الفصل السابع عشر

263 19 6
                                    

الفصل السابع عشر
...
- مرحبًا، شهريار عصره قد قرر أن يقتحم منزلي في منتصف الليل ليطرب أذناي بقصيدته المعتادة.
تهتف بها ساخرة وهي تكتف ذراعيها أمام صدرها وتستند على حافة الباب رافعة أحد حاجبيها باستهزاء..
دفعها بعنف حتى كادت تسقط على ظهرها من شدة الدفعة، صفق الباب بقوة اهتزت لها الجدران..
 تمالكت نفسها قبل أن تسقط وهدرت محتدة:
- هل فقدت عقلك!!!
- نعم فقدته هل يريحك ذلك!!!
يصرخ بها وهو يقبض على ذراعيها معتصرًا كلاهما بشدة جعلتها تتألم مصدره تأوه خافت، صاح نديم بغضب دون أن يأبه بصوته المرتفع في هذا الوقت من الليل:
- كيف تتركيني خلفك هكذا كأنني مجرد قمامة ولست زوجك!!!
خلصت ذراعيها منه بصعوبة كاتمة ألمها وتراجعت للخلف وعيناها تبرق كقطة تستعد للهجوم على عدوٍ لها وهتفت بحدة:
- كما تركتني أنتَ في السابق.. هل تألمت؟ هل علمت كيف يكون هذا الشعور!!!!
حدتها امتزجت بوجع مضى لكنه ما زال يترك أثرًا في روحها لم يزُل..
كان يرمقها بجمود على الرغم من اشتعال صدره، وتوتره قد بلغ أقصاه، في الحقيقة هو أراد أن يستخدم أسلوب "قلب الطاولة" كي يشغلها عن أمر حمل سارة الذي لا يعلم كيف وصل لها!! لكنه نسى تمامًا أنه لو استخدم ذاك الأسلوب مع غزل سيجد الطاولة ترتطم بوجهه..
يعترف أنه يخشى فقدانها، يخشى أن تعود حياته دونها..
يخشى أيضًا أن يفقد طفليه..
لم يكن يخطط لإنجاب آخر من سارة لكنه حدث، في النهاية هي زوجته ووالدة ابنته..
في النهاية هو لا يريد خسارة كلاهما، يريدهما معًا...
سَمِّ هذه أنانية سَمِّهَا كما تشاء لكنه لن يتحمل خسارة أي منهما...
يراقب اشتعال ملامحها بترقب، ثائرة.. قوية.. لا تخضع بسهولة..
كما أحبها تمامًا..
مع الوقت اكتشف أنه يعشق ذاك الوجه منها، هي نفسها لا تنجح في اصطناع دور الخنوع أبدًا، تفقد السيطرة على تصرفاتها وردود أفعالها..
إحساسه بها متناقض فكيف له أن يريدها خاضعة له في ذات الوقت يفضل قوة شخصيتها التي تتصدى له..
طال صمته فرمقته بسخرية وجلست على الأريكة واضعة ساق فوق أخرى، تمرر بصرها عليه من رأسه حتى أخمص قدميه وهتفت بنبرة باردة لو ترك العنان لو خوفه لجمدته:
- هل ستقول مبرراتك أم سنظل نتأمل بعضنا كثيرًا؟
زفر بضيق ومسح وجهه بكفه واقترب منها جاثيًا على ركبتيه أمامها محتضنًا كفيها بين راحتيه، انتقلت عيناها تتأمل احتضانه لكفيها، نظرتها جامدة، نجحت في إخفاء ارتجافتها الداخلية..
لقد ولى زمن الضعف، حان الوقت لتستيقظ من غفوتها، فلتنتشل نفسها من القاع قبل أن تُدنس روحها أكثر..
كانت أنانية عندما ظنت أنها قد تكون سعيدة على حساب امرأة أخرى..
