الفصل الأربعون

108 3 2
                                    

خرجت من مبنى الكلية وهي تسير بين ازدحام الطلاب بوقت الاستراحة ، وما ان وصلت للساحة الخارجية حتى اخرجت هاتفها من حقيبتها لتجري الاتصال المعتاد بكل صباح وهي تضعه على اذنها ، لتستمر بسماع صوت رنين الهاتف بالطرف الآخر للحظات قبل ان ينقطع الخط .
اخفضت (صفاء) الهاتف عن اذنها وهي تهمس باستياء متبرم
"ما لذي يشغلكِ عني يا فتاة ؟"
قررت بالنهاية ارسال رسالة وهي تكتب محتواها باختصار عملي
(عاودي الاتصال بي عندما تجدين الوقت ، ولا تنسيني بين مشاغلك الكثيرة ، يا حبيسة قلب زوجك !)
تبسمت شفتيها بشقاوة وهي تستمر بالسير بطريقها والهاتف بيدها ، لتصطدم فجأة بأحدهم على بعد سنتمترات ادى لوقوع المذاكرات منها ، لتنحني بسرعة على ركبتيها وهي تهمس بإحراج شديد
"اعتذر ، اعتذر بشدة"
جمعت المذاكرات بين ذراعيها بلمح البصر وهي تستقيم على قدميها باتزان ، لتتسمر بعدها لوهلة ما ان نطق الواقف امامها بذهول شديد
"صفاء جلال ! هل هذه انتِ ؟"
رفعت عينيها الواسعتين بارتباك وهي تتأمل الواقف امامها بدون ان تستطيع التعرف على هويته ، لتهمس بعدها بابتسامة هادئة يشوبها التوتر
"نعم هذه انا ، هل هناك خطب ؟"
ارتبكت ملامح الواقف امامها بحياء وهو يقول من فوره بابتسامة افتتان
"من الجميل رؤيتكِ مجددا بالجامعة ، فقد انقطعتِ عنها مدة من الزمن ، وقد فقدت الامل بعودتكِ لها من جديد !"
اخفضت نظراتها قليلا وهي تدس خصلات ناعمة خلف اذنها بأصابع شاردة ، لتهمس بعدها بابتسامة حفرت بمحياها بشحوب
"اجل فقد حدثت معي ظروف اضطرتني للانقطاع عن الجامعة مدة شهرين ، وبعد انقضاء تلك الفترة قررت استكمال دراستي بالجامعة بالوقت الذي توقفت عنده"
اومأ برأسه بهدوء وهو يقول بتفكير متردد بدون ان يمنع نفسه
"اعتذر على الوقاحة ! ولكني سمعت بأنكِ قد تزوجت بالفترة الاخيرة ، هل هذا صحيح ؟"
ابتلعت ريقها بقوة نحرت قلبها بحريق صامت وهي تخرج الكلمات من شفتيها الباسمتين بطبيعية
"لقد تزوجت قبل شهرين ، وبسبب ظروف سيئة انفصلت قبل شهر"
ارتفع حاجبيه بدهشة وهو يستمع لها باهتمام بالغ وكأنه قد رأى ظهور النجوم بوقت الظهيرة ، ليفيق بعدها من احلام يقظته على صوتها الخافت وهي ترفع عينيها نحوه بأسى
"اعتذر على إزعاجك بمشاكلي الشخصية ، يبدو بأنني قد بالغت كثيرا بالأفصاح عن اسراري للآخرين ، ولكن الوحدة تجعل الانسان يتكلم بلا وعي تقريبا"
حرك رأسه بالنفي وهو يلوح بيده بارتباك قائلا بابتسامة اتسعت بأمل
"لا بأس بذلك يا صفاء ، لستِ اول وآخر فتاة تنفصل بسرعة هكذا ! وانا متأكد بأن الله سيعوضك بالأفضل"
حركت (صفاء) رأسها جانبا بشرود وهي تهمس بخفوت غير مبالي
"لا اهتم بكل هذا ، الحقيقة لم اعد اهتم بشيء"
كان يعطي نفسه حرية تأملها عن كثب وهو يقول بابتسامة جانبية بمغزى
"ألا تتذكريني حقا يا صفاء ؟ لقد كنت بنفس دفعتك وطلبت منكِ مرة مساعدتي بنقل محاضراتك التي فاتتني ! ألا تتذكرين شيء من هذا !"
تغضن جبينها بحيرة وهي تعود بالنظر له بتفكير تحاول جلب صورته من عقلها ، لتتنهد بعدها بيأس وهي تهمس بابتسامة متأسفة
"اعتذر لم استطع تذكرك ، فأنا قد نسيت اغلب الوجوه التي قابلتها قبل تغيبي عن الجامعة ، لذا اعذرني !"
انحرفت ابتسامته باستياء وهو يقول بمحاولة اخرى بدون يأس يستذكر كل الاحداث بتلك الفترة
"لقد كنت اجلس بالمقعد الخلفي الذي يبعد صفين عنكما ، انتِ وصديقتك نابغة الدفعة ، وعندما اعدت لكِ مذاكراتك سلمتها لصديقتك لتعطيها لكِ بسبب اقتراب الاختبار ، وبعدها لم تظهري بالجامعة مجددا وانقطعتِ عنها"
عقدت حاجبيها بتصلب وهي تستطيع تذكر كل لحظة بتلك الفترة الوجيزة التي سبقت دخولها لحياة ذلك الزواج بلعبة الحب التي وقعت بفخها ، لتنفض رأسها بسرعة ما ان اوشكت على دخول تلك البؤرة وهي تلوح بيدها بتلقائية هامسة بإحراج شديد
"انا اعتذر حقا ، ولكني لا استطيع تذكرك ، لقد حاولت وفشلت ، ومع ذلك سررت بالتعرف عليك من جديد"
اتسعت ابتسامته بإشراق وهو يزيل هالة اليأس عنه ليمد كفه لها وهو يقول بتودد
"وانا يسرني اكثر تجديد تعارفي معكِ ، وبالمناسبة اسمي نديم شوكت وانا بنفس التخصص معكِ"
نظرت ليده الممدودة لوهلة قبل ان تصافحه بهدوء وهي تهمس برقة
"وانا اسمي صفاء جلال ، وسعيدة بالتعرف على طلاب دفعتي"
اومأ برأسه بحماس وهو يحك شعره بيده قائلا بخفوت مهذب
"ويمكنكِ ايضا الاعتماد عليّ إذا واجهت اي صعوبات بالدراسة ، فأنا الآن على مشارف التخرج وهذا آخر فصل لي ، لذا إذا كنتِ تريدين اي مساعدة بنقل المحاضرات او الاختبارات فأخبريني بذلك وانا سأكون بالخدمة"
اومأت برأسها بشرود وهي تسحب يدها هامسة بابتسامة صغيرة بأسى
"وانت ايضا على وشك التخرج ! يبدو بأنه لم يبقى غيري ما يزال يدرس بالجامعة ، لقد تبين بأني متأخرة بكل شيء"
عقد حاجبيه بعزم وهو يقول بلحظة بابتسامة مملوءة بالإيثار
"يمكنني ان اقوم بتأجيل فصلي الاخير او احاول الرسوب بهذا الفصل حتى استطيع اللحاق بكِ ، بالرغم من ان هذا الامر سيعرضني للكثير من المشاكل والصعوبات بحياتي !"
اتسعت حدقتيها العسليتين بوجل وهي تهمس من فورها بابتسامة ممتنة بحياء
"لا لم اقصد هذا بكلامي ! وانا اتفهم حقا صفاء نيتك اتجاهي ، ولكن الافضل ان تقتصر مساعداتك على تقديم الخدمات الصغيرة التي استطيع ردها لك وسأكون ممتنة لك دائما"
اعتلت ابتسامته بمرح وهو يقول بمزاح
"لقد كنت امزح معكِ يا صفاء ، فليس لدي الجرأة الكافية على فعلها بنفسي ، فهذه مخاطرة كبيرة !"
تنهدت (صفاء) براحة وهي تمسح على خدها بظاهر كفها لتهمس بعدها بامتنان
"شكرا لك على كل شيء يا نديم ، ومبارك التخرج مسبقا ، بالتوفيق"
اومأ برأسه بنفس الابتسامة الحالمة وهو يقول بثقة نفس كبيرة حد الغرور
"انا سأكون دائما واقف بجانبكِ يا صفاء ، بالتوفيق بدراستك ، ابذلي جهدكِ"
اتسعت ابتسامتها بلطف وهي تتجاوزه بسرعة هامسة بمودة
"فرصة سعيدة"
كان يراقبها وهي تكمل طريقها بعيدا والامل يلمع بعينيه بوضوح ، وما ان استدار للخلف حتى اصطدم بجدار طويل اعاق عليه التقدم ، وما ان رفع نظره نحو الرجل الفارع الطول حتى ابتلع ريقه بهلع وهو يواجه ملامح مكفهرة دبت الرعب بأوصاله .
قال (نديم) بعدها عندما طال الصمت بينهما بنبرة طبيعية بجدية
"ماذا تريد يا سيد ؟ هل هناك مشكلة ؟"
شحبت ملامحه ما ان هبط بيده على كتفه بقوة كسرت عظامه وهو يدنو بوجهه قليلا ليتبعها بالقول بصوت ثابت بقتامة حد السعير
"إياكِ وفعل مثل هذه المخاطرة بالاقتراب منها كل هذه المسافة ! هذه المرة ستكون تحذير لك ، بالمرة القادمة لن يكون هناك كلام بل افعال فقط ! لذا انتبه على نفسك وعلى مستقبلك جيدا"
تغضنت تقاسيمه بخوف وهو يتلوى بمكانه يحاول سحب نفسه من امام جبروت نظراته وضخامته ، وما ان رفع يده عن كتفه حتى تحرك الشاب بسرعة وهو يكمل طريقه بعيدا عنه بعد ان انتشله من بحيرة الامل التي غرق بها حتى اذنيه .
نقل (جواد) نظراته للجهة الاخرى قبل ان تعلق عندها وهي واقفة بمكانها توليه ظهرها والهاتف على اذنها ، لتلين بعدها ملامحه لا شعوريا وهو يستمع لصوتها العذب بنبرته الحالمة التي وصلت له بوضوح بدون ان تدرك جاذبيته عندما ينطلق بتلك العفوية
"واخيرا قررتِ الاتصال بي والتنازل قليلا ! لو تعلمين كم شعرت بالوحدة بدونكِ يا جاحدة....."
انقطع الصوت عنه ما ان اكملت سيرها بطريقها الذي اصبح بعيد المنال عنه ، كما اختفت صاحبته تاركة صوتها يتردد بحنايا القلب الواقع بهواها والذي اصبح صريع تلك النيران المؤبدة .
_______________________________
دخلت لمكتب المديرة وهي تحمل كومة من الملفات بين ذراعيها حتى وصلت لحافة المكتب ، لتضعها بعدها فوق المكتب برفق والذي كانت تجلس خلفه الناظرة ، وما ان انتهت حتى تراجعت خطوة وهي تريح كفها فوق الملفات قائلة بابتسامة عملية بنشاط
"هذه جميع الملفات المطلوبة بخصوص الطلاب المنقولين ، وقد رتبتها من اجلكِ على الاحرف الابجدية وتأكدت من جميع اوراقها ، ويمكنكِ مراجعتها مجددا إذا اردت تفحصها اكثر وبشكل ادق"
اتسعت ابتسامتها بلباقة وهي ترفع النظارة الطبية عن عينيها قائلة بنبرة صوتها الخفيضة بثناء
"بارك الله بكِ يا عزيزتي روميساء ، لقد ساعدتني كثيرا بهاذين اليومين وبالوقت الذي ضاق بي كل شيء من جهة اعمالي ومن جهة مسؤولياتي الشخصية ، حقا لا اعلم ماذا كنت سأفعل بدونكِ ! انا ممتنة جدا لكِ"
اومأت (روميساء) برأسها بابتسامة هادئة وهي تقول بسعادة حقيقية بدون اي تعب
"لا تقولي هذا الكلام يا سيدة شهيرة ، فلا احب على قلبي من مساعدتكم وتقديم العون لكم ، لو كان الامر بيدي لكنت مكثت بالقرب من المدرسة لكي استطيع التواجد عندكم بكل الاوقات ومساعدتكم بكل ما يلزم ، فأنا جيدة جدا بكل ما يخص الاعمال التي تطلب جهد جسدي وعقلي بسبب اعتيادي على العمل منذ سنوات مراهقتي الاولى ! انتِ فقط جربيني ولن تندمي"
ضحكت بخفوت لبق وهي تلوح بيدها بتلقائية هامسة بابتسامة بشوشة
"هوني على نفسكِ يا روميساء ! ليس كل الحياة عمل وجهد هناك ايضا مساحة لنفسك ، ولكني احب بكِ جدا هذه الروح العالية والإخلاص بالعمل والإيثار بكل شيء تدخلين له ، وسعيدة بحصولنا على موظفة مجتهدة مثلكِ يحتاج لها كل رأس عمل ، واتمنى ان تستمري على هذه المبادئ والاندفاع بحماس بطريق حياتك"
تغضنت زاوية ابتسامتها وهي تهمس بخفوت ممتن ببعض الشرود
"بالطبع سأفعل ذلك يا سيدة شهيرة ، وشكرا لكِ على هذا التشجيع ، فأنا احتاج له كثيرا بهذه الفترة"
اومأت (شهيرة) برأسها وهي تعيد النظارة فوق عينيها قائلة بجدية تنهي الحوار
"حسنا يا عزيزتي عليّ العودة لاستكمال العمل الذي لا ينتهي ، وانا حقا شاكرة لكِ اجتهادك بالعمل ومعاونتي بهذا الظرف واضطراركِ للمجيئ للمدرسة بأيام العطلة ! ولكن الآن عليكِ العودة للالتفات لحياتك الشخصية والتفكير بتكريس وقتك من اجلكِ فقط ، فهذه الحياة قصيرة جدا وعلينا باغتنام كل لحظاتها بإسعاد انفسنا فقط قبل ان يغدر بنا الزمن !"
زمت شفتيها بعبوس طفيف وهي تخفض رأسها قليلا قائلة بصوت اجوف حزين
"بالتوفيق بعملكِ يا ايتها الناظرة ، وإذا احتجتِ لأي مساعدة بأي وقت عليكِ فقط باستدعائي وسأكون سعيدة بحضوري مجددا ، فأنا لا اطيق صبرا حتى اعود للعمل من جديد ويعود الطلاب لفصولهم ! طاب يومكِ"
ما ان كانت على وشك الرحيل حتى اوقفتها التي هتفت بسرعة بهدوء جاد
"انتظري يا روميساء ، لقد كنتِ تريدين التكلم معي بموضوع مهم قبل اسبوع من الآن ، واخبرتكِ بأنني عندما اجد الوقت سأتكلم معكِ ، ماذا كان ذلك الموضوع ؟"
عضت على طرف شفتيها بعصبية قبل ان تنظر لها بهدوء لوهلة لتهمس بعدها بابتسامة باردة
"لا ليس هناك شيء مهم ، فما كنت اريد التكلم معكِ عنه قد حُلت مشكلته ، لذا لم يعد هناك شيء اتكلم عنه"
حركت رأسها بتفهم وهي تهمس بابتسامة متسعة بمحبة
"لا مشكلة إذا كان الامر كذلك ، المهم هو ان تفعلي ما يريحكِ وتجدينه مناسبا لكِ ، فهذه حياتكِ انتِ بالنهاية !"
اومأت (روميساء) برأسها مجددا بدون اي حياة شحبت الملامح عن وجهها ومسح الوجوم محياها ، غادرت بعدها خارج المكتب وهي تشق طريقها خارج المدرسة ، وما ان وصلت عند مدخل المدرسة حتى توقفت الخطوات لبرهة وهي تحين منها التفاتة للساحة الخارجية ، وبدون إرادة منها كانت تسير بالمكان الفارغ وامام بنايات الفصول المجهورة ، لتقف بعدها امام ما جذب نظرها وهي شجيرة صغيرة تفتحت عليها وردة جورية حمراء كبيرة ومبهرة بشكل ملفت للأنظار .
اشرقت ملامحها بسعادة غامرة وهي تدس يدها بسرعة بحقيبتها لتخرج منها ورقة متوسطة الحجم وقلم رصاص ، قبل ان تجثو على ركبتيها امام الشجيرة تماما وهي تسند الورقة على فخدها وتمسك القلم بيدها الاخرى ، لتبدأ بعدها برسم الخطوط الاولية وهي تصلها مع بعضها بلحظات بشكل الوردة الجورية المتجسدة امامها على ارض الواقع ، فقد كانت تنتابها رغبة مُلحة بعدم اضاعة فرصة رسمها على الورقة بعد ان انتظرت تفتحها فترة طويلة بالحديقة الامامية للمدرسة .
انتفضت بمكانها وهي ترفع رأسها عاليا ما ان سمعت صوت خطوات من خلفها يتبعها الصوت الحائر بدهشة
"معلمة روميساء ! ماذا تفعلين هنا ؟"
ابتلعت ريقها بارتباك وهي تلتفت بنصف رأسها حتى ظهرت لها هوية الواقف بالقرب منها تعلوه علامات التعجب وادوات الاستفهام ، لتحمر ملامحها بامتقاع وهي تلوح بالورقة بيدها هامسة بخفوت محرج بخزي
"مرحبا سيد يوسف ، كيف حالك اليوم ؟ اتمنى ان تكون بصحة جيدة"
ضيق حدقتيه بتركيز وهو يتابع رسومات الخطوط على الورقة والتي تدل على صورة وردة غير مكتملة الاجزاء ، ليميل بعدها على جذعه وهو يقول بحاجبين مرفوعين مستغرق بالانبهار بالصورة امامه
"رائعة يا روميساء ! لقد اعجبتني بشدة رسمتكِ ، يا لكِ من رسامة محترفة ! ولكن هل هذا التوقيت والمكان المناسب للرسم ؟"
فغرت شفتيها بأنفاس مضطربة وهي تخفض الورقة بسرعة لتنتصب واقفة على قدميها ، ضمت الورقة امام صدرها وهي تقول بابتسامة هادئة بدون ان تخفف من اضطرابها
"ليس هكذا هو الامر ، ولكني لم اقاوم رغبتي برسم الوردة امامي ، فقد خفت ألا اراها مجددا عندما اعود بالمرة القادمة ، فهذه بالنسبة لي فرصة لا تفوت !"
استقام بمكانه وهو يطير بعينيه خلف كتفها ليلمح الوردة الحمراء التي تتكلم عنها ، وما ان عاد بنظره لها حتى قال بابتسامة ملتوية بخبث
"وهل هذا يعطيكِ الإذن برسم وردة داخل حدود المدرسة ؟ من سمح لكِ بفعلها ؟!"
اتسعت حدقتيها الخضراوين باهتزاز خاطف وهي تقول من فورها بدفاع شرس
"ما هذا الكلام ؟ انا اريد فقط رسمها ولن اسرقها من مكانها ! ولم يضع احد قوانين تمنع الرسامين من اخذ صورة عنها ونقلها على اوراق رسمهم ! هذه ملكيات عامة"
اخفض وجهه قليلا وهو يهتز بضحك متحشرج لم يعد يستطيع كبحه ليعقب بعدها قائلا بهدوء مرح
"عليكِ رؤية وجهك وانتِ تدافعين بالكلام هكذا ! يبدو بأن تلك السنوات لم تغيركِ عن الماضي ، ربما تكونين قد ازدتِ طولا وحجما ولكن بنفس العقل والمنطق !"
ابتلع باقي ضحكاته وهو يشاهد احمرار وجهها البعيد عن الخجل بل موجة غضب هائج هو ما داهمه ، لتشيح بعدها بوجهها جانبا وهي تهمس بإيباء
"ليس هناك ما يضحك !"
تنحنح (يوسف) بتحشرج وهو يعود بنظره للورقة بيدها ليردف بعدها بهدوء متعاطف
"هل هي هواية ام جزء من دراستك ؟"
نظرت له بحيرة وهي تستوعب السؤال المطروح ، لتقول بعدها بابتسامة مالت بأسى
"لا مجرد هواية تعلمتها بالفطرة ، فقد احببت الرسم منذ طفولتي ومارستها بمراهقتي ، ولكن لم استطع تحقيق حلمها وتركتها منذ دخول الجامعة"
اومأ (يوسف) برأسه بهدوء وهو يقول بابتسامة هادئة باتزان
"هكذا هي الحياة نحلم بطفولتنا بأشياء كبيرة وعندما نصل لسن النضوج تتغير الأحلام ونضطر لتركها بمنتصف طريقنا لتحقيق احلام اخرى لا نرغب بها ، افهم جيدا هذا الشعور"
تغضن جبينها بوجوم وهي تهمس بصوت قاتم
"ربما هو كذلك !"
حدق بها بتركيز وهو يقول من فوره يغير موضوع الحوار
"إذاً ماذا تفعلين بالمدرسة بأيام العطلة ؟ حتى بأيام العطلة تعملين !"
عبست ملامحها بتزمت وهي تقول بنبرة جادة
"لقد طلبوني للمساعدة ، فقد كانت المديرة تحتاج ليد عاملة تساعدها بترتيب ملفات الطلاب المنتقلين"
نظر لها باهتمام وهو يقول بابتسامة غامضة
"وليس لدي شك بمدى مثابرتك بالعمل"
ضيقت حدقتيها الخضراوين بتجهم وهي تقول بتشدق ساخر
"وماذا تفعل انت هنا ؟ تحاول ان تكون الرقيب الذي يسجل اعمالي بالحياة !"
