البارت الثالث عشر

56 8 0
                                    

انا لست مجنوناً، انا فقط لم استطع التعبير عن كل تلك الضوضاء في رأسي بشكل مناسب!
_._._._._._._._._.

الثوان ، الدقائق، الساعات، الأيام، الأسابيع، كلها متشابهة، كلها تمر بسرعة .
لم يُخبرني عدي بما قاله القائد له في ذلك اليوم، لم يحذرني منه ،لم يطلب مني وضع انفي حيث هو، و عوضاً عن ذلك كلفني بالعديد من المهام، حالات مختلفة لأتابع معها.
في هذا المكان لا فارق بين المعالج النفسي و طبيب المخ و الأعصاب، بعض الحالات أدخل لها كمعالجة نفسية، أتحدث معهم، اسمع مخاوفهم، آرى الحياة من منظورهم، و حالات أخرى أدخل كطبيبة مخ و أعصاب، أدرس تأثر التركيبة الكيميائية داخل عقولهم، الخلل الذي يحدث فيها، هذا ما كان يُدربني عليه عُدي، أصبحت أقضي وقتاً أقل مع عمر، وقتاً أقل مع إسحاق، الكثير من الوقت مع الحالات الأخرى.
وقتي مع عمر كنا نقضيه في العلاج الطبيعي و الذي كانت خبرتي فيه بالسالب أقسم، ولكن التعرف على طبيبة علاج طبيعي و استخراج منها ما انا بحاجة إليه من معلومات كان أسهل ما قمت به منذ قدومي إلى هنا ، فكان حديثنا من باب "الفضول" ليس إلا، انا اخبرها بطبيعة عملي وهي تخبرني بطبيعة عملها ، نتبادل الهموم، نتبادل المواقف المضحكة التي نمر بها.
كل يوم كنت أتناول الإفطار معها صباحاً، أذهب لتطبيق ما تعلمته منها على عمر مساء.
كانت حالته تتحسن ولكن ببطء شديد، حتى بعد إبدال حبوب المنوم بالفيتامين، بالإضافة إلى الوهن في أعصاب قدميه، عقله الباطن ينهي فكرة قابلتيه على التحرك و النهوض.
......
نظرت إلى عمر أمامي، اتسعت إبتسامتي وانا اراه يحرك قدمه ببطء من دون مساعدتي، كان يرفعها و يخفضها بهدوء، نظر إلي و استطعت رؤية اللمعة في عينيه، ابتلع ريقه و أسند ذراعه على ذراع الكرسي، يرغب في تجربة الوقوف، يريد أن ينهض.
اقتربت منه بسرعة و قُلت
- لا نريد المخاطرة.
-دعيني أجرب .
كان مصراً ، لا أنكر ، انا أيضاً اريد أن نجرب هذا مجدداً، ضغطت بأقدامي على مكابح الكرسي لأتأكد من أنها لن تتحرك.
نظرت إلى عمر ،إلى لون عينيه الغير متطابق، إلى ذلك الأمل الذي يتسرب منهما، الحياة التي عادت إليهما.
أخذت نفساً و قمت بإسناده من الجانب الأيمن، فوضع هو ذراعه الأيسر على ذراع الكرسي.
- حين أصل إلى ثلاثة.
اماء لي فبدأت العد
- واحد.... أثنين.... ثلاثة.
حاول رفع نفسه عن الكرسي، حاول إسناد نفسه بذراعه الأيسر و أقدامه، استطيع الشعور به يحاول تصليب جسده، يحاول الوقوف، برزت عروق ذراعيه كالنهر الذي يشق طريقه، قام برفع نفسه عدة سنتيمترات عن الكرسي ولكنه لم ينهض بعد، أقدامه لم تستقم ، كان يقسو على نفسه كثيراً، يضغط على أقدامه بكل ما أوتي من قوة ليجعلها تستقيم.
- حسناً عمر ، يكفي.
حرك رأسه نافياً و قال بحدة
- سأنهض
- ستؤذي نفسك ،لازلت غير قادراً على هذا.
لم يستمع إلي ، لا ادري لماذا هو بذلك العناد.
- عمر توقف.
لا يتوقف ، كان يحاول أكثر و أكثر، لم أرغب في القيام بهذا ولكنني قمت به، تركت ذراعه فهوى على المقعد، أشعر بحقارتي لقيامي بشيء كهذا، و كأنني أخبره بأنه لا شيء من دوني، ولكن أقسم ان هذا ليس ما قصدت، انا فقط أخشى عليه من القيام بحركة خاطئة تهدم كل ما قُمنا به.
نظر إلي بحزن ،ضيق، كره، احتقار، لا ادري ،لا ادري فيما يفكر بالضبط ولكن على الأرجح تفكيره لا يختلف كثيراً عما فكرت به.
