الفصل التاسع

308 18 30
                                    

الفصل التاسع

وأهو قطر وماشي.. ماشي
ناسه منيماشي.. ماشي
وبلد في التانية..ماشي
ناس وأيام فانية..
دنيا ماديماشي.. ماشي

تسللت الكلمات الخافتة إلى مسمعها من أحد ركاب القطار الذي كان يشق طريقه بين الحقول،  كانت مجرد دندنة لكنها وصلت إليها بوضوح،  تستند على حافة النافذة وعينيها شاردتان على الرغم من لمعتهما الواضحة وهي تملأ بصرها بمظهر الحقول الخضراء الممتدة على طول البصر تكاد لا تعرف لها نهاية.
على الرغم من برودة الطقس إلا أنها كانت تشعر بدفء غريب لمجرد سفرها لزيارة جدها في إحدى محافظات الصعيد بعد إقناع والدها بأن يصطحبها شقيقها عبد الله مع والدتها إلى هناك،  المكان الوحيد الذي تشعر فيه بالأمان.
جدها يشبه والدها كثيرًا لكنه حنون، تحب عناقه لها الذي نادرًا ما تحظى بمثله وبالطبع ليس من أبيها، بلدتهم الصغيرة الجميلة بأهلها الطيبين، مظهر الأراضي الزراعية من غرفتها في بيت جدها تملأ قلبها بدفءٍ غريب عليها.
نسمات الصباح الأولى تداعب بشرتها، وشعاع الشمس يظهر متسللًا على استحياء من خلف الأفق، والصوت يعود مدندنًا مرة أخرى فتغمض عينيها ولسانها يردد معه:
" ويا دنيا ايش حالك.. حالك
روحنا رايحالك.. حالك
خايضين اوحالك.. حالك
وسوادك حالك.. حالك
ما هنستعماشي.. ماشي"
ابتسامة تتسلل إلى شفتيها عندما خطر على بالها صالح ستفتقده في تلك الساعات حتى تصل وتستطيع أن تختلي بنفسها وتحدثه.
" فيا ليت الذي بيني وبينِك باب يُطرق،  ويا ليت أطراف الأرض تُطوى ونلتقي."
تقفز في رأسها تلك الجملة التي نشرها بالأمس بعدما أخبرته بموعد سفرها،  لا تدري لمَ شعرت أنه يقصدها هي بالذات!!
الأمر بات غريبًا، لم تعد تحتمل أن يمر يومًا دون أن تحدثه، حتى إن غاب عنها لدقائق معدودة.
ما بينهما ليس حديثًا عابرًا،  وهو ليس مجرد شخص غريب، حديثها معه يشعرها أنها تنتمي إليه، ما أعظم الشعور بالانتماء!
إنه أكثر من يفهمها، وما الذي يتمناه المرء أكثر من وجود شخص يفهمه دون أدنى مجهود.
كمْ تمنت أن يكون قريبًا منها في الواقع، أن تراه بعينها بدلًا من الصور التي ترسمها له في خيالها، نبرة صوته تتخلل إلى عقلها كلما شعرت بالحزن من تصرفات والدها، تشعر بها تربت على قلبها وتحتضنها، تسرب إلى قلبها أمان طالما افتقدته، تطمئنها وتزهر في قلبها ما أذبلته الأيام، فقط تلك الساعات التي تجمعهما في المحادثة تمحي مرارة الحسرة التي تسكنها.
في السابق كانت تغار من ابنة خالها كلما رأت كيف يدللها والدها، لكن الآن كلما شعرت أنها وحيدة أو منبوذة تركض لتحدثه، هو فقط من يشعرها بأهميتها في الحياة، تتذكر حينما أخبرته ألا يوجد من يحبها هي مجرد شخص عادي جاء للحياة وسيرحل منها دون أن يتذكره أحد وقد لا تترك أثرًا فأرسل لها بعد فترة كبيرة كانت قد نست ما كتبته:
- قد تبدين في أعينهم عادية لكنك في عيني معجزة لن تتكرر فلا تلقي بالًا لعماهم
يومها دمعت عيناها تأثرًا وفكرت هل هناك شخصًا طيبًا هكذا؟ حتى ولو كان حديثه مجرد مجاملة عابرة لكنها وجدت صداها في قلبها وجعلتها تبتسم ولو لدقائق، فعل معها ما لم يهتم أهلها بفعله...
