الفصل الثاني والعشرين ج١

291 17 1
                                    


الفصل الثاني والعشرين ج١

الوهم العابر قد يَبْنِي حياة.. ويهدم أخرى..
يصنع فقاعة ضخمة تحيط بنا.. تحتجزنا بداخلها.. تحجبنا عن الواقع، ثم تختفي وتتركنا لنسقط من داخلها فنرتطم بأرضٍ صلبة.. قاسية وخشنة.. لندرك فيما بعد كما كنا ضائعين.. 

***
- عيسى!
تهمس بها بفزع.. بنبرة وجلة.. قلبها يرتجف بين أضلعها، وجهها كساه الخوف وهي تعود خطوة للخلف بينها كفه يقبض على ذراعها يمنعها من التراجع، عيناها مثبتتان عليه لم تقدر على إزاحتهما، حتى اللوم الذي لمع فيهما إلى "صالح" الذي كان يراقب المشهد بجمود ظاهري على عكس القلق الذي يصرخ بداخله..
الأمر كله كان فكرة عيسى.. فهو مهما حدث لم يكن يجرؤ على طلب الهروب منها حتى لو أحبها ألف مرة، لم يكن ليغامر بها ويطالبها بهذا الشيء.. لكن عندما أتاه عيسى مخططًا لكل شيء لم يتردد لحظة في اقتناص فرصته في العيش معها، سمح لها بالدخول مع عيسى وتبعهما وأغلق خلفه الباب..
انكمشت فرحة خوفٌ عندما اقترب عيسى منها خطوة أخرى بعدما أفلتها من قبضته، انتقل بصرها إلى صالح الذي كان ينظر لها بأسف على الرغم من يقينه أنه فعل الأصح لها.. نقلت نظرها بتردد إلى عيسى فوجدته يحدق فيها بوجوم، ملامحه مظلمة لكن نظرته تُظهر خيبة أمل أوجعت قلبها، هي ظنت أنه تخلى عنها.. وهي خذلته وخيبت أمله بهروبها، وعلى الرغم من الهلع الذي أصابها عندما رأته إلّا أنها ليست خائفة، عيسى لن يؤذيها مهما حدث..
لحظة.. لحظة توقف فيها الزمن عندما هوت راحته على وجنتها بصفعة جعلتها تترنح في مكانها، تجمدت نظرتها على نقطة بعيدة، لم تستطع رفع عينيها أو حتى إبداء ردة فعل..
عيسى صفعها!!! الآن.. لقد حدث..!!!
الصمت السائد لم يقطعه إلّا صوت أنفاسها السريعة، وحركة صالح التي تحرك بغتة ليدفع عيسى في صدره وهو يهدر بغضب:
- لم نتفق على ذلك!!! أنت طلبت مني أحضرها..
- لا تتدخل بيننا
قاطعه عيسى بنبرة حادة وهو يحاول إزاحة جسده من طريقه لكنه تشبث بوقفته وهو يواجهه بغضب أقوى من غضبه من شقيقته بينما فرحة تحتمي بظهره دون أن تشعر، لم تجد قدرة على الحركة لكي تبتعد، وجدت نفسها تتسمر في وقفتها.. لتظهر في الصورة إنها تحتمي به.. من شقيقها.. والأقرب إليها من أي شخص بالعالم..
ارتعد جسدها بفزع وهي تسمع صرخة صالح في وجه شقيقها بعنف لم تكن تتوقع أن يتسم به:
- أخبرتك قبلًا أنني لن أسمح لأحد بأذيتها.. حتى لو كان أنت.. ولو كلفني الأمر أن أقف بوجهها هي شَخْصِيًّا كي أحميها رغمًا عنها.. لم أعرضها لخطر الهروب ليلًا من بين أسرتها لأتركها لك أنت الآخر تنفث بها غضبك..
