الفصل الثاني والعشرين ج٢

415 17 1
                                    

الفصل الثاني والعشرين ج٢

- كيف عرفتِ؟
تساءل عيسى بوجوم فأجابت غزل بعدما تنهدت بعمق:
- دوائي اختفى منذ عدة أيام لكني لم أهتم.. أظنها تناولته كي يساعدها بدلًا من الذهاب إلى طبيب كما طلب منها عُدي ذات يوم..
أغمض عيسى عينيه بتعب والقلب ينعصر بألمٍ عليها، لا يدري ماهية شعوره لكن ما يعرفه أنه يحتاج أن يبقى بجانبها، أن يحميها من أي شيء.. دون مسمى.. أو كلمات واهية لا تصف ما يشعر به بحق!
تتأمله غزل بحزن صادق، ترى في عينيه وعلى ملامحه الحيرة والتعب، يتخبط بمشاعره المبهمة تجاه الفتاة، هذا ما يشعر به رغم ما عرفه عن والدها، لكنه لم يعرف تفاصيل.. يتغضن جبينها بألم وعقلها يصل إلى تلك النقطة.. ماذا سيكون رد فعله لو علمَ المتبقي من الحكاية!
هي ترى في عينيه نظرة حيرة.. يشعر أن هناك حلقة مفقودة، وحدت نفسها تربت على كتفه السليم هامسة برفق:
- لا تجهد عقلك بالتفكير.. غدًا كل شيء سيكون بخير.. الآن يجب أن ترتاح..
تنهد عيسى وهو يهز رأسه رافضًا وهتف بجدية:
- يجب أن أعود للبيت لقد تركت فرحة وحدها لفترة طويلة..
على ذِكر فرحة تذكرت صالح المنتظر بالخارج، لا تفهم سبب وجوده مع عيسى في هذا الوقت خاصة إن عُدي قد أخبرها أن والد فرحة رفض زواجها منه ولم يعد هناك أملًا في قصتهما.. رفع عيسى رأسه إليها وجدها تنظر له بتساؤل لم ينطق لسانها به، لكنه كان في غنى عن أي حديث الآن فحدثها وهو ينهض ببطء:
- أعلم ما تفكرين به، أعدك أن أخبرك بكل شيء ولكن ليس الآن..
ابتسامة جانبية ترتسم على وجهها وهي تميل برأسها قليلًا ويتحرك معها شعرها وهتفت بنبرة ماكرة:
- سأنتظر.. ما زال بيننا حديث لم ينتهي..
يبتسم لها بامتنان، غزل الوحيدة التي عرفها تستحق لقب صديقة.. ولن يجازف بخسارتها مهما حدث..
***
وصلت غزل إلى بيتها بعدما تأكدت من سلامة روح ومغادرة عيسى، أما عُدي فرفض أن يغادر قبل أن تستيقظ ويطمئن عليها، على الرغم مما حدث إلا أن مشاعره تأبى المغادرة، قد يكون تقبل أنه لن يكون بينهما شيء لكنه سيظل ممتنًا لتلك اللحظات التي جمعته بها..
سارت نحو غرفتها بتثاقل وخطواتها تتباطأ أمام الغرفة التي كانت تحتلها "روح" في الأيام الماضية، دارت بعينيها في المكان، لكنها لم تدخل، تشعر بالذنب لأنها لم تكن رقيبة عليها بما يكفي، لكن في النهاية هذا قدر.. كان سيحدث شِئنا أم أبينا..
تنهدت وهي تعاود غلق الباب قبل أن تسرع في خطواتها تجاه غرفتها، ألقت بجسدها على الفراش تتأوه بتعب، اليوم كان طويلًا ومرهقًا، على الرغم من غرابة أحداثه إلا أنه أيقظ فيها شيئًا ظنته قد مات... شعور الرضا...
