البارت الواحد و عشرون

59 9 0
                                    

لو ادركوا أنهم أكثر منا عدداً سنهلك!
_. _. _. _. _. _

انا عالقة هنا، في هذا الكهف، تحت الأرض، جنود المدينة الطبية يبحثون عني، اختي مختفية ولا ادري كيف اصل اليها، تمارا تراقبني بشكل يثير أعصابي، صديقتي الوحيدة فقدت عائلتها ولا ادري كيف اساعدها، لا ادري كم يوم مر على وجودنا هنا، ربما يومان، ربما ثلاثة، ربما اربعة، انا أفقد تعقب الزمن، عبثيات ،حياتي تحولت إلى عبثيات لا ادري اين بدايتها من نهايتها، انا فقط أحاول النجاة.
زفرت بضيق و نظرت إلى تلك الحفرة المرعبة بالأسفل، عثرت على ذلك المكان بالصدفة و من وقتها وانا أهرب إليه كل يوم، بقعة هادئة، بعيدة عن الجميع، عن البشر، كنت أجلس على الحافة و قدماي متدلية، الظلام حالك بالأسفل ولكن صوت جريان المياه واضح، اتساءل عن مدى عمق تلك الحفرة، ماذا إن صعد وحش و التهمني، او لو حدث تصدع و انهارت الحافة فسقطت إلى الأسفل و اجتمعت علي الوحوش و التهمتني، امسكت حجرة صغيرة و ألقيتها في تلك الحفرة، ربما تسقط على رأس وحش فيغضب و يأتي لإلتهامي، و عوضاً عن ذلك سمعت صوتها تسقط مباشرة في الماء بعد فترة من إلقاءها.
اغمضت عيناي فرأيت رماديتها ، لماذا لا استطيع التوقف عن التفكير به، فتحت عيناي بسرعة ، توقفي عن ذلك ،توقفي، توقفي.
.....
كنت أتمشى في المكان بحثاً عن ميرا، لم تكن في الغرفة حين استيقظت ولا ادري اين هي.
- بيان ،بيان.
إلتفت إلى مصدر الصوت، ابتسمت حين لمحت رحيم يركض تجاهي، نزلت إلى مستواه و عانقته قائلة
- مرحباً ايها الصغير، كيف حالك؟
بادلني العناق و قال
- أرأيت ماذا صنعت مع مسلم؟
ابتعدت عنه فرفع تلك النظارة الصغيرة في يده و قال
- هذا ماسح طبي.
قام بارتداء النظارة و ضغط على زر ما، تراجع إلى الخلف فخرج ماسح ضوئي من النظارة وقام بقياس العلامات الحيوية في جسدي، نبضات القلب، ضغط الدم، درجة الحرارة،معدل التنفس، بدى لي هذا رائعاً!
- حسناً ، ضغط دمك 110/70، درجة حرارتك 36 درجة.
نزع النظارة و سألني بحيرة
- مهلاً،. أليس ضغطك هكذا منخفض؟ أخبرني مسلم بأن الضغط يكون 120/80.
- طبيعة ضغطي منخفضة، ولكن هذا طبيعي.
همهم ثم قال وهو يقفز في مكانه
- إذاً ما رأيك؟ هل أعجبك؟
- اجل، كثيراً ،ألم أخبرك بأنك ستصبح طبيباً رائعاً؟
- ما تخصصك ؟
حمحمت و حقاً هذا سؤال معقد بعض الشيء، حاولت تبسيط المعلومة قدر المستطاع حين قُلت
- من المفترض أنني طبيبة مخ و أعصاب ولكني أيضاً معالجة نفسية، أي انهم دمجوا التخصصان معاً على الرغم من اختلافهما.
رمش عدة مرات و نظر إلي ببلاهة فقلت
- اتعلم، انسى الأمر، ستكون طبيباً أفضل مني.
ابتسم ثم تركني ما إن رآى أحد أصدقاءه و ذهب ليريه النظارة في يده.
أخذت نفساً و ذهبت لأكمل البحث عن ميرا، حقاً لا ادري أين اختفت.
.....
كالعادة انا تائهة في الممرات، لا ادري أين انا ولكن يبدو و أنني في مكان لا يجدر بي التواجد به فلا احد هنا!
و بينما انا أمر من امام أحد الغرف المغلقة سمعت صوت عمر قادماً منها، ربما يعلم أين هي ميرا، اقتربت من الباب حيث مصدر الصوت و قبلما أطرق سمعته يهدر بحدة
- انا بخير.
- لا لست كذلك يا عمر، لا نستطيع إخبارك بمكانه، ليس الآن.
