بحذر ، مدت بعدها قرص الدواء امام والدها وهي تعيد الابريق لمكانه فوق المنضدة قائلة بابتسامة رقيقة
"لقد حان موعد الدواء يا ابي ، وعليك ألا تتأخر بتناوله كما قال الطبيب"
اتسعت ابتسامته بشحوب وهي تحفر بوجهه بوهن واضح قبل ان يلتقط قرص الدواء من كفها وهو يقربه من شفتيه ليلقي بها بفمه بصمت وانصياع تام ، فهو يعلم جيدا نتائج اعتراضه على اوامرها والتي لن تتركه وشأنه قبل ان يتناول دواءه على الموعد المحدد وكما قال الطبيب ، بينما قدمت (صفاء) كأس الماء امامه ليلتقطها منها كذلك وامام نظراتها الحزينة مترافقة مع بسمة صغيرة بحنية نابعة من قلبها المفطور على والدها والذي اصبح اضعف واوهن من أي مرة بعد ان سيطر عليه المرض تماما بدون أي رحمة ليظهره اكبر من عمره الحقيقي بأضعاف .
لم ينتبه احد منهما للواقف عند مدخل المنزل بجمود والذي تحرك نحوهما بخطوات كسولة بصمت ، قبل ان يرتمي بلحظات جالسا على الأريكة المقابلة لأريكة والده بارتياح وهو يتمتم ببساطة
"اذهبي وحضري طعام العشاء يا صفاء ، فأنا اشعر بالجوع الشديد ينهش امعائي الفارغة منذ أيام !"
عبست ملامحها بامتعاض قبل ان تحيد بنظراتها نحو والدها والذي كان يبتسم لها بهدوء حنون ، لتنسحب بعدها بعيدا عنهما بصمت باتجاه المطبخ بدون ان تعود للالتفات لهما ، ونظرات والدها تلاحقها بتركيز وهو يضع الكأس فوق الطاولة امامه بهدوء ، لينقل بعدها نظراته لابنه البكر وهو يشرد به بتفكير عميق وقد وصل عمره للثامنة والعشرين وهو ما يزال يمرح هنا وهناك بدون ان يحدد هدفه ومساره بالحياة او ان يعتمد على نفسه بشيء .
قال (جلال) فجأة بحدة وهو ينظر له بتركيز غامض
"إذاً اخبرني ما لذي اعادك للمنزل بعد ان تركته منذ شجارك مع والدك ؟ ام تظنه منزلك ترحل منه وتعود إليه ريثما تشاء ؟"
ادار (مازن) عينيه بعيدا ببرود وهو يتمتم بابتسامة باردة باستخفاف
"لما كل هذا الغضب يا جلال فهذه ليست أول مرة نتشاجر فيها معا وأغيب فيها عن المنزل ؟ وايضا لقد قلقت عليك من ان تصيبك نوبة قلبية جديدة ، لذا عدتُ إلى هنا على وجه السرعة لأطمئن عليك ، ام غير مسموح لي بالاطمئنان على صحتك !"
ردّ عليه (جلال) بصرامة قاطعة وهو يسند قبضتيه فوق ركبتيه
"احترم نفسك يا مازن وتذكر مع من تتكلم يا وقح ! وايضا من طلب منك ان تقلق عليّ او تأتي للاطمئنان على صحتي وانت تعلم بأنك المسبب الرئيسي بحالتي هذه ؟ ولكن لما اتعب نفسي بكل هذا الكلام ولا شيء يجدي معك ابدا !"
