البارت الخامس

85 10 1
                                    

لا تتركيني لعقلي، لا تفعلي بي ذلك.
؀؀؀؀؀؀؀؀

مر اسبوعين منذ تلك الليلة الغريبة التي مررت بها.
أخيراً  وضعت انفي في مكانه و كبحت فضولي، و على الرغم من صعوبة ذلك الا أنني قمت به! هذه معجزة حقاً.
بنيت علاقة طيبة مع معظم الموجودين في المدينة الطبية سواء اكانوا من الاطباء ام من المرضى.
بدأت أتفهم حالاتهم أكثر و ساعدني عُدي في ذلك كثيراً.
فبدلاً من أن كان تركيزي منصباً على الخمس حالات التي كلفني بها، بات يساعدني على دراسة حالات مختلفة.

كانت علاقتي جيدة بصابرين منذ اليوم الأول ولكنها توطدت أكثر خلال الأسبوعين الماضيين، بدأت تفتح لي قلبها، اخبرتني كيف قاموا بإعتقالها بالخارج، لم يكن لها ذنباً في جرائم زوجها البشعة و انما كانت تحاول الاعتناء بإبنها ليس إلا، و عوضاً عن تركها و شأنها اعتقلوها ليضغطوا بها عليه كي يخرج من مخبأه، و بعد عام كامل من التعذيب النفسي و الجسدي، اكتشفوا انهم دمروا حياتها عبثاً ، فكان زوجها قد مات بالفعل! لذا اخلوا صراحها و اعادوها الى بلدها هنا،. اعادوها كجثة هامدة بالكاد تنبض فيها الروح!
اما مارتين و علي فكانا على حالهما. يجب ان اخبرهما بمن أكون في كل يوم، ولكن لأكون صادقة يتذكرني علي الى حد ما بسبب البسكويت الذي أحضره اليه حين ادخل لأعطيه الدواء و على ما أظن انه أحبني لذلك!
لازال يناديني بإسم "سعاد" التي لازلنا لا نعلم من هي ولا حتى هو يعلم من هي، فاتضح ان زوجته كان اسمها "ناردين" ولكن لا بأس ، لن نظن في الرجل سوءاً.

اسحاق لازال يمقت رؤيتي و رؤية عُدي و أي شخص يدخل له، حالته تزداد تدهوراً، وتيرة انهياره و هياجه العصبي باتت أسرع من ذي قبل،. أذكر انه قال لي ذات مرة اثناء غضبه و حالة هياجه انني وضعت له شيئاً في الدواء لذلك لن يأخذه ابداً. و لحسن الحظ اخرجني عُدي من الغرفة قبل أن يقوم إسحاق بقتلي!