كان يلهث بشدة بينما عيسى يرمقه بنظرة باردة، ساد صمت طويل لا يقطعه إلّا صوت تنفسهم، قلبها كان يدوي بعنف بين أضلعها وهي تستمع له وتحدق في وقفته ودفاعه عنها، ما بين فخر لأنها اختارت رجلًا بحق يمكنها أن تستند عليه في أي وقت دون خوف، وبين تألمها لنظرة الخذلان التي وجدتها في عيني عيسى وقد بدت خنجرًا مسمومًا انغرس في صدرها غدرٍ... لذلك تحركت ببطء ترفع رأسها لتواجه صالح بشجاعة لا تليق بمظهرها المؤلم، وجنتها المحمرة بأثر أصابع عيسى ودموعها التي أغرقت وجهها، نظرتها أوجعت قلبه وقد وجد فيهما لومًا امتزج بفرحة لم تستطع نبذها لكن اللوم والألم قد طغى كل منهما ليصيباه في مقتل.. التفتت بكامل جسدها له وهمست بصوت مختنق لكنه قوي وحازم في باطنه:
- يكفي..! لا يمكن لأحد أن يحميني من أخي.. هو سندي في هذه الحياة، لا أريدك أن تقف أمامه.. لا أريد لأن احتمي بشخص غيره.. لذا.. أتركه يفعل ما يشاء..
كان تشعر برغبة عارمة في قول ذلك، مهما حدث سيظل عيسى الأهم بالنسبة لها من أي شخص، يبتعد صالح خطوتين للخلف وهو يحدق فيها مذهولًا وقد انفلتت من عينيه نظرة فخر رأتها جيدًا مما جعلها تبتسم رغم تألمها، نظرته تطوف على ملامحها ويتمنى لو يعانقها في تلك اللحظة كي يخفيها عن العالم، ليحميها بين أضلعه فتظل أمانة.. لا يجرؤ أحد أن يُسيل دموعها ولا حتى هو، فلو ألمها يتألم معها.. إذا حزنت يحترق صدره بحزنها..
كم تمنى الكثير في هذه اللحظة ولكن! أطرق برأسه  للحظات يغض بصره عنها ويستغفر سِرًّا، يحدث نفسه دون صوت أن يتمهل.. فقط بعض الوقت وتصبح حلاله وحينها يملأ عينيه بجمال ملامحها دون أن يشعر بالذنب، ابتلع ريقه و أجلى صوته وهتف بلكنته المميزة وخشونة صوته تأسرها:
- لكِ ما تريدين يا.. فرحة..
يتلكأ لسانه رغمًا عنه في نطق اسمها وكم بدا حلوًا بمذاق لم يعرفه من قبل وهو ينطقه وهي تقف أمامه بصورتها الحية.. حقيقة وليست مجرد جماد يحدثه من خلف الشاشة.. وجنتاها يشتعلان باحمرار شهي،  ونبضة.. نبضة فلتت من بين هدير خفقاتها.. تخصه وحده.. تهمس باسمه هو فقط.. تقسم على عشقها له رغم أن تلك هي المرة الأولى التي تقابله فيها..
ما حيلتها معه وقد عشقته مرتين.. مرة صديق عبر الشاشة يستمع لحزنها دون ملل.. ينصحها.. يواسيها.. يخفف عنها.. 
ومرة عاشق قطع مسافات لا يعلم بها إلا الله كي يطلب قربها.. ويقف أمامها الآن يواجه شقيقها بكل شجاعة أنه حاميها.. ملاكها الحارس الذي طالما فتشت عنه بين دفاتر الحكايات و أقاصيص الروايات..
أما عيسى فقد كان يراقب ما يحدث بعينين ثاقبتين، يرى نظرة صالح إليها.. نظرة رجل يحتوي بها امرأته دون حديث، يحتضن ملامحها.. يبث بها الأمان الذي افتقدته بين عائلتها، رغمًا عنه شعر.. بالغيرة!!
لا يتخيل أنه قد يترك شقيقته لرجل وتبتعد عن عينيه، رجل آخر يكون له حق النظر إليها دون خجل.. هل كان أَحْمَق عندما قرر أن يزوجها إليه؟ أم كان حنونًا لدرجة أن يغامر بها لعلها تجد سعادتها المنشودة بصحبته!!
