الفصل السادس عشر

272 20 12
                                    


الفصل السادس عشر

- متأخرة عن موعدك ثلاث دقائق..
يستقبلها مستندًا على سيارته مكتفًا ذراعيه يبتسم ابتسامة رائقة قد افتقدتها، يُحدثها بمرح..
ابتسامتها تتسع وهي تقف مقابلة له تميل برأسها لليسار قليلًا، تُغالب خجلها وتهتف متهربة من نظرته المشتاقة:
- عُدتُ مبكرًا، ظننتك ستغيب كثيرًا..
- الأمور سارت بشكل هادئ وسريع على عكس ما ظننت..
يقولها باقتضاب وهو يخفض رأسه، يفتح باب السيارة ويشير لها لتركب بصمت، تطيعه صامتة هي الأخرى وعيناها تراقبان تحركه الآلي مستقلًا خلف المقود وانطلق دون كلمة واحد..
ساد صمت قليل لم تحبه فالتفت إليه تسأله بترقب:
- رأيت والدك؟
- نعم..
نعم المقتضبة جعلت جبينها يتغضن وتتساءل بقلق:
- كل شيء على ما يرام.. أليس كذلك؟
أومأ عُدي دون أن يلتفت، ملامحه منغلقة لا تعطي انطباع بأي شيء، قلقها ازداد فتجرأت قليلًا ومدت يدها تلامس يده فالتفت إليها سريعًا ثم عاد لتتعلق عيناه بأناملها الملامسة لكفه فقط للحظات ثم يولي اهتمامه للطريق.. فتساءلت بتردد:
- أذًا..! لماذا أنت غاضب هكذا؟ هل مقابلته تضايقك؟
- نعم، أكثر مما تظنين..
إجابته المختصرة أوجعت قلبها، لكنها أصرت ألّا تتركه فريسة لأفكاره ستجعله يخرج ما بداخله كي يستريح.. تساءلت بتردد مرة أخرى:
- اتكرهه؟
- لا
النفي القاطع في صوته طمأنها فتنهدت ببطء، سمعته يكمل بتشتت لمسته واضحًا في نبرته:
- لم أكرهه يومًا، لكني لا يمكنني مسامحته ببساطة على تركه لنا، والآن يعود ويريد أن يبقى معنا كأن شيئًا لم يكن!!
تهز رأسها متفهمة بشرود كأنه يراها لكنه لم يفعل، صمت للحظات فلم تقاطع تفكيره، أردف بخفوت متألم:
- عندما اختفى.. نهشنا القلق، أين ذهب؟ هل مات أم ما زال حيًا.. تمر الأيام والخوف يسكننا أكثر، نرتعب حينما يرن هاتف البيت، أو نسمع طرق على بابنا.. ننتظر خبر وفاته.. لكن السنوات مرت دون خبر.. أيقننا حينها أنه ذهب ولم يعد.. كنت في السابعة عشر، وأخر خبر وصلنا عنه أنه ترك البلاد بلا راجعة.."
صمته تزامن مع وصولهما لمكانٍ منعزلٍ نوعًا ما..
تصيبها رجفة بسيطة وهي تتطلع للمكان الفارغ فتغمض عينيها عدة مرات تطمئن نفسها أنه عُدي، وبالطبع لن يؤذيها..
تراقبه يترجل من السيارة ويقف مستندًا على مقدمتها..
تتبعه لتقف مجاورة له، كلٍ منهما يشرد في عالمه الخاص..
هي تتخبط بين مشاعرها تجاه والدها خاصة بعد ما قصه عُدي..
تشفق عليه وتعذره، فليس هناك أقسى من أن تتعرض لخذلان من أقرب الناس إليك..
هذا وحده كفيل بجعل الحياة تنقلب رأسًا على عقب..
خلال الشهر الذي غاب فيه عنها كان يحدثها من وقت لآخر فقط ليطمئن عليها، دون أن يخبرها بشيء وهي الأخرى امتنعت عن سؤاله حتى لا تضغط عليه..
أما هو فيصعب عليه تقبل الأمر..
ليس بعد سبع سنوات يجبره أن يتقبل وجوده..
أن يعود والده مسئولًا كما كان من قبل..
هو حرم نفسه من هذا قبلًا فلماذا عاد الآن مطالبًا بحق قد تنازل عنه بملأ إرادته!!
- إذن.. ماذا ستفعل؟
تنتزعه من شروده بسؤالها فيتنهد وهو يلتفت لها قائلًا:
- يريد العودة، يريد أن يبقى معنا كما كنا في الماضي..
- سترفض؟
تسأله بترقب فيجيبها بتشتت:
- لا أدري.. لا يمكنني الرفض بعدما رأيت ردة فعل علا على عودته فقط دون أن تراه.. لقد عادت لها بهجتها من جديد.. لا يمكنني..
يقطع حديثه ضاغطًا على شفتيه بقوة، يداخله صراع يعجز عن حسمه، شخصان يتعاركان كل منهما يريد فرض سطوته..
أحدهم غاضب، ساخط على والده، يرفض أن يتقبله بسهولة..
والآخر أتعبته الحياة، يرتجي كتفًا يستند عليه فمهما كان خطأ والده يظل السند الوحيد الذي يمتلكه في هذا العالم..
يزفر بحدة بينما يزيح دمعة علقت بأهدابه حتى لا تسقط ويكمل بصوتٍ متألم:
- لا يمكنني حرمانها منه بعدما عاد، لا يمكنني سلبها سعادتها.. لن أسامح نفسي لو تسببت بحزنٍ لها حتى لو كان ذلك على حساب نفسي..
كل لمحة حزن غامت بها عينيه شعرت بها تحتلها، وكأنهما يتشاركان الحزن.. كما أصابهما خذلان نفس الشخص مع اختلاف الهوية..
تمتد يدها لتقبض على كفه، تضغط عليه برفق فيرفع رأسه لها، تبسمت عيناها وهمست تخفف عنه:
- كل شيء سيكون بخير، أنا بجانبك دومًا.. سنواجه كل أمرٍ سويًا..
يبادلها الابتسام متشبثًا بيدها يلتمس منها الدعم وهي كانت خير من يقدمه له دون انتظار مقابل..

خلف قناع العادات، كاملة (مستوحاه من احداث حقيقية)Where stories live. Discover now