روبيرت كان أكثر من أوليه اهتمامي بناء على توصية عُدي، لازلت لا ادري لماذا هو الوحيد في ذلك الطابق و لم اسأل، ولكن تفاجئت حين أدركت بأنه لا يُسمح الا لأشخاص معينين فقط الصعود الى ذلك الطابق
(انا - عُدي - محمد - بيرم - الممرضة التي تحضر الطعام)
و أيضاً لم اسأل عن سبب ذلك على الرغم من رغبتي الملحة في معرفة السبب، اخبرتني فيروز ايضاً بأن لا أحد منهم يعرف كيف هو شكل روبيرت!
اما حالته النفسية فكانت لازالت كما هي، جسمانياً هو سليم مئة بالمئة، لم يخسر في ذلك الحادث سوا ذراعه الأيمن حتى مرفقه، ولكن يبدو و كأنه في عالم موازي! ليس معنا، و على الرغم من ذلك الا أنني أشعر به ينظر اليّ في بعض الأحيان، أشعر به يراقبني و كأنه في كامل وعيه، لم أخبر عُدي بذلك لأنني لا استطيع ان اجزم إن كان ذلك حقيقياً أم انني اتوهم!
ولكن الآن،. في هذه اللحظة، كنت أقف امام خزانته مولية إياه ظهري اخرج له ثياباً نظيفة، ارتفعت حرارته منذ البارحة و كلما تناول شيئاً تقيأ ما في معدته كله!
كانت الساعة 2:30 ص لذلك وقعت مسؤولية تنظيف المكان عليّ بما انه لا يُسمح لأي شخص بدخول الغرفة او حتى الصعود الى الطابق! من يُنظف إذاً؟ محمد و بيرم و كلاهما يأتيا في النوبة الصباحية! هذه سخافة، على الأقل ليتركوا لي واحداً منهما في المساء! جبناء أقسم
كنت ادندن لحن موسيقى ما لا ادري من أين أتيت بها حين نظرت الى انعكاس روبيرت من المرآة الموجودة في خزانة الملابس، وجدته ينظر اليّ، الى عيناي مباشرة،. كان وجهه أحمر اللون،. يا الهي حرارته مرتفعه!
التفتُ لأنظر اليه بعدما أخرجت الثياب، ابتسمت و قُلت
  - سأنظف كل ذلك لا تقلق
  كان جالساً على السرير، اقتربت منه فوجدت أنظاره معلقة عليّ، أهو يراقبني؟! ابتلعت ريقي و حاولت المحافظة على ابتسامتي، الصقت كرسيه المتحرك بالسرير ليسهل علي نقله.
وقفت في مكاني للحظات،. كانت ثيابه متسخة و بشرته شاحبة.
  - حسناً، نستطيع القيام بهذا،اليس كذلك؟
  كالعادة لا رد، ثبتّ عجلات الكرسي كي لا ينزلق و رفعت ذراع الكرسي، أحضرت جهاز التحكم الخاص بمستوى السرير، رفعته قليلاً ليكون مستواه اعلى من الكرسي، بالنظر الى فارق الحجم بيني و بين روبيرت،. إن حاولت حمله سينتهي  الأمر بكلينا على الأرض و عظامنا متهشمة!
اقتربت منه بعدما ارتديت القفازات الطبية و حاولت نقل قدمه اليمنى اولاً على الكرسي و بعد ذلك اليسرى.
صعدت على السرير كالقرد و على ما يبدو انني سأكون بحاجة إلى حمله، أخذت نفساً عميقاً و نظرت الى الكاميرا بسخط، اتمنى ان يكون عُدي يحظى بنوم هانئ الآن.
أخذت نفساً آخر و قلت
  - سأحاول رفعك لثوان قليلاً لكي أضعك على الكرسي،. اتفقنا؟
  قمت بالعد في سري 1، 2، 3 و حاولت رفعه، او دفعته بمعنى ادق على الكرسي، حسناً هذا جيد ولكنني بحاجة الى دفعة اخرى، قمت بالعد مجدداً و دفعته و اخيراً أستقر على مقعده. صفقت بسعادة و قلت وانا اقفز من على السرير
  - ارأيت ذلك؟ اخبرتك بأن كل شيء سيكون على ما يرام.
  ظهري يؤلمني، ولكن لا بأس، بالتأكيد ما كنت لأدع روبيرت هكذا حتى يأتي عدي في الصباح ليقوم بتبديل ثيابه!
انزلت ذراع الكرسي و رفعت المكابح بأقدامي و دفعته الى الحمام. لحسن الحظ ان الجزء الذي تقيأ عليه كان العلوي فقط لذلك احضرت منشفة و وضعتها على قدمه كي لا ابلل سرواله،. نظرت اليه بحزن فكان يبدو متعباً، يا الهي اشعر بالذنب لإصراري على إطعامه،. ولكنه حقاً لم يتناول أي شيء منذ يومين و العلاج الذي يأخذه ثقيلاً على معدته! او هذا ما قاله عُدي فلازال هو المسؤول عن إعطاءه دواءه بنفسه.
  - ستكون بخير
  قمت بفتح صنبور الماء و تأكدت من أن المياه دافئة، نزعت الكنزة التي كان يرتديها و لحسن الحظ لم يتسخ التي شيرت أسفلها ، هذا حقاً جيد، بدأت أغسل له وجهه و ذراعه الأيسر، و قُلت ممازحة إياه