كان هذا صوت تمارا، لا أحب تلك المرأة، ولا ميرا تحبها أيضاً، تدخل شخص ما في الحوار لا ادري من هو و قال
- الأمر ليس عدم وثوقنا بك، نحن فقط لا ندري ما الذي وضعوه في عقلك.
- لم يضعوا شيئاً ، قامت بيان بتسجيل ما يحدث، لو كان هناك شيئاً لأخبرتني.
- عمر حبيبي، ما ادراك بأنها ليست معهم؟ و أن كل ما قامت به كان تمثيلاً لتصل إلى هنا؟
تمثيلاً؟! ضحيت بحياتي لأجل ذلك الرجل! اريد ان ادخل و اسحبها من شعرها تلك الحقيرة، كيف تزوج تلك المرأة!
ضرب شخص ما على المكتب، أظنه عمر لأنه قال محذراً
- إن تحدثتِ عنها هكذا مجدداً صدقيني لن تحبي رد فعلي، أخبرك بيان ضحت بحياتها لأجلي، تلك الفتاة خاطرت بكل شيء، انا من عدت إليها لأحضرها إلى هنا.
- انا اتفق مع عمر، لا تبدو لي بيان كذلك النوع من الأشخاص.
كان هذا صوت مسلم، ذلك اللطيف لا ادري كيف يعقل ان يكون اخاً لتلك السحلية!
- لماذا تدافع عنها بتلك الاستماتة؟!
- لأنني أعرفها جيداً.
- وانا لا اعرفك، انا ما عدت ادري من انت حتى!
تدخل مسلم مجدداً و قال
- حسناً وقت مستقطع، أمور عائلية، حالة طوارئ،هيا تمارا يجب ان نتحدث.
ركضت بسرعة و اختبئت في إحدى الممرات فسمعت صوت باب الغرفة يُفتح، استندت على الجدار خلفي في الممر وانا استمع إلى خطوات غاضبة تقترب، إبتلعت ريقي و اغمضت عيناي، الصوت يقترب، ارجو الا يمروا من هذا الممر، بدأت يدي ترتجف.
- تمارا انتي تبالغي.
كان هذا صوت مسلم فأجابته الأخرى بغضب
- أبالغ؟! انا أبالغ؟ انظر إليه، لقد تغير.
- لأن ما مر به لم يكن سهلاً،. انتي أكثر من يعلم بذلك، الست ماهرة في أمور العقل و تلك التراهات؟
مرا من جانبي و حقاً كادت تمارا تخترق الأرض من حدة خطواتها، لو التفتا قليلاً لرأياني، تنهدت براحة ، مسحت وجهي وانا استمع إلى صوتهما يبتعد، خرجت من الممر فاصطدمت بشيء ما، تباً.
رفعت أنظاري إلى عمر، من أين يخرج ذلك الرجل!
- مرحباً؟
قُلتها وانا ابتسم ، قضب حاجبيه و نظر إلي بشك سائلاً
- ماذا تفعلين هنا؟
- كنت ابحث عنك.
- عني؟
-اجل، لأسألك عن ميرا.
ابتسم و أجاب
- لا، لم ارها.
امأت له و قُلت
- حسناً إذاً ، اراك لاحقاً.
تخطيته و رحلت و قلبي يقرع كالطبول، رؤيته أمامي فجأة بهذا الشكل أخافني.
- بيان.
تباً ، أغمضت عيناي، حاولت السيطرة على أعصابي، هل حقاً سيشك بي؟ إلتفت إليه و انتظرت منه التكملة فقال
- يجب ان نتحدث.
هذه البداية لا تعجبني، ترددت للحظات ثم سألته بحذر
- بخصوص؟
- ما خاطرت بحياتك لأجله، أليس من حقك معرفة هذا؟
رفعت حاجباي بدهشة، اقتربت منه و سألته باستنكار
- و ما الذي غير رأيك؟
- نحن في أمان هنا، بعيداً عن راكان و رجاله.
لا ادري أهذا فخ؟ أم انه يريد إثبات صحة نظرته بشأني! انا أريد أن أعرف لا أنكر، ولكن إن كان سيورطني هذا في مزيد من المشاكل إذاً لا شكراً، لا اريد.
- تعالي ، لن نتحدث هنا.
ضممت يداي إلى صدري و قُلت
- انا لم أوافق.
- ولكنك لم ترفضي.
- بلى
- لا
- بلى
- لا
- بلى ، لا اريد معرفة أي شيء سيورطني في المزيد من المشاكل، ما لدي يكفي.
