مشهد الافتتاحية

1.3K 28 0
                                    

المقدمة

وقفت أمام باب منزل شبه مفتوح..
تقترب بخطوات مترددة، تؤخر قدم وتقدم الأخرى.
وجيب قلبها يكاد يصل لكل من يقطن بالبناية، وجسدها يرتجف بقوة رغم حرارة الطقس، حبات العرق تترقرق على جبينها، تبتلع ريقها بصعوبة زافرة نفسًا ساخنًا وتنصت لصوتها الوهمي الذي يحدثها مشجعًا أن كل شيء سيكون على ما يرام.
لن يحدث شيء!
فقط خطوة أخرى وينتهي كل شيء!
أغمضت عينيها للحظات ثم فتحتهما لحظة واحدة وكانت بداخل البيت، عيناها ترمق كل شبر في المنزل بحنين جارف واشتياق، محدثة نفسها:
-كم عامًا مروا على وجودي هنا؟
لا أدري لم أعد أذكر.
تتساءل وتجيب على نفسها، حقًا لم تعد تعرف، توقفت عن حساب السنوات منذ فترة.
لم يتغير البيت، كما هو بجدرانه الحبيبة التي تحمل لها كل ذكرى حلوة، وكل ذكرة ألم!
جدران احتضنت بكائها رضيعة، وضحكاتها طفلة، كما احتضنت دموعها منبوذة ومنتهكة.
هنا كان يكمن أمان العالم، وهنا تسرب من يدها كل شيء.. الأحلام والأماني.. الخطط والطموح.
هنا تحولت ضحكاتها لآنين ودموع، فقدت أحب الناس لها، فقدت نفسها وروحها، دفنت نفسها قبل أن ترحل.
جدران ضمت ذكريات شتى، منها السعيد والحزين، منها المدمر، ومنها ما زهق الروح واقتلع القلب من بين الضلوع.
جدران ما زالت كما هي لكنها فقدت الدفيء الذي كان يحتويها هي وأخواتها.
لم تشعر بالدموع التي تجري على وجنتيها ولا شفتيها التي ترتعش بشدة مع شحوب وجهها الذي كان أشبه بشحوب الموتى.. عينان متورمتان من كثرة البكاء فاختفى جمال لونهما الذي نافس البندق في توهجه.
- لماذا عدتِ؟
- لا أعرف!
-كيف لا تعرفين؟
- صدقيني لا أعرف
حديث دار بينها وبين نفسها، لا تدري لماذا جاءت، فقط أرادت أن تطمئن..
أرادت أن تراه للمرة الأخيرة كيف أصبح؟
هل ما يتناقلونه عنه صحيح؟
هل فقد احترامه لنفسه كما فقد احترامها له منذ سنوات!
نعم رغم أن المنزل لم يتغير لكنه أصبح أكثر كآبة، وأكثر وحشة وصقيع، صقيع كالذي غلّف روحها وقلبها الذي أرهقته الحياة فلم يعد يعرف معنى الحب أو الشعور.
التقطت عيناها جسده المسجى على الأريكة، شبه غائبًا عن الوعي!
فوضى!
المكان أشبه بفوضى ضربت كل شيء، بقايا طعام في كل مكان.. سكين ملقى على الاريكة بإهمال.. بعض الفاكهة متناثرة هنا وهناك، حتى جحظت عيناها بارتياع وهي تنظر لزجاجات الخمر تملأ المكان!
البيت الذي كان يضج بصوت القرآن الكريم بصوته أصبح نجسًا بما حرمه الله، وضعت يدها على شفتيها تكتم صرخة كادت تخرج منها، تساقطت دموعها أكثر وهي تفكر بما آل إليه الحال..
-كيف وصل إلى القاع الحضيض بهذه الصورة؟
كيف فعل ذلك بنفسه وبنا؟
همست بها بصوت غير مسموع، تتساءل لو كان تراجع منذ اللحظة الاولى لكانوا الآن مجتمعين في أحضان بعضهم البعض!
لم تفرقهم الطرق والبلاد!
لم تنهشهم أشباه البشر ومعدومي الرحمة والضمير.
- ألم يجدر بك التفكير بنا أولى من غدك؟
قالتها لكن لسانها لم يستطع النطق بها، كما كان حالها دائمًا، الصامتة الراضية بكل شيء.
وقعت عيناها على صورة معلقة على الحائط تضم خمسة أفراد، ضحكاتهم تكاد تسمعها، ترى دمعة العيون والدفء الذي حاوطهم.
وقفت أمامها، لمستها بأناملها فشعرت بارتجاف قلبها، حنين ظنت أنها خسرته لكنه موجود.
لا زالت تشعر..
لا زال قلبها ينبض..
أخذتها قدماها لغرفة مجاورة، فتحت بابها برفق لكنها أبت أن تدخل، فقط وقفت تتأمل محتوياتها من الخارج، السرير الصغير الذي ضم جسدها ذات يوم، خزانة الملابس، مكتب المذاكرة، الدب القطني المفضل برائحة الياسمين، النافذة التي تطل على الشارع الرئيسي وما كان يسبب الإزعاج.
نهرت نفسها بقوة وهي تتذكر أن كل ذلك لم يعد لها، لقد انتهى زمن الحنين، همست لنفسها بصوت مرتجف:
-أنسى يا قلب ولا تعد لخفقاتك المجنونة من جديد، لا تستسلم لحنين الماضي..
أنسى فلم تعد تلك الحياة لنا، لنهرب ونعود لواقعنا البائس ونختبئ في غرفتنا، هيا عودي لمكان ما كنتِ.
ومع الجملة الاخيرة عادت بظهرها للخلف مودعة كل شيء والرؤية تتشوش أمام عينيها من كثرة الدموع لكنها تقاوم.
سترحل؛ هذا المكان لم يعد لها!
تلك الحياة ليست لها!
تعود خطوة خلف خطوة فزلت قدماها بسبب الزجاجات فتسقط محدثة دويًا عاليًا استيقظ على أثره الرجل، جحظت عيناها عندما التقت بعينيه، ابتلعت ريقها برعب وهي تبتعد للخلف في جلوسها، تحرك هو من مكانه بترنح واقترب منها، دقات قلبها تقرع كالطبول، وجسدها يتجمد من الخوف، يسقط بجانبها بفعل سكره ويلمس وجهها بيديه فتشعر بها تحرقها، أنفاسه الساخنة تلفح بشرتها التي تفوح برائحة الخمر ذكرتها برائحة مشابهه فشعرت بغثيان يهاجمها، اتسعت عيناها بصدمة مع همسه الذي بالكاد سمعته:
- من أنتِ؟
يا إلهي لم يعرفني؟
هكذا فكرت لكن صوتها كالعادة كتم بداخلها لم تستطع النطق بشيء، لكنه لم يمهلها فرصة للرد، وأردف قائلًا بصوت منخفض:
- لا يهم من أنتِ المهم أن تفي بالغرض.
لم تفهم ما الذي قصده بحديثه لكن سرعان ما أدركت قصده عندما وجدت يديه تمتد لجسدها بشكل سافر.
ألجمتها الصدمة وهي تراه جاثمًا عليها بجسده ويداه تعبثان بها.
لحظات.. فقط لحظات وخرج صوتها على هيئة صرخة وهي تقاوم بشراسة اكتسبتها مع مرور السنوات، تحاول جاهدة أن تجعله يفيق لكنه لا يستجيب، لا يستوعب من هي ولا ماذا يفعل؟
فالخمر أفقده عقله تمامًا وكل ما يفكر فيه أن ينالها مهما كان الثمن.
تقاوم مرة تلو الأخرى لكن قوة جسده كانت أقوى منها، صفعها عدة مرات ليضعف مقاومتها، ولم يعِ من هي، تصرخ بعلو صوتها وتبكي، تتوسل له أن يتركها وأن يفيق لكن لا حياة لمن تنادي، جسدها بات منهكًا، صوتها يخفت تدريجيًا وتهاجمها دوامة ظلام أخرى.
اختفت قدرتها على المقاومة وكادت تستسلم فلم تعد لديها أي قدرة على فعل شيء، فجأة هاجمتها عدة صور، صوت صرخاتها يعود ولكن بداخلها، مكان آخر، فراش ناعم ولكن اليد قاسية تجتاح جسدها برعونة.
لا!
أقسمت ألا تستسلم مرة أخرى مهما كلفها الأمر، عادت مقاومتها لشراستها من جديد وهي تحرر أحد زراعيها الذي كبلهما، تدفعه بقوة لكنه لا يستجيب، تيأس من دفعه فامتدت يدها لأول شيء وصلت له وكانت زجاجة كسرتها على رأسه ليسقط من عليها غارقًا في دماءه، اعتدلت بسرعة تحاول تغطية جسدها وسقطت يدها على السكين فلم تشعر بنفسها إلا وهي تطعنه، طعنة تلو الاخرى ودموعها تسقط بغزارة وصوت بكائها يعلو.
البكاء تحول لصرخات كأن روحها تتعذب، صرخات كتمت لسنوات فجاء الوقت لتتحرر، كأنها هكذا تحرر روحها من السجن الذي حاوطتها به.
الذكريات تجتاح عقلها فتزداد قوة الضربات كأنها انفصلت على العالم فلا ترى أمامها إلا صورتها المعذبة وكل ما تعرضت له..
لا ترى إلا صورة الدم لعلها تشفي جزء مما بداخلها، لم يكن وجهه هو ما تراه، فتشعر بكل طعنة تصيبها هي!
تتألم.. تصرخ.. تنزف دمًا!
لا تدري إن كانت تطعنه هو أم نفسها!
لا يهم يكفي أن تنتهي منه للأبد حتى لو فارقت الحياة هي الأخرى، لأنه يستحق، يستحق الموت.. أن يشعر بكل الألم الذي شعرت هي به.
كم مر من الوقت حتى تجمع الجيران على الباب وكسروه على صوت صرخاتها ليروعهم المنظر، تنام بجانب جسده الغارق في دمائه التي لوثتها هي الأخرى، تضم ركبتيها لصدرها كالرضيع مبتسمة.. وجهها متورم من أثر صفعاته لها..
تغمض عينيها وتفتحها تهزي بكلام غير مفهوم، والناس ينظرون اليها بذهول وصدمة!
لم يستوعبوا أي شيء مما تقوله سوى جملة واحدة:
- سامحني أبي.

خلف قناع العادات، كاملة (مستوحاه من احداث حقيقية)Where stories live. Discover now