كانت تحتاج لتلك الصفعة كي ترضى بحياتها.. هي تمتلك الحياة الأفضل.. ليس هَامًّا إذا كانت خسرت عملًا وحبيبًا، رغم كل شيء هي تهورت بقبولها العودة إليه.. كانت أشبه بغريق يتعلق بأي شيء لعله ينجو لكنها اكتشفت أن المنقذ.. أسرعَ من رحلتها نحو القاع..
ولم تكن تدرك أنها تلقي بنفسها في بئرٍ عميق لن تصل إلى نهايته إلا بتحطيم عظامها..
هي.. غزل المهدي.. لا تترك حقها حتى لو اكتشفت نفسها من جديد، فقط تنفذ ما أرادته وبعدها تمضي في حياتها.. تبحث عن عمل آخر.. تجمع ذكريات أخرى.. ومن يعلم.. لعلها تحصل على شخص يحبها حقٌ، دون خداع أو تزيف..
تبتسم بشجن وعقلها يوبخها على أحلامها الساذجة، الحب ليس إلا سراب نركض خلفه وعندما نصل إلى نهاية الطرق نجد أننا قد ضللناه..
تنقطع أفكارها على صوت رنين هاتفها برسالة جديدة، تعتدل كي تخرجه من حقيبتها وتفتح الرسالة، تمرر بصرها على محتواها وعينيها تلمعان بنصر.. وابتسامة ماكرة ترتسم على شفتيها وهي تتنهد مغلقة الهاتف.. تتسع ابتسامتها وهي تعاود التمدد مرة أخرى هاتفة بتشفٍ:
- انتهت الجولة الأولى.. ما زالت الحرب مشتعلة.. يا نديم..
*****
تتفقد بقعة أحمر الشفاه التي لطخت جزء صغير جِدًّا من قميصه، عيناها جامدتان تحدق فيها بنظرة مظلمة، داخلة يشتعل كجمرة تحرق من على بُعد أمتار، اختلجت عضلة في فكها تحاول كبت انفعالها ومدارة شعورها المؤلم حتى عن نفسها، ترفع قميصه ببطء إلى أنفها، تستنشق رائحة العطر النسائية الصارخة المعروفة التي امتزجت برائحة عطره الهادئة التي تناقض جموحه الخاص..
هذا هو نديم، لطالما كان غريبًا متناقضًا، يجمع بين الصفة وعكسها بشكل خانق، لكنها ومع الأسف.. أحبته..
أحبت هالة الغموض التي تحيط به، كبرياءه الذي فتنها، ابتسامته، تناقض أفعاله، كل ما فيه كان يبهرها.. كبريق الماس في الوهلة الأولى.. مع مرور الوقت أنطفئ البريق، وخمدت شعلة العشق التي طالما أحاطت علاقتها به.. هل كرهته؟ لا.. لم تصل معه إلى مرحلة الكره بعد.. هي الآن أشبه بقنبلة على وشك الانفجار..
تترك القميص ليسقط في سلة الملابس، تستدير مغادرة الحمام وهي تضع يدها على ظهرها والأخرى تربت بها برفق على بطنها المنتفخة في شهرها الثامن، دخلت غرفتها بعدما تأكدت من نوم طفلتها واقتربت من الفراش تجلس عليه بهدوء وعيناها مثبتة على جسده المسترخي محدقًا في السقف بشرود.. ترى ما الذي يشغل عقله! تساءلت في نفسها دون أن تجرؤ على النطق بها.. تمدت بجانبه بصمت.. لم يشعر بها.. كعادته منذ عدة أشهر، تباعده قد ازداد رغم علمها بانتهاء علاقته من تلك الفتاة الذي كان يصاحبها منذ فترة طويلة..
نعم.. هي تعلم.. قائمة خياناته ومغامراته.. تعرفها جيدًا.. تكاد تحفظها عن ظهر قلب، ألم تكن هي أحدهم ذات يوم؟..
تنقل بصرها إليه مرة أخرى، تدقق في ملامحه بحنين، تبحث فيها عن الشخص الذي عرفته لكنه لم يعد هنا، كل شيء تغير فيه إلا تلك العادة للتي من الواضح أنها تسري في شرايينه كالدماء، الخيانة..