لكن ما حدث كان أسوأ مما توقعت، كل لحظة تمر عليها تشعر فيها بالسعادة كانت تمتزج بغصة تخنقها، طعم مر كالعلقم عالقًا بداخلها ينغص عليها أي فرحة..
كانت تعلم نهاية الأمر منذ البداية فلمَ أصرت على خوض دربٍ لا طائل لها منه سوى الألم؟
قاطع تأملها هامسًا بنبرة دافئة كانت لتسحره في وقتٍ آخر:
- غزل.. أنتِ تعلمين أني لم أحب غيرك، ما حدث كان خطأ رغمًا عني..
نظرتها مثبتة على ملامحه وهو يتحدث دون رد فعل فاستغل صمتها وأردف وهو يقبل كفيها بشغف:
- سامحيني يا غزل، أقسم لكِ كان خطأ غير مقصود، لننسى ما فات ونكون معًا كما كنا..
للعجب لم تتأثر كعادتها، لم تهتز بها شعرة وكأن جليدًا غلف روحها وجسدها، ملامحها خالية من أي تعبير، وعيناها فاقدة للحياة..
كل شيء بها جامدٍ ما عدا حركة أنفاسها الرتيبة..
كان يظن أنه سيؤثر عليها بسهولة لكن ما يراه الآن أحبطه..
تسحب كفيها منه بهدوء، تلمس خصلات شعره بأناملها وتمسح عليه برفق وتهمس شاردة:
- أتذكر حينما تركتني في المرة الأولى ما كان السبب؟
- غزل!!
يقولها باعتراض ضعيف فتضع يدها الأخرى على شفتيه برفق لتسكته وتكمل بخفوت متألم:
- تسألت كثيرًا لمَ؟ لم أجد أي إجابة، حينما أخبرتني أنتَ السبب أيضًا لم أقتنع، أخبرتني أنني كنت أتعمد إيلامك على الرغم من أنه لم يحدث قط، بل أنت من حاولت تغييري لشخص لا أعرفه، وها قد نجحت الآن..
تنتقل ببصرها إلى عينيه وتهمس بنبرة تائهة بشفاه مرتجفة:
- من أنا؟ لم أعد أشعر أنني غزل التي اعتدتها، أنت حطمت فيَّ الكثير، وقد حان الوقت لأنقذ نفسي قبل أن أغرق أكثر...
يعقد حاجبيه بشدة ويهز رأسه بعدم فهم فتدفعه برفق ليبتعد عنها، نهضت وسارت نحو صورة والديها الموضوعة بشكل معكوس، تحدق فيها دون أن تجد القدرة على رفعها والنظر إليهما وهمست تكمل تحدثه دون أن تلتفت له:
- في الحقيقة أنك أناني يا نديم، ظلمت زوجتك.. ودفعتني لأكون شريكة في ظلمك لها، حولتني لامرأة لا أعرفها.. لشخص كرهته.. لكن.. سأظل أنا الأخرى أتحمل الذنب مثلك تمامًا..
صمتت للحظات وهي تقاوم انهيارًا وشيكًا، لا تبغي أن يراها ضعيفة...  
أردفت بنبرة قوية وهي تلتفت له وتضرب على صدرها بقبضتها بعنف:
- أنا من أبخست بحق نفسي، وأنت جعلتني حتى لا أرتقي لمرتبة عشيقة، كأنك تتفنن في إبراز كوني عاهرة تتمتع بجسدها ليلًا لتتركها في الصباح عائدًا إلى من ارتضيت بها زوجة في العلن، تنجب منها طفلًا واثنين، بينما أنا امرأة الظل!!!
بح صوتها حتى أختنق بغصة واختفت قوة صوتها، لم تبكِ، دموعها جفت منذ فترة، يكفيها ضعفًا...
هي من قَبِلت على نفسها وضعًا مشبوهًا لا يرقى بفتاة محترمة.. إذن فلتحتمل عواقب فعلتها..