حرك كتفيه ببرود وهو يلوح بملف بيده قائلا بابتسامة واثقة
"الامر ليس كذلك ، ولكن الفكرة رغم ذلك اعجبتني ! لقد جئت لتسليم اوراق سامي بعد ان ضاع ملفه من عند المدرسة ، وقد طلبوه مني اليوم بشكل عاجل"
عبست ملامحها باستياء وهي تدير عينيها بعيدا هامسة بخجل مفرط
"اجل هذا ممكن ايضا ، اعتذر على سوء الفهم"
اخفض الملف جانبا وهو يقول بابتسامة جانبية بمرح
"لا بأس المهم صفاء النية ، انا الآن سأغادر لأكمل ما اتيت من اجله ، وانتِ تابعي ما كنتِ تفعلينه فلا اريد ان ازعجكِ اكثر بوقت ممارسة هوايتك ، بالتوفيق يا معلمة روميساء"
عضت على طرف شفتيها بضيق وهي تتابع بطرف حدقتيها الذي استدار بعيدا عنها ، وبعد عدة خطوات كانت تلوح بيدها عاليا وهي تهتف بقوة
"سيد يوسف انتظر"
توقف بمكانه بسرعة وهو يستدير نحوها بحيرة وبوضع متأهب ، لتخفض بعدها ذراعها ببطء وهي تقول بجمود عازم
"لقد قررت عدم الانتقال من وظيفتي الحالية ، وسأستمر بالعمل بنفس المدرسة التي وجدت بها سعادتي ونصف حياتي"
شقت ابتسامته ببطء فوق ملامحه وهو يقول بدعم صريح يخفي مشاعر طافت على السطح
"احسنتِ صنعا ، لقد اتخذت القرار الصائب"
اتسعت ابتسامتها بسعادة حتى تغضنت زوايا حدقتيها الخضراوين وهي تهمس بابتهاج
"شكرا جزيلا لك يا سيد يوسف ، شكرا لك"
اومأ برأسه بهدوء وهو يشير لها بقبضته بدعم صامت ، ليستدير بعدها وهو يكمل سيره اتجاه مدخل الإدارة ، وما ان اختفى عن نظرها حتى عادت للالتفات امام الشجيرة الصغيرة وهي ترفع يدها بالورقة التي ارتمست عليها خطوط للوردة الجورية الغير مكتملة ، لتنحني بعدها من جديد على ركبتيها وهي تعود لخط قلم الرصاص عليها باجتهاد ومثابرة على انهاء رسمتها التي ستخلد بين رسوماتها الحديثة بعد ان قررت تكريس وقتها لكل ما تحب وتهوى نفسها والتي شقيت من التفكير والتعب على الغير .
_______________________________
كانت تمسك بجهاز التحكم وهي تقلب بين القنوات على غير هدى بدون الثبات على شيء محدد وكأنها تسلي نفسها برؤية الشاشة تتقلب بمئة لون وصورة ، لتتسمر بعدها يدها بالهواء ما ان سمعت صوت اقتراب خطوات احدهم بدون النظر له او اتعاب نفسها بفعلها ، لتعبس ملامحها بوميض الخطر وهي تستمر بالضغط على نفس الزر بقوة اكبر والذي يقلب القنوات الواحدة تلو الاخرى .
سمعت صوت زفيره بجانبها دليل على الغضب البركاني الذي يهدد بالانفجار بعد النجاح بمضايقته بدون مجهود يذكر ، مرت لحظتين على هذه الحال قبل ان تلمحه يجلس على اريكة منفصلة بجانبها وهو يضع الحاسب الشخصي امامه فوق الطاولة الصغيرة التي تتوسط غرفة المعيشة ، لترمقه بعدها بصدمة وهي تجده منحني امام الحاسب ومنهمك بالعمل عليه بتركيز شديد وكأنه بمكتب عمله وليس بوسط المنزل امام التلفاز وبجوار زوجته ، ألا إذا كان يريد بهذه الطريقة ان يشعرها بأنها تحت المراقبة ولن يتركها لحالها ابدا ! وكأنها عين تجسسيه تترصد لكل حركاتها وهفواتها وتمرداتها ! وهذا بحد ذاته جنون سيدفعها لارتكاب جريمة بنفسها !
تأففت (ماسة) بنفاذ صبر وهي تعود بنظرها للتلفاز الاكثر ملل بحياتها والذي لا يعرض عليه سوى عروض سخيفة لفارغي العقل وللفاشلين عاطفياً ودراسياً ، لتتململ بعدها بمكانها وهي ترفع ساقيها لحافة الاريكة وتضمهما بذراع واحدة وبالذراع الاخرى تمسك يدها بجهاز التحكم الذي تلوح به باستمرار ، لتضغط بعدها على طرف شفتيها وهي ترفع صوت التلفاز اكثر واكثر بنوايا دنيئة حتى لم يعد هناك مجال للرفع اكثر وهو يصل للحد الاقصى .
حادت بحدقتيها الزرقاوين نحوه وهي تنتظر ردة الفعل الحتمية والتي ستفجر غضبه ، وبعد مرور لحظات بدون اي ردود ألقت بالجهاز بقوة على الطاولة وهي تهمس بحنق بالغ
"سحقا لك !"
حدقت به وهو يلتقط جهاز التحكم من على الطاولة ليخفض بعدها صوت التلفاز لأقصى حد ، قبل ان يضعه بجانبه بعيدا عن متناول يدها لكي لا تحاول التلاعب به مجددا ، زفرت انفاسها بضيق لوهلة وهي تشيح بوجهها جانبا قائلة بنزق واضح
"إذا كنت منزعج من صوت التلفاز يمكنك الجلوس بغرفتك والعمل بها ، او بالأساس ما لذي يجبرك على العمل بالمنزل وانت تستطيع الذهاب للشركة والعمل بمكتبك والمكان المخصص للعمل ؟!"
رمقها بطرف عينيه وهو يقول بهدوء جاف بدون اي تعبير
"لقد قررت العمل بشكل مؤقت بالمنزل ، يعني بالمعنى الحرفي لن افارقك حتى تنتهي تلك الفترة ، وهذا بالتأكيد خبر سار لكي لا تشعري بالوحدة بعد الآن !"
عضت على طرف شفتيها بقهر وهي تهمس من بينهما بغيظ مستاء
"رائع ! يا لسعادتي التي لا توصف ! هذا فقط ما كان ينقصني"
تغضنت زاوية ابتسامته بعمق وهو يعود بنظره للشاشة قائلا بهدوء بديهي
"لم اسألكِ عن رأيكِ بالأمر ، لذا اتركي سخريتك وتعنتك لنفسك"
كتفت ذراعيها امام ساقيها وهي تهمس باستنكار عابس
"ومتى اخذت رأيي بقراراتك ؟ انت فقط تطبق الإجبار والفرض عليّ وصوتي هو آخر ما تفكر بسماعه ، والآن تنزعج بسبب غضبي وسخطي من الوضع ! هذه آخر حقوق تبقت لي بعقد الزواج المزعوم !"
ارتفع حاجبيه بانتباه تمثيلي وهو يعقب قائلا باستهزاء
"هل عدتِ لتمثيل دور الضحية بهذه القصة ؟"
امتعضت ملامحها باحمرار متوهج بالدماء وهي تدير وجهها بعيدا هامسة بتملق
"لست ضحية بل اكبر حمقاء قبلت بالارتباط بعديم مشاعر مثلك ! رجل جليدي !"
عض على طرف ابتسامته وهو يقول بحاجب واحد بصوت خفيض ماكر
"لو تعلمين مقدار المشاعر التي اخبئها لكِ ! لما قلتِ هذا الكلام عني ، او لما قلتِ شيء يقلل من مكانتكِ عندي"
ادارت وجهها اكثر حتى كادت تخلع عنقها وهو يستطيع ان يلمح احمرار اذنها جراء المواقف العاطفية التي تظهرها خرقاء ، لتهمس بعدها بقنوط خافت
"يا للفظاعة !"
كتم ضحكته بطرف اسنانه وهو يعود للعمل على الحاسب امامه بروح عالية بعد ان شحنته طاقتها العاطفية بالكثير من الإيجابيات ، بعدها بغضون دقائق كان تعود للنظر له وهي تقول بهدوء جاد واصابعها تدور حول ركبتيها
"وكيف ستتدبر امر زيارة شقيقتك بالمشفى ؟ هل ستنقطع عنها بهذه الفترة !"
صمت (شادي) للحظتين قبل ان يجيبها ببساطة بالغة
"يمكنني التواصل مع اطبائها المختصين بحالتها على الهاتف ، بدون الداعي للذهاب لها شخصياً ، وهي قد اصبحت بحالة جيدة جدا عن السابق وتجاوزت الخطر الذي كان يهدد حياتها"
اومأت (ماسة) برأسها بشرود وهي تدرك هذا الامر جيدا فقد كانت تزورها وتقابلها كل يومين بسرية بدون علم احد وهي قد ساعدتها بتغطية هذه الزيارات ، فما يزال شعور تأنيب الضمير يقهرها ويعذبها ليدفعها للاطمئنان على فتاة غريبة لا تربطها بها صلة قوية ولم تصادف لقاءها سوى مرتين قبل الحادثة ، ولكن ان تكون السبب بموت او عذاب احدهم فلن تقبل بهذا الاحتمال ولن تحتمل حمل مثل هذا الاتهام على قلبها المظلم الذي تعبأ بالكثير من الآثام !
غامت ملامحها بسوداوية وهي تهمس بوجوم خافت خرج عن إرادتها
"وماذا عن المنزل الذي كنت تعيش به طول تلك الفترة والتي هجرتني بها ؟ هل ستتركه فارغ ومهجور كل هذا الوقت ؟"
توقف عن الضغط على الحاسب لبرهة قبل ان يقول بعملية جادة
"هل اجريتي استجواب مع لينا ؟"
اتسعت حدقتيها بأمواج عاتية وهي تهمس من بين اسنانها بخفوت شرس
"إذاً تعترف بأن هذا الامر صحيح ! وانا الذي ظننتك ستنكر هذا الامر ، سحقا لكما"
تنهد (شادي) بهدوء وهو يدير وجهه نحوها ليقول بعدها بحزم جاد تغيرت نبرة صوته
"ليس هناك شيء مما تفكرين به قد حدث ! كل ما يدور برأسكِ مجرد سوء فهم ، فأنتِ اكثر من يعلم عن السبب الحقيقي بانقطاعي عنكِ طول الشهر الفائت......"
قاطعته (ماسة) باندفاع لا إرادي وهي تلوح بيدها بعشوائية
"إذاً فسر لي سبب ذاك الاتصال الذي اجابت عنه حبيبتك بدلا عنك ؟! هل هناك تفسير منطقي ؟"
تعقدت ملامحه وهو يرفع عينيه فوق شاشة الحاسب ليقول بعدها بهدوء محتد
"عن اي اتصال تتكلمين ؟"
زمت شفتيها برجفة لاذعة وهي تقع صريع نظراته الحادة التي تظهر انشداد حول زوايا العينين السوداوين ، لتحرر نفسها بسرعة وهي تشيح بعينيها بعيدا هامسة ببحة خافتة
"لا شيء مهم ، انسى ما قلته الآن"
عبست زاوية شفتيه وهو يحني نظراته بعيدا قبل ان يتمتم بجدية هادئة
"على كل حال لقد تركت تلك الشقة ، فقد كان سكني بها مجرد مهلة مؤقتة قد انقضت وذهبت ، وانا الآن قد عدت للسكن بشقتي الحالية والتي ستصبح منزل عائلتنا الجديدة"
كشرت ملامحها بضيق وهي تشدد من ضم ساقيها هامسة بتملق
"يا لفرحتي ! وانا التي كنت لا استطيع نوم الليل بسبب هذه القصة ، والآن بعد كلامك سأنام الليل الطويل وانا مرتاحة البال"
اومأ برأسه وهو ينظر لشاشة الحاسب قائلا بهدوء يجاريها بكلامها
"وهذا هو المطلوب"
اصدرت صرير عالي بأسنانها المطبقة قبل ان تحرر انفاسها بهدوء تحاول تمالك اعصابها ، لتنزل بعدها ساقيها على الارض بحالة استعداد وهي تقبض على كفيها فوق ركبتيها قبل ان تقول بهدوء ثابت
"لا يهمني كل ما تفعله ، ولكن وجب عليّ تنبيهك بنهاية الاسبوع القادم لدي اختبار نهائي بالكفاءة سيؤهلني لاستلام الشهادة الجامعية ، لذا سيكون عليك انهاء هذا الوضع لأستطيع انجاز الاختبار بالجامعة وانتهي من هذا"
حدق بها بتركيز وبحاجبين منعقدين وهو يقول بتفكير جاد
"وهل هي بهذه الاهمية ؟ هل من الضروري فعلها ؟"
التفتت نحوه بعينين مشدوهتين وهي تقول من فورها بعنفوان جامح
"بالطبع هي بهذه الاهمية ! فهذه الشهادة تثبت جدارتي ونجاحي بالتخصص الاكاديمي وبمسيرتي التعليمية بالجامعة ، وألا لماذا درست كل هذه السنوات وهدرت عمري من اجلها برأيك ؟"
تغضن جبينه بضيق وهو يسند ذقنه فوق قبضته بوضع الإنصات قائلا ببرود مقتضب
"وماذا ستفعلين بالشهادة بعد حصولكِ عليها ؟ سيكون مصيرك مثلك مثل كل طالب حصل على الشهادة وجلس مع صف العاطلين عن العمل ، وايضا انتِ امرأة متزوجة ماذا ستفعل امرأة بحالتك بالشهادة ؟!"
تجهمت تقاسيمها وهي تدير جسدها نحوه بتحفز بعد ان عبث بأوتارها الحساسة وهي تشير لنفسها بأصبعها السبابة قائلة بدفاع مستميت
"انا سأدخل سوق العمل بالدراسة التي دخلتها ، ولن يمنعني احد عن تحقيق طموحي بالحصول على العمل الذي يجعلني استقل بحياتي الشخصية والمادية ، فهذه كانت اقصى واعلى اهدافي بالحياة ولن تتغير ابدا تحت اي ظرف او سبب كان ، فأنا لم اخرج من قفص سجاني الاول لأدخل بقفص آخر يسرق المزيد من عمري واحلامي ! لن يحدث !"
تصلبت ملامحه بخطوط مشدودة وهو يميل بجسده عند جهتها قبل ان يقول بكلمات بطيئة يحاول تلقينها لها بالحرف
"طلبكِ مرفوض ، لن اسمح بحدوث شيء من هذا"
تمردت ملامحها وهي تقفز واقفة بقوة غير مهتمة لألم قدمها المصابة والتي ضربت عليها ، لتلوح بذراعها بالهواء وهي تقول بهجوم ضاري
"ماذا تعني لن تسمح ؟ ماذا تعني ! هل تظنني سأسير على رأيكِ وقرارتك الغير منصفة بحقي ؟ لقد عانيت وكافحت بكل قوتي وطاقتي للوصول لهذه المرحلة ! لقد عاندت عمي قيس بكل تجبره وسطوته للانتساب بالجامعة واختيار التخصص الاكاديمي الذي ارغب به ، هذا الشيء الذي تضررت وتنازلت من اجله لكي يرضى ذلك الرجل الاناني الجشع الذي لا يفكر سوى بما يدير مصلحته ، هل تظن بأني قبلت بدراستي بهذه السهولة التي تتخيلها ؟ هل تظن بأن تجميع مصاريف الجامعة بهذه البساطة التي تتوقعها ؟ لقد خضت اختبارات دولية ونظامية وتنافسية فقط لكي احصل على منحة تقبل دراستي وتضمنها لي ، وعندما تحقق الامر واجهت صعوبة اخرى بقبول جامعة كبيرة بطالبة لديها سجل عائلي ومدرسي وجنائي سيدفع كل المخلوقات للنفور منها ونبذها من العالم ، ومع ذلك حاربت كل هذا وصمدت فقط ليتم الوصول لذلك الحلم المستحيل ، تنازلت عن كبريائي وكرامتي وركعت امام اقدامهم ليتم قبولي بالجامعة والدراسة التي اخترتها بإرادتي ، لقد انتزعت كل مشاعري وشخصيتي وروحي لكي احصل على رضى منهم وانتزع حلمي من بين ايديهم ، ومن انت الآن لكي تمنعني من الحصول على تلك المكافئة التي استحقيتها كل تلك السنوات ؟! من انت لكي تأخذ مني تعب السنين وعناءها بحياتي الكادحة ! انت لا تسوى شيء امام ما مررت به بحياتي وحصلت عليه بجهدي !"
تلبدت ملامحه الصخرية وهو يتابعها بعينيه الصامتتين الغير معبرتين وهو يستمع لأول مرة لألمها الذي افضت به بكل ما يعتمل بصدرها الذي ضاق من حياتها القديمة والتي اجرمت بحقها ، ليتنفس بعدها بهدوء متحشرج وهو يعود بجلوسه للخلف قبل ان يردف قائلا بروية وتصلب بدون ان يفارق النظر لها
"لا بأس يا ماسة ، نحن سنتحدث بهذا الموضوع عندما يحين وقته ، لا داعي لأخذ كل هذا الدفاع والهجوم الشرس بأمر سابق لأوانه !"
كانت تتنفس بهياج متسارع وهي تحدق به بعينيها الداكنتين اللتين اختلتا من الهدوء والسكون ولم يبقى سوى رواتب العواصف تسكن بهما ، وقبل ان تنطق بحرف كان صوت جرس الشقة يتردد بأنحاء المكان وكأنه يخترق جدرانهما المنيعة الكاتمة للصوت ، ليتحرك بعدها (شادي) وهو يقف ببساطة ليلتف حول الاريكة بلحظات قبل ان يغادر بعيدا عنها .
استغرق دقيقتين كاملتين بغيابه قبل ان يعود مجددا وهو يحمل كيس بلاستيكي يحوي على شيء مربع الحجم ، لترفع بعدها حاجبيها ببهوت مترقب وهو يصل امامها ليخرج العلبة المسطحة من الكيس البلاستيكي قبل ان يضعها فوق الطاولة الصغيرة بالقرب من الحاسب ، وبلحظات كان يجلس فوق نفس الاريكة وهو يشير بيده للعلبة المسطحة قائلا بابتسامة جادة وكأنه يتصرف بتلقائية اعتاد عليها
"لقد طلبت لنا غداء سريع لكي لا نبقى بمعدة فارغة بما ان المطبخ لا يحوي على شيء ، ولكن لا تعتادي على هذا الوضع كثيرا فأنتِ من الغد ستبدأين بلعب دوركِ كزوجة مطيعة وتطهين لنا من اصناف طعامكِ ، وانا سأحضر لكِ كل الاغراض الناقصة بالمطبخ لكي لا تكون لكِ حجة بعد الآن"
سكنت الامواج على سطح ملامحها الصلبة بانحصار المد وهي تتحرك من مكانها بجر قدمها المتألمة إجباراً ، ما ان ابتعدت عدة خطوات حتى قصف صوته من خلفها بصوت محذر شديد
"إذا تحركتِ الآن من دون طعام فقد اضطر لإطعامك بنفسي كما حدث بالأمس ، وانا لا امزح بمثل هذه الامور الجادة ! لذا تناولي بنفسكِ واحفظي ما تبقى من كرامتك"
تصلبت بمكانها وهي تنشج بأنفاسها بغضب مكتوم قبل ان تتحامل على نفسها وهي تعود ادراجها ، وما ان وقفت امام الطاولة من جديد حتى انحنت قليلا وهي تفتح العلبة الكرتونية من اطرافها ، لتزكم انفها رائحة البيتزا الساخنة التي بدت لم يمر على خروجها من الفرن سوى ثواني .
التقطت قطعة بيتزا مقسومة وهي تلفها حول نفسها مثل الشطيرة ، وما ان استقامت وهي تنوي المغادرة حتى تبعها بالكلام مجددا بصرامة قاطعة
"لن تتحركي قبل ان تتناوليها امامي ، فما لذي يضمن لي انكِ لن تلقي بها بزاوية بعيدة ما ان تختلي بنفسكِ ؟!"
رمقته بطرف حدقتيها باشتعال على وشك ان يوديه قتيلا وهي تغمغم بصوت مغتاظ
"مستفز !"
عادت مكانها امام عينيه وهي ترمي بنفسها جالسة على طرف الاريكة لتبدأ بالتهام قطعة البيتزا بيديها بنهم مقصود ، لتعتلي بعدها ابتسامته بشغف وهو يغمس نفسه بإشباع غريزته بتأملها بمشاعر بدأت تهفو لها ، وبعد عدة لحظات خاطفة كانت تترك نصف شطيرة البيتزا فوق الطاولة وهي تهمس بخفوت مرتخي
"الحمد لله ، لقد شبعت ، هل تسمح لي بالتحرك ؟"
اومأ برأسه بشبه ابتسامة حفرت خطوطها عميقة حول شفتيه المتصلبتين ، ليفرد ذراعه على جانبها قائلا بتسلية واضحة
"تفضلي الطريق مفتوح امامك ، البيت بيتكِ بالنهاية"
زمت شفتيها بعبوس وهي تنهض عن الاريكة بقوة لتجر قدمها المصابة بعنف وهي ترحل هذه المرة بدون توقف ، بينما الذي تركته خلفها كان يلتقط شطيرة البيتزا التي تبقت منها وهو يقضم منها باستمتاع واضح لم يشعر به منذ زمن ، ليتابع عمله بيده الحرة التي كانت تضغط على لوحة المفاتيح وعينيه على الشاشة بتركيز اكبر وابتسامة مشتهية تغلبت على صلابة ملامحه وجفاء الاجواء التي تحيط بينهما .