  - لو انتبهت الى أن الكنزة هي التي اتسخت فحسب ما كنت جازفت بنقلك. لماذا لم تخبرني؟
  نظر الى إنعكاسي في المرآة، نظر الى عيناي ، أشعر و كأنه يراني بالفعل، و كأنه يقصد النظر إليّ، ابتلعت ريقي و سألته بحذر
  - روبيرت، ما الأمر؟
  حاولت تفرس ملامحه علّي أفهم ما يدور في باله، الا انني انتفضت حين دق هاتفي بالخارج، خرجت بسرعة بعدما أغلقت صنبور الماء، بحثت عن مصدر الصوت فوجدته على سرير روبيرت، كان عُدي هو المتصل، فتحت الخط و أجبت
  - مرحباً؟
  - هل حدث شيء؟
  كان صوته نائم، الحقير لقد كان نائماً بينما انا أحارب هنا، نظرت الى الكاميرا فاستطعت رؤية تلك اللمبة الحمراء الصغيرة مضيئة، أجبته
  - تقيأ روبيرت مجدداً و اتسخت كنزته.
  - لماذا لم تهاتفيني؟ كيف استطعت نقله!
  - لا اعلم كانت تلك معجزة ،ثم انني ما كنت سأنتظر مجيئك، لن اتركه في هذه الحالة حتى تأتي.
  استطعت سماع تنهده من الجانب الآخر فتابعت
  - ولكنني حقاً بحاجة الى شخص ما معي، إما محمد او بيرم.
  - حسناً ، سأتحدث مع المدير حين آتي غداً
  امأت له فسأل
  -  أتريدين مني القدوم الآن؟
  - لا، انا بخير صدقني
  ابتسمت و اشرت له من الكاميرا فقال بتعب واضح في صوته
  - آراك بعد بضع ساعات إذاً.
  اغلق الخط و ثوان و قد انطفأت اللمبة الحمراء في الكاميرا، عدت بسرعة الى روبيرت فكان يتنفس بهدوء، نظر الي حين دخلت، قضبت حاجباي فهذا يعني بأنه قد بدأ يدرك وجودي، ابتسمت و اقتربت منه سائلة
  - مرحبا، هل انت بخير؟
  لم يجبني كما توقعت، يا الهي نسيت إحضار كنزته الأخرى من الخارج.
  - سأحضر لك الثياب و آتي. لحظة واحدة
  التفت و ما كدت أخرج الا و تصلبت في أرضي، تسارعت ضربات قلبي و ابتلعت ريقي، ذراعي يؤلمني، نظرت الى تلك اليد التي تمسك بذراعي بقوة، ثم رفعت أنظاري الى روبيرت، لازالت انظاره معلقة عليّ. كانت يده تضغط على ذراعي، قام بسحبي تجاهه وانا كالصنم، لا ادري ماذا افعل، احملق به ببلاهة، اراقب شفتاه التي تحاول التحرك
  - اهر..ـــبي.
  نظرت الى عيناه بصدمة ، ماذا يقول؟ ماذا افعل! ماذا يحدث؟ ابتلعت ريقي و حاولت الابتعاد، لا ادري ما الذي يصوره له عقله الآن، لا ادري في أي عالم هو، حاولت سحب يدي و الابتعاد عنه،فشد على ذراعي أكثر و قربني منه هامساً
  - بيـ...ان ، إهر..ب..ي و لا تُخب.. ريهم
  أغلق عينيه، ابتلع ريقه، كان يحاول التذكر و بعد ثوان فتح عيناه و تابع.
  - لا تخبريهم ،بشأني.
  فتح احدهم باب الغرفة و دخل منادياً
  - دكتور بيان ؟
  ترك روبيرت يدي و عاد الى وضعه، كنت لازلت احملق فيه، كنت اقف كالصنم ، استطيع الشعور بضربات قلبي.
اشعر بالتشتت ، اشعر بالخوف!
  - دكتور بيان؟
  التفت فوجدت احد ممرضين الطابق الثالث يقف امامي بشرته بيضاء و شعره يميل إلى الذهبي عيناه بنية اللون، كان اطول مني بكثير، و بينما انا أنظر اليه متفاجئة من وجوده كان هو يتفحص روبيرت و ينظر اليه بدهشة، الآن تيقنت من أن لا أحد يعرف كيف هو روبيرت!  عدت الى رشدي و حمحمت سائلة
  - ما الأمر ايريك؟
  وجّه أنظاره تجاهي بسرعة مجيباً
  - هاتفني الدكتور عدي و أخبرني بأن آتي لمساعدتك ، سأتولى الأمر من هنا.
  عدت بإنظاري الى روبيرت ، كان ينظر إلى اللاشيء، لا تعبيرات على وجهه، أكنت اتوهم؟  نظرت الى ايريك و قُلت
  -حسناً. سأنتظر بالخارج، إن حدث شيء أخبرني.
اماء لي فتركته و خرجت من الحمام و من الغرفة بأكملها، وقفت امام باب الغرفة، اكنت حقاً أتوهم؟ أمسكت ذراعي حيث كانت قبضة روبيرت فشعرت بألم،. يا الهي لقد تحدث! لقد تحدث إليّ!! أغلقت عيناي و تذكرت صوته، لقد كان رخيماً، عميقاً، به بحة رجولية، نظراته لم تكن خالية من الحياة كما عهدتها، بل رأيت فيهما القلق، كأنه كان يترجاني أن اهرب، اهرب مماذا؟ ماذا يقصد؟! أيجب إخبار عُدي؟ يجب أن اخبره بما حدث.