- لمَ فعلتي بي هذا؟
- ستؤذي نفسك.
- تركتني لأسقط.
مسحت وجهي ، ابتلعت ريقي، قلبي يؤلمني، حاولت التبرير
- تركتك لأنقذك.
- كدت أن انهض، لو لم تفلتيني لــ..
قاطعته بحدة
- لا، لازلنا بحاجة إلى الوقت، ثم أن ما أقوم به هو بدائيات العلاج الطبيعي، هناك أجهزة يفترض استخدامها معك ولكن لا استطيع إحضارها، لذا الأمر بالتأكيد سيتطلب وقتاً أطول بكثير مما توقعنا.
صمت للحظات، نظر حوله، عاد لينظر إلى أقدامه، تسارعت وتيرة أنفاسه، عاد لينظر إلي و قال
- ربما لن أذهب لأبعد من ذلك، ربما لن أنهض.
- بلى ستفعل.
- لا ، لن أفعل.
أقتربت منه ،جثيت على ركبتاي أمامه و قُلت
-عمر ، قم بمحو تلك الأوهام من عقلك، قم بمحو تلك الأفكار الكاذبة التي بات عقلك الباطن غارقاً بها، أنظر إلى الواقع ،تستطيع تحريك أقدامك، تستطيع الشعور بها، تستطيع النهوض، قم بوضع بصمتك الخاصة داخل عقلك ،أتذكر أمر الأعلام؟ قم بوضع علمك الخاص.
تفرست ملامحه بحثاً عن أي دليل على إقتناعه بكلامي ولكن لا شيء سوى اليأس.
- أعيديني إلى الغرفة.
- عمر إسمـ.
قاطعني بحدة
- اعيديني.
زفرت بضيق و نهضت عن مكاني، لا يقتنع، عمر أعند من قابلته في حياتي يوماً، يصعب إقناعه بشيء، و كل هو فيه الآن مع الأسف الشديد يرتبط إرتباطاً كبيراً بما يعتقده و يؤمن به، ولكن لا بأس ،سنحاول مجدداً، سنحاول و نحاول إلى ان ينهض.
.......
بعدما أعدته إلى غرفته نزلت إلى الطابق الثالث لأقوم بجولتي اليومية، أتفقد العشر حالات التي أتابعها حالة تلو الأخرى، أكثر ما يرهق بالأمر هو ذلك الجهد الذي أبذله داخل عقلي كي لا أخلط الحالات ببعض، كثير من الأمراض أعراضها تتشابه في كل شيء ولكنها تختلف عند نقطة معينة و هذه النقطة هي ما تجعل منه مرضاً آخر تماماً.
طرقت الباب أمامي ثم دخلت، سيدة في الثلاثون من عمرها، كانت ترتدي حجاباً و تنظر من النافذة بشرود لدرجة انها لم تنتبه حتى لدخولي فحمحمت قائلة
- مرحباً ليلى.. كيف حالك؟
إنتبهت لوجودي أخيراً، ابتسمت و أجابت
- بحال أفضل.. ماذا عنك؟
- بخير.
اقتربت منها و جلست أمامها سائلة
- اتشعرين بتحسن اليوم؟
اماءت عدة مرات ثم سألتني
- متى سأخرج من هنا؟
- هذا يعتمد على سرعة التحسن، إن شاء الله يكون هذا قريباً.
اماءت مجدداً ثم عادت لتنظر من النافذة فسألتها
- هل تشعرين بالراحة في علاجك الجديد؟
صمتت للحظات تفكر ثم أجابت
- لا ادري، ولكن على ما أظن أجل.
- الفارق الزمني بين كل نوبة صرع و أخرى بدأ يتباعد، هذا مؤشر جيد.
- أجل ولكن.. حين تأتي إلي تبدو أقوى.
قضبت حاجباي و سألتها
- كيف؟
- حين تأتيني النوبة أشعر بألم في كل مرة أكثر من التي قبلها،. ذلك الوخز يبدو و كأنه يخترق جسدي.
- متى بدأ ذلك الأمر؟
فركت كفيها و أجابت
- مع العلاج الجديد.
- لماذا لم تخبريني بهذا سابقاً؟!
- لا ادري، ظننت أن تلك الأعراض ستزول.
- هل أخبرت دكتور عدي؟
حركت رأسها نافية فسألتها
- لماذا؟
- لا ادري.
أخذت نفساً عميقاً، هذا مؤسف فقد وضعنا جميعنا الأمل في ذلك الدواء الجديد، نهضت عن مكاني و قُلت
- حسناً ، سأخبر دكتور عدي بهذا و سنجد حلاً.