لم يتحمل تبادل النظرات بينهما خاصة عندما أبصر احمرار وجه شقيقته... انفعل رغمًا عنه وهو يقبض على ذراعها بخشونة آلمتها لكنها كتمت تأوهًّا، هتف عيسى بحدة لم يقصدها كانت فقط ترجمة لانفعالاته الخاصة في الغيرة على شقيقته الوحيدة:
- العذر منك يا صالح.. احتاج للحديث مع شقيقتي.. وحدنا..
**
سارت معه بخطوات متعثرة في الممر الطويل المؤدي إلى الغرف، تتأمل الجدران من حولها، شقة غريبة لا تدري إن كانت تخص صالح أم شقيقها؟ لا فارق.. 
وصلا إلى أولى الغرف ففتح بابها بهدوء ودفعها للداخل فتعثرت حتى كادت تسقط، دلكت ذراعها المتألم من قبضته والتفتت تنظر إليه بوجه خالٍ من التعبير، وقف يرمقها بنظرة أثارت حيرتها وهو يكتف ساعديه أمام صدره، كأنه ينتظر تفسيرًا.. من منهم الذي عليه أن يفسر!
تساءلت بينها وبين نفسها.. والإجابة جاءتها أسرع مما تخيلت عندما رفع أحد حاجبيه بتساؤل فحدثت نفسها سِرًّا أنه رجل.. وليس عليه التفسير.. هي فقط من عليها الدفاع عن نفسها.. وفي تلك اللحظة كل ما أرادته ألّا تفقد شقيقها الوحيد، نعم فهي لا ترى أخًا غيره..
جلست على الفراش الموجود بالغرفة وأطرقت برأسها، تنفسها خرج على هيئة تنهيدة حارة وهي تضم جسدها بذراعيها، بللت شفتيها وبدأت تحدثه دون أن تنظر إليه فقط شعرت به يجلس على الفراش الآخر دون صوت:
- أعلم أنكَ غاضب.. وإنني أخطأت، لن ألومك على أي شيء تفعله لكن.. أنا لست نادمة..
ارتفع رأسه فجأة يرمقها مذهولًا فواجهته بنظرتها في تلك اللحظة وهتفت بقوة لم تكن تظن أنها تملكها:
- نعم لست نادمة، ليس لدي ما أخسره، عائلة؟ هم أول ناس أرادوا التخلص مني بعدما دمروا طفولتي بأفعالهم، أنت! تركتني وتخليت عني حتى لو كان مجرد تمثيل مؤقت.. لكن يكفي ما شعرت به عندما وجدت رحلت!! عندما رأيتهم يسعون لدفني حية تحت مسمى زواج!! ماذا أردت مني أن أفعل!!!
صمتت للحظات تنتظر إجابته لكنه ظل صامتًا يحدق في وجهها بوجوم فأكملت بارتجاف:
- لو عاد الزمن بي مرة أخرى سأفعلها، سأركض خلف سعادتي.. لن أتنازل من أجل أحد..
اختنق صوتها بغصة ابتلعتها غصبًا وهي تنهض لتقترب منه، تهمس ودموعها تنساب:
- كنت سأموت لو تزوجت غيره يا عيسى، أنت أخي وأعلم الناس بحالي.. هل كُتب عليّ أن أبقى تعيسة طوال حياتي؟ هل كنت ترضاها لي؟
اختلجت عضلة في فكه، حاول مدارة تأثره، على الرغم من سعيه للأمر إلّا أنه تمنى للحظة أن تتراجع، ليس سهلًا عليه ولا على أي رجل أن يتقبل فكرة هروب شقيقته برفقة رجل آخر حتى لو كان هو من خطك لذلك، هل لم تكن تعلم.. كان يريدها أن ترفض.. تقاوم.. لكنها لم تفعل.. 
هل يتعجب! هي محقة، ابن عمهما لا فارق بينه وبين والده إلّا في الاسم والعمر، كان سيُحيل حياتها جحيمًا كأنها لم تكتفِ من العذاب طوال حياتها.. لم يعِ لنفسه إلّا وهو يرفع يديه ليحتضن وجنتيها يمحو أثر الدموع، وضمها إلى صدره فارتفع صوت نحيبها وهي تتشبث بملابسه بقوة، بدلًا من لومها وجد نفسه يعتذر.. يعتذر عمّا عرضها له.. عن صفعه لها.. عن هروبه في أشد أوقاتها احتياجًا له، أبعدها عنه وهتف بحنو وهو ينظر في عينيها:
- سامحيني يا فرحة.. لم أكن لأتركك لهم أبدًا، أنتِ لستِ شقيقتي فقط دومًا أشعر بكِ كأنك ابنتي.. 