اقترب مني، نظر إلي بعيناه الغير متطابقة، ابتسم و قال
- حسناً ، إن كان هذا ما تريدينه.
- اجل، هذا ما أريده
- حسناً
- حسناً انت.
صمت للحظات، أنفي الحقير بدأ يحكني، تركني عمر و رحل، هيا بيان تحركي ما بك! كدت أغادر ولكن، أليس هذا من حقي؟! ها انا ذا وانا اقوم بشيء احمق.
- عمر.
توقف في مكانه، فتابعت
- حسناً ، انا فضولية هات ما لديك.
......
قام بخفض الإضاءة و ذهب لإغلاق الباب، نظرت إلى تلك الغرفة حولي بذهول، كانت هناك شاشة ضخمة على طول الحائط، أرفف الكتب يميناً و يساراً ، طاولة بها لوحة رقمية في منتصف الغرفة، نظرت بذهول ، حتى الدخول إلى هنا كان ببصمة العين، ما هذا المكان!
- أهذا ما يبحثون عنه؟
- لا.
اقترب مني و تابع
- ولكن هذا مرتبط به.
اتجه إلى الشاشة و قام بتشغيلها، ظهرت امامنا عدة ملفات فاختار ملف مكتوب عليه "تاريخ الأرض"
ضغط بعد ذلك على مقطع فيديو و سحب لي إحدى الكراسي الموجودة حول الطاولة و قال
- أجلسي.
نظرت إليه بشك ثم إلى الشاشة و سألته بتردد
- ما هذا؟
- سترين.
جلست و قلبي يقرع كالطبول، نظرت إلى باب الغرفة المغلق ثم عدت لأنظر إلى عمر الذي قال
- لن أغتالك.
- لم يكن هذا ما فكرت به.
كان هذا ما فكرت به، عدت لأنظر إلى الشاشة فكان الفيديو قد بدأ، كانت صوراً قديمة ، إظنها صور تم إلتقاطها قبل مئات السنين لشعوب الأرض، صور تلقائية، كيف كانوا ،كيف كانت ثيابهم. كيف كانت الحياة قديماً، مقاطع فيديو للبشر وهو بشر، لبشر يتحلون بالإنسانية، يتعاملون بفطرتهم، بطبيعتهم،يأدون شعائرهم الدينية بخشوع و خضوع، يحتفلون، ابتسمت وانا أنظر إلى الشاشة، عدت لأنظر إلى عمر فكانت ملامحه جامدة ، و كأنه ينظر إلى شيء خيالي، و حين عدت لأنظر إلى الشاشة من جديد كان المشهد قد اختلف، كان هناك الكثير من الجنود، الأسلحة، الدبابات، القنابل، كانت الصور قديمة ولكنها مؤلمة، لا تختلف كثيراً عما نحن فيه، الجثث، الضحايا، ابتلعت ريقي و ضغط بأظافري على يد الكرسي.
كانت هناك الكثير من مقاطع الفيديو، مقتطفات عن الفساد في الأرض، المستعمرات، قنبلة هيروشيما، الحرب العالمية الأولى، الكساد الاقتصادي، الحرب العالمية الثانية، الاوبئة و الأمرض، الحرب العالمية الثالثة، فساد، المزيد من الفساد، الحرب النووية و العودة إلى نقطة البداية، كانت هناك صور لتغير خريطة العالم السياسة على مر العصور.
- ركزي في تلك الخريطة.
نظرت إليه ثم عدت لأنظر إلى خريطة العالم و تغيرها الملحوظ على مدى العصور، و مع تقدم الزمن، بدت الخريطة و كأنها عادت لتتقلص من جديد، عدد الدول يقل، الأماكن المأهولة بالسكان تقل، المناطق الصالحة للحياة تقل، و في رسم تصوري لما سيحدث في المستقبل، خريطة العالم تحتوي على دولة واحدة فحسب، دولة كبيرة، ولكنها واحدة في العالم بأكمله، نهضت عن مكاني و اقتربت من الشاشة، لامستها بأناملي، عدت لأنظر إلى عمر و سألته
- ما تلك الدولة؟
- لازلنا لا ندري، ولكن كل ما حدث، كل ما سيحدث مخطط له بشكل تفصيلي، الكوارث، الأمراض، الحروب، حتى الحرب النووية.
أشعر بالبرد يسري في جسدي، تجمد أطرافي، أشعر و كأنني فهمت ولكن لازلت لا افهم، او فهمت ولكن لا ارغب في التصديق.
