الفصل العاشر

274 14 18
                                    

الفصل العاشر

تحتضن القلم بين أناملها المرتجفة، عيناها تحدقان في عقد الزواج أمامها  بشرود، تدوران على الكلمات بسرعة كأنها تحفظها...
زواجًا عُرْفِيًّا... مؤقتًا حتى ينهي زواجه من الأخرى فتنتهي معه لعبة زواجهما المزيف هذا وتبدأ حياتهما الحقيقية...
لا تدري إن كان قرارها صالحًا أم لا... لكنها اتخذته،
لمرة واحدة قررت أن تغتنم فرصتها في الحياة، تقبض على أحلامها ولا تستسلم لطوفان النصيب بكل سلبية... الضرر وقع عليها هي منذ البداية، وصوتًا أَنَانِيًّا بداخلها يخبرها أن نديم حقها هي، وسارة من سرقته منها...
بل بل وأن زواجهما محكوم عليه بالفشل من البداية...
ومضت...
زوجته... كلمة أرسلت رجفة على طول عمودها الفقري وارتجف معها قلبها فرحًا وخوفًا...
زوجته... كلمة تمنت لو سمعتها كثيرًا...
زوجته... نديم أصبح زوجها... وكمْ تمنت أن يقترن اسمها باسمه ذات يوم...
ابتسامة مرتجفة تظهر على ثغرها، وجيب قلبها يزداد ارتفاعًا عندما التقت عيناها بعينيه المحدقتين بها، عيناه تطوفان على ملامحها بشغفٍ كقائد انتصر في معركته للتو...
ارتجف جسدها تأثرًا بنظرته وكفيه يحتضنان راحتيها الباردتين ونظرته تزداد عمقًا فتبتلع ريقها بصعوبة محاولة السيطرة على ارتعاشها التي انتقلت له...
تتذكر شرطها الذي وضعته بعدما وافقت على زواجهما...
- زواجًا صُورِيًّا يا نديم...
لكنه لم يندهش، ولم يتفاجأ، بل أخبرها أنه لم يكن ينوي لمسها ألّا عندما تصبح زوجته رَسْمِيًّا أمام الجميع...
وهي أيضًا لم ترد أن يتم زواجهما سِرًّا فكان هذا الشرط الوحيد الذي قررت وضعه...
يقترب بوجهه منها فتغمض عينيها رغمًا عنها، تشعر بملمس شفتيه على وجنتها فيتجمد جسدها للحظات، ينتقل بشفتيه لوجنتها الأخرى، ثم جبينها، ثم جانب شفتيها فتشعر بجسدها يرتخي، تتنهد بعمق وتشعر بسخونة وجنتيها قد وصلت أقصاها، يديه يتركان كفها وينتقلان إلى خصرها فتشعر به كأنه يعزف ألحانًا بحركة أنامله عليه، قبلته تنتقل لشفتيها... تستسلم له للحظات تشعر فيهم أنها تحلق على سحابة وردية وجسدها يطفو بخفة فراشة، تتردد يداها ثم ترتفع لتحط على كتفه بينما إحدى يديه تزيح خصلات شعرها من على وجهها، تتعمق قبلته وهو يميل عليها فتشعر تميل للخلف فتنتفض مبتعدة عنه وتدفعه في صدره قائلة بحزم لم يخفِ ارتجافها:
- لقد اتفقنا..
وتركت جملتها معلقة دون أن تكمل، تبصر الخيبة في عينيه وهو يبتعد عنها معتدلًا في جلسته، اعتدلت هي الأخرى محتضنة نفسها بذراعيها في محاولة لتخفيف من ارتعاش جسدها المتزايد، تجمع شتات نفسها وتختلس النظر له فتجده يحدق في الفراغ قابضًا كفيه بقوة، خمنت أنه يحاول السيطرة على انفعالاته..
نهضت منتفضة بتوتر ملحوظ وهتفت باضطراب وهي تسير بتخبط دون أن تنظر إليه:
- سأعد لنا شيئًا نشربه..