____________________________
تجاوز بوابة المنزل الخارجية وهو يكمل طريقه بخطوات متثاقلة بجهد معنوي ونفسي وبفراغ موحش توسع بصدره ، وما ان وصل منتصف الطريق حتى توقف بلحظة لا شعورية تحكم بها قلبه وهو يصوب نظره نحو الحديقة المسورة من حول المنزل ، وبدون إدراك تقريبا غير وجهة خطواته لداخل الحديقة وهو يسير بطريق محفوظة .
ما ان وصل لمنطقة محددة حتى توجهت نظراته تلقائيا لزاوية بالحديقة احتلتها ازهار صغيرة شكلت مجموعة من الشتلات المزروعة ، وهو يعلم حق اليقين صاحبة اليد التي زرعت تلك الازهار معا وشكلتها بمجموعة لتحمي كل منهما الاخرى وتكونان بعيدا عن الاقدام الثقيلة التي لا ترى امامها ، فهي قد استطاعت ان تترك انطباع واثر خلفها بذلك المنزل الكبير بدون ان تكتفي بالبشر حتى تجاوزت بسخائها ومشاعرها ان تتلاعب بحياة النباتات الحية ، وما كانت بقيت على قيد الحياة لولا اهتمامها ورعايتها لتلك الكائنات الصغيرة والتي لا تملك حق اختيار حياتها .
زفر انفاسه ببرودة الهواء وهو يحدق بالسماء المتلبدة بالغيوم الكثيفة بليلة اختفى عنها ضوء القمر ، وهو يذكر جيدا ليلة شبيهة بهذه الليلة عند اكتشافه موقع هذه الازهار ورؤية الاميرة الصغيرة تغني لهم وتلهو معهم تحت ضوء القمر ، ولكن الآن لا وجود لتلك الاميرة الجميلة ولا اثر لضوء القمر المنير بالسماء وكأنه يتعمد هجره بعد هجران اميرته ! ليزيد شعور الخواء والفراغ بداخله اضعاف وكأنها فجوة سحيقة لا طريق لمرور الضوء والدفء بها حبس بداخلها لوقت غير معلوم !
تغضنت ملامحه بخطوط مشدودة وهو يخفض نظره بمواجهة مجموعة الازهار ليتبعها بحني ركبتيه وهو يجثو ببطء ، بعدها بلحظة كانت تشق ابتسامة ساخرة محياه اخترقت قسوة ملامحه وهو يتأمل انكسار سيقان الازهار حتى انحنت قمة وريقاتهم للأسفل وكأنها حالة حزن تمر عليهم ، وكأنها تعرف بأن صاحبتها الوحيدة التي تشعر بها قد تركتهم مشردين ضائعين بهذه الحياة بدون ان يسأل عنهم احد ، ليشيدوا حالة حداد وحزن على صاحبتهم التي غادرت المنزل ورحلت مكسورة الخاطر من الجميع .
تنفس بصدر ضيق يشعر به يكاد ينفجر من المكدرات والحشرجات المحشورة بخلده ، ليستقيم بلحظة على قدميه وهو يقود نفسه بعيدا عن الجميع باتجاه طريق المنزل الذي تركه بمنتصفه ليلاحق خيالات الماضي ونسيج الحاضر .
دخل (جواد) للمنزل بصمت وهو يحدق بالظلمة السابح بها وكأن تلك الحالة لا تريد تركه وكل شيء يخاصمه بحداد خانق ، ولم يخرجه من تلك الحالة سوى صوت حفيف اطراف العباءة التي يحفظها بأذنيه وهو يبصرها تقترب صوبه من بعيد ، وبلحظات كانت تقف بمقابلته وهي تبتسم له تلك الابتسامة الحزينة التي تظهر فقط مجرد انشداد بتقاسيم وجهها الشاحبة ، لتحط بعدها بكفها على ذراعه بحنان وهي تهمس بحزن عميق عاتب
"مساء الخير يا جواد ، هل كنت ستتركني ابيت هذه الليلة بدونك مجددا ؟ لماذا تخيفني عليك هكذا بكل ليلة تمر علينا ؟! ألا يهون عليك قلب والدتك والذي تعب من الدوران حولك ؟"
تجمدت ملامحه ببرود وهو يزيح ذراعه بعيدا عنها قائلا بهدوء مرهق
"لا تفعلي هذا يا امي ! فقد تعبت من هذا العتاب واللوم وتحميلي اكثر من طاقتي ، انا بشر بالنهاية ولست معصوب عن الوقوع بالخطأ ، واحتاج دائما للوقت للانفراد مع نفسي ومحاولة التكيف بمجرى حياتي ، لذا لا تصعبي عليّ هذا ايضا يا امي"
اهتزت حدقتيها السوداوين بوجل وهي تمسك بذراعه برفق هامسة بخفوت متوجس
"ماذا حدث معك يا بني ؟ هل انت بخير ؟ لا تجعلني اجزع عليك فقلبي يؤلمني بكل يوم على حالتك والتي لا تذهب سوى للأسوء ، على الاقل طمأنني عليك وتوقف عن مقاطعتي هكذا كل فترة"
اخفض حدقتيه نحوها وهو يعبس بارتخاء طفيف قائلا بتحشرج متعب
"امي رجاءً......."
امسكت بكلتا ذراعيه بيديها وهي تحثه على الكلام قائلة بابتسامة حانية بأمومية
"هيا اخبرني يا بني بكل ما يشغل بالك ، قد ترتاح عندما تشارك احدهم آلامك واحزانك ، لا تكبتها بداخلك يا بني فلن يتأذى احد غيرك من هذا التعذيب"
ابتلع (جواد) ريقه بتصلب وهو يواجهها بعينين حزينتين بان الاسى والخذلان بهما وهو يقول برضوخ تام وكأنه طفل مذنب يفصح بأسراره لأمه
"لقد رأيتها يا امي تعود لاستكمال حياتها التي سرقتها منها ، عادت بقوة واستطاعت تجاوز كل شيء ، وانا كنت اقف على الهامش من الطريق والذي مرت عليه ورحلت ! كيف سأستطيع تجاوز كل هذا بسهولة ؟ كيف سأستطيع نسيانها وهي التي تركت اطياف وخيالات بكل مكان يخصها ؟"
عبث الحزن بملامحها البيضاء الشاحبة وهي تمسح على ذراعيه بعطف تحاول مواساته قليلا وبث الراحة بقلبه ، لتقول بعدها بابتسامة هادئة يشوبها الاسى الذي لا يفارقها
"هكذا الحال افضل يا بني ، عندما نحاول جهدنا الاستمرار بحياتنا ونسيان كل ما فات هذا بحد ذاته إنجاز وتقدم ، وانت عليك فعل المثل كذلك ومحاولة التأقلم ونسيان كل ما فات وألا ستبقى عالق بتلك الدوامة طويلا تذهب وتعود منها حتى ترهق نفسك وتفقد قوتك"
ضيق حدقتيه السوداوين بألم حارق وهو يقول بشبه ابتسامة خارت قواها
"لو كان الامر بهذه السهولة كما تقولين يا امي لما كنا ما نزال نعاني من حادثة فقدان ابنة العائلة والتي قهرت ارواحنا وقلوبنا لسنوات ، لو كان بهذه السهولة لما كنتِ ما تزالين تبكين على صورة قديمة لابنتكِ نحت الصدئ طريق على إطارها ، لو كان بهذه السهولة لما كنا ما نزال نتألم بكل مرة نجلب بها ذكراها او حديث عنها او حتى نطق عابر لاسمها ! والآن تطلبين مني بكل بساطة تجاوز هذا الامر يا امي ! لقد كتبت على روحي الغرق بهذا الألم ولن استطيع التحرر منه بهذه السهولة"
شحبت ملامحها بلمحة خاطفة حتى تجمدت الدماء بحفريات وجهها الذابلة ، لترتمي يديها على جانبيها بارتخاء وهي تقبض عليهما باللحظة التالية قبل ان تقول بهدوء جامد بدون ان تأبه بالألم الغائر بعينيها الواسعتين
"ومع ذلك عليك بالمقاومة ومحاربة الألم كما كنا نفعل منذ سنوات ، فليس الوقوف بمكانك والحزن على حالتك هو الحل لمشاكلك ! إذا لم تتحرك الآن فلن تتحرك بحياتك ، وانا ارى بأن شد طرف الخيط هو الطريق للحصول على راحة كليكما ، واقصد بذلك هو اتمام اجراءات طلاقكما وتحرير كليكما من هذه الأوهام......"
قاطعها (جواد) بقوة وهو ينظر لها بتجهم عابس
"مستحيل يا امي ! لا تفكري بهذا الاحتمال مجددا ، انا اقول لكِ بأني اتألم فقط برؤيتها بعيدة عني ! فكيف تريدين مني تطليقها وانتزاع الحق الوحيد المتبقي لي عندها ؟! هل تريدين ان تجني عليّ يا امي ؟"
حركت (هيام) رأسها بالنفي وهي تلوح بيديها قائلة بتوضيح صارم
"ليس هكذا يسير الامر يا جواد ، فأنت لا تستطيع ارغام العلاقة المكسورة على الاصطلاح او اجبار الطرف الآخر على الرضوخ ، لذا عليك بتحرير سبيلها وتركها لترى حياتها ولكي تكون مهمة تجاوزها اسهل عليك ! ألا تفهم ما اقول ؟!"
احتدت ملامحه بتعبير قاسي وهو يرجع للخلف بعيدا عنها قائلا باستنكار بعد ان غيبت عقله بالسواد الحالك
"لن افعل شيء يا امي ، ولن يرغمني احد على فعلها ، إذا كنت سأحترق بتلك النيران التي اشتعلت بداخلي على مدار سنوات فهي إذاً عليها ان تحترق معي ! فأنا لن اواجه هذا الألم لوحدي بعد الآن ، لن يرتاح احد منا ، ولن ينصف احد منا ايضا ، فقد دخلنا بتلك العلاقة معا وسنموت بها معا !"
انفرجت شفتيها بلوعة وهي تنشج بأنفاسها بخوف بادئ على ملامحها التي بهتت بانعدام حياة ، وبدون ان ينتظر ردّ فعلها كان يتحرك من امامها وهو يتجاوزها بعيدا ، ليتوقف بعدها بخطوتين وهو يلتفت بنصف وجهه ليقول بصوت خفيض بتذكر وكأنه يتكلم عن الطقس
"لقد كدت ان انسى ، عليكِ بسقاية الازهار المزروعة عند زاوية الحديقة الخاصة بمشروع صفاء ، فهي على وشك ان تذبل وتموت من نقص الاهتمام والماء ، لذا خصصي لها بعض الوقت واهتمي بها جيدا فلا نريد ان تقول عنا صفاء بأننا مجردين من القلوب والرحمة !"
ارتفع حاجبيها بدهشة اكبر وهي تستدير بسرعة ناحية الذي غادر وتركها بمنتصف البهو الواسع ما تزال انفاسها المسكينة مسموعة لأذنيها ، لترفع بعدها يدها برهبة وهي تريحها فوق صدرها الخافق عند مكان الألم الذي ما يزال ينخز بحرقة ، لتهمس بعدها بأنفاس هدئت بحزن اضناها
"يارب اعطه الهداية بطريقه والسلام لقلبه ، وكفه عن الاذى والشر ، لا تفجعني به ايضا يارب ، فلن اتحمل المزيد من الفواجع ! لن اتحمل !"
_______________________________
سارت نحو الباب وهي تعدل الوشاح الاسود حول رأسها بعشوائية بدون اتعاب نفسها بالنظر للمرآة ، وما ان وقفت امام الباب حتى فتحته مباشرة بدون ادنى تردد لتقابل هوية الطارق والذي علمت بقدومه مسبقا .
ارتسم الجمود على ملامحها الصلبة التي لا تعبر عن شيء سوى عن الظلمة التي اتشحت بها من رأسها حتى اخمص قدميها ، بينما الواقف امامها اخذ جولة قصيرة عليها بنظرات ذات مغزى قبل ان يتوقف عند وجهها الهادئ الخالي من اي زينة ، ليبتسم بعدها بغرور واثق وهو يمد باقة الازهار بيده قائلا ببشاشة مستفزة
"مساء الخير يا سيدرا ، كيف حالكِ يا عروسي ؟ هل انتِ مستعدة لرؤية افضل ما في اليوم ؟"
تغضن جبينها بشحوب وهي تخفض حدقتيها امام باقة الازهار البيضاء الكبيرة قبل ان تهمس بوجوم باهت
"ما هذا الشيء ؟!"
رفع (عمير) باقة الازهار امامها وهو يقول بابتسامة ساذجة
"لقد احضرت باقة ازهار للفتاة الاجمل والاروع بالكون ، وألا كيف تريدين مني ان اعبر عن جمالكِ بطريقة اخرى !"
كشرت ملامحها باشمئزاز وهي تقول بجمود جاد
"لقد قصدت ما مناسبتها الآن ؟ هل ترى الوضع مناسب لتحضر معك باقة ازهار ! يبدو بأنك تجيد تقمص دورك جيدا"
حرك كتفيه باستخفاف وهو يقول بابتسامة جانبية بتملق
"انتِ فعلا فتاة تقليدية يا سيدرا ! ولكنكِ مع ذلك تعجبينني بكل حالاتك ، لقد اشتريت باقة الازهار من اجل مناسبة هذا اليوم ، فأنا بالنهاية رجل متحضر ومتأنق ويعرف بالتقاليد والاعراف ويتوجب عليّ بهذه الحالة احضار باقة ازهار تليق بالمرأة التي ستصبح شريكة حياتي وانيسة ايامي"
زفرت (سيدرا) انفاسها بضجر وهي تحدق بباقة الازهار بجمود ويديها تنقبضان على جانبيها لا شعوريا ، لترتجف اطرافها ما ان قدم الباقة عند صدرها وهو يقول بابتسامة هادئة
"هيا خذي الباقة مني يا سيدرا ، ليس من الجميل ان ترفضي اول هدية من زوجك المستقبلي الذي وصل عند بابك"
عضت على طرف شفتيها بأعصاب متنافرة وهي ترفع يديها على مضض لتلتقط الباقة بصمت ، لتتنحى بعدها عن طريقه وهي تفرد ذراعها امامه قائلة بترحاب مقتضب
"تفضل بالدخول يا سيد عمير ، اخي ينتظرك بغرفة الجلوس"
تقدم امامها عدة خطوات واسعة وهو يرمقها بنظرات متحررة بدون اي حواجز ، ليقول بعدها ما ان اصبح بالقرب منها بابتسامة مفترسة بنشوة
"تبدين اليوم بغاية الجمال مثل نجمة متألقة بليلة حالكة السواد ، ومهما حاولتِ ادخال السواد والتعاسة لحياتكِ ستبقين متميزة وفريدة بعينيّ ، لا تنسي هذا الكلام"
اشاحت (سيدرا) بوجهها بعيدا بعد ان استبد بها العجز اقصى درجاته وهي تشدد من احتضان الباقة وكأنها تستمد منها الحماية ، وما ان تجاوزها اخيرا وهو يكمل خطواته اتجاه غرفة الجلوس حتى حررت اسر انفاسها بتعب جثم على صدرها وقهر عزيمتها التي تحلت بها بهذه الليلة .
قادتها قدميها نحو المطبخ بسرعة لتلقي من فورها بباقة الازهار بالقمامة الموجودة عند الزاوية ، لتغلق بعدها غطاء سلة القمامة عليها وهي تتأملها للحظات بدون اي حياة ، تحركت بعدها امام المجلى وهي تتناول صينية اكواب القهوة والتي تعمدت صنعها بمرارة العلقم يعلوها طبقة من الرغوة السوداء الحالكة ، لتخرج من فورها من المطبخ وهي تسير اتجاه غرفة الجلوس بحركات آلية .
ما ان دخلت للغرفة حتى اتجهت العيون نحوها بين نظرات تكاد تنهش عظمها ونظرات عابسة تكاد لا تراها ، لتتنفس بعدها بتحكم اعصاب جليدي وهي تتقدم عدة خطوات قبل ان تنحني امام الطاولة المستديرة بالمنتصف لتوزع عليها كوبين القهوة بهدوء .
ما ان استقامت بمكانها حتى تراجعت عدة خطوات وهي تأخذ وضعية الرجل الآلي المجرد من المشاعر والاحاسيس ، ليقطع بعدها الصمت الذي امسك بكوب القهوة وهو يقربه منه قائلا بامتنان
"شكرا لكِ يا سيدرا ، سلمت يداكِ ، تبدو رائحة القهوة طيبة مثل رائحة المسك"
اغتصبت (سيدرا) ابتسامة جافة وهي تهمس بخفوت مشتد
"بالهناء والشفاء"
تدخل بعدها الفرد الثالث وهو يقول مباشرة بدون اي مقدمات
"لندخل بالموضوع مباشرة ونتخطى البدايات ، ماذا تريد من شقيقتي يا سيد عمير ؟"
اخفض (عمير) كوب القهوة عن شفتيه وهو يضعه مكانه على الطاولة ، ليعتدل بعدها بجلوسه وهو يقول بابتسام مريب
"وانا ايضا كنت اريد قول هذا الكلام ، فقد ضقت ذرعا من الانتظار ولم اعد استطيع الصبر اكثر ، ولكن لو انتظرنا قليلا حتى تجتمع باقي افراد العائلة ، فأنا لا ارى السيدة ام معتز بيننا ؟"
ردّ عليه (معتز) بهدوء متزن
"امي الآن ترتاح بسبب تأثير المسكن عليها فقد تعرضت لوعكة صحية ، ولن تستطيع مشاركتنا بهذه الجلسة ، لذا يمكنك ان تنجز ما اتيت من اجله معي وننتهي منه"
اومأ برأسه بتفهم وهو يرمق الواقفة بينهما بنظرات واضحة النوايا استطاعت التقاطها وهي تثير غثيانها ، ليقول بعدها بهدوء صريح وهو يتخذها مادة بكلامه
"تعلم جيدا الشيء الذي يربطني بشقيقتك والذي كان اكبر مني ومنها ، لذا اتيت إليك اليوم تحديدا لطلب يد سيدرا للزواج ، واتمنى ان اجد عندك القبول والدعم للطريق التي اخترناها سوياً"
تجمدت (سيدرا) بوقفتها وهي تشعر ببرودة اطرافها تكاد تغزو دورتها الدموية والتي تحجرت الدماء بها وتوقفت عن الضخ الطبيعي ، ولم يوقظها من حالتها النقلية سوى صوت شقيقها الجامد وهو يقول بهدوء غريب
"اتفهم جيدا غايتك وهدفك من الزواج بها منذ اول مرة وقعت عينيّ عليك قبل سنتين ، ومع ذلك لن اتخذ هذا القرار بنفسي فهذا القرار يعود لحياة شقيقتي الكبرى وهي من ستختار مسلكها وشريك حياتها الابدي ، ولو كان الامر بيدي شخصياً لما سمحت لهذا الزواج ان يتم بأي شكل كان !"
غيم الصمت بينهم بشحنات متنافرة اثارت القشعريرة بالأجواء الشبه جليدية ، ولم ينطق احد منهم ما عدا التي خرجت عن صمتها وهي تلفت الانظار نحوها قائلة برضوخ تنزع الكلمات من شفتيها غصبا
"انا موافقة على هذا الزواج يا معتز"
ظهرت تعابير متناقضة على كل منهما انعكست بدواخلها برصاصات قاتلة اصابتها بالصميم ، وهي تستمع لصوت شقيقها واول من خرج من الصدمة المتوقعة وهو يقول بتلقائية
"بما اننا قد حصلنا على جواب من العروس نفسها ، سنقول مبارك لكما هذا الزواج ، وبهذه المناسبة سنفتتحها بقراءة سورة الفاتحة لتكون بشارة خير لكما"
رفعت عينيها الساكنتين وهي تشاهد الجالسين امامها قد بدأوا بقراءة الفاتحة على روحها المقيدة بين نارين ، نار التضحية بنفسها ونار القضاء على كل من حولها ، وعندما شعرت بفوران مشاعرها فوق الحد المطلوب كانت تخرج من الغرفة بسرعة بدون صوت ، وما ان عادت لتدلف للمطبخ حتى رمت الصينية داخل المغسلة بقوة وهي تتمسك بيديها بإطار رخام المجلى ، لتنزلق بعدها لا إراديا على ركبتيها عندما لم تعد قدميها تقوى على حملها ، وبعد مرور لحظات صمت قصيرة كانت ترتخي اطرافها بخمول وهي تجهش ببكاء ضعيف مكتوم اشبه بانعدام انضباط فقدت معها سيطرتها على نفسها وكل الاشياء التي تدور من حولها تسربت من بين يديها .
_______________________________
تأففت بنفاذ صبر وهي تعيد الوشاح فوق رأسها بعد ان كانت قد خلعته وخطواتها تسير اتجاه باب المنزل قائلة بعبوس مجهد
"من سيفكر بالمجيئ بهذا الوقت من الليل ؟ اتمنى ألا تكون الجارة فوزية جاءت لتستطلع الوضع !"
