الفصل السادس ج١

311 16 15
                                    

الفصل السادس

تجلس على الأرض في شرفة منزلها المطلة على الشارع، تضم ركبتيها لصدرها وتحدق في السماء بشرود، عيناها مثبتة على القمر الذي بدا بدر..
على الرغم من شرودها الظاهر إلا أن داخلها كان يرتجف.. حزنًا وغضبًا..
انتقلت عيناها للهاتف الساكن بجانبها، لم يهاتفها..
لم يبرر..
هكذا مر الموقف.. ظنت أنه سيهرول مسرعًا ليشرح لها الأمر
ابتسامة ساخرة تظهر على شفتيها وهي تهز رأسها مفكرة..
كيف له أن يكون ناجحًا في الخداع بهذا الشكل!!!
يقنعها بالعودة إليه وفي نفس الوقت يواعد فتاة غيرها.
حمقاء.. لأول مرة تجد نفسها حمقاء..
تخجل من الاعتراف بذلك، وتخجل من كونها تنتظر منه تبريرًا يقنعها أن تغفر..
تغفر مرة أخرى.. مع الأسف فبينها وبين نفسها قد غفرت عما فات..
قررت إعطاءه فرصة أخرى فهي في أشد أوقاتها احتياجًا له، وحدتها تكاد تخنقها..
تحتاج لشخص ما يشاركها تلك الأيام الصعبة..
سئمت من تناول المهدئات التي لم تعد تريحها بل تزيد وجعها أكثر..
فقط وجوده استطاع انتشالها من دوامة الوحدة لتعود لها ابتسامتها من جديد..
لقد كان لوجوده فارق في حياتها اليومية..
وهل سيكون هذا حَلًّا؟
تتساءل في نفسها دون أن ينطق لسانها السؤال..
والإجابة تصلها من قلبها مُرضية لحالتها..
نعم وجود رجل يحبها هو الحل الوحيد..
بل أكثر الحلول عقلانية خاصة أنها تحبه هي الأخرى..
الفجر أقترب، ونسماته تداعب وجهها وخصلات شعرها الهاربة من عقدته تلامس بشرتها..
جفاها النوم..
واقترب موعد ذهابها للعمل..
اكتشفت أن عملها هو الشيء الوحيد الذي يلهيها..
حينما تجلس مع الطالبات وتستمع لثرثرتهم المعتادة..
الجميع يعرف أنها تعاملهم كلهم كأخوات لها فيلجئون لها ويحكون لها مشكلاتهم الشخصية دون خوف..
عندما تسمع نفسها وهي تنصحهم تجد نفسها تضحك من الداخل وصوت عقلها يهتف ساخرًا "كان القرد نفع نفسه"
تنتبه للقطة التي ما زالت تقف عند باب الشرفة منذ فترة طويلة، تنظر لها ببراءة تُذيب قلبها، تبتسم بشجن وهي تتذكر كيف دفعتها بعيدًا عنها عندما عادت للبيت وهي غاضبة، رغم ذلك ظلت واقفة عند باب غرفتها ثم جاءت خلفها وجلست تنظر لها من بعيد، ابتسامتها اتسعت وهي ترى القطة تقترب منها على استحياء فحملتها وضمتها لصدرها فاستكانت بين ذراعيها، مسحت على شعرها بحنان وأخذت تداعبها قليل وهمست باختناق:
- آسفة يا لولو لم يكن ذنبك..
صمتت للحظات ثم استطردت قائلة وهي تنظر في عيني القطة كأنها تفهمها:
- لا يهمني شيء.. يكفي أنكِ أنتِ الأخرى لن تخذليني..