أومأ لها مبتسمًا وهو يراقب خطواتها المبتعدة بشغف ودقات قلبه ترتفع بشكل مبالغ فيه، ما زال ملمس شفتيها الرطبة يغزوه فيشعره بالتشتت، يتنهد بحرارة وهو يمسح وجهه بكفه زافرًا بقوة هامسًا لنفسه:
- أصبر.. فقط قليلًا يا نديم وتصبح ملكًا لك.
عند هذا الخاطر ازدادت ابتسامته عمقًا، لا يصدق أن أحد أعظم أحلامه قد تحقق، غزل صبحت زوجته..
يحق له أن يجالسها، يعانقها وقتما شاء..
غزل زوجته..
وكم كان واقع تلك الكلمة عليه رائعًا..
يستند بظهره على الأريكة يراقب اقترابها المضطرب مما أدى إلى انسكاب بعضٍ من المشروب الساخن على كفيها لكنها تجاهلتها ووضعته أمامه بهدوء وجلست على بُعد خطوات ووضعت بينهما وسادة صغيرة، فابتسم مفكرٌ أنها هكذا تظن أنها تحتمي منه...
تنتقل عيناه للكوب الخاص بها فيجد كما توقع "شاي" دون حليب كما تحب أن تشربه، لم تتغير..
ارتشف القليل من المشروب الخاص به ثم التفت لها قائلًا متسائلًا:
- لديكِ عمل غدًا؟
أومأت بالإيجاب دون رد فأردف بنبرة مرحة جلبت الابتسامة لثغرها:
- لأول مرة أرى عروسًا تذهب للعمل صباحية زواجها.
اختفت ابتسامتها سريعًا وحلت مكانها نظرة زاجرة وهي تهتف له محذرة:
- نديم!!!
يضحك بخفوت ويقترب منها معانقًا كفيها ثم رفعهما ليطبع عليهما قبلة، ارتبكت أكثر وحاولت الابتعاد فهي لم تعتَد على ذاك القرب الحميمي منه ولا من أي رجل، مشاعرها ما زالت بكرًا، براعم أنوثتها لم تتفتح بعد فقط كانت تنتظره طيلة الوقت ليكون هو أول من يكتشفها، تشرد ببصرها في صورة والديها التي تحتفظ بها معلقة على الحائط فتشعر بهما يراقبانها، تهرب بنظرتها منهما كأنهما قبضا عليها بالجرم المشهود، تهمس متأسفة لهما سِرًّا دون صوت، وتمني نفسها بسعادة قادمة وابتسامة عينيها تعانق نظرة العشق البادية في عينيه...
..
تواجه صورتها في المرآة بعد رحيله بدقائق، لحظات قليلة تعري فيها روحها دون خجل أو تردد..
تخلع عنها رداء التظاهر الذي طالما تلبسته..
تتجرد من كل الأقنعة التي ارتدتها، وكل نبرة قوية صبغت بها صوتها..
لا تهتم بكونها ضعيفة أو قوية..
هي فقط.. غزل..
دون ألقاب.. أو صفات غريبة..
تحل عقدة شعرها فتتركه ينساب على كتفيها بحرية، تعبث فيه بأناملها بحركات روتينية..
تتأمل لونه الأسود الباهت.. فاقدًا لرونقه، تمامًا كحياتها..
لماذا تزوجته؟
السؤال يتردد بين ثنايا العقل طارقٍ أبوابها التي تخفت خلفها مستنكرًا ما هي عليه...
الإجابات تتوالى عليها دون هوادة فلا تجد مبتغاها بينهم...
لأنها تحبه؟
لا...
أم لأنها الأحق به؟
أيضا لا...
أم لأنه يسعى خلفها؟
أيضًا لا...
بل لأنها تحتاجه... بل تحتاج لأي شخصٍ يكون معها باستمرار...
تحتاج لمن تبدي له ضعفها دون خوف فيساندها...
من يربت على روحها المتألمة كل ليلة...
