_ تمام يا آنسة مِيرال إن شاء الله لو الوظيفة هتكون من نصيبك هنتواصل معاكِ في أقرب فرصة.
شكرت مديرة المدرسة بتهذيب وهي تعتدل حاملة حقيبتها بهدوء ، ترنحت في خطواتها قليلاً أثر مرضها الذي لم يمر عليه سوا يومان و مع ذلك أصرت على التقديم في تلك الوظيفة ، عادت للمنزل دون أن تُلقي التحية على أحد
بدلت ملابسها وإستلقت على الفراش مُحدقة بالسقف
أمسكت هاتفها و ضربت بإستغاثات كرامتها عرض الحائط
و إتصلت بهِ
_ سلام عليكم.
إنتفضت لدرجة سقوط الهاتف من بين يديها ، ظلت تنظر للشاشة الملساء بفم مفتوح و إبتسامة مرتجفة
_ مِيرال إنتِ معايا؟
صوته أعادها لصوابها و بعثر كيانها في ذاتِ الوقت ، كيف لنبرته الرخيمة أن تُحي روحاً إنطفئت
_ معاك معاك.
رددت بسرعة ولهفة ثم عادت تسأله بذاتِ التوجس
_ عامل إيه ؟
_ كويس وإنتِ ؟
تجاهلت نبرته الباردة وهي تتجاوب مع كلماته المُقتضبة
_ بخير طول ما إنتَ بخير.
صمت و الفجوة تتسع تتسع حتى تكادُ أن تقضي على كل ما بينهم
_ عندك جلسة مع الدكتورة بكرة ، الفترة الأخيرة إنشغلنا كلنا فـ فوتي ميعاد جلساتك.
_ مش عايزة أروح.
همست بصدق و خفوت واهي ليواجهها بصلابة لم تعتدها منه من قبل
_ مِيرال الموضوع مش رفاهية ، الموضوع ضروري لو سمحتي متعنديش وروحي للدكتورة في الميعاد.
_ حاضر.
همست بقنوط ونبرة لا روح فيها
_ كنتِ بتتصلي عايزة حاجة؟
سأل بجفاء لتزفر بصوتٍ مكتوم وسع لمسامعه
_ لا كُنت بطمن عليك بس.
_ أنا كويس.
همس بقوة واهية لتُجيب بنفس الخفوت
_ أتمنى.
_ هقفل دلوقتي عشان ياسر عايزني ، محتاجة حاجة ؟
_ سلامتك.
أقفل الخط لتضع الهاتف فوق قلبها مباشرة مُتنهدة بخيبة
_ يارب قويني و أقدر أتعامل معاه.
أمسكت بحاسوبها النقال و قد قررت في نفسها أن تتغلب على روح اليأس التي إمتلكتها هي وهو ، سجلت في إحدى المنصات و بدأت دورة تدريبية في مجال علم النفس وتخطي الصعوبات ، جلست منتبهة تُسجل الأجزاء المُهمة على ورقة أمامها حتى أمتلئت الورقة و تخزنت المعلومات في عقلها ، زفرت بإرتياح وهي تشعر ببوادر بداية جديدة لن تحارب الظلام بظلام بل ستحاربه بشعاع نور ولو كان خافتًا ، وقد قررت إعطائه مساحته التي يحتاجها دون إهمال أو تقصير و دون أن تُشعره بإنتهاكها لخصوصيته ، أرجعت رأسها تستند على حافة الفراش ولا يشغل بالها سواه!
________________
_ مش مصدق إنه إحنا هربنا من أمي.
قالها ياسر بحماس طفل صغير بينما أدهم مازلت الملامح البلاستيكية ظاهرة على وجههُ
_ عيب لما تتكلم عن أمك كده.
قالها بسخرية ليردف الأخر بفظاظة
_ متصيعش كلنا عارفين إنكوا إنتوا الإتنين مش بتطيقوا بعض أصلًا.
إبتسمت بسخرية وهو يسير متخطيًا ابن عمه ، السماء صافية و الهواء منعش لكن شيء يجعله لا يرى الجمال في كل هذا فقط اللون الرمادي هو ما يسيطر على حياته الحالية
_ أدهم.
_ خير؟
نظر لهُ ببلادة ليهز رأسه بأسف مصطنع
_ البت إلي قلت لك عليها طلعت بتكراش على أبطال المسلسلات التركية و مقضياها غرام و لڤلڤة على الفيسبوك ، وأنا الاهبل وكنت مفكرها رمز العفة و هتعجب بيا تُعجب بمين بقى بالقرعة دي.
