الخاتمة

573 30 8
                                    

الخاتمة..

بعد مرور شهرين..

- وأنا قبلتُ زواجها..
يُهيأ لها أن قلبها قد قفز من بين أضلعها، جسدها كله ينتفض وعيناها مثبتة على يده الممسكة بيد شقيقها..
لطالما سمعت عن التحليق، وها هي تجربه الآن ولكن الشعور كان متناقضًا
ما بين فرحة الحاضر والخوف من المستقبل..
ويبقى السؤال عالقًا..
كيف يمكن للمرء أن يُحلق دون جناحين؟
كيف يُفَسَّر شعوره المضطرب في تلك اللحظة..
تلك اللحظة التي يشعر فيها المرء أنه قبض على أحلامه بكلتا يديه..
التقط نجمة من سماء الدنيا ليضعها في سمائه كي تُضيء عتمتها..
تبددت الغيوم.. واختفى الضباب. وبدا المستقبل واضحًا..
هي أصبحت رَسْمِيًّا زوجته..
زوجة "صالح الشيمي"..
حتى الآن لا يمكنها استيعاب ذلك..
تخشى أن ما يحدث ليس إلّا حُلمًا..
أن تجد كل ما حولها سرابًا..
تخشى أن تُغلق عيناها وتفتحها فتجده اختفى..
لن تحتمل، ليس بعدما اقتربت من حلمها..
الحلم الوحيد الذي كُتب لها أن تحققه.. ومع ذلك ما زالت خائفة..
ينتشلها من أفكارها "عيسى" وهو يقف أمامها يناظرها من علو فترفع رأسها ببطء فتصطدم عيناها ببسمته الحنون، قبض على كفيها وساعدها في النهوض فوجدت نفسها تحيط جسده بذراعيها وتدفن رأسها في صدره..
تعالى نشيجها وهو يزيد من ضمها له هامسًا في أذنها ببضع كلمات حتى تهدأ:
- لا بأس، لا تبكي.. أنا هنا.. سامحيني..
لا تعي سببًا حَقِيقِيًّا لبكائها الآن، لعلها تبكي كل ما فات..
تبكي عن عمر ضاع منها مهدورة الكرامة..
عن سعادة كادت أن تفقدها..
على فراق حتمي للشخص الوحيد الذي كان يحفل بها..
لا تهمها الأسباب في الوقت الحالي بقدر ما أرادت أن تفرغ شحنات ألمها كلها دفعة واحدة..
مر وقت طويل وهي تعانق شقيقها، لم تكن لديها قدرة على الابتعاد فظل هو الآخر يضمها مربتًا على ظهرها بحنان...
بينما "صالح" يراقبهما مبتسمًا بحنان، يرمقها بعشق قد ازداد أكثر عندما تقابلا وجهًا لوجه..
حينما رفضه والدها ظن أن الأمر انتهى، ضاع حلمه قبل أن يمسك به، انهار سقف أمنياته وبات الكون من حوله أشبه بالليل مظلم دون قبس من نور يبدد عتمته..
لكن كل شيء قد اختلف حَالِيًّا..
فرحة صارت زوجته، فقط عدة أيام ينهي فيها إجراءات السفر وتأتي معه إلى حيث يقيم، وتبدأ حياتهما..
أقسم لنفسه أن يقضي المتبقي من عمره كي يجعلها سعيدة، أن يمحو كل لمحة حزن مرت بها..
سيبدل كل ذكرياتها السيئة بأخرى سعيدة، حتى لو تحتم عليه أن يسعى ليمحي ما فات من حياتها.. سيفعل..
يقترب منها بخطوات بطيئة، وكلما زاد اقترابه ازدادت دقاته قلبه جنونًا، وازدادت أنفاسها سرعة وهي تبتعد عن شقيقها..