أو فلتصحح خطأها قبل أن تظل معلقة في منتصف جسرٍ يحترق من كلتا الجهتين..
لتلقي نفسها في البحر أهون عليها من العيش محملة بذنب أخرى ليس لها ذنب سوى أنها وثقت في رجل لا يستحق..
اقترب منها حتى صار في مواجهتها فأكملت دون أن تعطيه فرصة:
- أنا أيضًا كنت غبية لأني صدقتك، صدقت أنك من حقي، وفي الحقيقة كنت مِلكًا لها هي، هي زوجتك.. أما أنا.. فنزوة يجب أن تنسى..
اتسعت عيناه مذهولًا فتبسمت ساخرة وهي تضع كلتا يديها على كتفيه وتحركهما ببطء جعل جسده يشتعل دون أن تقصد وحدثته بخفوت:
- لا تتعجب، قررت أن أعفيك من مشقة الطريق الطويل وأنا أعرف نهاية دربي جيدًا.. مهما طال بينا العمر سيأتي يوم وتخبرني فيه أنني لم أكن سوى نزوة.. لماذا؟ لأنك تحب أن تملك كل شيء، الحب.. والزوجة.. والأبناء.. والمال..
- غزل ما تقولينه هراء، لن أتركك مهما حدث، أنتِ هي زوجتي وحبيبتي ولا أريد غيرك..
قاطعته بحدة وهي تبتعد عن مرمى بصره:
- كاذب، ألم تكتفي من كذبتك تلك؟ لقد مر عام يا نديم، عام كامل من عمري دون أي تقدم، ظاهريًا متزوجة.. الأقربون كلهم يعرفون ذلك.. لكني ما زلت أحني رأسي خجلًا من وضعي معك.. سئمت حديث صديقاتي عن ضرورة إعلاني لزواجي للجميع، أني مخطئة لأني وثقت بك، سئمت.. لن أحتمل أن يأتي اليوم وأسمع فيه بأذنايّ كلمة "خاطفة رجال"!!!!
تصرخ بجملتها الأخيرة بكل ما أوتيت من وجع فحاول تطويقها بذراعيه وهي تهز رأسها بعنف هامسة بضعف:
- لن أحتمل.. لا أريد تحمل ذنب أطفالك.. أنا سيئة.. لا أريد..
تدفعه مرة أخرى وتمسك كوب الماء وتلقيه بقوة ليرتطم بالحائط متهشمًا وهي تصرخ بألم:
- سحقًا لي ولوحدتي التي جعلتني سيئة بهذا الشكل!!! لم تكن مبررًا لم تكن كذلك..
كان يحدق بها ذاهلًا، جسده تخشب وفقد القدرة على قول أي شيء، لم يرها منهارة بهذا الشكل من قبل، غزل تتخبط بأفكارها ولا تعي ما يحدث بالطبع..
على الرغم من أنها على حق - لكنه لن يعترف بذلك" يرى مصلحتها معه..
إنهما يحبان بعضهما، مهما كان الوضع.. زواج رسمي أم عرفي في كلتا الحالتين هي معه.. ما الذي يهمها أكثر من ذلك!!! يكفي أنه انتزعها من وحدتها..
راقبها تسير نحو المرحاض وغسلت وجهها ببعض الماء البارد كي تهدأ نفسها في محاولة واهية لأن تطفئ الجمر المشتعل بداخلها دون جدوى..
عادت بخطوات واثقة بعد لحظات ورسمت ابتسامة باهتة وباردة على شفتيها وجلست تستند إلى ظهر الأريكة وأشارت له ليجلس بصمت فجلس دون اعتراض، تحدث نديم بهدوء حازم:
- لننسى كل الهراء الذي تفوهتِ به، أهدئي وفكري بعمق، الوضع أصبح صعبًا الآن، لا يمكنني أن أطلقها وهي تحمل طفلي، على الأقل ننتظر حتى تلد وبعدها سنعلن زواجنا للجميع..