نظر أدهم تلقائياً لرأس ياسر الخالية تمام من أي شعر ، كـ علاقة الصحراء بالماء و دون إرادة منه إبتسم بتلاعب
_ عندك ٣٢ سنة بس سبحان اللَّه منظرك يدي على ٤٦.
إحتقن وجه ياسر وهو يمرر يده على صلعته
_ مش ظريف خالص على فكرة.
قال حانقًا ليهز أدهم كتفه بلامبلاة وهما يتابعان السير
_ بقولك إيه يا أدهم ، أنا بفكر أعمل تاتو و ألبس حلق و أبقى زي زين مالك لما حلق أهو البنات تبلعني شوية بدل مانا شبه فوزي كرشة إلي في ١٦٢٢.
_ ما شاء الله عليك موسوعة روايات.
سخر أدهم مرة أخرى ليدافع ياسر ببسالة
_ لن أسمح إنك تتنمر على رواياتي ، هو عشان أنا رجل ثلاثيني يبقى حرام أقرأ روايات يعني؟
_ مش الفكرة بس أغلب الروايات إلي إنتَ بتقرأها إستايلها بناتي أوي ، بذمتك في حد يقرأ عشق الزين و يقعد شهرين فارقني بيها !
إتسعت عيناه ذاهلًا
_ لا إسكوزمي كله إلا عشق الزين ، ده ليليان دي لوحدها بسكوتة كده أخرابي يا جدعان تتاكل قسمًا باللَّه.
أردف بحالمية منفعلة ليضرب أدهم كفيه ببعضهما
_ بس يا مراهق بس ، ليليان مين وزفت إيه ما تتعدل كده بدل ما أعدلك.
قال أدهم بخشونة لم يتصنعها لـ يتقرب منه ياسر عابثًا
_ ما تراعي فرق السن يا عسل ، ده إنتَ المفروض تقولي يا أبيه.
_ ده عندها هناك.
نظر لهُ ياسر بحدة
_ طب تمام أوي كده ، شوف مين هيمشي معاك.
_ وماله همشي لوحدي.
قال بلامبلاة و هدوء مبالغ بهما ليستشيط ياسر
_ واللهِ لأمشي معاك بقى ها.
صمت قليلًا مُبتسمة مُتناسيًا قسوة ما يمر بهِ ، حتى تدافع كل شيء لذهنه مرة واحدة عاصفًا بكيانهِ باعدًا كل مشاعر إيجابية شعر بها في تلك اللحظة وقد غامت عيناه مرة أخرى ، و ياسر قد إستحالت ملامحه من المرح للشفقة على صديقه الذي يذبل كما لم يره من قبل.
_________________
_ يرضيكِ يا ماما أتجوز واحد بيحشش ؟
صرخت بفزع و كأنها تواجه أسوء كوابيسها
_ بكرة ربنا يهديه لما يتجوز ويبقى له بيت و ولاد.
نظرت لها بجنون قبل أن تكمل صراخها
_ حرام عليكِ بقولك بيحشش و لقيت على موبايله صور أبيحة ، وفوق كل ده بيضربني قولي لي إيه عِدل أتمسك بي ؟!
قالت والدتها بتعقل ورزانة
_ مستواه المادي كويس و في مميزات كتير ، تعليمه مركزه شكله مش سواء ميكروباص هو.
_ ياريته كان سواق ميكروباص على الأقل كان زماني عارفة أخلاقه دلوقتي ، لكن مش واحد مُدعي فنان في الخداع.
نهضت والدتها غاضبة مُعجبة على نوبة صراخها تلك
_ بقولك إيه يا سُهيلة خلاص هيقعد هو و أبوكِ يحددوا ميعاد الفرح ، فـ خفي بقى وإرضي بنصيبك وإن شاء الله ربنا يجعل في إيدك هدايته.
أدركت أن لا فارق من تلك المحادثة العقيمة ، دخلت لغرفتها بعصبية لمحت إحدي أمواس الحلاقة لتمسك بهِ
مقررة إنهاء حياتها و الابتعاد عن كل هذا الذل ولكن صوتٌ خافت يأتي من بعيد مُرددًا
« ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسس بهِ نفسه ونحن أقرب إليهِ من حبلِ الوريد. »
رمت الموس الحاد أرضًا بعد أن غمرها شعور بالسكينة أجهشت في البكاء بعده ، طالبة الغفران و العون على ما كانت مقدمة عليه و على ما ستقدم عليه.
_______________
بعد مرور أسبوعان.
قال تعالى “فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون “.