ابتسمت من بين دموعها ولمعت عينيها بنظرة تخبره بها أنها تصدقه، كادت أن تتحدث لكن قاطعها رنين هاتف عيسى، ابتعد عنها يُخرج الهاتف، تغضن جبينه وهو يرى الشاشة تُضيء باسم غزل، لم يتردد لحظة وهو يجيبها محاولًا إخفاء شعوره بالقلق:
- غزل هل أنتِ بخير؟
بداخله أراد السؤال عن روح لكن لسانه لم يطِعه كي يفعلها فوجد نفسه يسأل عن غزل، إجابتها أشعلت القلق بداخله أكثر، كان يشعر أن مكروه قد أصابها فهتف بسرعة:
- تحدثي مع عُدي واعلمي منه عنوان بيت والدها، وأخبريني به سأتحرك حالًا..
لم ينتظر ردها واندفع خارجًا من الغرفة بسرعة..
***
بالخارج..
راقبهما صالح وهما يختفيان بالممر الطويل، نظرته تنطق بالقلق لكنه أقنع نفسه بالهدوء، عيسى الذي سعى معه لنجاح خطتهما لن يؤذيها، هو بنفسه قد رأى كم يحبها، شعر بالغضب عندما تذكر صفعه لها، ليته استطاع منعه، زفر بضيق وهو يجلس على أحد المقاعد بالردهة ومسح وجهه بكفه متنهدًا بقلة حيلة..
"الصبر يا صالح.. الصبر.. بضعة أشهر وتصير زوجتك وبعدها لن تجعل شيئًا يمسها بسوء حتى لو نسمة هواء.. "
حدث نفسه بها بصوت مسموع وهو يتراجع للخلف ليستند على ظهر المقعد وعقله يشرد بعيدًا في ذكرى مكالمة عيسى له منذ عدة أيام عندما طلب مقابلته، لم يتردد لحظة في الموافقة وكأن قلبه أخبره أن في هذه المقابلة ستحقق حلمه الوحيد.. والبعيد..
عندما ذهب إليه هتف عيسى دون مقدمات:
- ما زلت تُريدها زوجة؟
هز صالح رأسه بسرعة وهو يجيبه:
- بالطبع!!
صمت عيسى للحظات وقد بدت على وجهه علامات التفكير وهو يستند على مقدمة سيارته وعينيه تبرقان بإصرار هاتفٍ بحزم:
- إذن.. استمع لما سأقوله لك جيدًا.
حينها أخبره ما عليه فعله.. أن يبتعد عنها في الفترة القادمة، لا يحدثها ولا يظهر أمامها وبعدها يفاجئها بطلبه الغريب وينتظرها كما اتفقا..
وكأن عيسى كان على يقين بأنها ستوافق حتى لو كان بها مخاطرة شديدة عليها.. انتفض من ذكريات على خروج عيسى المتعجل وخلفه فرحة تهتف باسمه بقلق.. استبد به القلق هو الآخر أن يكون حدث شيئًا سيئًا لكن عيسى جذبه من ذراعه بعنف وهو يهتف بينما يتجهان نحو الباب:
- تعالى معي..
ثم التفت إلى فرحة وهتف بحزم:
- أبقي هنا ولا تتحركِ مهما حدث لن نتأخر..
ودون أي كلمة أخرى كان يجذب صالح مرة أخرى ليغادرا الشقة وفرحة تحدق في أثرهما بتعجب!!..
***
توقفت سيارته أسفل البناية التي وصفها لهم والد عُدي في نفس اللحظة كانت غزل قد وصلت هي الأخرى، ترجل كل منهما من السيارة وظل صالح ينتظره كما طلب منه، تبادلا النظر بقلق حينما رأوا تجمهر بعض الناس أمام البناية، لم يفكر عيسى وهو يتجاوز البشر المجتمعين ويصعد درجات السلم بسرعة وتتبعه غزل، قلبه يخفق بعنف وهو يهرول على الدرج حتى وصلا إلى الباب المفتوح الذي اختفى خلف جموع الناس من ساكني البناية..