جعلها سعيدة، ولا تظن أنها تمنت غير ذلك...
تلتفت برأسها لتجد أمها قد غفت بينما شقيقها يقلب في هاتفه بانهماك واضح، تتساءل ماذا يفعل؟ هل يتحدث مع فتيات؟
للحظات انتابها رعب شديد أن يعرف أحد إخوتها أنها تمتلك حسابًا، حتمًا يقتلوتها بدمٍ بارد.
لكنها عادت واسترخت عندما تذكرت أنهم لا يعلمون بامتلاكها للهاتف.
في بعض الأحيان تفكر ماذا سيكون رد فعل عيسى لو علم بعلاقتها بصالح؟ يحزنها شعورها بأنها تخذله.
لكن ماذا تفعل وهي لم تجد غير صالح ينتشلها من ذاك السواد الحالك الذي يحيط بحياتها فلم تعد لديها طعم إلا بوجوده؟
حياتها كانت باهتة بالكاد يمر اليوم عليها فتتمنى ألا يأتي الآخر فتجد نفسها تستيقظ.
ثلاثة أشهر منذ بدأت صداقتهما المزعومة تغير فيها الكثير. 
لا تفضل التفكير في أنها قد تكون أحبته خاصة أنها لا تعرف كيف يكون الحب في الحقيقة ولكن هي اعتادت عليه..
والاعتياد أقوى من الحب ولو تعلمون!!
بعد فترة كانت تعانق جدها في بهو المنزل بعد وصولهم مباشرة، تأبى أن تبتعد عن أحضانه بينما يربت هو على ظهرها ورأسها بحنانه المعهود،  تبتعد عنه بعد فترة وجيزة، ينحسر غطاء رأسها لتظهر خصلاتها السوداء فينهرها عبد الله لتغطيها بسبب دخول ابن عمها، يحيها ابن عمها برأسه دون أن يمد يده فتهز رأسها على استحياء ثم تستأذن منهم لتصعد إلى غرفتها..
الليل يحل سريعًا وتبدأ الأمطار في الهطول، تراقب قطراتها من خلف نافذتها، تعانق الدب الوردي الصغير الذي أهداه لها عيسى ذات يوم فلم يعد يفارقها، صديقًا ورفيقًا لكل لحظات الوجع، وحتى لحظات الفرح النادرة التي تتمنى أن تطول.
أغلقت باب الغرفة بالمفتاح وعادت لتجلس بجانب النافذة بعدما أطفأت إضاءة الغرفة وتركت المصباح الصغير بجانب الفراش فهي رغم كل شيء لا تفضل الظلام الكامل، تتعجب من إحساسها المتناقض ما بين حبها للظلام وخوفها منه، تختار الظلام بنفسها ولكن تُجبر عليه.
فتحت هاتفها وجدت منه عدة رسائل جعلتها تبتسم، وتسجيل صوتي له يخبرها كم افتقدها وأن يومه بدونها باهت.
قبل أن ترد عليها أخذت تقرأ محادثهما كما تفعل يَوْمِيًّا دون ملل، ثم تعود لبداية المحادثة وعينيها تمر على أخر رسالة بعثها إليها:
- عودي سريعًا يا فرحة، اليوم لا يمر بدونك، كأنكِ تزدادين في البُعد قربًا.
وجدت نفسها تكتب دون تفكير:
- اليوم كان باردًا دون حديثك، افتقدتك.
لم تندم على إرسالها كما لم تندم على محادثته منذ البداية، هو الصديق الوحيد والأقرب ويا ليته يظل دائمًا قريبًا من القلب.