من تُلقي برأسها على كتفه في نهاية كل يوم، تُلقي معها كل الهموم التي تثقل كاهلها
لقد سئمت دور القوية التي لا تحتاج أحد...
لقد سئمت وحدتها وشرخ روحها الذي لم يبرأ بعد وفاة والديها.
لقد حان الوقت لتبحث عن من يحمل عنها قليلا...
ألان فقط تعترف أنها تحتاج إلى سند...
حائط صلب تتكئ عليه، يشاركها أفراحها وأحزانها...
يشاركها قسوة الحياة... بحلوها ومرها...
قلبها يؤيدها مهللًا بدقاته العالية التي تعانق اسمه..
والعقل يقف مستنكرًا متسائلًا بسخرية..
وهل يليق ب"نديم" هذا الدور!!!
للحظات وقفت مبهوتة أمام السؤال لم تستوعبه، تحدق في صورتها المنعكسة في المرآة متسعة العينين..
ولسان حالها يردد.. هل يليق به هذا الدور!!!
و الإجابة قد تبدو واضحة للعيان، لكنها لا تبصرها، أو أبصرتها بعين وقررت أن تعمي عينيها عن الحقيقة فقط لتهنأ بما تتمنى..
تهرب من صورتها مبتعدة عن المرآة، تبدل ملابسها شاردة الذهن، تقلب في محتويات غرفتها بلا هدف...
تفتح فيلمًا تشاهده بعقلٍ شاردٍ، تجاهد حتى ينشغل عقلها بما تشاهد وفي النهاية قد نجحت ولو قليلٌ...
وتجاهلت الحقيقة...
فمنذ اليوم الأول لم يكن يصلح لها كزوج...  أو حتى حبيب أو صديق
**
تجلس على أرضٍ خضراء تشبه الحقل بنسبة كبيرة ولا ترى نهايتها، على مرمى البصر لا ترى إلا الخضرة والسماء الصافية، إشاعة الشمس تنعكس على بشرتها تشعرها بدفء روحها قبل جسدها، ابتسامة مشعة تظهر على شفتيها بينما تحركت بعينيها لتبصر لفافة صغيرة لم تظهر معالمها بوضوح لكنها تتحرك ببطء، أزاحت جزءًا منها ليظهر أمام عينيها وجه رضيعة تبتسم برقة، ابتسامتها هي الأخرى اتسعت وهي تداعب وجنتها بخفة فتضحك الصغيرة مصدرة صوتًا بريئًا..
لم تعِ لدموعها التي تساقطت وهي ترفع الصغيرة لتضمها إلى صدرها بقوة، تدفن وجهها في عنق الصغيرة فشعرت روح بيديها الصغيرتين يداعبان وجهها..
انطلقت تلهو مع الصغيرة وصوت ضحكاتهما تملأ المكان، تركض هنا وهناك والصغيرة بين ذراعيها متشبثة بها وتضحك، دقائق مرت عليها عادت فيهما لتلك الطفلة التي كبرت فجأة،  أو كان ذلك ما تبقى بداخلها طفولة وبراءة فقط تظهر حينما ترى طفلًا...
لكن الشمس اختفت خلف اَلسُّحُب الداكنة، فأظلم الكون من حولها، بهتت ابتسامتها، واختفت الرضيعة من على ذراعها...
انتابها الرعب من الظلمة التي أحاطت بها، الدفء قد تبدل وحل مكانه الصقيع، تجمدت أوصالها، وتساقطت قطرات المطر لتمتزج بدموعها...
عيناها متسعتان يدوران في المكان برعبٍ كاد أن يفتك بقبلها، خطواتها تتقهقر للخلف دون إرادة منها، ترى المكان يتقلص حولها ويطبق على أنفاسها حتى كادت تختنق، ترى خيالات تدور حولها بسرعة أربكتها،   تشعر بلمسات تجتاح جسدها فانكمش وجهها تقززًا، لم تشعر بقدميها التي أخذت تركض بسرعة قصوى، تتعثر وتسقط ثم تنهض وتركض من جديد كأنها تهرب من المجهول..