فتحت الباب على اتساعه قبل معرفة هوية الطارق لتفاجئ بآخر من توقعت مجيئه وخاصة بعد هذه الساعة والليلة ، لتفتح شفتيها بارتعاش عدة مرات وهي تستصعب تجميع الكلمات لأول مرة بحياتها ، لتخرج بالنهاية على شكل عبارة مبتورة بقوة منهزمة
"ماذا تفعل هنا ؟"
تجمدت تقاسيمه القاسية والتي لم تعد تعرف اللين وهو يقول بهدوء محتد لا يناسب سياق الكلام
"هل صحيح ما سمعته ؟"
ابتلعت (سيدرا) ريقها بخوف غير معهود تجلى على محياها وهي تكتم ذلك الهدير بداخلها بشق الانفس لتهمس بالسؤال البديهي ببساطة
"ماذا سمعت ؟"
اشتدت خطوط ملامحه بتشنج وكأنه يستصعب الكلام او بالأحرى التصديق وهو يقول بعدها بلحظات بكبت وكأنها فوهة بركان مسدودة
"لقد سمعت بأنكِ تتزوجين !"
شحبت تفاصيل ملامحها بشعور بالمهانة فاق كل ما شعرت به قبل ساعة ، لتفلت بعدها يدها عن إطار الباب وهي ترتمي على جانبها بضعف قبل ان تقول بأفكار مشتتة
"ممن سمعت هذا الكلام ؟"
اتسعت عينيه السوداوين بتوحش وهو يتلقف انفاس خشنة شعرت بها تكاد تحرقهما بإنذار الغضب الذي تدركه عن ظهر قلب ، لتشعر ببرودة قارصة تنخر عظامها ما ان سمعت صوته يصل لها عبر امواج غضبه بصوت مغدور
"إذاً صحيح ! هذا يعني بأنه صحيح ؟!"
رفعت (سيدرا) وجهها الشاحب بحزن وهي تقول بتفكير مستاء
"هل هو الذي اخبرك ؟ هل تقابلتما بالخارج ؟ لابد بأنه هو الذي فعلها !"
ادار عينيه حولها بتلك الطريقة الساخرة التي ضربتها بالصميم وهو يعقب قائلا باستهزاء متصلب مثل بث السم بعروقها
"وهل هناك احتمال آخر عن معرفتي بالأمر ؟ هل كنتِ تفكرين بتركي مثل الابله غشيم القلب واعمى البصيرة ! هل هكذا هو الامر ؟!"
امتقعت ملامحها وهي تشيح بعينيها بعيدا غير قادرة على المواجهة اكثر بعد ان استنزفت نفسها ، ليتابع بعدها كلامه بقسوة وهو يتخذ وضع الهجوم
"كيف ؟! كيف فعلتي هذا ؟ كيف يا سيدرا ؟ كيف واتتكِ الجرأة ؟ كيف ؟!....."
نظرت له بسرعة وهي تقاطعه بهدوء صارم بعد ان استجمعت شتاتها
"توقف يا اوس ، وارحل من هنا ، لا اريد ان تسبب لي اي فضائح بسبب فورات غضبك الغير محكمة"
قطب جبينه بألم حتى ظهرت الندبة بارزة يضاهي ألم نظراتها وهو يقول بلحظة بتعجب ساخر
"هل هذا كلامكِ ؟ ألا يحق لي الغضب بعد الآن ! هل اصبح الغضب شيء محظور عليّ ؟ هل يسمح لكِ بالخيانة والغدر وانا لا يسمح لي ؟ عندما غدرت بكِ وقتلت قلبكِ اخبرتني حينها بأنني الاسوء على الاطلاق ! ألا تكونين هكذا سيئة بعد ما فعلتي !"
زمت شفتيها بارتجاف اقتحم جسدها وهي تهمس بانفعال لا إرادي
"الامر مختلف تماما ، واكثر تعقيد مما تظن ، كيف تقول هذا الكلام وانت لا تعرف شيئاً ؟!"
تجهمت ملامحه بطوفان كاسر وهو يلوح بذراعه بعنف بعد ان فقد صوابه قائلا بصوت ظهرت به الشراسة البدائية
"ماذا تريدين ان اعرف ايضا ؟ أليس كل شيء واضح ! ماذا سأعرف اكثر ؟ لقد اخبرتني بنفسكِ يا سيدرا ، اخبرتني بأنه مهما حدث وجرحتِ وتأذيتِ فلن تكوني مثلي ، لن تخوني ولن تغدري ، لن تطعني بالظهر ولن تقتلي ، ماذا حدث الآن ؟ ماذا كان هذا ؟! هل هي مجرد اوهام جعلتني انخدع بها وبكِ ؟!"
زفرت انفاسها بتشوش تغلغل بروحها وعينيها بغشاوة غير مرئية صهرت دموعها الحارقة ، لتقضم بعدها على طرف شفتيها المرتجفتين وهي تهمس من بين بينهما بجمود حجرت به مشاعرها وكل مكنوناتها
"ليس لديك الحق باستجوابي هكذا ! ولست مضطرة للتبرير عن تصرفاتي لأحد ! هذه حياتي انا وافعل بها ما اشاء ، من انت حتى تتدخل بحياتي ؟ من تكون اساسا حتى تعطي نفسك كل هذه الاولية والاحقية بسؤالي وإيلامي بهذه الطريقة ؟!"
اخفضت رأسها بضعف وهي تشعر بعينيه المتألمتين قد بالغت بجرحهما تكادان تنهشان روحها المنتهكة بخناجر الجميع ، ليخرج بعدها من صدمته بهدوء متناقض وكأنه يحاول استيعاب كلامها بالتدريج
"من اكون ! من اكون بحياتك ! هل هذا هو السؤال ؟"
ابتلعت ريقها بغصة جارحة وهي ما تزال صامدة بقوة تحسد عليها بدون الإتيان بحركة ، وبغضون لحظات كانت تشعر بأصابعه القاسية تنشبان بذراعها وهو يقول بالقرب من قمة رأسها بحرارة المرجل المغلي
"انا هو عشيقك ، وصديقك ، وتلميذك ، وحتى ظلك ، انا الذي من المفترض ان يكون زوجك ! وليس هو ! انا الذي كنت كل شيء بحياتك ، ليس من حقكِ استبعادي بعد ان اصبحتِ كل طموحاتي واهدافي ! ليس من حقكِ فرض كل هذه الحواجز والاسوار بيننا ، اريد فرصة اخرى ، ألا استحق فرصة اخرى ؟ ألا يستحق كل ما كان بيننا ان احصل على فرصة اخيرة وحيدة ؟!....."
قطع الحوار القاسي بينهما القبضة الخاطفة التي لكمته بمنتصف وجهه حتى اضطر ليفلتها وهو يتراجع للخلف خطوتين ، وما ان استعاد توازنه وهو يضع كفه على انفه النازف حتى قابل الذي وقف امامه بشموخ رغم صغر سنه والفارق الكبير بينهما والذي يعادل فوق العشر سنوات ، بينما (سيدرا) عادت للخلف بترنح بعينين مغرورقين بالدموع بعد ان دخل شقيقها بالمواجهة وهو يخفيها خلفه .
بعدها بلحظات من موجة الصمت الكاتمة للأنفاس كان (معتز) يقول بجمود عابس بدون ان يهاب احد وهو يدافع عن شقيقته الكبرى بغريزة الحماية
"من تظن نفسك حتى تأتي للمنزل وتتهجم على شقيقتي بدون اي خجل او حياء ؟ من تكون انت حتى تفرض نفسك عليها وتحاول التسلط على حياتها ! هل تظن بأنه ليس لها اهل او كبير يدافع عنها ويقف خلفها ؟ لقد اخطئت بشدة عندما اقحمت نفسك بحياتها وجعلتها تتعرض للكثير من الكسور والجروح بسببك ، والآن تأتي بكل تبجح لكي تحاسبها على افعالها وقرارات حياتها ! انت لم تعد لك قيمة او اعتبار بحياتها ، لقد انتهيت ومحيت من عندها منذ زمن ، والآن سأطلب منك بكل ادب للمرة الاخيرة ان ترحل من هنا بلا عودة ، اتركها وشأنها فقد اكتفت منك ، اتركوا شقيقتي بحالها فقد ضاقت ذرعا منكم"
تجمدت اصابعه على انفه المكدوم وهو يخفض يده ببطء حتى ارتمت بارتخاء على جانبه مثل استقرار السم وتخلخله بالعظام ، وما ان حانت منه نظرة سريعة من خلف كتفه حتى لمح دموعها التي انسكبت على وجنتيها الشاحبتين بدون ان تمنعها هذه المرة ، لتكون هذه الضربة المؤلمة التي تفوق لكمة شقيقها اصابت نقطة حساسة بداخله وقطعت كل الاوتار بأعصابه المشدودة ، وبعد ان اخذ عدة انفاس نارية حجرت نبضات قلبه حتى تحرك اخيرا وهو يجر خطواته بعيدا عنهما باتجاه سلم البناية بدون ان يلقي نظرة اخرى خلفه بعد ان داست على فتات قلبه المحروق .
بينما كانت (سيدرا) شاردة بعينيها الفارغتين بمكان اختفاءه بدون ان تملك القدرة على اخراج رأسها من خلف شقيقها ، وبغضون ثواني خاطفة كان يغلق الباب امامها يحجب الصورة عنها ويقفل عليها بحاجز اكبر بكثير من قوتها الطبيعية والتي تخاذلت بلحظة ، وما ان مر من جانبها بهدوء حتى سمعت همسه الخافت بجفاء قاسي يحمل لوم كبير
"هل يعجبكِ الوضع الذي وصلنا له ؟ يا لخسارة تربية امي بكِ ، حقا يا للخسارة !"
كتمت شهقتها بطرف اسنانها على شفتها السفلى التي ادمتها وهي تتابع وقع خطواته التي غادرت بعيدا ، لتحررها بعدها من حبسها وهي تستند بظهرها بالجدار بوهن والوشاح يسقط عن رأسها بانسياب ، لتضم بعدها كفيها امام شفتيها تمنع المزيد من الشهقات المضطربة من الخروج من حصونها لكي لا تنهار اكثر وتحافظ على ما تبقى من بقايا نفسها التي تبعثرت على مدار سنوات وشهور وايام حتى لم يعد لها اثر للعودة كما كانت .
_______________________________
كانت ترفع قدمها بالهواء وهي تنزع رباط الشاش عن كعبها بأيدي ممدودة بإجهاد مضني ، وبعد عدة لحظات كانت تخفض قدمها بهدوء شديد وهي تسند يديها على جانبيها ، لترفع بعدها رأسها عاليا وهي تمد كلا ساقيها امامها باسترخاء تام تحاول تمرين عضلاتها المرتخية قليلا وكأنها لم تتحرك منذ دهور ، فهي غير معتادة بتاتا على السكون والرقود بمكانها مثل الصخرة الميتة وتُفضل الحركة والعنف بحياتها لتنشيط الدورة الدموية والتي غالباً ما تكون باردة مثل قطعة جليد قاسية .
تغضنت تقاسيمها بضيق لبرهة وهي تدير وجهها للجهة الاخرى بلمح البصر ، لتلتقط عندها هوية النظرات المفترسة التي كانت تختلس النظر لها بترصد وصاحبها واقف عند إطار الباب يميل بكتفه عليه ويستمر بالتحديق الصامت ، لتنفث بعدها نيران هوجاء من بين فتحات انفها وهي تنفض رأسها للأمام قائلة بخفوت حانق
"هل ستستمر طويلا بالوقوف والتحديق بي من خلف الكواليس ؟ فأنا اكثر ما لا اطيقه بحياتي هو ان اكون تحت المراقبة ! لذا هلا ارحتني من هذا الشعور !"
عض على طرف ابتسامته بدون ان تراه وهو يعقب قائلا باستهزاء
"انظروا للكئيبة !"
عبست ملامحها باحمرار الغضب وهي تهمس بقنوط ساخر
"لقد تركنا المرح والبهجة لك يا مهرج العائلة"
ادار عينيه بعيدا بشرود وهو يقول بابتسامة باردة
"مهرج افضل من كئيبة"
تأففت (ماسة) بنفاذ صبر وهي تدس خصلاتها خلف اذنيها بأصابع متصلبة هامسة بجفاء
"ما هذا الحوار الذي يدور بيننا ؟ هل هذا كلام يقال !"
اعتدل باستقامة بعيدا عن الباب وهو يتقدم بخطوات هادئة بعد ان قرر تجاوز دور المراقب واخذ الخطوة نحوها ، ليجلس بعدها بجوارها على طرف السرير والذي اهتز من تحته وهو ما دفعها لسحب نفسها عدة سنتمترات حتى اصبحت بمحاذاة ظهر السرير وكأنها قطة شرسة تحتاط من الغرباء .
حرك (شادي) رأسه بملل وهو يتجاهل حركتها القاسية التي اثارت احباط غير معلوم بداخله وجمود بمشاعره ، ليريح بعدها كفيه على ركبتيه وهو يتقدم بجلوسه بتحفز قائلا بهدوء جاد تقمصه بلحظة
"انا لدي لكِ حوار افضل علينا التكلم عنه ، فقد طالت كثيرا هذه القضية واكثر مما يلزم"
كتفت ذراعيها فوق صدرها بجمود وهي تقول بإيجاز بدون ان تتعب نفسها بالتفكير
"وانا سأقول لك بأنه ليس لدي شيء اتكلم معك عنه ، فقد تكلمنا كثيرا سابقا وبدون اي جدوى ، لذا سأكون ممنونة لك بشدة لو خرجت من الغرفة الآن وتركتني لوحدي"
اغمض عينيه لثانية وهو يمنح نفسه الصبر قبل ان يصوبهما نحوها بسكون قاتم ، ليقول بعدها بحزم صارم بدون ان يتنازل عن الحوار
"علينا بالتكلم الآن يا ماسة وفك هذا الخصام بيننا ، فإذا لم نتكلم الآن فلن نستطيع فعلها بحياتنا ! وانا هنا قد اتخذت اول خطوة بالصلح بيننا وجاء دوركِ انتِ لإعطاء الفرصة لي باتخاذ الخطوة التالية من اجل البدء معا من جديد ، ولن انتظر سنوات حتى تخرج منكِ تلك البادرة والتي على ما يبدو لا تفكرين بفعلها"
هزت رأسها بحركة ساخرة وهي تدير وجهها نحوه هامسة بشبه ابتسامة قاسية
"يا لكرم اخلاقك ! لقد ابهرتني بالفعل بتلك الخطوة الجريئة ، ولكني محتارة عن اي منها سأتكلم معك ! هل عن كرامتي المهدورة امام ضيوف الحفلة ؟ او عن كبريائي والذي كسرته بتلك الصفعة ؟ او عن جفائك معي طول تلك الفترة الماضية التي سبقت الحفلة ! هل تتوقع مني ان انسى كل هذا وامضي بحياتي ؟ هل تظن الامر بكل هذه السهولة ؟"
قبض يديه على ركبتيه حتى ابيضت مفاصلهما وهو يحول نظره بعيدا عن نظراتها الاتهامية المجردة من الرحمة ، ليقول بعدها بلحظات بهدوء متماسك بأعصاب جليدية
"اسمعي ما سأقول اولاً يا ماسة ، فهذه الاتهامات العالقة برأسكِ لن تفيدك بشيء ، ولن تساعدنا بالتقدم بعلاقتنا الحالية......"
قاطعته (ماسة) بسرعة وهي تستدير بوجهها بعنفوان حتى طيرت الخصلات على كتفها تشاركها الجنون وهي تقول بجموح
"لا انت لم تجبني على سؤالي ! وانا لن اجاري سياق حديثك قبل ان تجيبني ، عن اي واحدة منها تريد التكلم معي ؟ ماذا هو دفاعك عنها ؟......"
ضرب على ركبتيه بانفلات اعصاب وهو يوجه لها عينين سوداوين تقدحان شررا حارقا بغضب اخرجته من اعماق الوحش
"لقد كنتِ تستحقين كل ما حدث معكِ"
ابتلعت ريقها برجفة قاهرة مرت على طول عامودها الفقري ببرودة جليدية ، لتشيح بوجهها بسرعة وهي تحاول ضبط نفسها التي خانتها بلحظة غادرة وبرقت ببعض الدموع بحدقتيها الزجاجيتين الغير مستقرتين ، لتزفر انفاسها بحرارة صهرت قفصها الصدري وهي تربت بأصابعها على ركبتيها بعصبية لتتبعها بعدها بالهمس بخفوت قاتم بدون اي حياة
"لقد اقنعتني بالفعل بهذا الجواب الصريح ، والآن هلا انصرفت من غرفتي لكي استطيع التفكير بروية بجوابكِ الذي يحتاج لكل الوقت ليختزن بعقلي ؟"
تنفس (شادي) بضيق وهو يحك جبينه بطرف اصابعه بكبت منفعل لبرهة ، ليقول بعدها بجدية وهو يستجلب كل اعصابه السليمة
"ماسة انتِ لا تفهمين شيئاً مما احاول قوله لكِ ، او تتعمدين عدم الفهم والهجوم بلا وعي ! انتِ اكثر انسانة عديمة التفكير والمنطق ، قليلة ادب وسيئة السلوك ، سيئة بالتعامل جراء المواقف ، ولا تعرفين اي مبدأ او قوانين ، تملكين نظرة سوداوية لكل من حولك ، وتستخدمين العنف بكل الحلول ، هل تعرفين بأن هذه الصفات كلها موجودة بشخصيتك ؟"
حادت بطرف حدقتيها نحوه بدون اي انفعال او تعبير وهي تهمس ببرود باهت
"لقد سمعت هذا الكلام كثيرا بحياتي ، ولكن عندما اسمعه منك اجدها صعبة عليّ ، هل هو بسبب قلبي الاحمق ؟ ام بسبب السعي الاعمى لرفع قيمتي ومكانتي امامك !"
رفع رأسه عاليا وهو يحرك ساقيه بعصبية وكأنه لم يعد يستطيع الثبات بجلوسه وهو يبدو كمن يجلس على جمرة حارقة ، ليخفض بعدها رأسه بقوة وهو يقول بجمود كاسر
"هل تريدين الاستمرار بمحاربتي بهذه الاسلحة الفتاكة ؟ إذا كنتِ لا تريدين الكلام ولا الحوار ولا الصلح ! إذاً ماذا تريدين مني ؟"
نظرت له بغيوم ضبابية بدون اي امطار او رعد وهي تهمس بجواب مختصر بدون اي مراوغة
"اريد منك ان تحررني ، حررني من حياتي وطلقني ، هذا كل ما اريده"
نظر لها بصدمة وبحاجبين مرفوعين بانذهال اخذت منه لحظات طويلة من الاستيعاب المبهم ، ليقول بعدها ببطء مشتد يضغط على كلماتها وهي تحمل سعير بين طياتها
"هل جننتِ يا ماسة ؟"
انقلبت شفتيها المقوستين بعبوس لوهلة قبل ان تنتفض واقفة على قدميها وهي تحرك ذراعها بعدائية مع حركة شعرها الذي التف حول ذراعها هاتفة بانفعال مفرط بعد ان رأت كرامتها تراق على الارض
"لا لست مجنونة ، ولكني اكتشفت للتو بأن هذا الزواج مشروع فاشل ، فأنا لم احصل منه سوى على الإهانة والتجريح والألم وآخرها كان صفعة كسرتني بقوة وداست على كبريائي ! هل تظنني حمقاء لهذه الدرجة حتى استمر بهذه الطريق التي جردتني من كل شيء ؟ قد تقول بأن هذا الامر يحدث كثيرا بين الازواج المتخاصمين ومع المرأة التي تتجرع الألم والإهانة وتصمت ، ولكني للأسف لست هذه المرأة ولن اجبر نفسي على كونها ! فقد كنت انبذ ذلك النوع واموت ولا اصل له ، فهذه المجرمة لن تكون مثلما يريدها الجميع وتريدها بزوجتك ، لن تكون مثلكم !"
انقض عليها بلمح البصر وهو يكبل ذراعيها بقسوة مثل الاصفاد الحديدية ليصرخ بوجهها بغضب ثار عن حده يتخلل به اضطراب واضح
"لقد جننتِ بالفعل ! اجل لقد جننتِ لتطلبي مني مثل هذا الطلب الذي تحقيقه سيكون على جثتي ! هل تريدين صفعة اخرى لتفيقي على نفسكِ وتتوقفي عن هذا الطيش ؟ ماذا افعل معكِ وانا قد استخدمت كل اساليبي بترويضك ؟ ماذا افعل وانتِ تجبريني على اخراج اسوء صفاتي والتعامل معكِ بالعنف ؟ ألا تشعرين ولو قليلا بذرة شفقة او رحمة بما تفعلينه بي وبنفسك ؟ هل تعجبكِ لعبة التعامل بجفاء بيننا وانا اكاد اتوسل منكِ الرحمة والشفاعة ؟ ماذا افعل معكِ بعد ! ماذا بقي عليّ ان افعله بهذه العلاقة ؟"
تجمدت تقاطيع ملامحها المصقولة بجليد قاسي وهي ترفع اصبعها السبابة امام صدره والذي غرزته به مثل المسمار هامسة بخفوت مرير منبثق من بركان مسدود منذ شهر مضى
"انا قد شعرت بكل هذا ومررت به واحد تلو الآخر ! لقد تعذبت طول الشهر الذي هجرتني به بين جفاء وقسوة ومرارة لم اشعر بها بحياتي ، لقد كنت اتوسل إليك كما تفعل معي الآن بتجاهلك لاتصالاتي التي كانت تطلب منك الرحمة والمغفرة وعدم الرد على رسائلي التي كانت تحوي على سطور من كلمات مترجية حزينة تكاد تموت من الوحدة والخوف ، لقد عشت اسوء ايامي بذلك الشهر فقدت به عزيمتي وقوتي وخابت به ظنوني وآمالي وتداعت به ثقتي بنفسي ، واما انت فلا تستطيع حتى تحمل يومين او التفكير بالاستمرار بهذا الوضع ! بينما انا فقد تحملت ذلك الوضع بحلول شهر كامل تحت ضغوط وتراكمات كبيرة ، اين العدل والمساواة بهذا الامر ؟ اين الانصاف بحق هذا الوضع ؟ هذا هو الفرق الكبير بين ألمي انا وألمك انت ، وما عليك فعله هو ان تتجرع وتتذوق ذلك الألم وتشعر بما مررت به بسببك ، قد افكر عندها بإعطائك الشفاعة التي تريدها"
ختمت على تلك الكلمات بنزول اصبعها القاسي الذي حفر بندبة بصدره الذي ضاق وتعبأ بالكثير منها وهي تغلق كل المسارات لطريقها ، ليفلت بعدها ذراعيها على مضض وهو يسقطهما على جانبيه بارتخاء منهك افقدته العزيمة وغمرت كيانه بالظلمة واغرقت نفسه بفجوة اليأس ، وبعد لحظات صمت كانت تتحرك من امامه باندفاع وهي تنوي الخروج من الغرفة ، لتوقفها اليد التي وصلت لها بخطوتين وهي تطوق ذراعها وترجعها للخلف بقوة ، وما ان رفعت وجهها الصلب تنوي قذفه بصفاقة اخرى حتى كتمها بكفه الذي كمم فمها وهو يقول بأمر نافذ بصوت يجمد الاطراف
"ابقي انتِ بالغرفة وانا سأخرج منها ، ولا تقلقي فلن ازعجكِ باقتحامها مجددا"
اومأت (ماسة) برأسها برهبة بغريزة الفطرة وهو يتركها بصمت ليستدير بعدها امامها قبل ان يغادر من الغرفة ، انتفضت لا إراديا بجزع ما ان صفق الباب خلفه بقوة مبالغة هزتها حد الصميم ، لتتسع بعدها عينيها الغائمتين بدموع جليدية ما تزال حبيسة حدقتيها الداكنتين واللتين لا تترك لهما حرية افضاء مشاعرهما بعد ان ختمت عليهما بسدود حصينة بدأت الشقوق تلامسهما .