يشق عيسى  التجمع بجسده حتى أبصرها، تجمد جسده واتسعت عيناه بصدمة، أما غزل فأطلقت صرخة وكتمتها بيديها، نائمة على الأرض تضم ركبتيها لصدرها، ملابسها ممزقة وجسدها شبه عارٍ ووجهها يغطيه الكدمات، والدها مسجي على الأرض فاقدًا للوعي والدماء تسيل من رأسه، ظل يحدق بها مذهولًا غير قادر على الحراك، يسمع هذيانها لكنه لا يفهم منه شيئًا، عيناها ثابتتان على الفراغ ولسانها يردد كلمات غير مفهومة حتى وصل إلى مسمعه جملتها الأخيرة وهي تتحرك:
- سامحني يا أبي..
استندت على نفسها لتعتدل ولم تبالِ بملابسها الممزقة، لا تعي لكل ما حولها، عيناها زائغتان وهي تتحرك ومدت يدها فجأة لتقبض على السكين الملقى على الأرض.. لا تعي لما تفعل.. لا تبصر أمام عينيها إلّا لون الدم، صوت داخلي يصرخ فيها أن تنفذ ذلك، أن تطعنه حتى الموت، هو يجب أن يموت.. من مثله لا يستحق الحياة!!! في تلك اللحظة تحركت نحوه وهي ترفع السكين..
حينها انتفض عيسى وركض نحوها قبل أن تصل إلى جسد والدها وتطعنه كما خمن، يجثو على ركبتيه وقبض على ذراعيها يُبعدها وهو يصرخ فيها كي تفيق مما تفعل لكنها كانت كالمغيبة، تقاومه بشراسة وتتلوى بجسدها في محاولة عنيفة لتصل إلى جسد والدها الفاقد للوعي، حاول عيسى أن يطوقها بذراعيه وغزل تقف بعيدًا متسعة العينين وقلبها ينبض برعب.. ساقي
ساقاها لا تساعدها على التقدم بل كادت تسقط من فرط الهلع ودموعها تتساقط بغزارة وهي ترى الحالة الهستيرية التي وصلت إليها روح، الفتاة فقدت عقلها وتحاول قتل والدها!!!
اتسعت عينا غزل بفزع وهي تسمع صرخة عيسى المتألمة والنصل الحاد يشق كتفه بجرح عميق والدماء تنفجر من كتفه، شعر بألم حاد فأطلق صرخة أفزعت الواقفين كأنهم يشاهدون فيلمًا ولم يتدخل أحد ليسعف الرجل الذي يكاد يلفظ انفاسه، فلم يعِ لنفسه إلّا وهو يصفعها بقوة صارخًا بعنف امتزج بنبرته المجروحة:
- أفيقي يا روح أفيقي ما الذي تفعلينه!!!
سكن جسدها وساد صمت طويل، سقطت السكينة من يدها وشهقت بعنف وهي تتراجع للخلف حتى سقطت على ظهرها وهتفت بهذيان:
- ماذا فعلت!!!..
نقلت عيناها بين جسد والدها وعيسى الذي كان يضغط على جرحه وغزل التي اقترب هي الأخرى لتساعده وهتفت بصدمة زهي ترفع كفيها تغطي بهما وجهها:
- ماذا فعلت!!
تحامل على نفسه كي يخلع سترته وتحرك ببطء حتى وضعها على جسدها ليغطيها به، والتفت برأسه صارخًا في الجمع المتفرج بأن يذهبوا من هنا أو يساعدون الرجل..
استفاقت غزل من صدمتها و أخرجت هاتفها لطلب الإسعاف بينما روح تجلس متسعة العينين ودموعها تنساب دون إرادة منها حتى أنها لم تشعر بذراع عيسى السليم الذي التف حولها يضمها دون وعي كأنه يخفيها عن العالم، ثقل رأسها وقد جاهدت كي تتشبث بوعيها لكنها فشلت.. لتسقط في دوامة ليبتلعها ظلام طالما طاردها..