بعد لحظات وصلتها رسالة منه تقرؤها وقلبها يتراقص فرحٌ كأنها تسمعها بصوته، وقرأت فرحته التي انعكست عليها هي:
- حديثِك معي جُرعات من السعادة، ما عُدت أتخيل كيف يمكن أن يمُر يومي بدونك..
- وأنا أيضًا، وجودك أصبح ينعكس عليّ بشكل ملحوظ، لن أبالغ لو أخبرتك أنني لم أرى نفسي أضحك من قبل.. إلا عندما عَرَفَتْك..
ترسلها بأنامل مرتجفة وقلب خافق كادت دقاته تعانق السماء.
كيف لمحادثة بسيطة أن تقلب كيانها بهذا الشكل؟
- أحكي لي عن رحلتك.
تلقت رسالته بابتسامة وبدأت تكتب بحماس غريب:
- كانت مملة بعض الشيء لكني أحببتها،  أحب النظر للحقول الخضراء، أحب رائحة هواء بلدتنا، أحب عناق جدي رغم أنني لا أجلس معه إلا قليل.
رد عليها مُتَسَائِلاً:
- وماذا بعد؟ أكملي
- ستصدقني لو أخبرتك أنني تمنيت لو يتركني أبي أعيش هنا بينهم؟ تلك الأيام التي أقضيها هنا تجعلني أشعر قليلًا أنني حرة.
- تتمنين الحرية؟
- أتمنى أن أحلق كالطير لأعرف معنى أن يكون المرء حُرًّا.
يظهر أمامها تمت الرؤية لكنه لم يجب، نصف ساعة دون إجابة، وصلتها رسالة من نادين بعد انقطاع فترة فردت عليها بسرعة:
- اشتقت لكِ يا نادين
- اشتقت لكِ أكثر، سامحيني انشغلت عنكِ الفترة السابقة.
- لا عليكِ،  لدي الكثير لأحكيه لكِ.
- تكلمي أنا معك.
ظلت تحكي لها ما حدث في فترة غيابها، بدءً من علاقتها بصالح حتى يوم سفرها، كانت نادين تقرأ ما تكتبه دون رد كعادتها تتركها أن تفضي ما في جبعتها وبعدها يتناقشان في الأمر.
- كيف تتحدثين مع رجل غريب من الفيسبوك؟  
- أنا أثق به..
- ومن أين أتيتِ بهذه الثقة!
تقرأ غضبها بين الكلمات القليلة فتبتسم وهي تعرف جيدًا أن نادين تحبها وتخشى عليها من أي مكروه،  كتبت مطمئنة:
- اطمئني، ما بيننا مجرد حديث أصدقاء ليس إلا، حتى أن أغلب حديثنا يكون عما قرأناه، ولا تخافي يخبرك بكل شيء يحدث بيننا.
بعد لحظات وصلتها رسالة صوتية من نادين:
- انتبهي لنفسك يا فرحة، عالم التواصل كبير وصعب أن تثقي بشخصٍ فيه، إياكِ والتهور وفكري في أهلك جيدًا.
- لا تخافي
لم تقل غيرها، على الرغم من ثقتها بحديث نادين ولكن بداخلها صوت يخبرها أن صالح ليس سيئًا، والدليل أنه يتحدث معها باحترام بل ويجعل يومها يتغير للأفضل بوجوده.
كادت أن تغفو وهي تحدق في الهاتف انتظارًا لرسالة منه، وقبل أن تغفو تمامًا تشعر باهتزاز هاتفها فتفتح سريعًا وتقرأ:
- أنتِ أصبحت الأقرب لي يا فرحة، لا أدري ما هو شعوري بالضبط لكنه عجيب، لا يتوقف عقلي عن التفكير بكِ ويرسم لنفسه خيالات كثيرة، يجعلني أفكر كيف سيكون الشعور إذا التقيتك!
يحذفها بسرعة كأنه ندم على إرسالها لكنها كانت قرأتها بل وحفظتها،  كلماته البسيطة عرفت طريقها لتنغرس في منتصف قلبها كبراعم صغيرة تنتظر من يسقيها حتى تتفتح.