كان يسمع صوت أنفاسها جيدًا حتى ظن أنها ستفقد وعيها من كثرة توترها..
وصل إليهما فربت عيسى على ظهره قائلًا بود ولمعت عينيه بدموع حبيسة أبى كبرياؤه أن يحررها:
- مُبارك لكما، لن أوصيك عليها يا صالح، لقد استأمنتك عليها.. وأعطيتك جزء من روحي فلا تخذلني..
ابتسم له صالح مطمئن وهو يصافحه قائلًا بينما عيناه تنتقلان إلى تلك التي كانت تتهرب بعينيها منه:
- أطمئن، هي قطعة من روحي أنا الآخر.. لا أظن أنني أستطيع أذيتها يومًا.. أعدك..
يهز عيسى رأسه متفهمًا ويتلفت إلى فرحة المنكمشة بجانبه ويديها يقبضان على ذراعه بقوة..
انحنى قليلًا ليقبل جبينها وهمس بحنان مبتسمًا:
- مُبارك يا صغيرتي..
تبتسم له بارتجاف فيفسح الطريق إلى صالح كي يقترب منها..
يقف مقابلًا لها لا يفصل بينهما سوى خطوة واحدة..
تمتد يداه لتقبض على كفيها الباردين ورفعهما إلى شفتيه ببطء وطبع قبلة على كلتيهما...
ترفع بصرها إليه فيجدها تنظر له بوجل، شفتاها ترتجف بشدة كأنها تشعر بالبرد...
وهذا ما كانت تشعر به حَقًّا...
كأن صقيعا أصاب جسدها بمجرد ابتعاد عيسى...
قبلته الأخرى عرفت الطريق إلى جبينها وطالت جِدًّا حتى ظن أن
لا يعرفان كم مر عليهما وكل منهما مغمض العينين مستمتعًا بتلك اللحظة دون حِمل همًا للمستقبل..
ولم ينتبه كل منهما متى رحل عيسى وغزل ومن معهما ليبقيا وحدهما تحت سقف واحد، دون أن يفرقهما أحد..
الصقيع تحول إلى دفءٍ عارم بينما ذراعاه يلتفان حولها في عناق قد تتوق له كثيرًا..
يشدد من عناقها حتى كاد أن يزرعها بين أضلعه..
ارتجافتها التي انتقلت إليه قد هدأت، واستكان جسدها بين ذراعيه وتجرأت لترفع ذراعيها وتبادله العناق..
يومًا ما قد قرأت أن في العناقِ حياة..
الآن أيقنت أن في العناق ميلاد..
كما لو أنك تولد من جديد بين أحضان غريبٍ قد تحول إلى حبيبٍ وسكنٍ بين ليلة وضُحاها..
يحررها من أحضانه ويساعدها على الجلوس
على الأريكة في الشقة التي استأجرها مؤقتًا حتى يرحلا..
جثى على ركبتيه أمامها واستند بذقنه على ركبتيها وهمس بلكنته المميزة مثبت عينيه على عينيها:
- مُبارك... يا مليحة القلب
لم يصله منها رَدًّا، خجلها في تلك اللحظة كان أقوى من أن يسعفها لسانها على الحديث، تبخر كل ما حضرته لتلك اللحظة، كل كلمة كانت تنوي قولها انمحت من ذاكرتها لتبقى فارغة اليدين تناظره بخجل ووجنتيها يشتعلان باحمرار لم يرَ مثله من قبل..
- ألن تقولي شيء؟
يهمس بها وهز يطبع قبلة بطيئة على باطن كفها فتهز رأسها رفضًا دون أن تنبث ببنت شفاه..
تحاول سحب كفيها منه لكنه يتمسك بهما بقوة فتتبدل نظرتها لرجاء صامت كي يتركها لكنه يتجاهل ذلك..
