الفصل الثاني

395 25 0
                                    

تابعنا الطريق على ظهر الفرس تحت ضوء النهار الخالي من الدفء، يبدو أن برودة الشتاء أصابت الشمس بعدوى مبكرة، ولولا الحرارة المنبعثة من ظهره الذي ألصقت جسدي فيه دون خجل خوفًا من البرد لكنت فقدت أطرافي، مع اقتراب الشمس من مغربها قرر التوقف بالقرب من إحدى ينابيع الماء،

_سنبيت هنا الليلة، وسنكمل الطريق مع الفجر هكذا نصل للعاصمة منتصف نهار الغد.
=حسنًا.
_يمكنك الاغتسال من مياه النبع، كما أن مياهه صالحة للشرب.
اصطحب حصانه نحو مجرى الماء و بدأ يحمم الحصان بالمياه بينما اتجهت أنا لغسل وجهي وشرب بعض الماء، لم أكن أدركت قبل تلك اللحظة كم كنت أشعر بالعطش، ثم بدأت بترطيب خصلات شعري لأحاول فك التشابك بينها وإعادة تصفيفها بعد أن أفسدتها رياح الطريق الطويل،
_هل يمكنني مساعدتك ؟
=ماذا ؟
_مساعدتك، أعني بخصوص شعرك هل يمكنني تضفيره لكي ؟
=......(لم يخطر على بالي من قبل أن يعرض رجل بالغ وفارس ملكي على وجه التحديد تصفيف شعري )
_لا تقلقي لن أفسده، الأمر هو أنني أريد أن أصفي ذهني قليلًا وشعرك يبدو جميلًا.
في تلك اللحظة تعرفت على ابتسامته البلهاء عندما يشعر بالخجل، بدا وجهه جميلًا عندها، هكذا ابتسمت أنا أيضًا وتركت شعري من يدي واشتريت على الأرض في إشارة له كي يتفضل و يصففه، وهكذا جلس خلفي وبدأ يفك تشابكات شعري بسلاسة مذهلة وبخفة أخذ يضفره بينما أعطيت لنفسي فرصة الاسترخاء الاستمتاع بهدوء الغابة حيث لم يكن هنالك وجود لسوانا،

_لقد انتهيت سأذهب الآن لاصطياد شيء ما للعشاء فأنا اتضور جوعًا.