- تخيلي ذلك الكوكب بكل ما فيه من موارد طبيعية و بشرية تحت سيطرة دولة واحدة، تحت حكم واحد، تحت راية واحدة، يريدون إقناعنا بأن الكوكب لن يتعافى إلا حين يموت ثلاث ارباع سكان العالم، مع ان الأرض خلقها الله لنا، خلقها لتتعافى ذاتياً فقط حين نتوقف عن العبث بها.
حركت رأسي نافية ، انا أرفض التصديق، من يفعل ذلك؟ لماذا؟ اقترب مني و تابع
- كل شيء كان ضمن خطة واحدة يسيرون عليها، كل التفاصيل الصغيرة، بدءاً من التعليم، الاعلام، حتى الإعلانات و الافلام، كل ذلك جعل البشر كالجرذان، يسعون خلف عملة معدنية متناسين كل شيء، متخلين عن مبادئهم، عاداتهم، تقاليدهم، و الأسواء من هذا دينهم، اتعلمين لماذا؟
حركت رأسي نافية فأكمل
- لأن هويتك هي أرضك الصلبة التي ستحاربي لأجلها، إن طمست تلك الهوية فقد سيطرت عليك، إن طمست تلك الهوية فيسهل علي تخويفك، ترويعك، إخبارك بأن العالم ينهار ، ما إن تُطمس هويتك حتى تصبحي مشتتة و ضائعة، و هدفك الوحيد في الحياة هو النجاة، مهما تطلب الأمر، ستفعلي أي شيء فقط لتنجي، لتحصلي على المال.
-هذا مخيف.
- هذا ما يحدث، يريدون إضعافنا لنكون دوماً خاضعين لهم، بحاجة إليهم.
- من هم؟
- من يحصل على الكتاب أولاً.
قضبت حاجباي و سألته باستنكار
- كتاب؟! أي كتاب
- لا استطيع إخبارك بأبعد من هذا.
مسحت وجهي، نظرت إلى الشاشة مجدداً، كل هؤلاء الضحايا، الكثير منهم حيا و مات من دون أن يدرك حتى ما هو في تلك الحياة، من دون ان يعثر على السبب الذي خلق لأجله، عاشوا و ماتوا وهم في متاهة مشتتين، خاضعين لسلطة لا يعرفون حتى مصدرها!
- لماذا أخبرتني؟
- من حقك معرفة هذا، من حقك إختيار الجانب الذي تريدين المحاربة لأجل، يكفي ان تحاربي بعقلك، ان تضعي أرضك الثابتة، الا تثقي بما تري.
- الست خائفاً من أن أشي بأمركم؟
ابتسم، اقترب مني، و اقترب، فتراجعت للخلف، قال بهدوء
- انتي أنقى من أن تقومي بشيء كهذا، انتي نقية بالفطرة، هذا يكفيني.
......
سقيفة الغرفة الصخرية هي كل ما أراه الآن، ولكن تفكيري لازال في كل حرف قاله لي عمر، في كل شيء علمته، في آخر جملة همس بها في أذني قبل أن يتركني و يخرج "حاربي لأجل هويتك ، لا تخضعي لهم"
وضعت الوسادة على وجهي و صرخت، صرخت بقوة، نحن نعيش في كذبة، مسرحية كبيرة الجميع يتلاعب بنا فيها، يشككون المرء في دينه، في هويته، في ثقافته، يشتتوننا، هذا ما يقومون به، هذا ما يطعموننا إياه.
- يا فتاة، ما بك؟!
أنزلت الوسادة عن وجهي، اعتدلت و نظرت إلى ميرا، ألقيت الوسادة عليها بقوة و قُلت بغضب
- اين كنتي؟!
-طلبت كارمن مساعدتي.
- كارمن؟
- الطبيبة الموجودة هنا.
ضيقت عيناي، لازلت أجهل عن من تتحدث فأكملت بضجر
- الم يخبرنا مسلم بوجود جناح طبي هنا؟ كان هناك أشخاص بحاجة إلى المساعدة فذهبت لمساعدة كارمن في هذا.
-اها، اجل تذكرت.
اماءت ثم سألت وهي تتفرس ملامحي
- ما بك؟ حالتك مزرية.
- هي دائماً هكذا.
- ولكن اليوم بشكل أكبر، احدث شيء؟ هل ضايقتك تمارا؟
- ماذا؟ لا لا تلك الفتاة لطيفة، عمر محظوظ بها.
ضحكت ساخرة و قالت وهي تنهض عن مكانها
- أجل هذا صحيح.