- حينما عرفت أدركت معنى أن يكون للمرء روحًا بعيدة عنه لكنها أقرب إليه من كل شيء.
- أنا لا أفهم نفسي.
- أنسي ما قلت.
رسائل متتالية تصل ثم تحذف بسرعة قبل أن تفتحها لكنها تراها من الخارج، دقات قلبها تهدر بعنف غير مصدقة ما يحدث، أيعقل أنه يشعر بما تشعر به!!
ليس سهلًا أن تجد شخص قريبًا حد الانسجام بعيدًا بُعد السماء عن الأرض.
إن تجد من يحبك بينما أنت تجرعت مرارة النبذ طوال حياتك حتى أيقنت أنك لن تتذوق طعم الحب أبدًا وأن الحياة تعاقبك على ذنبٍ لم تقترفه. 
المحادثة أصبحت عبارة عن رسائل محذوفة،  عاد بها لآخر حديث بينهما قائلًا:
- وماذا تتمنين أيضًا؟
- أتمنى أن أرحل من هنا، أبتعد عن الجميع وتأخذني الدنيا لأي أرضٍ تنتمي إليها، وأنت؟ 
- لم أتمنى في حياتي شيءٍ إلا أن أراكِ.
تقرؤها عدة مرات بابتسامة هائمة وعقلها يعمل سريعًا بفكرة مجنونة لكنها لن تتراجع، تنهض مسرعة وتشعل إضاءة الغرفة، تتناول وشاحها الأسود وتلفه بأحكام حول وجهها، وتلقِ على نفسها نظرة في المرآة وتبتسم بارتجاف، لأول مرة تجد عيناها تلمعان بهذا الشكل، كأنهما نجمتان متوهجتان في سماءٍ مظلمة...
لأول مرة تجد نفسها جميلة وبريئة، أم تُرى أن سعادتها بوجوده هي التي تنعكس على ملامحها بشكل واضح؟
تأخذ نفسًا عميقًا وتفتح هاتفها،  تأخذ وضعية تصوير معينة رأتها على وسائل التواصل وتبتسم ابتسامة رقيقة طفولية تجعلها أشبه بملاك صغير وتلتقط الصورة،  تتأمل شكلها بابتسامة مرتعشة،  تلك أول صورة تأخذها في حياتها،  ولعلها لن تكون الأخيرة،  تفتح المحادثة بينهما وتحدد الصورة بأيدٍ مرتعشة، تتردد قليلًا قبل أن ترسلها لكنها تحسم أمرها وتطمئن نفسها أنه صالح، الشخص الوحيد الذي تثق به ولا يوجد ضرر من أن يراها...
ثم ضغطت إرسالًا...
صدرها يعلو ويهبط بسرعة وعيناها معلقتان بصورتها بينما يظهر أمامها أنه رأها.
ترى الثلاث نقاط يتحركون دلالة على أنه يكتب فترتفع وتيرة دقاتها حتى شعرت بالألم كأن قلبها تضخم، اتسعت عيناها بصدمة عندما وصلتها رسالته:
- احذفي صورتك يا فرحة وإياكِ أن ترسليها لأي شخص مرة أخرى!!!
اضطربت ملامحها وابتلعت ريقها بصعوبة وكتبت مبررة ودمعة تسقط على وجنتها:
- أنا أثق بك.
- تَبًّا!!  أي ثقة تلك!!  لا تثقي في ولا تثقي بأحد، لا يوجد أحد جديرًا بالثقة من خلف الشاشات.
عضت على شفتيها بتوتر وشعرت بالندم لمَ فعلته، حذفت الصورة وفكرت في أي شيء تقوله فلم تسعفها الكلمات فكتبت:
- آسفة
ظنت أنه لن يجيبها لكن عكس ما توقعت وجدته يرسل لها تسجيلًا صَوْتِيًّا فأخفضت درجة الصوت وفتحته ليأتيها صوته حنونًا قائلًا:
- لا تخيفيني عليكِ يا فرحة، لا تفعلي ذلك مجددًا، ولا حتى لي، حتى إذا طلبت منكِ يومًا أن ترسلي لي صورتك ارفضي إياك أن تفعليها..
