الفصل الحادي عشر

245 16 16
                                    

الفصل الحادي عشر
**
لطالما أحبت الليل بظلمته الساكنة، وجلستها وحيدة في شرفة منزلها تناجي النجوم دون صوت، تحكي لها أسرارها، تشكو لها همومها فتزيح عن كاهلها ذاك الثقل الذي يكبلها، السماء بدت مظلمة إلّا من نجمة وحيدة بعيدة كبعد أحلامها، لكنها تأمل أنها قد تحلق لتلحق بها ذات يوم..
النجمة كانت تلمع ببريق يسر عينيها، كأنها تسمعها فيزداد بريقها أكثر كلما فكرت في شيء ما..
تحب الظلام، وتهابه احيانًا.
تحب وحدتها، وتعاني منها..
متناقضة هي..
تتأرجح بين قوتها وضعفها..
حينما يشتد عليها ضعفها كانت تسعى لتشيد من هزائمها قوة جديدة..
تبدو هادئة ظاهريًا، فقوتها كانت تكمن في إخفاءها ما تشعر به ببراعة، فلم تكن من هؤلاء الذين يظهرون أوجاعهم لأحد..
تقف كجبل في مواجهة الصدمات، تهتز أحيانًا
لكنها لا تتزحزح..
تميل مع الرياح، لكنها لا تنكسر..
يتعجب أصدقائها من كونها كتومة لا تطلع أحد على مشكلاتها، لكنها دومًا كانت تقابل تعجبهم بسخرية مريرة..
علمها والدها أن أكتاف الآخرين هشة، وأيادي الآخرين وقت الحاجة دومًا قصيرة، لا تسمن ولا تغني من جوع..
يكفيها خذلانًا فلم يعد في قلبها مكانًا لجرحٍ آخر..
تظن أن كل تلك الأفكار تبخرت في لحظة حينما أصبحت زوجته..
هي الآن لم تعد وحدها، لديها زوجها، صحيح أن "نديم" لا يزورها إلّا يومًا واحدًا كل أسبوع لكنه يكفي أنها تلك المرة لا تنتظر دون جدوى..
الانتظار مكلل بنهاية تضمنها.. لا مجال للخذلان..
أيام معدودات تفصلها عن راحتها الابدية..
مر أسبوعين على تلك الليلة التي خطت بيها عقد ملكيته لها كما يقول..
تبتسم ساخرة وهي تتذكر حينما قالها لها فأجابته بحدة لم تقصدها:
- لست ملكًا لأحد، لم تتزوج جارية..
- بل تزوجت ملكة.. يحق لها أن تتوج على عرش القلوب..
تهز رأسها ضاحكة بخفوت وهي تتعجب من قدرته على تغيير مزاجها للنقيض ببضع كلماتٍ..
لم تكن يومًا شخصية عاطفية تتأثر بالحديث المعسول، أو تلغي عقلها لمجرد أن قلبها قد أراد ذلك..
ولكن تلك الفترة تشعر بنفسها جائعة للحب..
تستجدي أي جرعة اهتمام أو حب قد تتلقاها..
تشعر بحركة قطتها بجانبها فتلتفت لها ببطء محدقة في نظرتها البريئة لها، تحملها برفق وتضمها فتصدر مواء خفيف وهي تتمسح فيها مما حلب الابتسامة لثغرها، مررت يدها ببطء على فراءها وهمست بشرود:
- هل تعلمين أن وجودك معي يمنع عني الكثير من الأشياء السيئة، تملئين وحدتي، تنتشليني من تشتتي كلما جرفتني أفكاري لأشياءٍ سيئة، لكن وهل هذا يكفيني!
لم تتلقى رد بالطبع فتنهدت بكبت وهي تنهض من جلستها تاركة القطة نائمة، سارت نحو الداخل حاملة هاتفها تقلب فيه بملل، تصلها رسالة منه فتفتحها مبتسمة:
- اشتقت إليك
- أنا أيضًا، متى ستأتي؟
تكتبها بلهفة لم تعتدها فيجيبها بجملة جعلت نبضات قلبها تضطرب:
- أود لو آتي إليكِ الآن، لكني لا أضمن نفسي.
ظلت تحدق في الرسالة دون رد فوصلتها أخرى:
- نهاية الأسبوع سنقضي اليوم سويًا.
ابتسامة صغيرة لاحت على ثغرها و أرسلت له رسالة مختصرة تخبره فيها موافقتها..
انقضى الليل بطيئًا كعادته في أيامها، مع حلول الصباح كانت تجوب المنزل بلا هدف محتضنة كوب الشاي بدون حليب بين راحتيها، ترتشف منه بتمهل، توقف أمام الصورة الوحيدة التي تملكها لوالديها، تحدق في عيني أمها للحظات لكنها تعاود الهروب بنظرتها مرة أخرى كما كانت تفعل في صغرها عندما تخطئ، تشعر أن نظرة أمها تعاتبها حتى في موتها، العبرات تحرق مقلتيها حاولت مقاومتها لكنها انسابت دون إرادة منها، ارتجفت يدها القابضة على الكوب فتناثرت القطرات الساخنة عليها، وضعته على الطاولة المجاورة لها، ارتجفت شفتاها فعضت عليها حتى ادمتها، خرج صوتها مهزوزًا وهي تحدث صورة أمها وكأنها تقف في مواجهتها:
- لا تنظري لي هكذا، لم يكن لدي اختيار آخر، لقد سئمت تلك الحياة، كل ليلة أعود للبيت وحدي، منذ رحيلكما.. كلما دخلت للبيت أشعر كأن جدرانه تطبق على صدري، تمنعني من التنفس بحرية، أريد ونسًا يا أمي، أريد حبًا يعوضني ما فاتني..
اختنق صوتها بغصة تكاد تمنعها من التنفس، والدمع العصي قد أغرق وجنتيها، ملامحها متألمة وكأن الحزن رسم عليها آلاف الخطوط وأكملت بخفوت مرتعش:
- أريد نديم في حياتي لأنه الوحيد الذي استطاع أن ينفذ إلى داخلي، وحده من أحبني.. واحببته..
مسحت وجهها بكفيها وضحكت بخفوت من بين دموعها هامسة باختناق:
- صحيح أن حبي له أشبه بجمرة مشتعلة بقلبي، يشعرني بضعف لم يمر عليّ حتى في طفولتي لكني أحبه..
صمتت للحظات تتأمل البيت الفارغ من حولها، فارغ من أي صوت، من أي حياة، من أي ذكرياتٍ تجمعها بأحد..
تنهدت ثم أردفت بصوتٍ مسموع، لا تدري إن كانت تحدث والديها أم نفسها:
- أعلم أنكما جعلتموني أنشأ قوية، لا تهاب شيء في الحياة، علمتُماني أن أواجه كل الصعاب دون أن يرف لي جفن لكن! مهما كان الإنسان قويًا شجاعًا يأتي عليه وقت يحتاج فيه لبعض الإحتواء، وأنتما رحلتما مبكرًا ونسيتم أن تخبروني كيف أواجه الحياة دونكما..!
تنهدت بحزن وهي تهز رأسها يمينًا ويسارًا كأنها تنفض تلك الأفكار منها، وقررت أن تؤجل التفكير في هذا الأمر حاليًا..
**
استبد به القلق وهو يجوب أروقة المدرسة دون أن يجد لها أثر، قلبه يتآكل خوفًا عليها، هاتفها مغلق، أمينة لا تعرف عنها شيء منذ البارحة، لم تأتي للعمل اليوم أيضًا..
وصل للمبنى التي كانت تختلي بنفسها على الدرج الخلفي الخاص به، خاب أمله عندما وجد المكان خالي منها، ظل يدور ما بين مسرح المدرسة وغرف مكاتب المعلمين لكنها غير موجودة!!
عاد إلى مكتبه متهدل الكتفين، ملامحه متصلبة تخفي خلفها ارتجافًا لا يريد إظهاره للعيان.
جلس على أقرب مقعد رآه واضعًا رأسه بين كفيه، ساقيه يهتزان بعصبية وهو يفكر أي مكروه قد يكون أصابها!!!
يخرج هاتفه مرة أخرى محاولًا مهاتفتها من جديد لكن الخط ينقطع دون رد منها.
زفر بعصبية وهو ينهض ضاربًا أحد المقاعد بقدمه، خرج من المكتب صافقًا الباب خلفه بعنف، أنفاسه متسارعة رغمًا عنه وهو يسير في الرواق كأنه يحفر الأرض بخطواته، وصل لآخر الممر وكاد أن ينحرف يسارًا فاصطدم ب"غزل" التي كانت تسير هي الأخرى شاردة، انتفضت مرتدة للخلف فاعتذر منها قائلًا بتوتر ملحوظ:
- آسف..!
عقدت غزل حاجبيها وهي تتأمل هيئته الغريبة، فكه متصلب بشكل واضح، يداه منقبضتان بشكل يفضح انفعالًا مكتومًا، هتفت بتساؤل قلِق:
- ماذا بكَ؟
هز رأسه بلا معنى قائلًا بخفوت:
- لا شيء.. كنت شاردًا فحسب.
- عُدي! ماذا حدث اخبرني!
زفر بكبت وعيناه يدوران في المكان قائلًا:
- ابحث عن روح!!
- تبحث عن روح!!!
رددتها خلفه بتساؤل متعجب، وأردفت:
- كيف تبحث عنها؟ واين؟
زفر مرة أخرى بضيق وهز كتفيه بحيرة قائلًا بتشتت منفعل:
- لا أدري، لا تجيب على هاتفها، أمينة لا تعرف عنها شيء ولم تأتي للعمل.
هدأته غزل قائلة بهدوء:
- اهدأ أولًا، هي ليست بالبيت ولم تأتي للعمل فكيف تبحث عنها هنا؟ ثم ولمَ القلق ربما قررت الاختلاء بنفسها قليلًا بعيدًا عن محاصرتك لها في كل مكان.
قالتها بعبث طفولي مما أشعره بالخجل واحمرت أذنيه وهو يحك رقبته وهمس بتردد:
- أنا فقط اخشى عليها، هي دومًا مضطربة وخائفة، لا أحبذ اختفاءها هذا، اخشى أن تؤذي نفسها.
ابتسمت وهي تحدق فيه بحنو، كتفت ذراعيها قائلة:
- لا تخشى عليها، روح قد تبدو لك ضعيفة لكنها أقوى مما تظن، تحارب نفسها إن حاولت أذيتها قبل محاربة من حولها، اهدأ واتركها تتنفس قليلًا، إلى أين ستذهب؟ ستعود لا تقلق.
أومأ متنهدًا بتعب، وبادلها الابتسام وحياها قبل أن يستدير عائدًا إلى مكتبه، لكنه توقف على بُعد خطواتٍ منه وغير طريقه ليخرج من المدرسة كأن شيئًا يجتذبه لمكانهما الخاص.

خلف قناع العادات، كاملة (مستوحاه من احداث حقيقية)Where stories live. Discover now