نزعت حجابها و ذهبت لغسل يديها، فسألتها
- ميرا. أيمكنني أن اسألك سؤالاً؟
همهمت بالإيجاب فتابعت
- هل شعرت يوماً بأن كل ما نحن فيه الآن مدبر؟
قضبت حاجبيها، أغلقت صنبور الماء و قالت وهي تضع يديها على خصرها
- من أين خرج هذا الآن؟
- مجرد سؤال.
-اسئلتك اللاوجودية تثير أعصابي.
قلبت عيناي و قُلت
- فقط أجيبي.
- لا ادري، كل هذه السنوات كنت مشغولة جدا بمحاولة البقاء على قيد الحياة للتفكير في شيء كهذا، لماذا؟
أخذت نفساً عميقاً، عانقت الوسادة التي كنت أحاول خنق نفسي بها و تمتمت
- لا ادري من أكثر حظاً، من يجهل حقيقة ما حوله و يحيا و يموت في سلام، ام من يرى حقيقة الأمور و يحارب لأجلها و حين تأتي لحظة موته يفكر في أنه قام بشيء ما، انه جعل لحياته معنى.
اقتربت و تربعت أمامي قائلة بسخرية
- من يملك العلم و المال هو الأكثر حظاً، صدقيني من يملك هاذان الأثنان سيسيطر على كل شيء، على الحياة و على الجميع، ولكن من النادر إيجاد شيء كهذا، في عالمنا الحالي من يملك المال لا يدري حتى كيف يكتب اسمه، و من يملك العلم لا يدري ايهما أسوأ الموت جوعاً أم عطشاً.
تذكرت راكان، عدي، المدينة الطبية، حركت رأسي نافية و قُلت
- هناك علماء ولكن أوغاد، لذا فهم يملكون المال و العلم.
طقطقت باصابعها أمامي و قالت بسرعة
- ها قد قُلتها، اوغاد، أي انهم تخلوا عن إنسانيتهم في المقابل، سيأخذوا نصيبهم كله في الدنيا، في الدنيا فقط، ارأيت؟ لا شيء كامل في هذه الحياة.
إلتزمت الصمت للحظات، اريد التوقف عن التفكير، عن الاحساس، عن التنفس، نظرت لها و قُلت وانا افتح ذراعاي
- اريد عناقاً.
ابتسمت و اقتربت مني عانقتني بحب، ذلك العناق يمدني بالقوة، تشبثت بها و تمتمت
- ترى أين نور و رسلان؟ كيف سنصل إليهم؟
- لا ادري حقاً، ولكن إن شاء الله جميعهم في أمان، جميعهم بخير.
.......
كنت أنظر إلى الطعام أمامي بشرود، أعبث به ،أقلبه، أشعر بالاختناق بالضيق، ولكن ليس من المكان، بل من الكوكب بأكمله.
- بيان ،هلاّ ناولتني الماء؟
رفعت رأسي و نظرت إلى عمر فوجدت تمارا تبتسم و تقول
- انا تمارا.
ثم قالت وهي تشير تجاهي
- هذه بيان.
حمحم عمر وقال بهدوء و كأن مناداة زوجته بأسم إمرأة أخرى شيء طبيعي و قال
- عذراً
- لا عليك.
قالتها وهي تناوله كأس الماء، إن جاءت لقتلي في المساء سأستقبلها بصدر رحب، تمتم مسلم بصوت منخفض وصلني
- احدهم يشتعل غيرة هنا.
حاولت ميرا كتم ضحكاتها و نظرت إلى صحنها، و لسبب ما رفعت أنظاري تجاه عمر فوجدته يراقبني، كان يراقبني بأعين ثاقبة، وهو بجانب زوجته! ابتلعت ريقي و عدت لأنظر إلى الصحن أمامي، أشعر بأن نهاية حياتي ستكون بسببه، أشعر بذلك.
- إذاً بيان، أي اخبار عن عائلتك؟
قالتها تمارا، رفعت رأسي لأنظر إليها و أجبتها
- من أين ستأتي الأخبار؟ من الحمام الزاجل!
انا وقحة، اجل انا وقحة، أشعر بأنني تحدثت بصوت إسحاق الآن، حاول الجميع كتم ضحكاتهم ولكن تباً، ضحكهم بصوت مرتفع زاد الوضع سوءاً، و بخاصة عمر.
تصبغ وجه تمارا باللون الأحمر، بدأت تشعر بالغضب، استطيع رؤية هذا بوضوح في تعبيراتها، حركة يديها ، هي محقة ،هي محقة في كل شيء، محقة في غضبها محقة في غيرتها، انا الشخص الدخيل في هذا المكان.