هذا طبعه الذي تقبلته بصمت.. لا هو يعلم أنها تعرف عن علاقاته.. ولا هي تتحدث أو تثور..
وكأن كل ما فيها قد تبلد بزواجها منه.. أم ترى عقدة الذنب التي باتت تطاردها منذ ليلتهما الأولى هي التي تجبرها على صمت.. حتى لو كان ما حدث ليس بيدها لكنها تظل ضلعًا في المعادلة ...
ومع العودة للماضي شردت عينيها في لقائهما الأول... حديثه معها... اقترابها منه على استحياء... حديثهما الذي طال لساعات ثم لأيام وأسابيع... قص فيها كل ما يتعلق بحياته، أخبرها عن كل شيء... ظروفه الصعبة... وفاة والده.. أحلامه وطموحاته.. الفتاة التي يرتبط وعلى وشك الانفصال لأنهما غير متفاهمين..
تذكرت حديثهما في هذا اليوم.. كم بدا حزينًا وهو يسرد لها تفاصيل علاقته بتلك الفتاة وكيف تنتقص من قدره دائمًا ولا تقدر ما يفعله لأجلها.. حتى عندنا طلب منها أن يتقدم لخطبتها رسميًا رفضت.. لذا أخبرته سارة في هذا الوقت بهدوء ناقض الصخب الذي اشتعل بداخلها:
- ما دامت لا تقدر مجهودك.. انفصل عنها وأبحث عن من تحبك حقًا..
وكان لها ذلك.. بعد أسبوع واحد تقدم لها نديم رَسْمِيًّا.. وبدون تردد وافقت.. وافقت على الرغم من علمها بحبه لأخرى.. وافقت على أمل أن تتبدل مشاعره.. أخبرها أن مشاعره تجاه تلك الفتاة لم تكن سوى وهم عابر مسمى بالحب الأول.. وهي.. هي من استطاعت أن تبدل حزنه لسعادة.. وتزوجته..
خنقتها غصة.. وقبضة قوية اعتصرت قلبها وهي تتذكر تلك الأيام، لطالما شعرت بشيء خاطئ، هناك حلقة مفقودة.. لماذا لا تشعر بسعادتها كاملة!
حتى اكتشفت خيانته.. الأولى.. والثانية.. والثالثة والكثير حتى باتت لا تعرف عددها..
حتى عرفت مؤخرًا أنه عاد ليراسل حبيبته الأولى.. وإنه ما زال يُحبها.. لكنها اتبعت النصيحة المعروفة.. سيدور دورته ويعود لبيته وزوجته.. وهذا ما حدث.. لقد عاد.. صحيح أنه ما زال متباعدًا قليلًا لكن كل شيء قد يعود كما كان..
تنهدت وهي تفكر أن مع تعدد خيانته لها تذكرت "غزل"، ولوهلة ظنت أن الله يعاقبها على فعلتها.. لكنها لم تكن تعلم الحقيقة.. لم تكن تعلم أنه لا زال يحبها.. لقد قرأت محادثات بينهما.. وفهمت أن الأمر لم يكن كما أخبرها.. وكم ندمت..
دمعة سقطت على وجنتها فمحتها بسرعة وهي تلتفت إليه فوجدته ينظر إليها، ابتسمت له بارتجاف فبادلها الابتسام بلا روح.. اقتربت منه تضع رأسها على صدره فضمها بذراعه مقبلًا قمة رأسها، نحت كل أفكارها جانبًا، ركزت على تلك اللحظة فقط هامسة بصدق:
- أنت بخير؟
- نعم.. ما دُمتِ بجانبي أنا بخير..
يُجيبها بخفوت فهمست مرة أخرى وهي ترفع بصرها إليه قائلة بحب:
- أحبك..
- أنا أيضًا..
يهمس بها شاردًا وصورة أخرى تتشكل أمام عينيه وأردف بحنو:
- أحبك كثيرًا..
...
في اليوم التالي..

خلف قناع العادات، كاملة (مستوحاه من احداث حقيقية)Where stories live. Discover now