أطلقت ضحكة ساخرة لم تستطع كبتها فتغضن جبينه هاتفًا بضيق:
- ما الذي يضحكك!!!
- أنت
تهتف بها ضاحكة وهي تميل لتستند برفقها على وسادة الأريكة وأردفت ببرود:
- حديثك يُضحكني.. وفي بعض الأحيان يصيبني بالاشمئزاز.. 
- غزل لا تتجاوزي!!!
يهتف بها مُحْتَدًّا بتحذير فتكلمت بنفس النبرة الباردة:
- لا تتلبس ثوب الرجولة الآن بينما تريد التخلي عن زوجتك وأولادك بسهولة كي تُرضيني!
ألجمته بجملتها كأنها صفعته، زم شفتيه بقوة فابتسمت غزل وقد أيقنت أنها أصابت هدفًا وأكملت بهدوء وهي تعبث بهاتفها:
- ستظل مشكلتك نابعة من أنانيتك، حينما تحجمها ستتحسن حياتك..
ساد الصمت للحظات وكل منهما يرمق الآخر بنظرة غامضة..
نديم يفكر في طريقة ليحل الأمر معها لكنه عاجز حَقًّا عن التفكير..
أما هي فأفكارها كلها كانت منصبة على التحرر منه، تريد تصحيح الخطأ الذي ارتكبته دون وعي، أرهقتها وحدتها فقررت التصرف بأنانية لعلها تنجو بنفسها من التخبط واليأس لكنها لم تحسب حسابًا أنها تحطم نفسها بهذه الزيجة...
- أنا لست أَنَانِيًّا...
هتف بها فجأة بحدة، ردت عليه بهدوء وهي تتناول ثمرة فاكهة من الصحن وتقطعها بالسكين:
- يكفينا هروبًا، ما دُمنا أخطأنا فلنحتمل العواقب..
أو نبقى عالقين في بئر ذنوبنا ما بَقِيَ لنا من عُمر..
تنهدت وهي تأكل بشهية مفتوحة لا تدل على ألمها وهتفت:
- لننهي الأمر دون أن نتعب بعضنا، لننفصل بهدوء يا نديم وتعود لحياتك وكأنني لم أقابلك قط، ما رأيك؟
- أنسي الأمر..
يجيبها برفض قاطع فزفرت بنفاد صبر ونهضت تجوب الردهة ذهابًا وإيابًا، نهض هو الآخر يراقب تَحَرُّكهَا بتوجس فتوقفت فجأة وهتفت مبتسمة:
- لنتفق، ما رأيك أن نخرج هذه الورقة هكذا..
تزامنٌ مع نطقها أخرجت نسخة العقد خاصتها من حافظة الورق أمام عينيه التي كانت تبرق بنظرة مظلمة تناقض ملامحه الجامدة وتوجسه منها، واقتربت منه حتى كادت أن تلتصق به، امتزجت أنفاسهما ولامست شفتيه ببطء، يديه لامست خصرها فابتعدت خطوتان، ومن نفس الحافظة أخرجت نسخة العقد خاصته الذي كان يتركها بمنزلها حتى لا تقع في أيدي زوجته..
تقدمت مرة أخرى حتى التصقت به، همست بنبرة مغوية وأنفسها الساخنة تلفح بشرته:
- ونمزقهما هكذا..
ومزقت كلا العقدين بحركة خاطفة حتى باتا فتاتًا وابتعدت عنه بحركة مسرعة، اتسعت عيناه بصدمة وصرخ فيها وهو يقبض على معصميها بقوة ويجذبها حتى ارتطمت بصدره:
- هل فقدتِ!!!! كيف تفعلين ذلك!!!
نفضت ذراعيها منه ودفعته بعنف في صدره وهدرت محتدة وقد وصل غضبها لأقصاه:
- بل عاد لي عقلي، الآن ينقصنا أن تلقي عليّ اليمين لننتهي من تلك المسرحية السخيفة فأنا سئمت منك ومن حقارتك..