***
بالي معاك..بالي بالي
بــالي..بالي
يا أبو الجبين
عالي عالي
عالي..عــالي
وحياة سواد عينك ياحبيبي
غيرك ما يحلالي

يتلفظ بها بصوته الشجي في مسرح المدرسة ليعلم إحدى الطالبات كيف تغني بشكل صحيح وعيناه لم تفارق عينيها، تشعر بكلماته تخصها هي وحدها، نظرته تشع بعاطفة تختبرها لأول مرة، لعله هو الآخر لم يعرفها من قبل..
رغم رقته صوته إلا أنه يتخلل لأعماقها بقوة، ترتجف دَاخِلِيًّا وهي تتخيله يغني لها في مكان يجمعهما وحدهما، هي وهو وسماء والبحر.. وصوته..
ابتسمت بشرود فظهر بريق عينيها خاطفًا لنظره، فلم تنتبه له عندما توقف عن الغناء وأخذ يقترب منها ببطء، كلما أقترب خطوة ازداد وجيب قلبه..
منذ ذلك اليوم الذي اتفقا فيه وهو كل يوم يزداد اقترابًا منها، يتسلل لأدق تفاصيلها، أصبح يحفظ كل ردود أفعالها..
ابتسامتها.. ضحكتها التي سحرته عندما سمعها لأول مرة وكان هو سببها، حركات يدها عندما تندمج في حديث ما..
نظرة الحزن التي تظلل عينيها عند شرودها، يتمنى أن يعرف سر تلك النظرة..
على الرغم من كل ذلك يتمنى أن يغوص لداخلها أكثر، ليعرف ما الذي تخفيه عنه..
يقسم أنه لا يفرق معه ما مضى مهما كان، هو يسير إليها مرغمًا وليس بيده حتى أن يتراجع..
فكلما حاول التفكير في الأمر يجد نفسه يفشل، كأنها قدر حَتْم عليه التعايش معه ولا فرار لِأَيّ منهما بعيد عن الآخر..
دقائق مرت وهما يحدقان في بعضهما، ابتسامتها ما زالت عالقة بشفتيها أما هو فكان يتأمل كل جزء في ملامحها بشغف، دومًا لديه رغبة في ضمها لكنه يتراجع، يحافظ على الحدود بينهما وهذا ما يطمئنها..
احمرار طفيف دهر على وجنتيها وهي تطرق برأسها خجلًا من تحديقه فيها، تنحنحت بصوت مرتفع قليلًا عندما انتبهت لأنظار الطلاب الذي التفتت لهما، انتبه هو الآخر فنقل بصره بينهم ثم همس وهو ينظر لها من جديد:
- انتظريني بعد الدوام عند الشاطئ لنتحدث قليلًا
أومأت برأسها فابتسم لها وهو يعود لطلابه، أما هي فظلت مكانها تراقبه وهو يعمل، تعترف أنها تحب النظر إليه، يجتاحها شعور بالأمان عندما تلتقي نظرتهما، ككل مرة تشعر أنه يخبرها بوعد صامت أنه لن يؤذيها، بل هو الوحيد الذي سيسعى لحمايتها من أي أذى..
"عُدي"
اسمه فقط يجعلها تطمئن..
"عُدي"
ابتسامته شمس تضيء سماءها بعد طول ظلمة..
"عُدي"..
 شربة ماء لقلبها الذي بات متآكلًا يجوب صحراء الدنيا دون أملًا في إنتهاء العطش...
"تحبينه؟"
انتشلها صوت "غزل" من شرودها، وارتجف قلبها بقوة وارتفعت نبضاته حتى ظنت أن الكون كله قد سمعها..
التفتت لها عاقدة حاجبيها ووجنتيها اشتعلا بخجل فطري والسؤال يتردد صداه بين جدران عقلها..
تحبه؟ لا تدري.. لم تعرف يومًا معنى الحب
كل ما عرفته عنه أنه يؤلم كما أخبرتها "آسيا" ذات يوم..
إذا كان الحب هو الاطمئنان لمجرد سماع اسمه فهي تحبه..
وإذا كان الحب هو أن ينتفض قلبها لمرآه فهي تحبه..
وإذا كان الحب هو أن يغزو أحلامها مبددًا كوابيسها، ظاهرًا كبقعة نور ساطعة في نهاية النفق بعد أن ظنت أن طريقها لا نهاية له سوى الضباب..
فهي تحبه..

خلف قناع العادات، كاملة (مستوحاه من احداث حقيقية)Where stories live. Discover now