يتوقف صوته فتنظر لتجده أرسل مقطعًا آخر ففتحته وفابتسمت بسعادة طفولية:
- عيناكِ ساحرتان، احكمتي التصويب عليّ فكيف يهرب قلبي منهما الآن!
- تصبحين على خير يا مليحة الوجه القلب.
أرسلهما واحدة تلو الأخرى واغلق مسرعًا دون انتظار ردها، ونام قرير العين لتسكن عيناها أحلامه فلا يدري إن كانت ستغادره يوم أم لا..
وهي احتضنت دبها الوردي وأغمضت عينيها مسترجعة صوته وهو يمدحها وقلبها يحلق كطير حر في سماء الحب
***
بعد يومين
تنهي تحضير الفطور مع عمتها بحماس،  ابتسامة عالقة بشفتيها وهي تتحرك هنا وهناك دون ملل، شعورها هنا مختلف تمامًا عن إحساسها في بيت عائلتها  يومان فقط مرا عليها هنا شعرت فيهما براحة غريبة، كأن هواء البلدة غلف قلبها بهدوء ورضا افتقدتهما، بجانب حديثها مع صالح الذي يُزيد سعادتها أضعاف، بريق عينيها يبدو واضحًا للعيان،  فرحة تليق باسمها، على الرغم من أن حديثها مع صالح عَاديٌ حتى أنهما تجاهلا ما حدث أول أمس كأنه لم يكن، لكن داخل قلبيهما ظلت ذكريات هذا اليوم تعربد بين جنباته وتذكرهما به. 
تقضي اليوم ما بين المساعدة في الأعمال المنزلية والجلوس مع بنات عماتها، قبيل غروب الشمس أبلغتها أمها أنها ستأتي معها لزيارة أحد أقاربهم.
ارتدت عباءتها على عجل خوفًا من أن تغير أمها رأيها فتلك المرة الأولى التي تصطحبها معها في زيارة أحد.
في الأيام السابقة شعرت بتغير والدتها كثيرًا حيث كانت تعاملها برفق دون أن توبخها أو تصرخ فيها دون سبب كالمعتاد مما جعلها تشعر بالسكينة لبعض الوقت.
خرجت بصحبة والدتها وعمتها، كانت تتأمل البيوت الصغيرة بعينات لامعتان، بلهفة طفلة ترى الشوارع لأول مرة، تشعر أنها المرة الأولى خاصة أنها عندما تأتي إلى هنا لا تخرج إلا يوم عودتهم فقط.
استمروا في السير بينما عمتها تتحدث مع والدتها في أمور عدة لم تنتبه إلا عندما قالت عمتها بخفوت موجهة حديثها لوالدتها:
- تأخرتم في الأمر كثيرًا
أجابت أمها بهمهمات لم تسمعها لكن فرحة لم تهتم وعادت لتأمل المكان حتى وصلوا إلى منزل على أطراف البلدة.
كان الليل قد أسدل ستاره عليهم وبات المكان من حولهم مخيفًا، أصوات الحيوانات خفتت ولم تعد تسمع إلا صوت حشرات الحقل، تتوقف قليلًا وهي تتلفت حولها بتعجب، تجذبها أمها من ذراعها فتسير معها مجبرة حتى دخلوا لذلك المنزل الغريب، وبالداخل وجدت سيدة متشحة بالسواد ملامحها متغضنة يبدو عليها أثر السن لا تتذكر أنها رأتها من قبل.