يضع رأسه على ساقيها ويغمض عينيه متلذذًا بذاك الشعور الذي طالما تمناه، وتلك اللحظة التي سكنت خياله ليالٍ كثيرة..
وهمس بصوت بعيد عرف طريقه إلى قلبها:
- أتدرين كم حلمت بتلك اللحظة؟ أن تكوني هنا، قريبة مني، بين ذِرَاعَيَّ أمام الله.. كم كان الحُلم بعيدًا بُعد النجوم، أمنية صعبة المنال ظننتها ستظل معلقة في طرف السماء ولن تتحقق..
يصمت ويعود ببصره لها ليجد الدموع تلألأت في عينيها، يعرف ما تفكر فيه الآن، أردف بهمس حار:
- لم أكن يومًا شاب عابث، لم أخوض أي علاقات من خلال الإنترنت لأني أكثر من يؤمن بخطورتها، لكني وجدت نفسي انجرف خلف مشاعر وليدة، تعلقت بكِ وازداد تعلقي حينما رأيتك، بل في وقت قصير أيقنت إني أحبك حَقًّا..
- حَقًّا؟
تهمس بها بسؤال متردد فيجيبها بثقة زرعت اليقين بقلبها:
- لم أكن لأقبل على زواجي منكِ إلّا عندما أتيقن من مشاعري، لم تعرفيني إلّا من خلال الشاشة، ورغم ذلك شقيقك وثق في، و أتعشم أن أكون على قدر من ثقته.. أنا أحبك، بل أن شعور قد فاق مرحلة الحب بكثير..
تسقط دموعها فيجاورها على الأريكة ويضم رأسها لصدره يربت على ظهرها بحنان، يعلم ماهية شعورها وما تفكر فيه..
من عاش العمر كله منبوذًا ليس سهلًا عليه أن يتقبل حقيقة أن هناك من يحبه..
لكنه كان صادقًا في كل حرف، ما بينهما ليس مجرد حب، بل كل منهما يبحث عن وطن، ويتعشم أن يجده لدى الآخر..
بالنسبة له قد رأى في عينيها وطنه، وهو ليس بساذج ليفرط فيه مهما حدث..
- أنا، خائفة، وسعيدة، سعيدة لدرجة أن قلبي يكاد يتضخم، لا أصدق أنني قد وجدت سعادتي حَقًّا بعدما فقدت الأمل في الحياة بأسرها... لكن رغم كل شيء سأفتقدهم... سيظلون عائلتي مهما حدث...
تقطع تفكيره بجملته فيبعدها عنه ويحتضن وجنتيها بين راحتيه هامسًا بحزم:
- لا مزيد من الخوف أو فقدان الأمل، أنا عائلتك، كل يوم لنا سَوِيًّا سنبني فيه أمل جديد، سأكون لكِ وطنًا كما ستكونين لي..
يراقب ملامحها التي ارتخت نوعًا ما فيردف بحنو:
- عيسى سيأتي لزيارتنا دومًا، فقط لا تخافي ما دُمت معكِ..
عم الصمت للحظات لا يقطعه إلّا صوت أنفاسهما، تفاجأت به يهمس بقصيدة لنزار قباني بصوتٍ عذب:
- أحبيني.. بلا عقدِ وضيعي في خطوط يدي..
أحبيني.. لأسبوعٍ.. لأيامٍ.. لساعاتٍ.. فلست أنا الذي يهتم بِالْأَبَدِ..
تعالي.. وأسقطي مطرًا على عطشي وصحرائي..
وذوبي في فمي كالشمع.. وأنعجني بأجزائي..
أحبيني..
صمت لبضع ثوان يملأ عينيه بابتسامتها ويردد:
- أحبيني.. بطهري أو بأخطائي..
وغطيني.. أيا سقفًا من الأزهار.. يا غابات حنائي..
أنا رجلٌ.. بلا قدرٍ.. فكوني أنتِ لي قدري..

خلف قناع العادات، كاملة (مستوحاه من احداث حقيقية)Where stories live. Discover now