اقترب منها بسرعة وطوقها بذراعيه ودفن رأسه بعنقها يقبلها بشغف وهو يهمس:
- لا لا.. لن استطيع  الابتعاد عنكِ، أنا أحبك أقسم لكِ لا تتركيني..
تحاول دفعه لكنه يحكم قبضته على يديها خلف ظهرها ويطبق بشفتيه على شفتيها، قاومته للحظات لكنها رضخت له في النهاية، حرر يديها لتحيط عنقه بهما، سقطا معًا على الأريكة وهو مستمر في العبث بمشاعرها، امتدت يده لملابسها، انتقلت شفتاه لوجنتيها وعينيها وعنقها، كانت ذائبة بين ذراعيه حتى أدرك أنها خضعت لسلطانه دون أدنى مجهود..
أبعدت يداها عن عنقه وامتدت لتلتقط شيئًا من على الطاولة.. كان سكينًا وبدون تردد رفعته لتطعنه به في كتفه..
صرخ نديم وانتفض ساقطًا على الأرض ضاغطًا على جرحه بألم، وهتفت بصدمة:
- هل طعنتني للتو!!!
- نعم
تهتف بها ببرود وهي تعتدل في جلستها فصرخ بها بغضب ممزوج بألم وهي يضغط على أسنانه بشدة:
- أنتِ مختلة!!!
ظلت ترمقه بنظرة حارقة وهي تتشبث بالسكين حتى ابيضت مفاصلها وتراقب الدماء التي أغرقت قميصه، تحامل نديم على نفسه ونهض مقتربًاًّ منها هاتفًا بصعوبة:
- ماذا حدث لكِ!!! هل ستقتلينني!!!
- الأخرى ستكون في قلبك لو لم تطلقني الآن...
تصرخ فيه بجنون وهي تلوح بالسكين أمام وجهه فتراجع للخلف بذعر واضح وهتف محاولًا تهدئتها:
- أرجوكِ اهدئي، سأفعل لكِ ما تريدين لكن أتركِ السكين..
تهز رأسها برفض وتخرج الهاتف من جيب سروالها، فتحته ووجهته أمام عينيه هاتفة بحدة:
- لو لم تطلقني سأرسل لزوجتك ووالدها عقد زواجنا.. ستخسر كل شيء.. وبعدها سأقتلك ليرتاح الجميع من حقارتك التي لا تنتهي..
لم تكن طعنتها عميقة أو خطيرة لكن نزيف كتفه جعله يخشى على حياته، هي لا تهدد بل تنفذ دون تفكير..
تردد قليلًا وهو يبتعد للخلف عدى خطوات، هز رأسه قائلًا بخفوت:
- حسنًا سأنفذ ما تريدين..
- حالًا..
تهتف بها بحدة، أغمض عينيه للحظات، يبتلع مرارة خسرته المؤقتة ويهتف بارتجاف:
- أنتِ طالق.. يا غزل.. أتمنى ألّا تندمين..
بسمة ساخرة ترتسم على شفتيها وهي تسير نحو باب المنزل وتفتحه بهدوء وتشير له كي يخرج والسكين ما زالت في قبضتها، مر بجانبها بتوتر وهو يرمقها بحذر خوفًا من أن تطعنه من الخلف فهي من الواضح قد فقدت عقلها حَقًّا..
وصل للباب وخرج منه والتفت لها فهتفت ساخرة بجملة شهيرة من أحد الأفلام:
- ربنا نجدها نوسة..
أبتعد خطوة واحدة بعيدًا عن الباب فصففت الباب بقوة جعلته ينتفض وهو يتمتم بذهول:
- مجنونة!!!
بالداخل.. زفرت غزل بارتياح وهي تستند على الباب مغمضة عينيها، لم تشعر بالألم الذي توقعته..