_____________________________
افاقت من النوم بتكاسل وهي تستلقي على ظهرها برخاء وتعانق الوسادة ذات القطن الناعم بين ذراعيها ، لتحدق بعدها بالسقف المزين اعلاها وهي تأخذ عدة لحظات تأملية بالحياة بدون اي تفكير او شعور فقط تحاول استيعاب محيطها الحالي بإدراك مشوش ، وما هي ألا لحظات صمت حتى انتفضت جالسة بمكانها وهي تستعيد كل ما حصل معها بالأمس وحتى خلودها للنوم وحيدة بالغرفة .
رفعت يديها وهي تمسح على وجهها لتتخلل خصلات شعرها المبعثرة وهي تعيدها للخلف بعنف ، لتأخذ بعدها جولة قصيرة على انحاء الغرفة الفارغة والتي تشعر بها لأول مرة موحشة مخيفة منذ قدومها لهذا المنزل قسراً ، وقعت عينيها على الضوء المتسلل من النافذة المغلقة والتي كانت بالأمس مفتوحة على اتساعها مثل الانفتاح على بداية اشراق صباح جديد ، ولكنها الآن مغلقة محبوسة تحجب النور عنها وتمنعها من التدفق للداخل بروح باردة عاشت بين الصقيع حد النخاع .
تنفست بقوة وهي تلقي الوسادة بعيدا وترفع الغطاء عنها لتنهض عن السرير بهدوء ، وما ان سارت عدة خطوات صوب النافذة حتى فتحتها بعدها على مصرعيها بدون ادنى تردد برغبة غريبة بارتشاف الحياة بكل تفاصيلها وحيويتها ونشاطها ، وكأنها اعراض متأخرة من مرض معدي اصابها ونهش عظامها من طريقة واسلوب حياتها مع زوجها .
اتسعت حدقتيها الزرقاوين بغيوم باهتة غمرها ضوء الصباح مثل شروق الشمس على شاطئ البحر ، اشاحت بوجهها بعيدا وهي تتحاشى النظر طويلا لشعاع الشمس لتعلق برؤية شعاع آخر ، لتلين بعدها خطوط ملامحها وهي تراقب بريق الخاتم الألماسي المستقر فوق المنضدة الجانبية والذي تسلط عليه ضوء الشمس .
تحركت خطواتها تلقائيا حتى وصلت امام المنضدة بثواني لتمسك اصابعها البيضاء الرقيقة بالخاتم الألماسي ، رفعت الخاتم امام نظرها وهي تشبع نفسها بتأمله وكأنها المرة الاولى ، لتدوره بين اصابعها بهدوء حتى اصبحت الألماسة بالأعلى واصبعها الإبهام يتلمس القلب الموسوم عليها بصنع حرفي .
عضت (ماسة) على طرف شفتيها بجمود وهي ترجع الخاتم فوق المنضدة من جديد ، لتستدير بعدها بصمت وهي تخط خطواتها هذه المرة خارج الغرفة ، ما ان اصبحت برواق المنزل حتى وزعت نظراتها بكل زاوية وناحية بالمكان بدون ان تجد له اثر ، وهي تفكر باحتمالية ان يكون قد تركها وفقد الأمل منها بعد ما حدث بالأمس وقالته له ! او قد يكون يتلاعب بأعصابها مجددا باختفائه عن الانظار لفترة ! وبكلا الخيارين فهي لن تخسر شيء ومع ذلك غمرها شعور بالإحباط قصير المدى مثل السم القاتل .
زفرت انفاسها بغضب مكتوم وهي تتجه للمطبخ والاقرب لها حالياً ، لتقف من فورها امام الثلاجة وهي تشعر بجوع مفاجئ وبرغبة بإدخال اي شيء بأمعائها علها تسكت الهدير الآخر بداخلها ، وما ان فتحتها حتى اكتشفت خلوها من اي مكونات غذائية او مستهلكات وكأنها صحراء قاحلة اكتسحها الجراد .
اغلقت (ماسة) باب الثلاجة بقوة وهي تتمتم بغيظ مكتوم
"ما هذا الفقر الذي نعيش فيه ؟"
غاب التجهم عن محياها وهي تدور بعينيها من حولها بدائرة فارغة لتعود بعدها للشرود بقاع الظلمة الخاصة بها هامسة ببرود
"لقد عدتِ وحيدة مجددا"
تسمرت لوهلة ما ان سمعت صوت انفتاح باب الشقة بهدوء وكأنه يدق بأجراس قلبها ويتردد بصدى روحها التي امتلأت وفاضت وغرقت بآن واحد ، لتتحرك بعدها غريزيا تدفعها قوة اكبر من ان تستطيع منعها وهي تتجه بخطوات حذرة خارج المطبخ ، تشبثت بالنهاية عند إطار باب المطبخ وهي تراقب بعينين واسعتين خادعتين بمشاعرهما وصريحتين باحتياجهما ، بينما كان الدخيل على المنزل يغلق الباب خلفه بطرف مرفقه بسبب انشغال يديه بحمل الاكياس ، وما ان استدار امامها بلمح البصر وقبل ان تدرك نفسها وتستعيد ضبط رغباتها كانت تعلق باشتباك النظرات التي اوقعت نفسها به بكل سذاجة كشفت كل الاسرار المخفية بمكنوناتها .
اخفضت جفنيها برعب خفي وهي تحول نظرها بعيدا حتى انقبضت اصابع كفيها على إطار الباب لا شعورياً ، انتفضت داخلياً بدون ان تصدر اي صوت ما ان سمعت صوت الخطوات الواسعة تتقدم صوبها ، ولم تجد الوقت للتراجع او نزع نفسها من مكانها والذي تصلبت به مثل رجل جليدي ، وما ان اصبح بمحاذاتها تماما حتى شعرت بيده تحط على رأسها وهو يربت على شعرها الفوضوي وكأنه يربت على قطة مشاكسة وجدها عند قارعة الطريق ، قبل ان يتبعها بالقول بصوت اجش بنبرته العميقة التي لا تظهر سوى بلحظاتهما العاطفية
"صباح الخير يا ألماستي ، لابد بأنكِ قد افتقدتني بصباحك الفارغ بدوني !"
ابقت رأسها منخفضة بعناد وهي تحاول تمثيل القوة والعزيمة امام الطوفان الهادر بداخلها ورغبتها الشديدة بالاستجواب له والتفاعل مع لمساته العاطفية ، ولكنها مع ذلك استمرت بالجمود بمكانها حتى ابتعد عنها اخيرا وهو يسحب كفه عن رأسها ليأخذ معه كل تلك المشاعر الغادرة التي انتابتها بقربه .
اخذت (ماسة) عدة انفاس وهي تقوي إرادتها بلحظة لتترك كل شيء جانبا وتأخذ الطرف المحارب ، لتستدير بعدها بسرعة وهي تنظر لجانب جسده الظاهر لها وهو مشغول بتفريغ اكياس المشتريات بالثلاجة التي كانت فارغة من لحظات ، لتلعق بعدها طرف شفتيها بتحفز وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها قائلة بجدية هادئة بدون ان تبدي اهتمام حقيقي
"اين كنت بهذا الصباح الباكر ؟ ولما لم اجدك بالمنزل عندما استيقظت ؟"
توقف قليلا عن الحركة وهي تلمح نصف ابتسامته الساخرة عندما يستمتع بحدث ليقول بعدها بهدوء ماكر
"لماذا تسألين ؟ هل شعرتِ بالاشتياق نحوي عندما لم تجدين بجوارك ؟ لذا نهضتِ من سريرك بحثا عني !"
ابتلعت ريقها بتماسك ما ان امسك طرف الحقيقة والتي حدثت بالفعل قبل قدومه للمنزل ، لتقول من فورها بمراوغة وهي تشدد من تكتيف ذراعيها باضطراب
"ما هذا الكلام ؟ انا لم افكر بك ولم اتعب نفسي بالتساؤل عنك ! ولكنني اسأل لأنني اعيش معك بنفس البيت والذي حبستني به عنوة ، لذا لدي كل الحق لمعرفة كل ما تفعله بحياتك وبزوجتك التي ما تزال مرتبطة بك ماديا وقانونيا لهذه اللحظة"
ادار وجهه نحوها لأول مرة وهو يريح مرفقه على الجزء العلوي من الثلاجة قائلا بابتسامة جانبية بمغزى
"لم اعرف بأنكِ تملكين كل هذا الاهتمام نحو علاقتنا ! ومع ذلك يعجبني تقمصك لدور الزوجة التي تحاصر زوجها بالأسئلة الروتينية المزعجة والتي تظهر مدى الإخلاص والتفاني بداخلها ، فقد اصبحتِ تجيدين بالفعل لعب دوركِ بحياتنا الزوجية المقبلين عليها ، وهذا يعني ايضا بأنكِ قد بدأت تتأقلمين اخيرا مع مجرى حياتنا"
عبست ملامحها بغضب عارم وهو يستدير بعيدا عنها بعد ان اغلق باب الثلاجة ، لتنفض ذراعيها على جانبيها وهي تتقدم خطوتين قائلة بهياج تمكن منها
"لن يحدث كما تخطط له ، فأنا احاول فقط تأدية واجباتي الزوجية من باب الاحترام والادب اتجاهك حتى يتم الطلاق بيننا رسميا ولا تقول عني حينها بأني جاحدة وانتهازية تركتك بعد ان غمرتني بنعيمك ، وعندما يأتي ذلك اليوم لن يبقى لدي سبب يجعلني انفذ اوامرك واهتم بشأنك وماذا تفعل بحياتك البالية"
تجمدت اطرافها بتجمد الدماء بعروقها ما ان لاحظت انشداد جسده وتصلب فقرات ظهره وكأنها قد اصابته بطعن غادر ، لتفيق بعدها على تحرك جسده والذي استدار نحوها مجددا برعب عبث بأوصالها ، وما ان وقف امامها بتلك الملامح الباردة التي لا يرتسم عليها تعبير حتى كان يقطع المسافة بينهما بخطوات واسعة وصلت لها بثواني ، لترفع رأسها برهبة وهي تمارس هواية قراءة تعبيرات ملامحه وبرحلة الغرق بعينيه الحالكتين قبل ان تسقط عند شفتيه وهو يقول من بينهما بهمس خفيض واثق
"سأتأكد بنفسي من عدم حدوث شيء من هذا ، لا تقلقي بخصوص هذا الامر"
فغرت فاها الجميل بأنفاس مشدوهة قبل ان تقلبهما بلحظة بخط مستقيم عابس ، لتهمس من بينهما باستنكار حاد
"لن اسمح لك ، هذا بخيالك فقط"
اعتلت ملامحه ابتسامة ماكرة وهو يميل برأسه على جانبها حتى اقترب من اذنها وهو يهمس بها بحرارة
"سأحول ذلك الخيال لواقع"
زمت (ماسة) شفتيها برجفة خاطفة ما ان حطت قبلته على وجنتها بحرارة اشعلت فؤادها من تلامس بسيط مثل لسعة سلك كهربائي ، لتنزل بعدها قبلته لجانب ذقنها وهو يتجول بشفتيه على بشرتها المصقولة وكأنه يختبر نعومتها ويشعلها من تحت سطح بارد ، ليهمس بعدها بالقرب من شفتيها بدون ان يوقف التلامس بينهما
"هل اقتنعتِ بالواقع ؟"
تغضنت تقاطيع ملامحها وهي تشد خطين من شفتيها بعبوس غاضب وكأنها تصارع مع مشاعرها الداخلية التي طافت على السطح ، ليكتم على صراعها المضني بقبلته الرقيقة التي حطت على شفتيها العابستين وهو يفك اسرهما ، ليهمس بعدها بخفوت اكثر لطفا وكأنه يغرقها بدوامته العاطفية التي اشتهت لها مثل حلوة لذيذة
"لا تعبسي مجددا لكي لا تظهر الشقوق عليهما"
افاقت على نفسها وهي تشهق بهدير مكتوم لتتراجع بسرعة بعيدا عنه بتعثر ، قبل ان ترفع كفها بالهواء وهي تأمره بحزم بعد ان خارت قواها
"يكفي ، توقف بمكانك"
استقام (شادي) بمكانه وهو يكتم على ضحكته بطرف اسنانه بهدوء ، ليستدير بعدها وهو يكمل نقل الاكياس من فوق الطاولة ليرتبها بالخزائن فوق المجلى ، لم تستطع تمالك نفسها اكثر وهي تلوح بقبضتها بالهواء قائلة بغضب جامح
"لن اسمح لك بفعل ما تشاء بحياتي ، وانا لا اهتم بكل شيء تنوي فعله وتخطط له ، لن اسمح لك بالتلاعب بي اكثر......"
قاطعها (شادي) بهدوء غير مبالي وهو يفرغ الاكياس بين يديه
"إذاً ما لذي ايقظكِ من النوم ودفعك للخروج من غرفتك إذا كنتِ حقا لا تهتمين بي ؟!"
ارتفع حاجبيها ببهوت ما ان تلقت سؤاله المفاجئ الغير مخطط له ، لتقول من فورها بجدية وهي تلوح بذراعها بعشوائية
"لقد شعرت بالجوع فجأة ، لذا اتيت للبحث عن الطعام بالمطبخ ، ولكن للأسف لم اجد شيء اضعه بفمي بسبب خلو الثلاجة من اي طعام وكأنني اعيش بفقر وانا اكاد اتسول لقمة العيش !"
التفت بنصف وجهه وهو يقابلها بابتسامة باردة ليعقب قائلا بسخرية واضحة
"انتِ تبالغين بردة فعلكِ ، ولكن لا تقلقي فقد خرجت اليوم خصيصا لأحضر الطعام والمستهلكات الغذائية للمنزل ، هل هذا الجواب يكفيكِ ردا على سؤالكِ الاول ؟"
زمت شفتيها بامتعاض وهي ترمقه بطرف حدقتيها هامسة بوجوم خافت
"هل هذا كل ما فعلته ؟ هل ذهبت لمكان آخر غير شراء محتويات هذه الاكياس ؟"
حرك رأسه بابتسامة يائسة وهو يراقبها بمتعة ليردف بعدها بعفوية
"لا لم اذهب لمكان آخر ، هل انتهينا من هذا التحقيق ؟"
احتقنت ملامحها باحمرار الحياء وهي تشيح بوجهها بعيدا تمثل الا مبالاة وعدم الاهتمام ، ليقترب بعدها عدة خطوات منها حتى وقف امامها وهو يقول بهدوء عملي ايقظها من غفوتها
"حسنا يا سيدة ماسة ، الآن جاء دوركِ بلعب الزوجة المطيعة والتي ستطهو لزوجها اطيب المأكولات ، فنحن نتضور جوعا ونحتاج لتناول طعام من تحت يديكِ"
رفعت حدقتيها الواسعتين بتعبير الذهول وهي تشير لنفسها بأصبعها هامسة بخفوت مبهوت
"تريد مني انا ان اطهو لك !"
حرك (شادي) كتفيه باستخفاف وهو يقول بابتسامة مرحة
"احل انتِ بالطبع ، وهل تتوقعين انا ان اطهو لكِ ؟ انا المسؤول عن توفير احتياجات المنزل وانتِ المسؤولة عن الاهتمام بتوازن المنزل وتلبية طلبات زوجك ، أليس هكذا تسير كل علاقة زوجية بالعالم ؟"
سقط فكها للأسفل ببلاهة وهي تتبعها بنزول رأسها تلقائيا وكأنها تعبت من محاولة التماسك ، ليربت بعدها على كتفها بدعم وهو يقول بابتسامة طريفة
"لا بأس يا عزيزتي فكل علاقة جديدة تحتاج للوقت للاعتياد عليها ، وانا متأكد بأنكِ ستنجحين بهذه المهمة ، ابذلي جهدكِ جيداً"
غادر بعدها خارج المطبخ ما ان انتهى من اعطاءها طاقة تحفيزية كانت آخر ما تحتاج له بحالتها الغير مستقرة ، لترفع بعدها عينيها اتجاه باقي الاكياس التي تركها على المجلى من اجلها ، لتومئ بعدها برأسها بحالة هذيان وهي تهمس بخفوت عازم بعد ان ضرب عرق الجنون بها
"تريد تناول الطعام ، إذاً لنطهو لك"
______________________________
بعدها بساعتين كان يدخل للمطبخ مجددا وهو يقول بتكاسل واضح
"ماذا حدث بطعامك ؟ هل تريدين الانتقام منا بتركنا هكذا حتى نموت جوعا !"
توقف عن التقدم ما ان قابل ظهرها المتصلب باستقامة وهي تقف امام الغاز تعمل على شيء ما ، وما ان طال الصمت بينهما حتى زفر انفاسه بضيق وهو يقول بجمود جاد
"هيا يا ماسة ، هل لهذه الدرجة تستصعبين الامر ؟ لن ينقص من كرامتك الكثير لو طهوتِ لزوجك بعض الطعام ! لو كنت اعلم بأنكِ ستأخذين كل هذا الوقت لكنت طلبت لنفسي اطعمة سريعة وانتهيت"
تلبدت ملامحه عندما لم يجد اي ردّ منها وكأنه يكلم كائن اصم لا يشعر ولا ينطق ، وما ان كان على وشك اعادة النداء حتى سبقته التي استدارت نحوه وهي تحمل قدر الحساء الذي يتصاعد منه البخار ، ليستعيد تركيزه بلحظة ما ان سمعها تقول بهدوء عملي
"لقد انتهيت الآن"
اومأ (شادي) برأسه بهدوء وهو يشرد بالبخار المتصاعد بينهما مثل ستار ضبابي قائلا بابتسامة جادة
"جيد ، لقد احسنتِ عملاً ، واخيرا بدأتِ تضعين عقلكِ برأسكِ وتفكرين بعقلانية"
حركت مقلتيها ببرود بدون تعليق ليقول بعدها بتفكير مرن وكأنه يتسلى بمجرى الحديث
"إذاً هل هذا كل ما صنعته ؟ هل سنكسر جوعنا بملعقة حساء ؟ لا اعتقد بأن هذه الشوربة ستشبع الوحش الذي امامك !"
ارتفعت زاوية شفتيها بشبه ابتسامة وهي تشير بعينيها خلفه قائلة ببساطة ساخرة
"لو انك نظرت من حولك جيدا قبل افتعال الهجوم عليّ ، لاكتشفت عندها بأنك قد فوت تفاصيل مهمة تبين لك مدى اهتمامي بإشباع بطنك الشره"
عقد حاجبيه بتفكير جامد وهو يطير بعينيه للخلف لتسقط على المائدة الصغيرة التي لم ينتبه لها ببادئ الامر ، وهي تصطف عليها اطباق مرتبة عند اطراف الطاولة ليست مكتظة وليست باهظة فقط متواضعة بسيطة ، سكبت بالأطباق المتوسطة الارز الابيض وبالأطباق الصغيرة بعض المقبلات والمخللات وبالمنتصف وضعت فروج الدجاج المشوي بأكبر طبق موجود بالمائدة .
اتسعت ابتسامته وهو يميل برأسه جانبا قائلا بانبهار مصطنع
"سفرة جميلة ، لقد اتقنتِ عملكِ بالفعل ، انا اهنئك على هذا الإنجاز !"