كان البيت بسيطًا ومرتبًا لكنه مُقبض، جلست على أحد المقاعد ودخلت والدتها مع عمتها وتلك السيدة إلى غرفة جانبية، ظلت تتأمل محتويات المنزل القليلة المكونة من تلفاز صغير وأريكة صغيرة ومقعدين باستثناء الذي تجلس عليه، الحماس بداخلها يختفي تَدْرِيجِيًّا وهي تشعر بالملل من الانتظار وحيدة هكذا، لقد ظنت أنها ستقابل بشر وتجالسهم وتتحدث معهم لا أن تجلس وحيدة في منزل كئيب مفتقد لكل معاني الحياة، أشبه كثيرًا بمنزلها في العاصمة.
بعد دقائق خرجت عمتها وجلست هي الأخرى دون أن تنطق أو تنظر إليها، اقتربت فرحة منها وتساءلت بخفوت:
- أين أمي؟
نظرت لها بابتسامة هادئة وقالت بصوتٍ منخفض:
- ستأتي.
مرت عدة دقائق أخرى والصمت يحيط بهما، الأمطار بدأت تتساقط في الخارج وصوت الرعد يدوي عاليًا فانتفضت رغمًا عنها،  زفرت بضيق وهي تحيط جسدها بذراعيها وأغمضت عينيها متمتمة بكلماتٍ حانقة وتمنت أن تنتهي تلك الزيارة سريعًا فقد اشتاقت إلى صالح وتريد التحدث معه.
لحظات وفُتح الباب وأشارت السيدة لعمتها فنهضت قائلة إلى فرحة:
- تعالي معي.
نهضت فرحة وهي تنظر لها بتساؤل ولكنها تجاهلتها تمامًا ودفعته برفق لتسبقها، دلفا معًا للغرفة الصغيرة فوجدت أمها تجلس على الفراش الوحيد الموجود في الغرفة.
تنقل بصرها بينهم بتساؤل، اندفعت أمها ناحيتها وجذبتها بحدة فسقطت على الفراش،  حاولت الاعتدال ولكن والدتها كانت أسرع منها حيث كبلت ذراعيها فوق رأسها بيدٍ واحدة والأخرى كممت بها فمها،  هوى قلبها رعبًا وهي تدرك ماهية ما سيحدث، حاولت انتزاع يدها وتضرب بساقيها لتتحرر لكنها فشلت فلم تكن بالقوة الجسدية الكافية لتفعل ذلك، وما زاد الأمر صعوبة عندما ثبتت عمتها ساقيها، ظلت تقاوم وتتحرك بهسترية ودموعها تساقطت رغمًا عنها، تنظر لأمها بتوسل وهتفت برعب عندما رفعت يدها عن فمها لتحكم قبضتيها على ذراعي فرحة:
- أرجوك يا أمي لا تفعلي بي هذا
لا لا تهتم بحديثها وتصرخ في المرأة لتنهي الأمر، توسلت وبكت لكن أمها كانت تصم أذناها عن ذلك، لم تكن تتخيل ولو في أسوأ كوابيسها أن يحدث هذا لها، لطالما قرأت عن ختان الإناث في الروايات لكنها ظنت أنه يقتصر على صغار الفتيات وما دام الأمر لم يتم وهي صغيرة فلن يتم وهي بهذا العمر.
كانت تتعجب كيف يتم امتهان الأنثى بهذا الشكل البشع،  وهل هناك أبشع من أن يتم اقتطاع جزءٍ من جسدها رغمًا عنها بحجة التحكم في رغباتها!
عقلها يرفض الاستسلام وخفقات قلبها تقرع كطبول الحرب ودموعها تأبى التوقف ولكن ما باليد حيلة.
تشعر بها ترفع عباءتها فتزداد حدة بكائها، صوت انهمار المطر يتداخل مع بكائها وتشعر بألم أشبه باقتلاع الروح من الجسد.
صرختها تشق سكون الليل فتحدث دَوِيًّا عاليًا كأنها تنازع الحياة،  وجسدها ينتفض ألمٍ بينما عيناها التي كانت تلمع بفرحٍ منذ دقائق قد أنطفئ بريقها.
**

خلف قناع العادات، كاملة (مستوحاه من احداث حقيقية)Where stories live. Discover now