ظنت نفسها قد تنهار أو تضعف لكن إيمانها بتصحيح الخطأ كان أقوى من أي شيء..
قد تكون خسرت عذريتها.. وخسرت عامًا كاملًا دون جدوى لكن الأهم الآن أنها استيقظت من غفوتها حتى لو كان الأمر متأخرًا يكفي أنه حدث..
تمنت لو تُتاح لها الفرصة كي تعتذر إلى سارة على أنانيتها، على كل لحظة ألم مرت بها بسببها..
لكن تظن أن انسحابها من حياة نديم كافية كاعتذار لها..
فتحت عيناها ببطء، سقطت السكين من يدها وتنهدت وهي تسير نحو المرحاض لتغسل يديها من أثر الدماء، تراقب قطرات الماء المنسابة على يديها بشرود، قلبها يخفق بعنف وتتخيل لو كانت قتلته حَقًّا..
الفكرة تبدو مثيرة لكنها تفكر أيضًا في مستقبلها.. على الأقل لو أضاعته يكون على شيء ذي قيمة وليس نديم..
تعود للردهة وتقترب من صورة والديها، ترفعها ببطء لتواجههما بعينين دامعتين لكنها ابتسمت!
همست بصوت مختنق وهي تترك العنان لدموعها كي تتحرر من مقلتيها:
- تحررت يا أمي، ابنتك انتشلت نفسها من بئر الخطايا الذي سقطت فيه سهوًا.. سامحيني..
تصمت ملتقطة أنفاسها وأردفت:
- سامحني يا أبي.. لم أكن قوية كفاية.. لكني تراجعت.. أسندت نفسي كما علمتني.. أعلم أنني خسرت الكثير لكني ربحت نفسي.. أعدكما ألّا أخذلكما مرة أخرى.. مهما حدث
***
- صالح، أرجوكِ... أريد أن أطمئن عليك...
يقرأ رسالتها التي تداوم على إرسالها يَوْمِيًّا منذ شهر بملامح مظلمة ومتعبة، لا تيأس من عدم رده، لا تأبه بعزلته الذي أجبر نفسه عليها منذ ثلاثين يومًا..
يترك الهاتف مغمضًا عينيه بألم، عيناه تنتقل للصورة المعلقة على الحائط أمامه، صورته مع والدته..
مر شهر.. ولا يصدق أنها فارقت الحياة..
تركته فجأة دون مقدمات.. دون أن يودعها أو يضمها، دون أن تنظر له بحنانها وتربت على شعره..
لم تكن تتحدث لكن صوتها كان أشبه بترنيمة حفظها عن ظهر قلب من طفولته ومراهقته، لم يختفِ صوتها يومًا ما دامت على قيد الحياة..
لكنها الآن رحلت..
لم يجهز نفسه لهذا اليوم، برمج عقله على أنها ستبقى دومًا ونسى تمامًا أنها بشر مثل الجميع..
يمر الوقت.. وتفنى..
هكذا يكون ألم الفقد؟ كجمر مشتعل في الصدر، ندبة في الروح تؤلم لا تبرأ ولو بعد حين..
وفقدانه لوالدته كان أعظم ابتلاء مر به..
هي كانت الدرع الحامي رغم صمتها ومرضها، يكفي أن ترفع رأسها ناظرة للسماء في علامة للدعاء له، وجودها كان يمنع عنه الكثير من الأشياء السيئة..
رحلت..
يرددها بتشتت..
"أمي رحلت يا فرحة"
يتذكر رسالته الذي تركها لها بصوته يومها بعدها اعتزل العالم..
ينظر للخارج من خلف ثقبًا صغيرًا في روحه ولا يمتلك الجراءة على المضي خطوة واحدة للأمام..
عاد طفل صغير يتقوقع على نفسه حينما يخيفه شيء، تنساب دموعه بصمت وكبرياء رجل يخشى السقوط والاستسلام..