ارجع بعدها الكرسي حول المائدة ليجلس عليه بهدوء وهو يأخذ وضعية الاستعداد ، لتعض بعدها على طرف شفتيها بصمت وهي تتقدم امام ناظريه لتصبح بالقرب من المائدة ، بدأت بسكب حساء الخضار بالطبقين المرافقين لأطباق الارز وهي تعمل بحرص شديد ، وما ان انتهت من عملها حتى قال الجالس امامها بابتسامة متأملة
"سلمتِ يداكِ يا زوجتي المطيعة ، لقد عملتِ بشكل جميل جدا ، والآن حان وقت حصد النتائج"
جلست (ماسة) على الكرسي الآخر حول المائدة وهي تقول بابتسامة مقتضبة
"بالهناء والشفاء ، استمتع بوجبتك جيدا"
امسك الملعقة وهو يتجاهل تلميحها ليغرف بالأرز قبل ان يتلقفه بفمه بجوع شديد ، لتنقلب بعدها ملامحه للنقيض وهو يشعر بطعم لاذع غير معلوم بالأرز الذي يبدو مالح بشكل مفرط ، ليخرج الملعقة من فمه بهدوء ظاهري قبل ان يمررها بداخل طبق الحساء ، ليرفع بعدها الملعقة والتي التقطت قطع من البطاطا مع الفاصوليا قبل ان يدسهن بفمه بصمت ، وبلحظة كانت اسنانه تصطك ببعضها من قسوة البطاطا التي تبدو غير كاملة النضج والفاصوليا الصغيرة التي لم تسلق جيدا وكأنها كبسولة دواء ، ليصارع مع تلك القطع القاسية بجهازه الهضمي ليدفعها بجوفه بنهاية المسيرة .
كانت (ماسة) تراقبه بعينيها النافذتين المترصدتين لكل حركاته بفضول غريب نهش عظامها ، وهي تشعر بذات الوقت برغبة شريرة بالاستمتاع بكل لحظات صراعه ومجهوده بتقبل طعامها سيء الطعم والذوق ، لتخفض بعدها عينيها بسرعة ما ان امسك بها متلبسة وهي تخفيهما تحت اهدابها الطويلة لكي لا يكشف شعورها الحالي ، لتهمس بعدها بلحظة كاسرة حاجز الصمت بخفوت متشوق
"كيف هو الطعام ؟ هل اعجبك طبخ زوجتك ؟"
طافت لحظات من الصمت بينهما قبل ان يقطعها قائلا بهدوء جاف وهو يتأمل الارز الابيض المكدس بالملعقة
"ليس افضل طعام اتذوقه بحياتي ، ولكن مع ذلك المهم ان يكون شيء يؤكل ويهضم بالمعدة"
عبست ملامحها ببؤس وهي تخفي بداخلها شعور عارم بالإحباط اغرقها بأمواج سحيقة لا تعرف الرحمة ، لترفع بعدها قبضتها وهي تنصب مرفقها على حافة الطاولة وتريح ذقنها عليها هامسة ببأس شديد
"لا داعي للمجاملة بهذه الصورة ، يمكنك ان تكون صريح معي وتقول الحقيقة ، فأنا اتقبل النقد البناء ولا احبذ اخفاء الحقيقة من اجل مراعاة مشاعر الآخرين"
حدق بها بصمت وهو يدس لقمة الارز بفمه ويحرك فكه بتعبير مستمتع امام ناظريها ، ليقبض بعدها على الملعقة وهو يريح ذقنه عليها وعينيه تثبتان عينيها قبل ان يقول بابتسامة واثقة
"انتِ اسوء طاهية تعرفت عليها بحياتي"
تسمرت ملامحها لوهلة وكأنه قد اصابها بشلل فكري بعبارته الساحقة لكلماتها السابقة ونيتها بالانتقام منه ، لتضيق بعدها عينيها الواسعتين بحيز ببحار قلبها وهي تهمس بخفوت مستاء
"هكذا ببساطة ! سحقا لك !"
رفع رأسه عاليا وهو يضحك بخفوت قصير المدى ليعود بعدها بالنظر لها وهو يقول بابتسامة جانبية بتسلية
"ما بكِ يا زوجتي الجميلة ؟ ألا تستطيعين تقبل النقد البناء ! ألم تقولي من لحظة بأنكِ لا تحبين اخفاء الحقيقة بهدف مراعاة مشاعر الآخرين ؟"
اخفضت (ماسة) قبضتها للأسفل وهي تدير وجهها هامسة بغيظ محبط
"لم اكن اعلم بأنك بكل هذه الجرأة والصراحة !"
حرك كتفيه بعدم اهتمام وهو يغرق الملعقة بالحساء قائلا بسخافة
"انتِ حقا حالة محيرة للغاية ! لا تعلمين ما تريدين ، ولا تعلمين ماذا تفعلين ، ولا اعلم كيف اتصرف بحالتك"
رمقته بطرف حدقتيها الزرقاوين وهي تهمس بتشدق ساخر
"لا تفعل شيء ، لم يطلب منك احد ان تبدي اهتمامك !"
حرك عينيه بعيدا وهو يسكب ملعقة الحساء فوق الارز ليهرس قطع البطاطا القاسية فوقها ويزيل الفاصوليا خارج الطبق ، وبغضون ثواني كان يرفع الملعقة لمستوى فمه ليتلقفها ببساطة وكأنه يرغم نفسه على جعلها مقبولة وجيدة بالهضم ، لم تتمالك بعدها نفسها وهي تقطع شريط التأمل قائلة بهجوم ضاري
"إذا كان الطعام بكل هذا السوء ، لما ما تزال تكابر وترغم نفسك على تناوله ؟ بل لماذا لم تحضر لك خادمة تطهو لك كل ما تشتهي نفسك من الطعام ؟ او اقول لك الحل الافضل تزوج من امرأة تجيد الطبخ ومحترفة به عندها قد تغنيك عني وتخلصني من هذا الحجز"
ارتبكت ملامحها ما ان ضرب الملعقة على طرف الطبق اصدرت رنين عالي اخافها ، وبعد مرور لحظة صمت كان يفك اسر ابتسامته الشقية وهو يقول بهدوء واثق عبرت الامواج بينهما
"لو كنت ارغب بالزواج بالفعل لما توقفت عند نقطة سوء طبخكِ ! فأنتِ قد اثبت لي مع مرور الايام بأنكِ سيئة بنواحي عدة بتقمص دورك كزوجة وبأداء وظائفك الزوجية ، واعلم جيدا بأنني استطيع إيجاد من هي افضل منكِ بكل شيء بين مئات الفتيات اللواتي يتمنين الزواج مني ، ومع كل تلك الدوافع فأنا لا اشعر بالاكتفاء سوى معكِ ولا اشعر بالسعادة سوى بقربك ، يعني حتى لو بقيتِ تظهرين امامي بكل مساوئك وسلبياتك وجوانبك السوداء فلن يتغير شيء ! فهذه المجرمة امامي قد اجرمت بحقي واستطاعت ان تقيدني بأصفاد إدانتها طول العمر !"
انفرجت شفتيها بأنفاس مضطربة وهي تطرف بعينيها بسرعة مئة مرة بالثانية تحاول تمالك نفسها من جديد التي تبعثرت بهدير قلبها المدوي ، لتخفض رأسها بسرعة وهي تدس خصلات شاردة خلف اذنيها سقطت امام وجهها قبل ان تهمس بتشنج مغتاظ
"يبدو بأنك تخطط للعناد لآمر رمق بسبيل نجاح العلاقة ، وهذا يعني بأنك صعب الاستسلام"
اومأ (شادي) برأسه بهدوء وهو يدس لقمة الارز بفمه ببساطة ليقول بعدها وهو يتناولها بمتعة
"افعلي اقصى ما تجيدين واسحبي لجامك وانا سأكون اكثر من سعيد بإحباط مخططاتك يا زوجتي المجرمة"
عضت على طرف شفتيها بعصبية وهي تمسك الملعقة بجانب طبق الارز لتقول من فورها بجحود
"انا سيئة جدا بالطهو وهذا يحدث معي دائما ، حتى روميساء حاولت اعطائي بعض الدروس بالطهو وفشلت بها بدون ان يجدي معي شيء ، شقيقتي روميساء وصديقتي صفاء افضل مني بالطبخ ، لذا إذا كنت تريد اكمال هذه الحرب عليك ان تتأقلم مع طريقة طهوي للطعام الذي ستتناوله من الآن وصاعدا"
التوت ابتسامته بتحفز وهو يدس لقمة اخرى بفمه ليقول بعد ان انتهى من هضمها بصوت اجش متحدي
"وانا لا امانع ، حتى لو وضعتِ بالطعام كل انواع السموم فأنا عندها سأتناولها بكل روح قوية ، واعدكِ ان تعتادي على هذا الوضع كذلك"
غرزت اسنانها بطرف شفتيها بانفعال وهي تغرف الملعقة بالأرز لتدسها بعدها بفمها بغضب استبد بها ، تجعدت بعدها ملامحها بضيق وهي تكتشف طعم الملح الواضح بالأرز ، لتخفض الملعقة عن فمها وهي تهمس بخفوت مرتاب
"كيف يستطيع تناوله ببساطة ؟"
قاطع (شادي) افكارها وهو يقول بجدية وكأنه سمع هذيانها مع نفسها وقرأها من تعبيرات وجهها
"يمكنكِ ان تسكبِ ملعقة من الشوربة فوق الارز ليخفف من ملوحته وتهرسي قطعة بطاطا فوقها لكي تعطيها طعم آخر ، جربيها قد تغير الطعم بفمك وتصبح اسهل بالهضم"
زمت شفتيها بامتقاع وهي تسير على إرشاداته بسكب الشوربة فوق الارز وهرس قطعة البطاطا فوقها ، لترفع بعدها اللقمة لفمها وهي تتلقفها بهدوء وصمت قبل ان تلين ملامحها براحة وهي تشعر بطعم افضل ينزلق بسلاسة بجهازها الهضمي ، عادت بالنظر له ما ان لاحظت بأنها اصبحت محط انظاره المترقبة لتهمس بعدها ببرود متعمد
"ليس بهذا السوء"
تغضنت زاوية ابتسامته بشغف واضح وهي تتحاشى النظر عنه بحياء استبد بها وبحقارة فعلتها ، ليعود بعدها للكلام وهو يشير بالملعقة لطبق الدجاج المشوي والذي لم يملك الجرأة على تذوقه
"كيف طعم هذا الدجاج ؟ اخاف من الخوض بالتجربة !"
عضت (ماسة) على طرف شفتيها بضحكة مكتومة وهي تمثل عدم الاهتمام قبل ان تقول ببلاهة
"لا تقلق لن تعاني من اي ضرر ، على الاقل لن يطير عليك ويعود للحياة ، أليس هذا كافياً ؟"
ارتفع حاجب واحد بتعجب وهو يتأمل الدجاج بعيون حادة شكاكة ليهمس بعدها بوجوم
"هذا سبب آخر يدفعني لعدم المخاطرة"
اكتسح ملامحها ضباب كاسر وهي ترفع يدها لتطوع بالتجربة لتقطع من فروج الدجاج قبل ان تقربه من فمها قائلة بثقة كبيرة
"انظر الآن كيف سأتناولها بدون ان يحدث لي اي ضرر"
اتسعت حدقتيه السوداوين بتركيز وهو يشاهدها تنقض على فرج الدجاج بأسنانها وتتناوله بنهم واضح ، لتنسل منه ضحكة غادرة على شكلها الفكاهي وهو يمد يده كذلك ليقطع من فروج الدجاج ، وما ان قربها من فمه حتى بدأ يتناولها بنفس طريقتها الهمجية بعد ان تخلوا عن آداب المائدة وزال رداء الرقي والفخامة عن كليهما ، ليستمرا بعدها على هذه الحال وبالطريقة الجديدة بتناول وجبتهما الأولى بالمنزل والتي قضوا بها على الاخضر واليابس مثل الوحوش البرية التي لا تعرف مبدأ او منطق فقط المتعة واللذة بالاستمتاع بتفاصيل حياتهم بكل زمان ومكان .
______________________________
كانت تتأمل نفسها امام المرآة وهي تتلاعب بأصابعها الصغيرة بالحلق المتدلي من اذنها على شكل زمرد اخضر ، لتمسك بعدها بزوج الحلق الآخر وهي ترتديه بأذنها الثانية ، لتخفض يديها بهدوء وهي تنظر لصورتها العاكسة بالمرآة بتقييم اخير بعد ان انتهت من تجهيز نفسها واقراطها تتألق بأذنيها وعقدها الألماسي يزين عنقها .
غامت حدقتيها العسليتين بشفافية وهي تمسد بكفها عند اعلى صدرها المكشوف من تحت ثوبها الطويل بلون الحشائش الخضراء التي تتموج تحت شعاع شمس الظهيرة....كان الفستان يتميز بياقة مربعة واسعة وبحمالات شرائط من قماش الثوب معقودة على كلا الكتفين بعقدة انيقة مزينة بفصوص صغيرة بوسطها....وباقي القماش ينزل على وركيها بانسياب ناعم به بعض الطيات والانكسارات البسيطة حتى يصل لكاحليها...واما وجهها فقد كان خالي من اي مستحضرات تجميل ما عدا شفتيها واللتين صبغتهما بلون التوت البري وظل خفيف من نفس درجة اللون فوق جفنيها الواسعين .
زفرت (غزل) انفاسها من بين شفتيها المتكورتين وهي تحيد بعينيها للسرير الفارغ بجانبها والذي نامت عليه لليلتين متتاليتين بدون وجود شريكها بجناح شهر العسل والذي عليه ان يسمى بجناح شهر الصبار ، لتزيح عينيها بعيدا وهي تعيدهما امام المرآة والتي اظهرت انكسار غير مرئي ببركتي اليأس لا يراه سواها ، لتجمد بعدها تقاسيمها الناعمة التي لا تزداد سوى هشاشة مع مرور الايام وهي ما تزال ببداية زواجها الحديث ، وهذا يعني بأن تذوق الصبار قادم لا محالة ولن تستبعد ان تتناول الصبار وتهضمه بداخل احشائها التي ستتمزق لأشلاء صغيرة !
فتحت الدرج بجانبها قبل ان تتسمر يدها ما ان وجدت صندوق صغير يخص اغراضها التي احضرتها معها ، وهي تتذكر بأنها لم تضعها بين اغراضها ولم تفكر بجلبها معها ! إذاً كيف وصل لغرفة الجناح ولدرج طاولة الزينة ؟!
كانت تتلمس الصندوق بدون إدراك منها بأصابعها الشاردة بحنين خاطف اخذها على حين غرة ، لتقبض بسرعة على يدها وهي تغلق الدرج بلمح البصر ما ان تهادى لسمعها صوت طرق خافت على باب الغرفة ، ليرافقها بلحظات انفتاح الباب على اتساعه قبل ان يحصل على الإذن وهو يدلف للداخل بهدوء واثق .
ضمت يديها بحجرها بصمت وهي تستمع لصوت الاقدام التي اصبحت بالقرب منها وخلفها تماما ، لتنتفض بعدها بانكماش غريزي ما ان حط بيديه على كتفيها المكشوفين جزئيا ، وهو يميل برأسه فوق قمة رأسها قبل ان يطبع قبلته على فرق شعرها المقسوم برفق .
عضت على طرف شفتيها تحجز مشاعرها الداخلية بحفرة سحيقة مظلمة ، لتسمع بعدها صوته ذو النبرة الرزينة وهو يبتعد عن رأسها بدون ان يفارقها
"مساء الخير يا اميرتي ، هل انتِ مستعدة لحضور عشاء الليلة بالخارج ؟"
ابتلعت ريقها بجفاف مفاجئ وهي تهمس بخفوت حزين بتوتر مفرط
"هل نحن مضطرين لتناول العشاء بالخارج ؟ ألا نستطيع فعلها بداخل الجناح كما كنا نفعل من يومين !"
عبست زاوية شفتيه وهو يتأمل صورتهما التي شملتهما بالمرآة قبل ان يقول بمرح مزيف
"انتِ حقا غريبة من نوعك ! هل هناك زوجة ترفض الخروج مع زوجها لتناول العشاء بالخارج ؟ هذه الفرصة يعتبرونها فرصة ذهبية للخروج من الحياة الروتينية والمملة ! وخاصة بأننا حديثي زواج ولم نجرب بعد الخوض بتجارب الحياة المختلفة !"
تغضن جبينها بوجوم مستاء وهي تهمس بأمل يائس
"أليس هناك امل بالتراجع عن هذا العشاء ؟ لأني اشعر بأني لست بخير تماما"
شدد يديه على كتفيها حتى شعرت بعظامها الهشة تحتك ببعضها بقسوة ، لترتخي بعدها اصابعه برقة وهو يقول بشبه ابتسامة حفرت على محياه بهدوء
"ليس هناك تراجع يا غزل ، فأنا وانتِ الآن مستعدين للخروج ، وعليكِ بتعلم الثبات على الرأي بحياتك لكي لا تقعي بالمشاكل عندما تقررين التراجع او الانسحاب ، هل فهمتي يا اميرتي ؟"
رفعت حدقتيها الحزينتين برغبة مُلحة حتى تقابلت مع عينيه المفترستين اللتين اسرتا مشاعرها واحاسيسها بقيود وهمية ، لتحجب عينيها بضعف بجفنيها المظللين بلون التوت الطبيعي بنعومة سطحها ، قبل ان تهمس بانصياع بنغمة الحزن المميزة بصوتها
"اجل فهمت"
ضم شفتيه بكبت منصهر وهو يستشعر نعومة صوتها الصغير وكل شيء بها اليوم يبدو بغاية النعومة والانوثة وهي تظهر مفاتنها بشكل مهلك للأعصاب وحارق لوتيرة القلب ، وخاصة بشكلها الحالي وبثوبها الملتف بألوان الطبيعة الخلابة وهي تتشبه بطائر الهدهد جميل الصوت والشكل يجذب النظر لتأمله ويسحر القلوب بنغمة صوته ، وكأنه يوم بعد يوم يكتشف جوانب جديدة بها تسحره اكثر عن السابق وتظهر جمال غير منظور بالعين ولكن مسحور بالقلب .
تنفس (هشام) بخلجات حارة وهو يميل بجانب اذنها الصغيرة ليهمس بها بأنفاس منفعلة طيرت الزمرد الخاصة بالقرط
"إذا كنتِ مصرة على رأيكِ ، فلا امانع ألغاء حفلة العشاء ، والانشغال باللعب مع عصفورتي الجميلة وإكمال العلاقة الناقصة التي لم تجبر للآن ، وانا على استعداد لأكملها بهذه الليلة واتذوق ذلك الشهد منكِ"
شحبت ملامحها بوجل قبل ان تتشرب بحمرة قانية بخجل مفرط وهي تتقلب بمئة لون وكلها بثانية واحدة ، لتشيح بوجهها بعيدا عن انفاسه القاتلة التي اثارت الجنون بداخلها وهي تهمس بتشنج ظاهري
"لا اُفضل الخروج لحفلة العشاء ، فهذه الفرصة لن تتكرر مرة اخرى ، وانا اشعر بحاجة ماسة للخروج من اجواء الجناح الخانق وتجربة العالم الخارجي"
رفع رأسه عاليا بتفكير لوهلة وهو يهمس باستهزاء واضح التقطته اذنيها الحساستين
"إذاً تفضلين الخروج على اكمالها ! لهذه الدرجة الموضوع يسبب عندكِ هاجس !"
التفتت بنصف وجهها بدون ان تملك الجرأة على مواجهته وهي تهمس بعبوس مرتجف
"ماذا تعني ؟"
انحنى بجانب اذنها مجددا وهو يهمس بها بصوت خفيض بتلاعب وكأنه يثيره ان يعبث بأعصابها بغريزة الانتقام
"انا اعني بأنكِ قد تنفذين مني هذه المرة ، ولكن هذا لن يحدث بالمرات القادمة ، كوني على علم بهذا"
زمت شفتيها بامتقاع فجر الدماء بوجنتيها المحمرتين وهي تهمس بانكسار ذليل
"هل ستستمر بهذه اللعبة طويلا ؟ متى سننتهي من كل هذا ؟ فأنا قد تعبت بالفعل من التفكير والتخيل بكل بداية صباح حتى نهاية المساء"
اعتلت ملامحه ابتسامة غامضة وهو يشعر بسخونة كلماتها وبشرتها الناعمة تكاد تلهبه حياً ، ليقول بعدها بلحظة بخفوت شديد بعمق قاتل
"لا تقلقي فقد قاربنا على النهاية ، وهذه الليلة ستنتهي بأفضل مما تتخيلين ، فقط اصبري وشاهدي النهاية فأنا لا اطيق صبرا للوصول لها !"
فغرت فاها الصغير بلوعة وهي تستشعر شفتيه على خدها بقبلة رقيقة ناعمة ، لتلتفت من فورها باندفاع غير واعي حتى اصطدمت بوجهه القريب منها جمدها بمكانها وهو مستغرق باستنشاق رائحتها بأنفه واختبار نعومة بشرتها بشفتيه بحركات عابثة زادت ضخ الدماء بأوردتها ، لتنتهي قبلته فوق مقدمة انفها الصغير وكأنه ينهي الحروب الباردة بينهما برقة عذبة ليس لها مثيل كتمت على نبضات قلبها بجمال ليس له حدود .
عادت للتنفس بطبيعية ما ان استقام بعيدا عنها وكأنها كانت تغوص بأعماق المحيط بدون ذرة اكسجين قبل ان تطفو بالنهاية على السطح ، افاقت بعدها على الذراع التي امتدت نحوها وصاحبها يقول بهدوء ساحر جذبها لعالمه
"هيا يا اميرتي الصغيرة ، لدينا حفلة عشاء هذه الليلة ، ولا نريد تفويتها بأول ليلة شاعرية بحياتنا الزوجية"
لعقت طرف شفتيها بتخبط وهي ترفع كفها الصغيرة لتستقر بداخل كفه ، وبلحظة كان يدفعها للنهوض عن الكرسي بقوة حتى تعثرت بأطراف الثوب وهي تلتصق به اكثر ، ليبتسم بعدها بشوق غادر وهو يبعدها عنه من خصرها يستطيع استشعار قوامها النحيل بين يديه وحرارة جسدها عليه ، وكم بلغت عنده الرغبة بها اشدها ! ولن يستطيع توقع ما ستكون عليه ردة فعله القادمة ازاء تصرفاتها وحركاتها !