هب واقفًا وذهب ليضع سيفه بجوار الحصان و انطلق حاملًا خنجره في يده نحو الغابة، ظللت في موضعي أراقب اختفاءه داخل أستار الغابة، شعرت بشيء من الوحدة يعود إلى قلبي وكأنني عدت إلى أسوار القلعة لتأسرني داخلها، حاولت تشتيت انتباهي في انتظار عودته فأخذت أتأمل شعري ودهشت لبراعته في التصفيف فقد كانت تلك الضفيرة متقنة وفي غاية الجمال، سمعت زقزقة العصافير فوجهت نظري لمراقبة الطيور المحلقة في السماء، اعتقد أنني أصبحت خبيرة في أنواع الطير لكثرة مراقبتي لها،
_ها أنا ذا، أمل ألا أكون قد تركتكِ وحدكِ طويلًا.
كان يحمل أرنبًا مغطى بالدماء في إحدى يديه، مع ابتسامة على وجهه كأنه في إحدى النزه العائلية وضع الأرنب جانبًا، وجمع بعض الأغصان سريعًا ثم أشعل النيران وبدأ في إعداد الأرنب ليصبح صالحًا للأكل، بينما كان مستمعًا بالصفير كأنه يلحن أحد الأغاني القديمة ،وفي ظل ذلك حل الليل بظلامه المطبق، بعد أن انتهى قدم لي الطعام ،جلسنا حول النار لنستدفأ بحرارتها،
_لماذا أنتِ صامتة هكذا ؟ أليس لديكِ أي أسئلة لي ؟
=مثل ماذا ؟
_حسنًا ....من أنا ؟ لماذا ألقيت القبض على عائلتكِ ؟ ماذا سيكون مصيرهم ؟ هذا النوع من الأسئلة.
=أولًا حاكم القلعة لم يكن بالرجل الشريف إطلاقًا لذلك من الطبيعي أن يتم محاكته يومًا ما، ثانيًا هم ليسوا عائلتي لا توجد عائلة تحبس ابنتها خمس أعوام في برج من دون أن تخرج منه ولو لمرة لذا لا اهتم لمصيرهم، لكن اعتقد أنه سيكون من الجيد أن أعرف من أنت؟
_ وااو خمس سنوات ذلك مدهش !! جيد إذا من أنا ؟ أخبرتك مسبقًا أنا ابن إحدى الخادمات مثلكِ الفارق هو أن أمي كانت تعمل في القصر الملكي.
=ماذا !!!
_أوه لا داعي للفزع، لم يكن الملك بل عمه (الدوق) يمكن القول أنني أحمل دماءًا ملكية ولكنها عديمة القيمة على كل حال.
=........
_ها قد عدتي للصمت مجددًا.
=وماذا تريديني أن أقول ؟
_أي شيء حدثيني عن نفسك.
=لا يوجد شيء مهم بخصوصي.
_لا يبدو الأمر كذلك بالنسبة لي، فلو لم تكوني مهمة لماذا أبقى عليك حاكم القلعة؟ لماذا لم يرمكِ أنتي وأمكِ خارج القلعة وانتهى الأمر ؟
=.............هذا..الأمر هو ..هذا ليس من شأنك.
_يالها من إجابة مُرضية، بما أنك لا تنوين البوح بسرك سأخبرك بسري أنا وسبب بقائي على قيد الحياة حتى الآن.
=و ما هو ؟
_ببساطة لأنني ولدت ذكرًا و أبي لم يكن قد أنجب سوى ثلاثة فتيات فكان عليه الاحتفاظ بي فابن غيّر شرعي كوريث أفضل من لا وريث على الإطلاق.
=و لكن أليس للدوق ابن شرعي؟
_أجل أخي الأصغر ولد بعدي بثلاث سنوات و لكنه ولد مريضًا فخاف الدوق أن يموت ويبقى بدون وريث إن تخلص منّي فأبقى عليّ، نجا الصغير من الموت ولكنه ظل ضعيفًا لم يقوى على المشي سوى بعد أن بلغ العام ونصف العام بينما على عكسه كنت أنا أركض وألعب في الارجاء في نفس عمره  ومع مضي الوقت كنت أنا اتعلم ركوب الخيل و المبارزة بينما لا يقوى وريثه على مغادرة الفراش فلم يكن يغادره مرض إلا و أصابته عدوى جديدة.
=و ماذا بعد؟
_يبدو أنك مستمتعة بالقصة، اتخذ الدوق قراره بجعلي كبش فداء لوريثه الشرعي سأقاتل أنا وأخوض الحروب باسم الدوقية جالبًا العزة لاسم العائلة التي لا انتمي لها، مدافعًا عن منصبه ومنصب ابنه من بعده.
=ولا اعتقد أنك تحصل على شيء من التقدير لما تحققه ؟
_هه التقدير ؟! يا ليت، أمثالنا يا جميلتي لا يعاملون سوى كالخدم، لا بل إن حتى الخدم ينظرون لنا باحتقار.
عاد الصمت مجددًا، فقام وأخرج من حقيبة فرشة للنوم وضعها أرضها واستلقى فوقها ثم أشار إلىّ كي  استلقى بجواره، هكذا تمددنا جنبًا إلى جنب فوق قطعة القماش الخشنة تلك على مقربة من النيران التي لم تخمد بعد وتحت ظلال القمر، يفصلنا بضع بوصات صغيرة،

_لماذا يتم معاقبتنا نحن على أخطاء لم نرتكبها ؟!
=لأننا أخطائهم التي لا يمكن غفرانها حية تسير أمامهم.
_أنتِ محقة لطالما رأيتُ ذلك في أعينهم.
=أكان يحب أن تحمل منّي تلك الليلة ؟!
_لماذا لم تضعه ميتًا ؟! أكان يجب أن يولد صبيًا صحيحًا ؟!
=هل هذا ما كان يفعله في كل مرة هجر فيها فراشي ؟!
_كيف يهينني لهذه الدرجة ؟! ألم يجد سوى خادمة ليشاركها الفراش ؟!
=أ لأن عائلتي على حافة الإفلاس امتلك الوقاحة الكافية ليخونني مع خادمتي الخاصة ؟!
_آه يا لهم من مثيرين للشفقة.
=هذا لا يلغي حقيقة أننا من نعاني في النهاية.
هكذا اكتنفنا صمت الليل نظرت نحو السماء أتأمل النجوم واستعيد ذكريات القلعة، بذلت الكثير من الجهد محاولةً إيقاف سيل الآلام والسنين الماضية وإقناع عقلي بأني تخلصت من ذلك السجن للأبد وحان وقت طرد تلك الأشباح البغيضة،