نزل الخبر على أذنيه كالصاعقة، استنكر، غضب، صرخ، بكى..
هز جسدها الفاقد للحياة بين ذراعيه يترجاها كي تستيقظ.. كي تعود.. كي تبقى..
دمعة ساخنة تنساب على وجنته وهو يتذكر دفنها..
ليلتها بات أمام قبرها كأنه فقد جزء من روحه..
هاتفه يهتز برسالة أخرى منها فيتذكر وجودها..
غائبة حاضرة..
يَوْمِيًّا تحدثه.. تواسيه.. تخبره أنها معه.. تنصحه بأن يدعو لها..
كل هذا دون انتظار رد منه..
وكل ليلة تختم حديثها برسالتها المعتادة..
تترجاه أن يجيب لتطمئن عليه..
مسح أثر الدمعة على وجنته وفتح هاتفه وقد قرر أن يجيبها..
فتح تسجيل صوتي وتنحنح بهدوء وتكلم بصوت كساه الحزن:
- سامحيني يا فرحة، أعرف أنني ابتعدت كثيرًا لكني مُتعب، لا يمكنني تصديق أنها رحلت.. رحيلها يمزقني..
أشعر بالوحدة، تمنيت لو كنتِ بجانبي لعل الألم يخف قليلًا، لكنكِ بعيدة، ولم أرد أن أُثقل عليكِ بهمومي..
أرسل التسجيل الأول وظهر أمامه أنها رأته، فتح واحدًاًّ آخر وتحدث بخفوت شارد:
- لعل الله وضعك في طريقي لتهوني عليّ صعوبة تلك الأيام، شكرًا لأنكِ لم تبتعدي رغم ابتعادي، شكرًا لأنك هنا..
لم ينتظر كثيرًا ووصله ردها بلهفة قرأها بين السطور:
- لا تقُل ذلك، ما يهمني أنكَ بخير.. أدعو لها يا صالح.
يجيبها بتسجيل آخر:
- لا يسعني إلّا الدعاء، أعتذر لكِ على غيابي الطويل، وعدتك منذ ٥ أشهر أن أسافر إليكِ لكنكِ تعرفين الظروف..
كلمته الأخيرة تخرج مختنقة ومهزوزة تؤلم قلبها، منذ خمسة أشهر كان يُجهز أوراقه كي يأتي إليها وكأن القدر يعاندهما..
عمله حدث به بعض المشكلات وكاد أن يتركه ولم يستطع إنجازها إلّا بعد ثلاثة أشهر..
وأضطر للسفر لمدة شهر وحينما عاد وجد والدته توفيت في نفس اليوم..
ها هو شهر آخر مر وهو غارق في أحزانه.. وعلى الرغم من ذلك يعتذر لها..
- أريد أن أُخبرك شيئًا لعله يسعدك...
يقرؤها فيعقد حاجبيه وأرسل لها بسرعة:
- أخبريني...
- أنا الآن أستطيع السير على عكاز... والآن أتدرب
- حَقًّا!!!
يرسلها والسعادة التي هجرته ترتسم على محياه، تؤكد له مع وجه يبتسم بخجل..
يدور حول نفسه بغرفته وضحكة خافتة تفلت منه، روحه كانت موزعة بين أمه وفرحة...
رحلت أمه وتبقت فرحة يتشبث بأمله بها...
يفتح تسجيلًا صَوْتِيًّا وصوته الذي كان مكسورًّا منذ دقائق صبغته الفرحة:
- مُبارك يا صغيرتي، حمدًا لله أنكِ بخير.. قلبي يخبرني أنكِ ستعودين بكامل قواكِ قريبًا.. وأنا أيضًا سأُنهي عملي المتوقف ومع بداية الشهر الجديد سأكون في مصر..
....
بعد شهر

خلف قناع العادات، كاملة (مستوحاه من احداث حقيقية)Where stories live. Discover now