استقامت (غزل) بتصلب وهي تدس خصلاتها القصيرة خلف اذنها بارتجاف مفاصلها التي تشعر بارتعاش كل جزء بها بقربه ، ليجذب بعدها ذراعها النحيل وهو يلفه حول ذراعه الصلب بتملك عله يعطيها بعض القوة والطاقة بعظامها النحيلة التي تكاد تنكسر من لفحة هواء .
اتسعت ابتسامته بالتواء جذاب وهو يقول لها بلطف لامس رقاق قلبها
"هل نتحرك يا اميرتي ؟"
اخفضت وجهها بحياء واضح وهي تومئ برأسها للأسفل باهتزاز شديد وكأنها تهتز مع كل حركة خرقاء ، لينظر بعدها للأمام بابتسامة هادئة وهو يسحبها معه خارج الغرفة لتتبعه بطاعة تامة وبوداعة لا يزيده سوى شوقاً جارفاً نحوها ليقضي على حواجزها الضعيفة ويخترق قفص العصفورة الذي اجادت حبس نفسها به .
_______________________________
ارجع الكرسي لها بأدب لتجلس فوقه بصمت رقيق قبل ان ينتقل للطرف الآخر من الطاولة وهو يجلس على الكرسي الآخر ، وبعدها بلحظات كانت اطباق الطعام تصطف فوق المائدة المستديرة بترتيب يظهر فخامة ورقي حفلة العشاء بأغلى واشهر فنادق المنطقة ، ضمت قبضتيها تحت سطح الطاولة وهي تراقب بطرف عينيها الاجواء من حولها وبالأصح الثنائيات حديثين الزواج اللذين يملئون المكان بكل اشكالهم وألوانهم ، لتشعر بنفسها بعالم موازي بعيد مختلف عن العالم الذي كانت تنظر له ذات يوم بنظرات جائعة حاسدة بغبطة ، ليتغير الوضع الآن بعد ان تقلبت الادوار والاحوال وهي تصبح فرد من هذه الثنائيات التي كونتها مع شريكها الجديد ، ولكن لما لا تشعر بالسعادة التي يشعرون بها وتاقت لها بشدة ؟ هل خاب املها بعد ان خاضت التجربة ! ام كانت تتوقع اكثر مما هو مسموح به بالعالم الواقعي ؟ ام هو الجانب الآخر والمخفي من تلك العلاقة الزوجية التي لم تعلم عنها سوى مؤخرا !
عضت على طرف شفتيها بتأنيب داخلي وهي ترغم نظراتها على الانصياع لعقلها والرقود بمكانها ، بدون ان تتوقف عن فرك اصابعها بحالة توتر غريب ما ان هاجمتها الخيالات المجنونة عن تلك العلاقة التي لم تكتمل للآن ! وقد اخبرها بأنه يفكر بإكمالها بنهاية هذه الليلة والتي لن تنتهي على خير ، ولكن هل هو صادق بالفعل ؟ هل سيفعلها هذه المرة ام سيصليها بنار الانتظار التي لا ترحم مخلوق ؟!
افاقت (غزل) من افكارها المجنونة على عينين متربصتين هادئتين تتأملانها بصمت رقيق وكأنه ينتظر منها ان تقطع خيط الصلة بينهما ، لترنو بنظراتها بعيدا بخجل اقتحم بابها بدون سابق إنذار وهي تتلاعب بأصابعها الصغيرة بحجرها ، وعندما طال الصمت اكثر كانت تتنهد بإرهاق وهي تهمس بخفوت ممتعض
"ماذا هناك ؟ هل هناك شيء عالق على وجهي ؟ لما تتأملني هكذا ؟!"
شعرت بصوت انفاسه الهادئة عبر المسافة القصيرة بينهما وهو يردف بالقول بابتسامة جذابة
"لقد كنت افكر بماذا انتِ شاردة ، فأنا اراكِ بأغلب الاحيان تشردين بعيدا وكأنكِ بعالم غير عالمك !"
نظرت له بعينين واسعتين واجمتين وهي تهمس ببهوت حزين
"ليس بالشيء المهم الذي يستحق اهتمامك ، لا تكترث للأمر"
تقدم (هشام) بجلوسه وهو يريح مرفقيه على حافة الطاولة ليقول بعدها بابتسامة مائلة مفعمة بالحياة
"ادفع نصف عمري لمعرفة بما يجول برأسك ، هل هذا الثمن يكفي لتفصحي بأسرارك الدفينة ؟"
انفرجت شفتيها بلون التوت الكامل النضج وهي تكتم عليهما بسرعة لترفع بعدها قبضتيها بجرأة وهي تريحهما فوق سطح الطاولة بثبات ، قبل ان تهمس بخفوت مشتد وكأنها تعلن عن مساومة لأول مرة بينهما
"سأخبرك بكل ما ترغب سماعه ، ولكن هل تعدني ان تنفذ لي كل ما اطلبه منك ؟"
ارتفع حاجبيه بانتباه شيق وهي تختار المواجهة لأول مرة بدون اي هروب او مراوغة ، ليرجع بعدها ظهره للخلف وهو يقول بابتسامة جادة بدهاء
"إذاً تريدين المساومة بهذه الطريقة ! وماذا يضمن لي بأنكِ لن تطلبي مني امر صعب المنال مستغلة الفرص ؟ او ربما بدافع الانتقام مني على افعالي السابقة معك واجباركِ على تقبلي !"
حركت رأسها بالنفي بعنف وهي تهمس من فورها بابتسامة محرجة بضيق
"اؤكد لك بأنني لن اطلب منك شيء فوق مقدرتك"
مالت ابتسامته بهدوء وهو يراقبها عن كثب ليقول بعدها بجدية هادئة
"لا بأس يا غزل ، وانا من جهتي اعطيكِ كامل موافقتي لكي تطلبي ما تشائين ، هل هذا يكفي لنستطيع دخول قلبك ونكسب ثقتك ؟"
تغضنت تقاسيمها بشحوب وهي تشعر بمعنى اكبر بكلامه مما يدور حوله النقاش ، لترفرف بعدها بجفنيها المظللين بحركة متوترة وهي تهمس بكل قوة تمالكتها بلحظات خاطفة
"انا لا اريد ان تكمل علاقتنا بهذه الليلة ، لست مستعدة بعد"
نضبت ابتسامته بلحظة وهي تتحول لعبوس طفيف قبل ان يعقب قائلا بتفكير مستهزئ
"هل ما تزالين تفكرين بذلك الحديث الذي دار بيننا قبل خروجنا من الجناح ؟ لما تعطين الامر كل هذه الاهمية ؟ هل تخافين على نفسكِ مني ؟"
لوحت بيديها بارتباك وهي تقول بتبرير متلعثم حتى عضت على طرف لسانها بين كلماتها
"لا ليس هذا ما قصدته ، لقد كنت اقصد بأنني احتاج بعض الوقت للاستعداد ، أليس مسموح لي بالحصول على فترة تمهيد بحياتي فقد حدث كل شيء بسرعة كبيرة ولم تمهلوني الوقت اللازم للاستعداد ؟"
كان يحدق بها بهدوء وببطء شديدين وكأنه يدرس كلماتها المتكسرة على تعبيرات وجهها الاكثر شفافية ومع حركات يديها العفويتين وكل شيء بها يتضامن معها ، لينصب بعدها مرفقه فوق سطح الطاولة وهو يسند ذقنه فوق قبضته قائلا ببساطة سلسة
"حسنا موافق ، هل من اوامر اخرى لكي تبوحي لي بأسرارك ؟ فقد تنازلت وتساهلت بالكثير من اجل هذا الامر ، واتمنى ان يكون ما سأحصل عليه يستحق بالفعل"
رفعت عينين متسعتين بخضار زمردي انعكس من لون قرطيها الزمرديين بصدمة اقرب للذهول ، لتهمس بعدها بصعوبة ما ان وجدت صوتها بخفوت متوجس تحاول تقبل فوزها بالنقاش
"حقا ما تقول ! بهذه السهولة !"
حرك (هشام) كتفيه بعدم اهتمام وهو يقول بابتسامة جانبية بمغزى
"ولماذا لا اقبل ؟ فكل ما افعله بأني امنحكِ الوقت وكل ما املكه من اجلك ! ولكن هذا الوقت بالنهاية سينفذ وتعرفين هذا الامر جيدا ، فأنا رجل وعندما تنتهي فترات صبري قد لا استطيع مسك نفسي حينها ، لذا لا تطيلي كثيرا بالطلبات وبفترة تمهيدك وحاولي التعايش مع محيطك بأسرع وقت ، فأنا لم اتزوج لكي اكتفي بهذا الرابط بل تزوجت لكي اكتمل معكِ"
اومأت (غزل) برأسها للأسفل بخزي اجتاح كيانها وهي تهمس ببهوت جاف
"اجل اتفهم هذا الامر جيدا ، وشكرا لك على مراعاة مشاعري"
اخفض قبضته عن ذقنه وهو يكتف ذراعيه فوق سطح الطاولة قائلا بجمود جاد وهو يطمر مشاعره الحقيقية بداخله
"لقد انتهى دوري وجاء دوركِ الآن لتفي بوعدكِ بهذا الاتفاق ، وألا لا تلومي سوى نفسكِ إذا نقضت وعدي لكِ وعدت لقراري الأول الذي ما يزال قائم !"
زمت شفتيها باضطراب لحظي قبل ان تهمس بابتسامة طفيفة شقت تقاطيع ملامحها بحزن آسر
"لقد كنت اراقب الثنائيات والمتزوجين حديثاً المنتشرين من حولنا بالمكان ، فأنا كان لدي عادة سيئة بصغري هي ترصد ومراقبة كل ثنائي إذا كان متزوج او عاشق او مخطوب ، وتكونوا نظراتي نحوهم عادةً بين حسد او غبطة او حزن ، المهم بأني لا استطيع السيطرة على مشاعري واحاسيسي ازاء تلك العلاقات بينما اكون وحيدة بزاوية غير مرئية ! وقد انتابني ذلك الشعور من جديد وانا بجوارك ، ولكن مع تغيير واضح بالأدوار فقد اصبحت الآن اشكل ثنائي معك ، يعني لم اعد استطيع ان اقول عن نفسي بأني غريبة لا انتمي لعالمهم ، فقد تجاوزت ذلك الأمر بفضلك وجعلتني اشعر بالاكتمال اخيرا وكأنني قد خرجت من تلك الزاوية الضيقة وسحبتني لعوالم اخرى لم اكن اعلم عنها ! هذا ما كنت افكر به وشرد ذهني إليه"
اومأ برأسه بتعابير قاتمة غير مقروءة وهو يحاول ان يستشف الحقيقة والصدق من كلماتها البريئة الساحرة والتي خرجت على شكل انشودة بصوت طائر الهدهد ، ليستعيد بعدها ضبط زمام نفسه بعيدا عن شجن صوتها وهو يركز على المقطع الاخير من كلامها ليقول بلحظة بصوت خفيض برتابة
"وهل انتِ سعيدة حقا بتكوين هذا الثنائي معي ؟"
غامت ملامحها بشرود سيطر على هالتها وهي تفرك قبضتيها معا ، لتهمس بعدها بهدوء ظاهري بدون ان تظهر بما يعتمل بصدرها
"اجل ، انا سعيدة"
عقد حاجبيه بعدم اقتناع ومع ذلك لم يجرب خوض هذا الحوار معها لكي لا يخلف ندوب جديدة بداخله فقط لإرضاء غيرته الحمقاء ، قال بعدها وهو يلوح بذراعه بمرح غير حقيقي لكي ينهي الافكار التي انحدر لها
"يا للخسارة لقد فوت على نفسي قضاء ليلة ساحرة مع زوجتي الفاتنة من اجل سماع مثل هذه المواضيع الفارغة ! يا لها من خسارة كبيرة !"
سقطت شفتها السفلى بارتجاف وهي تنظر له بملامح بائسة وكأنها قطة صغيرة هزيلة وجدها بزقاق الاحياء تطلب منه النجدة ، لتعتلي بعدها ابتسامة هادئة ملامحه وهو يمسك بيدها على طرف الطاولة قائلا برفق
"اهدئي يا عزيزتي ، لقد كنت امزح فقط ، هل تأخذين كل شيء بجدية هكذا ؟"
ابتلعت (غزل) ريقها بارتعاش وهي تقبض على يدها الصغيرة تحت وطأ يده القوية ، ليرفعها بعدها لمستوى شفتيه وهو يقبل ظاهرها بلطف قبل ان يهمس فوقها بصوت اجش وهو يداعب بشرتها بأنفه بمتعة
"كم اصبحت مفاتنك تغريني يا طائر الهدهد ! والاغراء بحد ذاته متعب ومهلك على النفس مثل الاحتراق بنيران شوقك"
سحبت كفها بسرعة بعنف لم تتقصده وهي تحجزها بداخل حجرها برجفة مرت على كامل جسدها الملسوع ، بينما تبدلت ملامحه بخطوط مشدودة وهو يمسك بالملعقة بجانب الطبق قائلا بهدوء بديهي وكأن شيء لم يكن
"هيا باشري بتناول طعامك ، فلن تفوتي هذه المرة وجبة طعام العشاء كما حدث بليلتين السابقتين ، فإذا لم تهتمي بنفسكِ وبغذائك فلن يهتم احد بما سيحول به امرك !"
عبست ملامحها وهي ترمقه بأطراف حدقتيها بأسى وهي تشعر بأنها قد بالغت بردة فعلها السابقة ، فقد اصبحت اغلب ردود افعالها غير اعتيادية وخارجة عن نطاق إرادتها وكأنها فقدت التحكم بجسدها ! وهي تتمنى ان تنتهي هذه الليلة بسرعة وتخلد للنوم بسريرها وامانها بعيدا عن كل المشتتات والضغوطات التي اصبحت تعايشها دمرت نظام حياتها .
تسمرت عينيها على ملامح رجل مر من جانب طاولتهما بلمح البصر قبل ان تشعر به ، لتحرر انفاسها بلوعة وهي تلتفت بسرعة للخلف بدون ان تستطيع ايجاده بمكانها والذي اختفى به مثل السراب ، لتعود للاعتدال بجلوسها بملامح متلبدة وهي تشعر بنفسها قد جُنت هذه المرة وطار عقلها من رأسها ، فأما ان يكون تصور من مخيلتها المرهقة التي ترسم اشياء غير واقعية ! واما ان تكون متعبة ومنهكة لدرجة ان ترى شخص من سابع المستحيلات ان يتواجد هنا !؟ وكلا الاحتمالين يوصلانها لنفس النتيجة الحتمية وهي بأن ما رأته غير حقيقي وما هو ألا محظ وهم صنعه عقلها من انسجة الماضي البعيد .
_________________________
امسكت بسلسلة القلادة وهي تلقي بها عاليا لتحط فوق ملاءة السرير بسلاسة وكأنها طائر فقد اجنحته ، لتلتفت بعدها بنصف رأسها للخلف وهي تستمع لوقع الخطوات القادمة اتجاه الغرفة ، لتأخذ لحظات وهي تعيد خصلاتها المتمردة لخلف اذنها قبل ان تتحرك بخطوات مدروسة اتجاه الحمام المرفق .
ما ان اغلقت باب الحمام خلفها حتى كان يدخل صاحب الخطوات للغرفة التي اكتشف خلوها بلحظة ، وما ان كان على وشك مناداتها حتى صمت بآخر لحظة وهو يلمح غرض لامع جذب نظره واهتمامه ، ليقترب بعدها من السرير بخطوات ثابتة وهو يضيق نطاق نظره بالشيء الذي بدأ يظهر ويتوضح امام عينيه القانصتين .
تسمرت خطواته عند حافة السرير وهو يرفع حاجبيه بدهشة واجمة قبل ان يتمتم بعبوس مستنكر
"هل هذا ممكن ؟"
مال بجسده الطويل وهو يمتد فوق السرير حتى وصلت يده للغرض اللامع الذي تبين بأنه قلادة ، وما ان سحب السلسلة الذهبية بأصابعه وهو يستقيم بوقوفه ببطء شديد ، حتى تدلت نهاية القلادة امام عينيه المحتدتين وهو يتتبع طريقها حتى اتضحت الصورة التي ارتسمت على سطحها دحضت كل الشكوك برأسه وتلاعبت بأعصابه الفكرية ، والسؤال يضرب برأسه مثلما تضرب اسلاك الكهرباء بوصلات عقله ماذا تفعل قلادة (روميساء) هنا ؟!
تصلبت ملامحه بقناع الجليد القاسي وهو يقبض بيده على القلادة والتي تجمعت بقبضته ولم يبقى منها سوى القرص الدائري الخارج عن نطاق حكمه ، ليخفض ذراعه للأسفل بعنف وهو يصرخ بكلمة واحدة بغضب مدوي طرق جدران الغرفة التي اهتزت من صوته
"سلوى !"
اخذت لحظات قبل ان ينفتح باب الحمام والذي خرجت منه التي كانت تتمايل بثوبها القصير بلون النبيذي وكأنها تمثل الاستفزاز بحركاتها ، لتتوقف بعدها بمنتصف الغرفة وهي ترسم ابتسامة حرفية على محياها الفاتن هامسة بصدمة مسرحية
"مساء الخير يا زوجي العزيز ، كيف وتذكرتني هكذا فجأة ؟ هل تعلم بأنك قد راودتني بأحلامي بليلة امس ؟ لقد كان حلم جميل !"
تجهمت ملامحه اكثر عن السابق وهي لا تحمل اي من سمات اللين والرقة ليجاري حديثها الحالم ، لتحرك بعدها كتفيها بدلال وهي تقول بتفكير ساخر
"لا اعتقد بأنك بحالة طبيعية تسمح لك بسماع حديثي عن ماذا راودني الحلم ، ولكني مع ذلك لم استغرب هذا منك فأنت بالآونة الاخيرة اصبحت عصبي جدا ولا يطاق الكلام معك ، لذلك افهمك جيدا......"
قاطعها (احمد) بنفاذ صبر وهو ينظر لها بعينين جامدتين
"ألا تعرفين الصمت ولو قليلا ؟ انا انتظر اللحظة التي تكفين بها عن ثرثرتك ، هل ترينني بمزاج جيد لكي اتفرغ لأحاديثك التافهة ؟"
كتفت (سلوى) ذراعيها فوق صدر الثوب المفتوح وهي تقول بابتسامة متباهية
"حسنا يا احمد ، ها قد صمتنا واغلقنا افواهنا ، هل لديك ما تريد قوله لي فأنت تأخذ من وقتي الخاص باستحمامي المسائي ؟"
تلبدت ملامحه بوجوم وهو يدور حول السرير بلمح البصر حتى وقف امامها تماما ، ليلوح بعدها بالقلادة التي ما تزال متدلية من اصابعه وهو يقول باتهام واضح غير منطوق
"ماذا تفعل هذه القلادة بغرفتك ؟"
رفعت رأسها برباطة جأش بعد ان عبث بعزيمتها باتهامه المباشر الذي لا يحمل صيغة السؤال ، لتقول بعدها بنظرات فاترة بدون اي تعبير
"اين وجدت هذه القلادة ؟"
قطب جبينه بجمود اكبر وهو يحرك القلادة بيده قائلا بصرامة قاطعة لا تقبل اي نوع من النقاش
"انا الذي وجهت لكِ السؤال اولاً ، ولا اريد ان اسمع اي اسئلة خارج الموضوع ، بل اريد اجابة على السؤال المطروح !"
تأففت بأنفاس طويلة وهي ترمق القلادة ببرود لتهمس بعدها بقنوط ممتعض
"ماذا تريد ان تسمع يا احمد ؟ هل تحاول اتهامي بسرقة هذه القلادة الغالية ! وما علاقتك بهذا الامر ؟ هل ستوضح لي مقصدك من هذا السؤال بدلا من العبث بمشاعري بهذه الطريقة ؟"
ادار عينيه جانبا وهو يحاول ان يحجم مشاعره الثائرة ليقول بعدها بصوت اقل حدة
"انا لم اتهمكِ بشيء بعد ، ولكن إذا بقيتِ بهذا الاسلوب المتعنت فقد اتهمكِ بالكثير ولن اكتفي بالكلام !"
ارتفع حاجبيها بتعجب ظاهري وهي تهمس بابتسامة مغوية
"لن اجيبك قبل ان تخبرني ما علاقتك بهذا الامر"
نظر لها بجمود وهو يصرخ فجأة بثورة فتحت فوهتها
"هذه قلادة روميساء ، وانا قد اعطيتها لها بنفسي ، وعندما اكتشفت فقدانها للقلادة منذ اكثر من شهر اجدها بالنهاية بغرفتك !"
ابتلعت ريقها برعشة خاطفة تحت ضغط كلماته الهجومية وهي تخفض عينيها سنتمترات هامسة بهدوء مرتبك
"اجل اعلم هذا ، وانا كنت على وشك اعادتها لها ، ولكن يا للمصادفة لقد رأيتها قبل ان افعل ذلك......"