ابتسمت و قالت
- لم يكن هذا قصدي، ربما فكرتي في وسيلة للتواصل معهم او للبحث عنهم، هذا ما قصدت.
- لا، إن كان لديك حل أخبريني به.
- مسلم يستطيع مساعدتك.
ترك مسلم الملعقة من يده و نظر لها فبررت
- الست عبقرياً في التكنولوجيا؟
- أجل عبقرياً ولست دجالاً من أين سآتي بعائلتها!
تدخلت في الحوار قائلة
- شريحة هاتفي لازالت معي، ربما لو هناك شبكة في منطقة قريبة من هنا.
وجه مسلم حديثه لي و قال
- حسناً ، قد يساعد هذا، ربما نستطيع التجربة.
ألقيت نظرة سريعة على عمر ، كان يبدو غاضباً ، يطقطق على الطاولة بهدوء، نهض عن مكانه فجأة و قال
- بيان ، لنتحدث قليلاً.
كادت تمارا تنهض الا انه قال
- قُلت بيان.
قلبت عيناي بضيق و نهضت عن مكاني، استطيع الشعور بنظرات تمارا تحرقني، أرغب في الاعتذار منها، في إخبارها بأنني ما إن اتواصل مع نور حتى أغادر ذلك المكان و تلك الدولة بأكملها.
......
نظرت إليه و انتظرت تبريراً على كل الدراما التي حدثت قبل لحظات فتحدث أخيراً
- ظننتنا ناقشنا أمر خروجك من هنا.
- انت ناقشته مع نفسك، انا لم أَوافق على شيء.
- لست بحاجة إلى موافقتك لأبقيك هنا.
- أي انك ستحتجزني؟
- انا احاول المحافظة على حياتك،. ما الذي لا تفهمينه في هذا؟
بدأت أشعر بالغضب، الكثير من الغضب، في عظامي، عروقي، ضربات قلبي ، في إرتجاف يدي
- هذه حياتي انا، ثم ألم يكن إخراجك من هناك مخاطرة أيضاً؟
- اتقصدين انني قمت باستغلالك؟
- ليس هذا ما قُلت
- ماذا قُلتي إذاً؟ ما قصدك غير ذلك؟
صررت على أسناني ، انا لا ادري ما الذي أهذي به، مسحت وجهي ، أخذت الغرفة ذهاباً و إياباً، كان لازال يقف، ينظر إلي،. ينتظر تبريري، أخذت نفساً عميقاً، هيا تنفسي، تنفسي، أعصابي تالفة، كالعادة. انا هادئة ،انا هادئة ، عدت إليه، وقفت أمامه و بررت
- يجب أن أعثر على أختي، انت عدت إلى عائلتك و زوجتك التي تحبك، حان دوري الآن لأعود إلى عائلتي، لقد أخبرتك سابقاً بأن ما بيننا إنتهي لحظة إخراجي لك من هناك.
- وانا أخبرتك بأنني سأحميك.
زفرت بضيق و حاولت النظر إلى كل شيء عداه، و بمجرد تذكري لتمارا شعرت بأن خروجي من هنا ضرورة
- انا فقط لا استطيع البقاء، وجودي هنا ليس صائباً.
- و تعرضك للقتل قبل الوصول إلى اختك هو الأمر الصائب؟
فركت كفاي و أشحت بوجهي عنه فتابع
- سأساعدك لتتواصلي معها، ولكن خروجك من هنا لن يحدث، على الأقل ليس الآن.
كدت أجيبه فتركني و خرج، من دون أن يسمع موافقتي او اعتراضي، قال ما قاله و خرج.
- وغد.
تمتمتها في سري قبل ان اخرج و أغلق الباب خلفي بقوة.
.....
كنت في طريقي إلى الغرفة حين سمعت صوت مسلم يناديني
- ايبو، بيان.
إلتفت إليه ، ابتسم و قال وهو يقترب
- أعتذر على الدراما التي شاهدتها قبل قليل.
بادلته الابتسامة و أجبت
- لا حاجة للإعتذار ،انا من أعتذر على وقاحتي، ارجوك أخبر تمارا بهذا.
- لا يوجد وقاحة كان ردك كوميدياً.
لم ادري بما اجيب فالتزمت الصمت ليكمل هو
- على كل حال، جئت لأسألك إن كنتي ترغبين في مرافقتي انا و ميرا.
رفعت حاجباي بدهشة و سألته
- انت و ميرا! إلى أين؟
- إلى الأعلى، كنت ذاهباً لتفقد الرجال في المزرعة و اردت إصطحابكما معي كنوع من التغير، كما اننا يمكن أن نجرب التواصل مع عائلتك هناك، ربما نعثر على شبكة.