مسحت وجهي و أخذت الممر ذهاباً و إياباً، يكاد عقلي ينفجر من كثرة التفكير،ماذا يحدث في هذا المكان!
مرت 10 دقائق، 10 دقائق جحيمية التهمني فيها عقلي من كثرة تفكيره، حين فتح ايريك باب الغرفة و قال
  - لقد انتهيت.
  ابتسمت له و شكرته قائلة
  - شكراً لك، كثيراً
  اماء لي و أجاب بتهذيب
  - هذا واجبي، شيء آخر قبل أن ارحل؟
  - الا يمكنك البقاء تحسباً إن حدث شيء؟
  حرك رأسه نافياً و أجاب
  - انا حقاً آسف
  - لا بأس، لا عليك، شكرا
  اماء لي و اثناء ذهابه سقط شيء ما من جيبه، كان شيئاً صغيراً أسود اللون، اقتربت منه و ناديته
  - هناك شيء سقط منك.
  التفت إلي و حين نظر إلى حيث أشير سارع بإلتقاط ما سقط منه أرضاً، ساورني الشك تجاهه فسألت بفضول
  - ما كان هذا؟
  حمحم و بدا عليه التوتر و أجاب
  - لا شيء.
  رفعت حاجباي ، ازداد شكي تجاهه، ابتلع ريقه و قال مبرراً
  - صدقيني لم أسرق شيئاً،. لا اعلم ما يدور في بالك ولكن لم أسرق.
  - ما هذا إذاً؟
  اقترب مني و هو يراقب المكان حولنا، أخرج ما سقط منه أرضاً من جيبه و قال
  - اسمعي.. ليبقى هذا بيننا حسناً؟ لا اريد الدخول في متاعب.
  -حسناً ،أعدك.
اراني ما في يده كان جهازاً صغيراً دائري الشكل، به شاشة لمس و ثلاثة أزرار بالمنتصف فسألته.
  - ما هذا؟
  - هذا مسجل.. يصعب علي تذكر كل تلك الطلبات التي تُطلب مني لذلك أقوم بتسجيلها.
  - حقاً؟ لماذا تخفيه إذاً؟ يبدو لي ذلك عادياً!
  - لا لا هذا غير مسموح به هنا، ارجوك ليبقى بيننا، ما كنت لؤذي به أحد هذا فقط لتذكيري.
  نظرت إليه فكانت عيناه راجية، أخذت نفساً عميقاً، ابتسمت و قُلت مطمئنة
  - حسناً، لا تقلق لن أخبر احد
  بادلني الابتسامة و قال
  - انا من هواة الالكترونيات، إن احتجت إلى أي شيء بإمكانك طلبه مني.
  - بالتأكيد سأفعل.
  اماء لي بهدوء ثم رحل ، تابعته بأنظاري لثوان قبل ان ادخل الغرفة، كان روبيرت مستلقياً على السرير ينظر الى اللاشيء كعادته، تسارعت ضربات قلبي و اقتربت منه بحذر، كان ايريك قد قام بتحميمه و تغيير ثيابه بأكملها.
  - روبيرت
  قُلتها بحذر و تفرست ملامحه،. انتظرت منه أي رد فعل ولكن لا شيء ، اقتربت منه قليلاً و سألته
  - روبيرت ، هل تسمعني؟
  لم ينظر إليّ حتى، مسحت وجههي و تمتمت
  - يا الهي سأصاب بالجنون، هذا المكان سيصيبني بالجنون.
  ابتلعت ريقي و اقتربت من روبيرت مجدداً، نزلت على ركبتاي بجانب سريره، همست له بصوت خافت
  - روبيرت ارجوك اجبني إن كنت تسمعني، لا يُعقل أن يكون هذا من خيالي!
  أغلق عيناه، لم يتحدث، لا دليل على ان ما حدث قبل قليل كان حقيقة!
زفرت بضيق و نهضت لأخرج من الغرفة أغلقت الضوء و الباب خلفي حين خرجت، أشعر بخيبة أمل حقاً، مسحت وجهي مجدداً، و توجهت الى المصعد
....
كنت أنتظر المصعد ، تعهدت الا أنظر إلى الممر المسكون ولكنني فعلت،كان طويلاً،. مظلماً كالعادة،. كلما نظرت شعرت و كأنني أنظر الى مقبرة، كيف كان الحريق الذي اندلع هنا؟ هل حقاً مات الجميع؟ الم يستطيعوا إنقاذهم!
ماذا عن ذلك الذي وجدوه منتحراً؟ هل له علاقة بالحريق؟ هل كانت له علاقة بروبيرت؟
ماذا حدث هناك؟ ما الذي يجب عليّ الهرب منه!
فُتح باب المصعد فدخلت و ضغطت على زر الطابق الثالث، يجب ان اتوقف عن التفكير
.....
لم اصعد الى الطابق الرابع مجدداً في ذلك اليوم و حاولت تشتيت نفسي عما حدث، أنا اتوهم على الأرجح انا حقاً أتوهم! و حين جاء عُدي لسبب ما لم أخبره بما حدث.
لماذا لم أخبره؟ اليست تلك وظيفتي! تباً انا أُفسد كل شيء، لحسن الحظ  أخبرني عدي بأن آخذ اجازة، انا حقاً بحاجة الى ذلك ، بحاجة الى ذلك بشدة.

خارج نطاق الخدمة | Out Of Order حيث تعيش القصص. اكتشف الآن