قاطعها (احمد) بصوت صارم وهو يخفض قبضته بالقلادة بعنف
"كفى مراوغة وسماع تبريرات فارغة ، فأنا لم اطلبها منكِ ، كل ما اريد معرفته كيف وصلت هذه القلادة ليدكِ ! أليس لديكِ اجابة ؟"
زمت شفتيها بامتعاض وهي تنفض ذراعيها بحركة عصبية قائلة باستنكار عابس
"ماذا تقصد بهذه الاسئلة الجارحة يا احمد ؟ هل تتوقع ان اكون من هذا النوع ! هل تظنني رخيصة لهذه الدرجة حتى افكر بسرقة قلادة ضرتي ؟ وانا املك اغلى وافضل انواع الإكسسوارات بخزانتي وبكل درج بغرفتي ! هل تراني طماعة لهذه الدرجة وجشعة حتى افعلها ؟ هذا اتهام كبير بحقي......"
قاطعها بيده التي امسكت بذراعها بقوة مثل الكماشة وهو يقول بوجهها بغضب هادر افرغت براكينه
"لهذا انا اسألكِ الآن ! ماذا تفعل القلادة بحوزتك ؟ واين كانت مختفية كل هذا الوقت ؟ وإياكِ والكذب عليّ بهراء آخر لكي لا اتهور معكِ اكبر تهور من الممكن ان ارتكبه بحياتي ، سمعتي !"
تشنجت عضلات وجهها وهي تواجه منه غضب تحت حمم بركانية لم تراه بحياتها منذ زواجها ، لتخفض بعدها رأسها قليلا وهي تهمس باستسلام متضرع
"حسنا يا احمد كما تريد ، سأخبرك بكل شيء ، ولكن قبل ذلك ستعدني بأنك لن تنفعل ولن تغضب بعد ما ستسمعه مني ، وستحاول ان تلتزم الهدوء وانضباط الاعصاب بدون اي جنون او تهور....."
قطع (احمد) كلامها بغضب حارق وهو يهزها مثل قطعة قماش
"تكلمي يا سلوى ، تكلمي ، فأنا لم اكن مجنوناً بحياتي كما الآن ! لذا تكلمي افضل لكِ"
اومأت (سلوى) برأسها باهتزاز ارتج بدماغها وهي تقول بهدوء متزن
"انا اعرف بأن هذه القلادة لروميساء ، فقد حصلت عليها بيوم حفلة زفاف شقيقتي عندما سلمني إياها صديق روميساء بالعمل ، كان اسمه يوسف على ما اذكر ، واخبرني بأن اعطيها لها شخصياً فقد ضاعت منها ونسيتها بمنزله ، وهذا ما كنت افكر بفعله قبل قدومك وإلصاق التهمة بي ، ليس لدي شيء آخر اضيفه لك"
ارتخت مفاصل اصابع يده على ذراعها قبل ان تسقط على جانبه بصمت ، ليضغط بعدها على اسنانه بمحاولة تمالك نفسه بشق الانفس بعد ان اصابته بالصميم وبضربة فاقت كل ضرباتها السابقة وتعاظمت بشعور الخذلان بداخله ، ليعود بالنظر لها بطرف حدقتيه الغائمتين وهو يقول بانعدام اتزان بعد ان افقدته قدرته على التركيز
"كيف حدث وقابلته ؟ هل هذا يعني بأنكِ تعرفين ذلك الرجل ؟"
حركت يديها امام وجهها بدفاع وهي تقول من فورها بجدية متصنعة
"لا بالطبع لا اعرفه فهذه كانت المرة الاولى التي اقابله بها ، وانا ايضا فوجئت عندما اخبرني بذلك الكلام ! ولا اعلم حقا ما هي الصلة التي تربط بينهما ! ولكنها بالتأكيد صداقة عمل لا اكثر ، يعني مجرد صديق عابر ، ماذا سيكون اكثر ؟....."
تجمدت اوصالها ما ان حدق بها بعينين متوحشتين وهو يقول بجمود كاسر ينفي كلامها الاخير الذي كان مثل السكين على قلبه
"صديق ! صديق ماذا ! هل تسمع اذنيكِ ما يقوله لسانك ؟ ليس هناك اي صداقة او معرفة بينهما ، إياكِ ونطق تلك الكلمة امامي مجددا ، إياكِ ، لكي لا اقطع لسانكِ الطويل هذا واعلقه حلقة بأذنك !"
كورت شفتيها بضيق وهي تخفض يديها لتقول بابتسامة بريئة رسمتها بمكر
"حاضر يا احمد ، فهمت ، ولكن ارجو منك ان تتكتم عن امري امام روميساء ، يعني ليس هناك داعي ان تخبرها بأنك قد حصلت على هذه المعلومات مني وبأنك وجدت القلادة بغرفتي ، فلا اريدها ان تحزن مني او تنتزع علاقتنا بسبب هذا الامر ، فأنا لم اقصد اي ضرر بتصرفي ولم اتعمد اذيتها ، فقد كانت نيتي صافية نحوها صدقني"
كان ينظر لها بجمود منحوت من صخر وهو يستمع لها بهدوء شديد وكأنها فراغ امامه ضيقت النفس بصدره ، ليقول بعدها بنبرة قاسية وهو يحيطها بنظرات جليدية باردة
"انتِ التزمي مكانكِ ولا تأخذي اي خطوة خارج حدود غرفتك ، وإذا سمعتكِ او رأيتكِ تتدخلين بهذا الامر فلن اتهاون مع احد منكما ! ومرة اخرى اي شيء يحدث معكِ إذا كان عنكِ او عن روميساء تخبريني بالأمر فورا قبل كل شيء ، فإذا تكرر ما حدث اليوم وحاولتِ اخفاءه عني او التستر عليه فلن ارحمكِ يا سلوى ، وهذا تحذيري الاخير لكِ ! لا تنسي !"
اومأت برأسها باستكانة وهي تشعر بنبرته الخطيرة تحيط بها بخيوط قاتلة تكاد تضيق على عنقها وتخنقها ، لتعض بعدها على طرف شفتيها بخوف نشب مخالب بصدرها وهي تهمس برضوخ
"حاضر يا احمد ، كل شيء سيحدث كما تأمر وتقول"
اومأ برأسه ببرود وهو يستدير بعيدا عنها ليحرك قدميه بتثاقل دبت الحياة بهما وهو يندفع للخارج والقلادة تهتز بقبضته المحكمة ، بينما جرت (سلوى) خلفه وهي تقف عند إطار باب الغرفة هاتفة بقوة
"انتظر يا احمد ، إياك وان ترتكب اي تهور ستندم عليه ! عليك ان تفهم القصة اولاً قبل ان تحكم على الظاهر منها ! احمد ! احمد"
توقفت عن الهتاف ما ان اختفى عن نظرها خارج الجناح بدون ان يلتفت نحوها او يعبأ نفسه لندائها ، لتمسك بعدها خصرها تحت قماش ثوبها الناعم وهي تهمس بابتسامة ملتوية بخبث
"افعل ما تقدر عليه يا زوجي ، فليس هناك اقسى من جرح القلب والذي يدفع الانسان للهجوم الاعمى بعد ان يغطي الغضب الاسود بصيرته !"
______________________________
كان يسير بطريق اشتعلت خطواته وقبضته تشتد اكثر واكثر على القلادة التي قيدت سلسلتها اصابعه بانحصار الدماء بها وكأنها تلتف حول روحه وتعصرها بدون رحمة ، وما ان تجاوز الباب وبعدها رواق الجناح حتى وقف امام باب الغرفة بثواني وهو يتأمل الجدار الخشبي الفاصل امامه وكأنه يحاول استرجاع سيطرته على نفسه التي ثارت بجذوة روحه ، ليرفع بعدها قبضته بسكون وهو يطرق على الباب بقوة اصدرت رنين القلادة الصلبة صوتا اعلى مما ينبغي .
اخذت الخبطات تزداد للحظات قبل ان يتوقف ما ان انفتح الباب على اتساعه وظهرت من خلفه سبب كل هذه الحروب والمعارك الداخلية بدون التوصل لهدنة ، تسمرت بمكانها وهي تنظر له بملامح مشدوهة لبرهة قبل ان تكتف ذراعيها فوق صدرها قائلة بجدية هادئة تقمصتها بلحظة
"ماذا هناك يا احمد ؟ هل هكذا تطرق الباب عادةً ؟ لقد ظننت بأن هناك زلزال قد حدث بالمنزل !"
اشتدت خطوط ملامحه وهو يخفض يديه قائلا بصوت خفيض ينذر بعواصف
"لقد كان ظنكِ بمحله ، فهناك بالفعل ما يحدث اسوء من الزلازل !"
ارتفع حاجبيها بتوجس تخلل بملامحها وهي تخفض ذراعيها قائلة بهدوء جامد
"ماذا يحدث معك ؟ هل شعرت بالملل فجأة وقررت ان تفرغ غضبك بي ؟ ام هي زوجتك سلوى من ضايقتك هذه المرة وجئت لبابي لكي تهزئ هذه الفتاة الغبية ؟......"
صمتت بلحظة ما ان قبض على ذراعها وهو يدفعها للخلف بدون مقدمات حتى اختل توازنها قليلا ، ليغلق بعدها باب الغرفة خلفهما وهو يستدير نحوها بمواجهة اطلقت الحمم البركانية بعينيه واندلعت تحت قشرة ملامحه الصلبة ، لتستقيم امامه بتصلب بدون ان تهابه وهي تلوح بذراعها من خلف كتفه قائلة باستهجان غاضب
"ماذا يعني هذا التصرف قليل الاخلاق والذوق ؟ ماذا يعني ان تدفعني لداخل الغرفة وتغلق الباب بالمفتاح علينا ! هل هذا مفهوم الحوار والنقاش عندك ؟ انت تثبت لي بكل مرة بأنك لا تفهم شيئا بالتعامل مع الآخرين فأنت اكثر شخص فظ رأيته على الإطلاق !"
اسودت ملامحه بصمت وهو يحرك فكه بقسوة بدون اي تعبير ينم على الشعور ، ليقول بعدها بجفاء قاتم
"اتركينا من الاخلاق والذوق يا صاحبة الثقافة والاخلاق النبيلة ، لما لا تفكرين بنفسكِ قليلا ؟ فأنتِ تظنين دائما بأنكِ خالية من العيوب والافضل بين الجميع ! وليس هناك احد بالعالم يستطيع منافستك بهذا السباق والذي خضته ضد الجميع على مدار سنوات ، حتى اصبحنا بنهاية المطاف نشكك ببعضنا البعض بسبب مظاهراتك ومحاماتك ، ولكن ماذا لو حدث واكتشفنا بأن هناك اخطاء بحياتك تحاولين اخفاءها والتستر عليها ؟ فكل انسان لديه اسرار واخطاء ستكشف بالنهاية مهما حاول اخفاءها وترقيعها بعيدا !"
ابتلعت (روميساء) ريقها برجفة غير معلومة اعتلت بغشاء غير مرئي فوق عينيها الخضراوين وهي تهمس بانفعال مهزوز
"ماذا يعني كل هذا ؟ ماذا تريد مني ؟ لماذا تتصرف معي بهذا النحو ؟!"
تنفس بتصلب هدر بأحشائه على مرأى عينيها المعذبتين وهو يقول بلحظة بسؤال مباشر
"اين هي القلادة التي اهديتك إياها ؟ فأنا لم اراكِ ترتدينها منذ شهر تقريبا ؟ واذكر بأني قد سألتكِ عنها سابقا ولم تجيبيني !"
ارتعشت شفتيها بنشيج وهي تقبض بيديها على جانبيها بتعرق لا إرادي غزى جسدها ما ان وصل للموضوع الحساس والذي كان يشكل كل المخاوف بالنسبة لها ، لتحجب عينيها بعيدا عنه وهي تقول بتبرير جاف وكل ما خطر ببالها
"لا اذكر اين وضعتها آخر مرة ، قد اكون فقدتها برواق الجناح او بالغرفة المجاورة ! ولكني سأحاول البحث عنها مجددا....."
قاطعها (احمد) من فوره وهو يخرج قبضته امامها والتي تدلت منها القلادة قائلا ببساطة مرهبة
"لا داعي للبحث عنها ، فقد وجدتها لكِ بالفعل ، انظري أليست تلك قلادتك ؟"
نظرت له بعينين شاخصتين وكأنها تنظر لكائن عجيب وضمن معجزات الكون وليس لقلادة كانت تبحث عنها منذ شهر غادر حتى فقدت الامل بإيجادها ، اضطربت انفاسها ما ان قاطع لحظات انذهالها قائلا بصوت اشتد بحدة
"ماذا بكِ ؟ أليست هذه قلادتك ؟"
زمت (روميساء) شفتيها اكثر من مرة بتوتر نهش عظامها حتى همست بالنهاية باستياء عابس
"ماذا تفعل القلادة معك ؟ هل كانت معك كل هذا الوقت ؟"
حرك رأسه بنفي ساخر وهو يقول بشبح ابتسامة خاوية
"ليس هذا هو السؤال ، السؤال اين وجدت هذه القلادة !"
عقدت حاجبيها بتلبك وهي تتوقع سماع الاسوء من نبرة صوته الاتهامية التي اصبحت تسمعها كثيرا منه ، لتخفض بعدها رأسها بانكسار وهي تقول بوجل خافت
"من اين حصلت عليها ؟"
غامت ملامحه بسحابة الغضب الاسود الذي عاد ليغرق كيانه وهو يخفض قبضته بالقلادة بسكون ، ليقول بعدها بنبرة مغتاظة وكأنه يخرج الكلام من فوهة بركان مكتوم
"السيد يوسف هو من سلمني إياها"
رفعت رأسها بسرعة وكأنها افاقت من حلم مجنون كانت تحياه وهي تهمس بارتباك مضطرب تحاول تجميع كلماتها
"كيف ؟! كيف حصلت عليها منه ؟ هل كانت معه كل هذا الوقت ؟ هل كنت تعلم بهذا الامر ؟"
ضيق حدقتيه الرماديتين بعواصف رعدية وهو يقول بأعصاب محترقة على وشك نفث الرماد من داخله
"ليس المهم ان تعرفي كيف وماذا واين ، المهم ان تعرفي بأنها كانت بمنزله وبمتناول يده ، لقد كانت بحوزته كل هذا الوقت وانتِ تضحكين بوجهي وتخبريني بأنها ما تزال معكِ ! لماذا كذبتي عليّ يا روميساء ؟ لماذا لم تخبريني بالحقيقة منذ البداية ؟ لماذا جعلتني اعيش هذا الشعور المؤلم بالخذلان والانهزام ؟ ألم يكن من السهل عليكِ ان تصارحيني بالحقيقة ! هل كان علينا ان ندخل طرف ثالث بيننا لكي تخرج الحقيقة بأبشع صورة ؟"
احنت حاجبيها السوداوين بضعف يرافقها اطراف حدقتيها الشاحبتين بدون ان تعطيه إجابة لهدر اسئلته المتألمة والتي كتمت عليها بضغط فوق صدرها مثل آلة الانكماش ، ليتقدم بعدها عدة خطوات واسعة حتى اصبح لا يفصل بينهما سوى بعض سنتمترات قصيرة ، تابع بعدها كلامه وهو يميل بعنقه جانبا قائلا بقسوة صلبة
"لماذا يا روميساء ؟ اجيبِ على سؤالي ! لا تصمتي الآن ! عندما احتاج لسماع صوتكِ تتوقفين عن الكلام ، وعندما اطلب منكِ الصمت تستمرين بالكلام ، أليس لديكِ شيء تقولينه لي ؟ على الاقل اخبريني هل تثقين بي ؟ لقد كنتِ دائما تتكلمين عن الثقة بفخر ، ولكن الآن ارى بأنكِ انتِ التي لا تثقين بي ، لا تثقين بي لدرجة ان تخفي عني مثل هذه الامور المهمة ! وبعدها اعرفها من شخص غريب ، لماذا يا روميساء ؟ لماذا ؟!"
ردت عليه (روميساء) من فورها بغضب جامح وهي تضرب بكفها على صدرها بضراوة
"لأنني كنت اعلم بأنك ستفعل هذا ، كنت اعلم بقرارة نفسي بأنك ستحملني كل اللوم ، كيف تريدني ان اتحمل الشعور بالملامة والعتاب وتخاصمني بعدها ؟ كيف تريدني ان اعيد شريط ما حدث عند موت طفلي والجميع يلومني على ما حدث ؟ لقد شعرت بنظراتك رغم انك لم تظهر شيء ، شعرت بحزنك الغير منطوق اتجاهي ، لقد كنا قد اصلحنا علاقتنا بصعوبة بعد الكسور التي اصابتها ولم اتحمل ان اهدمها ببساطة ، لم امتلك الجرأة على فعلها ! لم امتلك ! لقد كنت خائفة من رؤية ردة فعلك والتي لن تكون جيدة ، لذا اخفيت وصمت وعملت بكل جهدي لكي اعثر على القلادة قبل ان تشعر بذلك ، ولكني فشلت ولم انجح ! سامحني يا احمد ، سامحني على خذلانك !"
تعقدت ملامحه وهو يتوه معها بسباق النظرات الجارحة وكأنهم يتنافسون من يجرج الآخر اكثر ، ليشيح بوجهه بسرعة بهياج افاق عليه وهو يقول بجمود كاسر اخرج الشيطان بداخله
"ولكن ما حدث الآن يا روميساء قد تجاوز الخذلان والفشل بأضعاف ! عندما اخفيتي تلك الحقيقة حدث اسوء من الانكسار الذي تسبب بيننا ، لقد جعلتي ذلك الطرف يدخل بيننا ويعبث بثبات علاقتنا ، هل تصدقين بأنكِ قد كسرتني اكثر من اي مرة فقط لكي تصلحي خطأكِ بمفهومك المستقل ؟ لو انكِ صارحتني من اول مرة سألتكِ بها عن القلادة لما وصلت الثقة بيننا لكل هذا التزعزع ! ولكنكِ من تجلبين لنفسكِ كل هذا يا روميساء ، انتِ السبب"
عضت على طرف شفتيها تحاول كتم شهقات قلبها المذبوح بسكين الحقيقة القاتلة ، لترفرف بعدها بجفنيها تحاول ضبط دموعها الحبيسة وهي تهمس بحزن مرير
"لم اقصد ان يحدث كل هذا يا احمد ، لم اتوقع ان تضيع القلادة هناك ، لقد ظننت بأني سأجدها بسهولة ! لقد ظننت بأني لن اعاني بمهمة البحث عنها ! لقد خرج الامر من يديّ يا احمد ، كل شيء قد خرج عن سيطرتي"
انحرفت ابتسامته بصعوبة وهو يرفع قبضته بالقلادة المقيدة بأصابعه مثل شباك حبها ، ليفك بعدها تعقيدات السلسلة وهي تنسدل من بين اصابعه كاملة امام عينيها الواسعتين قبل ان يردف قائلا باستهجان ساخر
"هذه القلادة كانت تمثل الكثير بيننا ودواء لجروح قلوبنا ، ولكنها الآن قد اصبحت بلا قيمة وبلا مشاعر عندما فقدت هدفها وطريقها ، كما اصبحت صاحبتها كذلك بلا قيمة وبمكانة خسرتها للأبد !"
انفرجت شفتيها بلون شاحب انسحبت منها الدماء ليس بسبب كلامه القاسي وحسب بل بسبب اليد التي قذفت القلادة الثمينة بلمح البصر حتى طرقت الجدار بقوة برنين موجع قبل ان تسقط ارضا بزاوية مظلمة بالغرفة ، وما ان استطاعت سحب انفاسها بتشنج بقفصها الصدري حتى سمعت صوته يخترق الصمت المظلم قائلا بجفاء صقيعي برنين اعلى من رنين القلادة
"انظري لهذه الحالة التي وصلنا لها بسببك ! يبدو بأنني انا الذي عليّ ان اكسب ثقتكِ ، وليس انتِ من عليكِ كسبها ، فقد خسرتِ بحرب الثقة يا روميساء ، وتبين بأنه نحن الاثنين لم نتعلم الثقة يوما ولا نعلم شيء عنها !"
ساد الصمت من حولها بشبكات عنكبوتية بعد ان استنزفت طاقتها بالتمزق على مرأى تصادم قلادتها بالجدار والتي شعرت باصطدامها يحطم جدران صدرها ، لتعصر جفنيها فوق احداقها بألم غائر ما ان انفتح الباب مجددا بقوة ليصفقه خلفه بنفس القوة ارتعد بأوصالها .
زفرت (روميساء) انفاسها باستغفار صامت وهي تعيد فتح عينيها على نفس المشهد والذي علقت به وزرع الشوك بفؤادها ، لتتحرك بعدها لا شعوريا وقدميها تسيران حسب اوامر قلبها الذي انعمت بصيرته ، لتزيح من فورها الاريكة الضخمة بقوة مجهدة والتي تحجب عنها مكان سقوط القلادة ، وما ان نجحت بدفعها بعيدا حتى خارت قواها وهي تجثو بركبتيها على ارض الغرفة وامام القلادة الملقاة بإهمال وكأنها كائن منبوذ مثل حالتها تماما ، امسكت بها بيدين مرتجفتين وهي تقربها من صدرها والذي انتفض وانتفخ بانفعال مع كل حركة خائنة تقتلها ، لتخفض رأسها للأسفل كسرت عنقها وكأنها نعامة تعرضت لانكسار لم تعد تستطيع احتواءه لذا خبأته بداخلها وتوارت عن الانظار وهي تبكي بحرقة سالت حمم فوق تربة قلبها والذي اندفن بقاع الارض .

نهاية الفصل.........

بحر من دموع حيث تعيش القصص. اكتشف الآن