- حقاً؟
اماء ليه فابتسمت و قُلت
- حسناً ، سأحضر هاتفي و آتي.
- سننتظرك عند النفق.
.....
استطيع سماع ضحكات ميرا من هنا، انا مسرورة لأنها وجدت شيء ما يبقي عقلها منشغلاً، فإما تكون في الجناح الطبي و إما تكون مع مسلم الذي يحاول إبهارها بكل شيء قام بإختراعه او حتى إعادة تصنيعه.
- ها هي ذا.
قالها مسلم وهو يشير إلي، اراني حقيبة ظهره و قال
- لقد أحضرت ادواتي استعداداً للمساعدة.
ابتسمت و قُلت
- لا ادري حقاً كيف اشكرك على هذا.
- لا شكر على واجب.
أشار لنا كي نتبعه، كنا نمشي في نفق مختلف عن الذي جئنا منه أول مرة.
انار لنا الطريق بالمصباح بيده و قال
- اتحبون الأحجيات؟
ابتسمت ميرا و قالت
- أجل كثيراً.
إلتفت لنا و قال
- حسناً ، ها هي واحدة، له اوراق ولكنه ليس نبات، له جلد و ليس حيوان، له علم و ليس إنسان، ماذا يكون؟
تبادلت النظرات مع ميرا، عدنا لنفكر من جديد، ساد الصمت للحظات فضحك مسلم و قال
- هل اساعد ؟
- لا لا
قالتها ميرا بسرعة فصفقت بيداي و قُلت
- الكتاب.
- احسنت ، نقطة لبيان، صفر لميرا.
تذمرت ميرا بغضب
- ماذا؟ لم تخبرنا بأنها مسابقة.
-و ها قد علمت.
نظرت إلى ميرا باستمتاع فقلبت عينيها و قالت
- هات واحدة أخرى.
صمت للحظات ليفكر ثم قال
-شيئ يجب كسره قبل استعماله؟
- المكسرات.
قالتها ميرا بسرعة فضحك و قال
- حسناً، ماذا أيضاً؟
- البيضة؟
نظر إلي و قال
- ما هذا! بارعة في الأحجيات.
تدخلت ميرا
- هذا غير عادل، إجابتي صحيحة
- ليس كل المكسرات يتم كسرها قبل تناولها.
رفعت حاحبيها و قالت
- اوه، إذاً الإجابات على حسب مزاجك انت؟
ضحك ولم يعقب فالتقطت حجرة من الأرض و قذفتها على ظهره، تآوه و قال بتذمر
- هذا مؤلم، كنت امزح معك فحسب!
ابتسمت و قالت
- هات أحجية أخرى.
تدخلت و قُلت
- لا لا ميرا تغضب.
- انا لا افعل!
أجبت انا و مسلم بصوت واحد
- بلى.
حكت وجنتها بحرج و قالت
- حسناً لن أغضب هذه المرة، وعد. ، ولكن هات واحدة صعبة.
اماء لنا و بدأ يفكر قليلاً ثم قال.
- كان هناك ثلاثة عبروا جسر، الأول رأى الجسر و مشى عليه، الثاني رأى الجسر و لم يمشي عليه، الثالث لم يرى الجسر و لم يمشي عليه.
قضبت ميرا حاحبيها و سألت
- هل قُلت جميعهم عبروا الجسر؟
اماء لنا فنظرت إلي بحيرة ثم عادت لتنظر إليه و قالت
- الأول مشى عليه و الثاني طار من فوقه و الثالث زحف من تحته.
ضحكت و أيدتها
- اجل، يبدو لي هذا منطقياً. انا اتفق معها.
إلتفت مسلم و بدأ يمشي بظهره و قال
- فكرا، الإجابة سهلة، حقاً.
ضيقت عيناي و قُلت وانا إنظر إليه بشك
- أشعر بأن الإجابة ستكون سخيفة.
ابتسم و قال
- فقط فكرا فيها.
أخذت نفساً و بدأت أفكر، حاولت اللجوء إلى مهاراتي الطبية فقلت
- حسناً الاول شخص طبيعي، الثاني شخص قعيد، الثالث قعيد و فاقد لبصره.
صفقت ميرا و قالت
- اجل ، هذا يبدو أكثر منطقية، على الأرجح هذه هي الإجابة.
اتسعت ابتسامة مسلم وقال
- إذاً الا تملكون حلول أخرى؟
حركت رأسي نافية و أجبته بثقة
- لا يوجد حل غير هذا.
- بلى.