اماءت لي و نهضت عن مكانها متجهة إلى سريرها و قبلما أخرج سألتها
- اتريدين الاضاءة؟
- لا.
- تصبحين على خير.
- وانت أيضاً.
ابتسمت و خرجت من الغرفة، أخرجت هاتفي من جيبي فكانت الساعة 4:30ص.
إنتهيت من جولتي باكراً اليوم و مع ذلك فأشعر بالإرهاق الشديد، متعبة و الصداع لا يفارقني، أرغب في النوم
.....
طرقت باب الغرفة و دخلت، كان لازال مستيقظاً ، يرسم شيئاً ما، ابتسمت و قُلت
- مرحباً أيها الجامح.
رفع أنظاره تجاهي ثم عاد ليكمل ما يفعل و قال
- حالتك مزرية.
ضحكت و دخلت قائلة
- شكراً... انت أيضاً تبدو في حالة جيدة.
ابتسم و لم يعلق فأكملت
- أخبرني عدي بأنك كنت نائماً طوال اليوم، هل انت بخير؟
- أجل.
- لمَ غيرت مواعيد نومك إذاً؟
- لتتوافق معك.
كانت إجاباته مقتضبة ولكنها تعني الكثير، جلست على المقعد قبالة سريره و سألت مجدداً
- ماذا ترسم؟
- تبدين متعبة.
حككت وجنتي و أجبته
- أجل ، الانتقال من مكان لآخر في ذلك المكان بحاجة إلى سيارة.
- لا أقصد جسمانياً.
وضع دفتره جانباً ثم تابع
- نفسياً... ماذا بك؟
- أنا بخير.
- لا، لست كذلك...هيا بوڨارديا ما الأمر؟ من أطفأ حماسك؟
ضيقت عيناي و سألته بفضول
- بوڨارديا! من بوڨارديا؟
رفع حاجباه بدهشة و سأل
- الا تعرفينها؟ حقاً!
حركت رأسي نافية عدة مرات، ابتسم ثم أجاب بعد فترة قائلاً
- حسناً ، هذا نوع من أنواع الصبار.
- الصبار؟
- أجل.
- أي أنني أذكرك بالصبار؟
- أجل لأنك صبورة .
إنفلتت مني ضحكة و أشحت بوجهي بعيداً عنه، و على الرغم من شعوري بأن الكلمة لها معنى آخر غير الذي قاله الا انني لا أملك طاقة لمجادلته.
- حسناً دعك من الألقاب و لنعد إلى موضوعنا.
تربع أمامي فسألته.
- كيف تشعر؟ ألازلت ترى تلك الأشياء؟
- كان موضوعنا عنك انتِ، عن مشاعرك وليس عني.
- صدقني إرهاق ليس إلا.
زفر بضيق و قلب عينيه، أحضر دفتره من على السرير و عاد لما كان يرسم.
- لم تجبني.. الازلت ترى تلك الأشياء؟
- لا.
- هل تفقد السيطرة على جسدك كما كان يحدث؟
- فقط في الكوابيس التي أراها كل يوم.
- ماذا ترى فيها؟
صمت للحظات، إبتلع ريقه و ترك القلم من يده، أخذ نفساً و قال
- والدتي.
قضبت حاجباي بتفاجؤ ،لم يتحدث عنها مسبقاً، لم يخبرني بشيء كهذا من قبل.
- حقاً؟ أتعلم كيف تبدو؟
- أجل، عثرت على صورة لها عندما كنت صغيراً و احتفظت بها.
كنت استمع إليه بحرص فوجدته يفتح الدرج بجانب سريره، قام بإخراج دفتر صغير و فتحه، أخرج منه صورة صغيرة الحجم.
- إقتربي.
نهضت عن مكاني و اقتربت منه، نظرت إلى الصوره في يده كانت لشابة جميلة تبدو في العشرينات من عمرها، شعرها الأسود الطويل ينسدل على ظهرها، ملامحها ناعمة، ملائكية، عينيها رمادية اللون تماماً كإسحاق، الابتسامة التي زينت ثغرها أوصلت إلي مدى سعادتها في لحظة إلتقاط الصورة، كانت ترتدي فستاناً أبيض اللون و تحمل في يدها جهاز صغير.. أهذا إختبار حمل! كان خلفها بيتاً جميلاً و خلفه منظر للجبال يسلب الأنفاس، بدت الصورة و كأنها من عالم آخر، من عالم أكثر أماناً، أكثر سلماً عن ذلك الذي نحن فيه.
إلتقط الصورة منه و تمعنت بها ، قلبتها فوجدت مكتوباً على ظهرها

خارج نطاق الخدمة | Out Of Order Onde histórias criam vida. Descubra agora