جلست على الأرض في إحدى فروع الجمعيات الخيرية التي تطوعت بها ، فـ قد أنستها الحياة ولهوها عن تقديم المساعدة للآخرين ولو كانت بسيطة أو غير متكلفة
_ يعني إحنا يا ميس لازم يكون لينا هدف أكبر من إننا نشتري حلويات أو نتفرج على كرتون بنحبه.
سأل الطفل ذو السنوات الخمس لتبتسم لهِ مِيرال بهدوء
_ أيوة يا يوسف ، مينفعش نبقى عايشين بنرضي نفسنا وبس لازم نساعد إلي حوالينا وكمان يبقى عندما أهداف كبيرة عايشين عشان نحققها ، زي إنه إحنا ندخل كلية معينة نشتغل شغلانة معينة نوصل لمكان معين ، المهم إنه إحنا منبقاش عايشين بلا هدف كده.
و قد كان لها قدرة سحرية لجعل الأطفال يقعون بحبها رغم جديتها و عمقها الزائد ، لقد تغيرت في أيام معدودة صارت أكثر تحملًا للمسؤولية خاصة بعد قبولها في تلك المدرسة فصار وقتها مقسمًا بين البيت و العمل و التطوع ، تذكرت جلسة الطبيبة التي ذهبت إليها في ميعادها.
_ بقيت حاسة إني محبطة فوق الوصف ، كل حاجة بتعدي بس بالبطئ مبقاش في حاجة قادرة تخرجني من حزني ده خاصة بعد الحالة إلي دخلها أدهم بعد موت والدته ، حاسة بجبل فوق صدري بجد.
عدلت الطبيبة من وضع نظراتها قبل أن تردف بجديتها المعهودة
_ ده لأنك عمرك ما مريتِ بظروف زي دي ولا إتحط عليكِ مسؤولية كبيرة زي دي ، الموضوع صعب أنا عارفة لكن لازم تكسري حاجز الخوف ده إنتِ هتبقي أم مستقبلًا و حاليًا من حق أدهم عليكِ إنك تقفي جمبه في محنته وده مش هيحصل غير لما تتعلمي تشيلي المسؤولية وتدركِ أهميتها ، حاولي تتطوعي في أي حاجة مجال تكوني بتحبيه زي التدريس مثلًا في الأول هو عمل خيري هيحسن من نفسيتك ، الإنسان لما بيشارك في عمل مجتمعي بيحس بشعور جميل لأنه ساب أثر وساعد غيره
والشعور ده بينعاد عليه بالإيجاب و بجانب الثواب طبعًا إنتِ هتتعلمي تشيلي المسؤولية صح ، لما يبقى عندك أكتر من حاجة معتمدة عليكِ وإنتِ جزء مهم منها مش هتقصري فيها و هتبذلي فيها كل جهدك ، شغل مع تطوع مع علاقات اجتماعية وأنك تدي فرصة للي حواليكِ يظهروا مشاعرهم من ناحيتك هتتغيري تمامًا وده شيء مفروغ منه.
عادت من شرودها على وصولها للمنزل ، طرقت الباب ببطئ و عانقت والدتها التي فتحت لها ثم قالت مازحة
_ عاملة لنا إيه يا ست الكل انهاردة.
_ محشي بتنجان و ورق عنب عشان الضيوف.
_ ضيوف مين ؟
تسائلت بجهل قبل أن يقع بصرها على ملامح قد إحترقت شوقًا لرؤيتها ، نظرت لذقنه التي نبتت قليلًا و قد بدى كأنه نضج كثيرًا في تلك الأيام القليلة ، إندفعت بحماس تقترب منهُ وقد وقف يستقبلها و بدون مقدمات كانت إرتمت فوق صدره غير عابئة للواقف بجواره
_ أدهم.
همست بعدم تصديق وكان جوابه أنه إعتصرها بقوة بين ذراعيه ، بالنسبة لها كان كل شيء قد سكن و توقف من حولها فقط هو ولا شيء سواه ، كان كـ كوب ماء مثلج بعد الركض لأميال عدة في منتصف أغسطس
_ وحشتني أوي.
عادت تهمس وهو صامت قبل أن تدرك الواقف بجواره يبتسم ببلاهة ، إبتعدت بسرعة مكرهة ليتنحنح بخشونة
_ ده ياسر ابن عمي ، ودي مِيرال خطيبتي.
_ تشرفنا.
همست مخفضة رأسها ليغمغم الآخر بكلمات غير مفهومة لتنصرف مسرعة ، و دقات قلبها تكاد تخترق صدرها صارخة باسمه راغبة في عناق آخر يدوم للأبد.
____________
الفصل في مغزىٰ أتمنى إنه يوصل لكوا. ♡
وكالعادة وحشتوني.♡