أنفاسها تتقطع وصدرها يضيق، لكنها لا تستسلم،   أقسمت ذات يوم ألا تترك نفسها للرياح لتتحكم بمصيرها، ستحارب أي مصير أسود يطاردها وتكتب أقدارها بيدها...
تلك الأفكار كانت تزيدها حماسة، وتزيد من سرعة ركضها، لكنها في النهاية تعثرت في صخرة فسقطت ليصطدم رأسها به، جسدها غائبًا عن الوعي، وعقلها ما بين اليقظة والنوم، تقاوم شيئًا لا تعرف ماهيته لكنه يجعل جسدها يرتجف مُشْمَئِزًّا...
مقاومتها تزداد شراسة، لم تكن تقاوم الأيدي التي تطول جسدها بل تقاوم لتستعيد وعيها من جديد... وقد نجحت...
..
جسدها يتصبب عرقًا أثناء نومها وينتفض بقوة كمن أصابها صاعق، حركاتها تزداد حدة حتى انتفضت وهي تشهق بعنف..
تتنفس بصعوبة بالغة، تجاهد لتلتقط أنفاسها وهي تحاول النهوض، شعورها بالغثيان قد وصل أقصاه فأسرعت متعثرة في خطواته حتى وصلت للمرحاض وأفرغت كل ما في جوفها، لحظات مرت كانت أشبه بمن يلفظ أنفاسه الأخيرة، سقطت على الأرض بجانب المرحاض مستندة برأسها على الحائط...
 تلك الكوابيس كانت قد فارقتها لعدة أسابيع، ولا تدري سبب عودتها...
أيعقل أن تكون رسالة لها حتى لا تنسى ابنة شقيقتها التي أوصتها بها!
ولكن كيف ستصل لها وهي لا تعرف أين ذهبت أمها
ولا تدري من أين تبدأ البحث!!
الوقت يمر عليها دون أن تشعر، ساعة تلو الأخرى وهي ما أزالت على جلستها دون حراك أو حتى تفكير، فقط تحدق في الفراغ دون هدف...
انتشلها من شرودها رنين الهاتف الذي اشتراه لها عُدي وقابلته تحت إصراره الشديد، تحاملت على نفسها ونهضت بتثاقل، ساقيها يرتعشان فسقطت على الفراش بمجرد وصولها إليه، فتحت الخط بأنامل مرتعشة، أجابت بصوت جاهدت تجعله قَوِيًّا لكن رغمًا عنها خرج مهزوزًا:
- مرحبًا...
- أنتِ بخير؟
لم تستطع أن تقاوم ابتسامة حنونة ارتسمت على شفتيها، سؤاله المعتاد كل يوم، دون مقدمات يسأل عن حالها، تلك النبرة القلقة في صوته تسعدها، وتخيفها في نفس الوقت...
لم تعتد أن يهتم بها أحد منذ فترة طويلة، لا تفهم ماهية شعورها بالضبط...
تشعر معه بفرحة يتخلله حزن...
بأمانٍ يشوبه خوف...
سعادتها تبدو في صوتها رغم اهتزازه وهي تقول بهمس رقيق:
- بخير..
- صوتك مُرهق، هل نمتِ جيدًا؟
يرددها بقلق متسائل فتضحك بخفوت كأنها نسيت ذاك الكابوس الذي أقلق نومها وهمست بحنو:
- لا تقلق يا عُدي أنا بخير، اتركني حتى استعد لعملي..
ابتسامتها تنتقل له تِلْقَائِيًّا فيقول بنبرة حنونة:
-  سأنتظرك بعد الدوام في نفس المكان...
- سأكون هناك...
أجابته مؤكدة، ودعته وأغلقت الخط وهي تتنهد براحة سكنت قلبها بمجرد سماعها لصوته...

خلف قناع العادات، كاملة (مستوحاه من احداث حقيقية)Opowieści tętniące życiem. Odkryj je teraz