فسألته ميرا باستنكار
- ما هو ايها العبقري؟
- إمرأة حامل مع ابنها الصغير الذي تحمله على كتفها.
انا استسلم، انا حقاً استسلم، انحنت ميرا لتلتقط حجرة أخرى فتراجع بسرعة و قال وهو يضحك
- اسمعي، اسمعي هذه هي الإجابة ما ذنبي!
هدرت ميرا بحدة
- هذا حتى ليس منطقياً، لا يجب أن تحمل الحامل أشياء ثقيلة، قد يضر هذا بالجنين الجميع يعرف هذا.
- ربما ابنها كان خفيف الوزن.
- انت تهذي ، انت حقاً تهذي.
- هيا ميرا تقبلي الخسارة.
- عن أي خسارة تتحدث! اتريد اصابتي بالجنون؟! كيف اعتبروا تلك حتى أحجية!
نظرت إلي فأيدتها
- أجل، ثم ما ادراهم بأن الجنين في بطنها يُحسب كشخص؟
- انا لم أقل شخص قُلت ثلاثة، لم احدد ثلاثة ماذا.
- كان يجب ان تقول اثنان و نصف.
قُلتها بثقة ، فرفع يديه باستسلام و قال
- حسناً ، لا مزيد من الأحاجي.
- اجل هذا افضل.
تمتمت بها ميرا بضجر، شجارهما الطفولي يبدو مؤلفاً لي، كثيراً، و لسبب ما جعلني هذا أشعر بنغز في قلبي.
.......
وضعت يدي على عيناي، اهذه الشمس ؟! لم أتخيل انني سأشتاق لرؤيتها هكذا في حياتي قط، ركضت بسرعة لأنظر من الحافة، كانت الحقول الخضراء مبهرة بالأسفل، الهواء نقي، ابتسمت بسعادة و أغلقت عيناي، استشعرت ملامسة الهواء لوجهي، اخذت نفساً عميقاً لأدخل أكبر قدر من الأكسجين إلى رئتاي، إلتفت لأنظر إلى ميرا فلم تختلف عني حالاً، كانت تنظر إلى حركة السحب في السماء، الطقس دافئ اليوم، اقترب مسلم منا و قال وهو يشير إلى المراعي بالأسفل قائلاً
- كانت تلك ساحة حرب.
نظرت إليه بصدمة ، ثم عدت لأنظر إلى الجبال الخضراء أمامي، إلى الأبقار و الأحصنة بالأسفل، المزارعون ، يبدو لي هذا المكان كبقعة نسيت الحكومة إفسادها.
سألته ميرا بدهشة
- حقاً؟!
اماء ثم أجاب
- بعد الحرب هطلت الكثير من الامطار في هذا المكان، الكثير و الكثير منها ، و كأن الأرض تغسل نفسها منا،. و بعد فترة بدأت تنبت من جديد، بدأت تزدهر مجدداً فقمنا باستخدامها للمراعي و الزراعة ، من دون اللجوء إلى الآلات، العمل بدون آلات مرهق،. ولكن على الأقل لن يتسبب في إنقلاب كوكب الأرض علينا من جديد.
"خلق الله الأرض و جعلها قادرة على التعافي فقط حين لا نعبث بها" كان عمر محقاً ، نظرت بإعجاب إلى ذلك المشهد أمامي ثم سألته
- الم يعثر أحد على ذلك المكان؟
- لا أحد يرجع إلى المكان الذي يتم تدميره، يتم الشطب عليها على الخارطة.
اتمنى الا يصلوا إلى هذا المكان، سأدعوا الله من كل قلبي ان لا يصلوا إليه، ان لا يفسدوه.
وضع مسلم حقيبته أرضاً و قال وهو يقوم بفتحها
- على كل حال، هيا لنبحث عن عائلتك.
ابتسمت و أخرجت بقايا هاتفي ، قمت بإخراج شريحة الاتصالات منه و أعطيتها إلى مسلم الذي أخرج هاتفاً قديماً و وضع به الشريحة، حاولنا الاتصال بشكل طبيعي لربما يحالفنا الحظ ولكن الأمر لم ينجح لذا أخرج حاسوباً من حقيبته و حاول البحث عن أقرب نقطة نستطيع إلتقاط منها شبكة للاتصال و مع كل محاولة كان قلبي يقرع بقوة، ارجو ان يعثر على أي شيء، اريد العودة إلى بيتي، إلى شقيقتي، حقاً هذا ما ارغب به، هذه هي الخطة التي سأتبعها الفترة القادمة.


يتبع....

خارج نطاق الخدمة | Out Of Order Where stories live. Discover now