_ماذا الذي فعلته يستدعي حبسك خمس سنوات؟

قاطع صوته الهادئ حبل أفكاري وقد كدت أن أكون ممتنة بشدة لذلك لولا أن ذلك السؤال لم يكن سوى إحياء لأبغض ذكرى في حياتي،

=إنها قصة طويلة ولكن يمكن القول إنني تسببت في إحراج شديد لوريثه المدلل أمام جميع فرسان القلعة.
_أوه يبدو ذلك بالأمر الخطير بالفعل، ولكن لماذا لم يقم برميكِ خارج القلعة إذًا ؟
=لنفس السبب الذي منعه من رميّ أنا وأمي خارج القلعة منذ البداية.
_ نفس السبب الذي تريدين الاحتفاظ به سرًا، حسنًا لا يهم.
=أجل لا يهم فقد كانت تلك السنوات أسوأ ما يمكن أن يعيشه المرأ، سنوات من الوحدة القاتلة.
_لا اعتقد أن وضعكِ كان بذلك السوء.
=عفوًا !! و ماذا يمكن أن يكون أسوأ من ألا تستطيع رؤية أي شخص أو تبادل بعض الكلمات على مدار خمس سنوات كاملة ؟!
_أن يكون بإمكانك فعل كل ذلك.
=ماذا !!!
_كما سمعتي، الأسوأ هو أن يكون بإمكانك فعل كل ذلك، أن يكون بإمكانك رؤية الجميع سماع أصواتهم وضحكاتهم، يتبادلون التحية، يتصافحون، يتعانقون، يتشاركون العمل والحياة، يهتمون لبعضهم البعض، يقعون في الحب، يتبادلون القبلات، و لكن....هم من يفعلون ذلك لا أنتِ بالرغم من أن لا شيء يمنعكِ لا يمكنكِ مشاركتهم حياتهم  ليس لأنكِ لا تريدين بل لأنهم اختاروا تجاهلكِ، يمرون من أمامكِ وكأنكِ شبح غير مرئي، لا شيء، و هكذا تمضين السنوات في اللاشيء، وحدك تمامًا بينما هم معًا.
=أنا آسفة.
_لا فائدة من أسفكِ، هذا ليس ذنبكِ، أتعرفين ؟ أكثر ما كان يؤلمني و أنا طفل لم يكن صفعات زوجة أبي لي بدون أسباب فكان يكفيها مجرد وقوعي تحت ناظريها لتصفعني وتنطلق في سب أمي التي لم أرها قط، ما كان يؤلمني هو عندما أراها تبتسم لأبي بمحبة وكأنه ليس هو الوغد الذي خانها مع أخرى، و عندما أراها كيف تهتم بأطفالها وتضمهم إليها إن بكى أحدهم لتطمئنه، بينما كنت أمضى أنا الليالي وحيدًا أبكي في فراشي دون أن تعبأ أي من الخادمات اللواتي أنام في عنبرهن بأمري بل في بعض الأحيان كانت تنزل يد إحداهن على جسدي الصغير مع أمر لي بالصمت لكي يستطعن النوم.
نظرت لوجهه لم يكن هنالك أي تغير بادي عليه ولكن عيناه برغم جفافهما إلا أنهما كانتا تفيضان ألمًا، مددت يدي نحو يده وأمسكتها، فالتفت متنبهًا،
=الريح باردة ولا أرغب بأن تتجمد يداي خلال الليل.
ابتسم وقد أدرك كذبتي، لكنه قرر تجاهلها وأغمض عينيه،
_أحلامًا سعيدة.
=لكَ أيضًا.
هكذا أغمضت عيني أنا أيضًا أملاً أنها ستكون ليلة هانئة أحظى منها ببعض الراحة لم أكن أعلم وقتها أن تلك الراحة لن تطول وأن المستقبل لن يكون رحيمًا كما ظننته، وأن ليالي النوم الهانئ ستصبح معدودة.
(نهاية الفصل الثاني)

نجمة الصباح ✨Where stories live. Discover now