اسند ذقنه فوق قبضته بكسل وهو يهمس بملل ونفاذ صبر
"انت على حق يا ابي الكلام لا يجدي معي ابدا ، لذا ارجوك ان تتوقف عن تكرار نفس الأسطوانة معي فقد مللت منها حقا"
تنفس (جلال) بهدوء متعب وهو يرفع كفه لصدره المهتز بارتجاف وهو يخفض نظره لقبضته المشدودة بقوة ، قال بعدها بصلابة جادة وهو يعود بنظره لابنه بجمود
"اسمع يا ولد ، سأمنحك فرصة أخرى لتثبت لي حقا بأنك ابني من صلبي ودمي ! وستفعل هذا بعملك معي بدار النشر ولا يهمني الوظيفة والتي ستعمل بها هناك ، فأهم شيء عندي ان يتوقف هذا التهريج عند حده ، وهذه المرة اي خطأ سيصدر منك لن تتوقع عندها ما ستكون عليه ردة فعلي !"
التفت (مازن) بوجهه نحو والده ببطء شديد وهو يخفض قبضته قائلا بغموض خافت
"أنسيت ماذا حدث يا أبي بآخر مرة عملتُ فيها معك بدار النشر الخاص بك ؟!"
تصلبت ملامحه بتغضن وهو يتمتم بحزم قاطع
"لن يتكرر هذا مجددا لأني هذه المرة سأضع لك قوانين صارمة وانت عليك بالالتزام بها بالحرف الواحد ، لتستطيع عندها العيش معنا بهذا المنزل ، وهذا هو الثمن والذي عليك ان تدفعه لأتقبل وجودك معي بمنزلي ، وغير هذا لا تتوقع مني ان ارحب بك بالمنزل !"
كان (مازن) ينظر له ببرود جليدي بدون ان يظهر على ملامحه اي تعبير مقروء ، ليتابع بعدها والده كلامه وهو يقول بجدية هادئة
"وشيء آخر لقد وجدت لك الزوجة المناسبة لنا تماما والقريبة من مستوانا ، لتستطيع معها الاستقرار بحياتك اخيرا وتحمل بعض مسؤوليات الحياة بجانبها ، فقد اصبحت بعمر مناسب جدا لتبني عائلة خاصة بك وتنجب لنا الاولاد......"
قاطعه (مازن) بجفاء حاد وهو ينظر بعيدا عنه
"طلبك مرفوض"
ردّ عليه والده بانفعال حاد وهو يحرك ساقيه بعصبية بالغة
"ولما ترفض اخبرني ؟ ما لمانع بزواجك وجميع من هم اصغر منك سنا قد اصبح لديهم عائلة كاملة لا ينقصها شيء ؟ بينما انت تضيع سنوات حياتك هباءً بدون فعل شيء ، ام لا تريدني ان افرح بأحفادي قبل موتي !"
ابتسم بسخافة وهو يقول ببرود مستفز بدون ان ينظر إليه
"بعيد الشر عنك يا كبير العائلة ، ولكني لا اريد الزواج الآن بل سأتزوج بالوقت الذي أراه مناسبا لي ومع الشخص الذي أراه يناسبني حقا ، فهذه الحياة تخصني انا وحدي ولا احد يستطيع التدخل بها"
اشاح (جلال) بوجهه بعيدا عن ابنه وهو يتنفس بإنهاك وببعض الصداع والذي اصبح يداهمه مؤخرا بكل مرة يدخل بها بجدال مع ابنه والذي لا يفهم كيف هي طبيعة تفكيره ابدا ؟
بينما شرد (مازن) بأفكاره بعيدا جدا وهو يخرج سيجارة من جيب بنطاله ليشعلها بعود كبريت وينفث الدخان منها بشرود سابح بالفضاء ، وابتسامة جانبية خبيثة تعلو ملامحه ببطء وكل ما يدور بذهنه الآن هي صورة عينان بحريتان تنظران له بكل كره العالم اعتاد على رؤيتهما فيها منذ سنوات طويلة حتى اصبحت جزء من ممتلكاته الخاصة منذ الأزل ولن يتنازل عنها بهذه السهولة مهما حدث !

نهاية الفصل ♥️

بحر من دموع Where stories live. Discover now