***
في المشفى..
تقف غزل في الرواق بجانبها عُدي ووالده الذي أصرا على القدوم كي يطمئنوا على روح، أما صالح فأبتعد ليهاتف فرحة ليطمئن عليها ويطمئنها بكلمات بسيطة دون أن يخبرها بما أصابه..
كانت غزل في عالم آخر وحدها، لم تشعر بتألم قلبها من قبل بهذا الشكل، الحياة قاسية.. دومًا كانت تظنها كذلك عليها وحدها.. ولكن عندما شاهدت روح اليوم أدركت أن ما كانت به لم يكن سوى قطرة في بحر المآسي التي يمر بها البشر يَوْمِيًّا.. الدموع ما زالت تغرق وجهها، وجدت نفسها ترفع بصرها لفوق وتهمس -بحمد الله- على ما هي فيه.. الليلة تغيرت نظرتها للأمور.. لم تعد ناقمة على حياتها كما في السابق
ما حدث اليوم كان أشبه بصفعة إفاقة بالنسبة لها، لعل وحدتها كانت أهون عليها مما تعرضت له روح منذ ساعات..
انتزعها من شرودها خروج الطبيب من الغرفة فاقتربت منه كي تطمئن على عيسى، تنفست بارتياح عندما أخبرها أنه بخير ويمكنها رؤيته..
طرقت الباب برفق و فتحته ليطالعها جسد عيسى المغطى بالضماد وقد اعتدل جالسًا في محاولة لارتداء قميصه الملطخ بالدماء، اقتربت منه بسرعة قائلة بخفوت:
- حمدًا لله على سلامتك..
ابتسم لها بضعف.. ابتسامة لم تصل لعينيه وهمس:
- سلمك الله من كل شر
- إلى أين تذهب؟
هتفت بها بتعجب وهي تراه ينهض رغم فشله في ارتداء القميص فأجابها باقتضاب:
- أريد رؤية روح..
دفعته برفق كي يجلس فتأوه بخفوت فهتفت غزل بحزم:
- أبقى هنا لتستريح، روح بخير الطبيب أعطاها مهدئًا وأوصاني بعرضها على طبيب نفسي..
ثم صمتت للحظات فنظر لها بتساؤل عندما التقطت عيناه الحيرة في عينيها فأردفت بخفوت متردد:
- عندما استيقظت من إغمائها كانت تهذي بأنها طعنت والدها وقتلته..
- لكنها لم تفعل!!
قاطعها عيسى بحدة ممزوجة بقلقه فهتفت بجدية:
- أعلم.. الطبيب يظن أنها تهلوس.. لذا سأعرضها بنفسي على طبيب..
أطبق عيسى شفتيه بقوة كاتمًا تَأَوُّهًا كاد أن يغادر حلقه، يشعر بنفسه عاجزًا، شعور الغضب يتفاقم بداخله وهو يتخيل ما تعرضت له من والدها، لا يعرف حكايتها جيدًا لكنه قد سمع همسات بعض الجيران عن والدها.. ومع ذلك يرفض التصديق.. لا يريد التفكير في شيء الآن.. تمالك نفسه وكبت شعوره بالغضب والعجز ورفع عينيه وسألها بتردد:
- والدها؟
لم يستطع أن يكمل الجملة، يخشى الإجابة بقدر خشيته عليها، بقدر شعوره بها.. الذي لا يفسره حديث أو منطق.. ولا يريد له تفسيرًا الآن..
تنهدت غزل وهزت رأسها وهمست مطمئنة:
- لم يمت.. نزف كثيرًا لكنه حيٌ يرزق.. الحمدلله..
تنهد بارتياح واغمض عينيه بتعب لكن هذا الهدوء لم يدُم طويلًا عندما همست غزل:
- روح كانت تتناول أقراص دواء تخصني..!!!
***
يتبع... الجزء الثاني والخاتمة الأسبوع القادم.

خلف قناع العادات، كاملة (مستوحاه من احداث حقيقية)Where stories live. Discover now