البارت السادس

65 8 0
                                    

أشعر بالضيق،. أشعر بالاختناق ، الكون لا يتسع لي،. الكون لا يتسع لوجودي.
؀؀؀؀؀؀؀؀؀
الأيام متشابهة، الأحداث نفسها، تعقب الوقت بات صعباً، لا ادري متى يبدأ اليوم و متى ينتهي، فاليوم يمر بسرعة،. ما يحدث من اسبوع يبدو و كأنه حدث البارحة،ما حدث البارحة يبدو و كأنه حدث صباح اليوم! يا الهي ما هذه الفوضى!
عاصفة جليدية تضرب كل ما هو بالخارج، حمداً لله وصلنا المدينة باكراً.
نظرت إلي صابرين و سألتني
  - متى ستنتهي العاصفة؟
  - لا ادري، ولكن ارجو ان تنتهي سريعاً قبل أن نعلق هنا!
  لم تُعقب على ما قُلت ولكن سرعان ما تسمرت في مكانها حين انطفأت الكهرباء و عادت مجدداً.
  - هل ستنقطع الكهرباء؟!!
  رأيت الهلع في عينيها فأجبتها بسرعة
  - يوجد مولد كهرباء، لا تقلقي
  على ما أظن.. ابتسمت لها و طمئنتها من أن كل شيء سيكون على ما يرام، تركتها و خرجت من الغرفة مغلقة الباب خلفي و ذهبت لأعطي الدواء لمارتينا و حين انتهيت  توجهت الى غرفة اسحاق.
طرقت الباب و دخلت ، كان جالساً على المقعد بالقرب من النافذة رافعاً أقدامه على الطاولة الصغيرة بالغرفة و في يده كتاب ما، من أين جاء بالكتاب؟
حمحمت لألفت انتباهه و قلت تزامناً مع دخولي
  - مرحبا، كيف حالك؟
  لم يجبني، لا اعلم هل هذا تجاهل ام انه لم يسمعني لذا اقتربت منه و سألته بحذر
  - اسحاق، هل تسمعني؟
  - اجل
  قالها ببرود من دون أن ينظر اليّ فسألته مجدداً
  - كيف حالك؟ هل تشعر بأي تحسن؟
  - لا
  - بما تشعر؟
  لم يجبني مجدداً، ارغب في صفعه على وجهه حقاً، ما كدت أتحدث الا و تفاجئت بمن يفتح باب الغرفة بعنف و يدخل، التفتُ فكان رجلاً بدا في منتصف الاربعين من عمره،جسده متناسق وضخم، ملامحه حادة و تعبيراته صارمة، كانت عيناه بنية اللون، ولكن ملامحه تشبه إسحاق كثيراً ، يرتدي زياً عسكرياً ولكنه مختلف عن الذي اراه عادة ،. أظنه لرتبة أعلى،. أشار اليّ بسباباته قائلاً ببرود
  - أخرجي
  قضبت حاجباي و سألته بإستنكار
  - عفواً؟
  - اخرجي
  قالها مجدداً وهو يشدد على كل حرف، ضممت يدي الى صدري و سألته
  - و من تكون؟
  رفع حاجباه بدهشة و كأنه ينظر الى طفلة ، نظرت الى اسحاق فوجدته لازال على وضعه، لم ينظر حتى ولكن ابتسامة صغيرة أرتسمت على محياه
  - انتي الفتاة الجديدة إذاً... لا عجب في أن حالة إسحاق لا تتحسن.
  ابتلعت إهانته ولم أعقب فتابع بجدية
  - راكان عبد العزيز، القائد الأعلى للمدينة الطبية
  تسمرت في مكاني للحظات، شعرت كمن سقط على رأسه دلو ماء بارد و كل ما جاء في بالي هو
"إسحاق راكان عبد العزيز"!
التفتُ لأنظر الى اسحاق فابتسم و قال ساخراً وهو يلقي الكتاب بإهمال على الطاولة و ينهض
  - هل تفاجئتي؟
  حركت رأسي نافية بسرعة و قلت
  - لا، كنت أعرف ولكنني لم أتشرف بلقاء القائد الأعلى سابقاً
، انا اكذب، عُدي لا يخبرني بأي شيء، ولا أعلم السبب خلف ذلك. قاطع حبل أفكاري راكان حين قال بوقاحة
  - و ها قد تشرفت بلقائي و الآن... أخرجي
  على الأقل علمت بأن الوقاحة في عائلتهم وراثية، لم أعقب و توجهت الى الباب و قبلما أخرج سمعته يقول ساخراً من إسحاق
  - و انت الى متى ستظل مختل عقلياً؟
  كيف له يحدث ابنه هكذا!
ثم تابع بحدة
  - أنجبت فتاة لم تستطع تحمل الحرب كالرجال اليس كذلك؟
  صررت على أسناني، لا تتدخلي. لا تتدخلي ، لا شأن لك
التفتّ اليه و قلت بحدة
  - كيف لك ان تتحدث معه هكذا؟
  نظر اليّ اسحاق بصدمة و كذلك والده الذي نظر إلي،. تفحصني من الأعلى الى الاسفل قبل ان يقترب مني و ادركت حقاً مدى ضخامته في هذه اللحظة ،. لو انزل كفه على وجهي سأصاب بإرتجاج في المخ، ابتلعت ريقي و نظرت اليه منتظرة رد فعله فقال بهدوء مريب
  - هل ستعلمينني كيف أحدث ابني؟
  - اجل
  سحقاً لذلك الفم الذي لا يصمت، اقتربت منه و تابعت بحدة
  - انت لا تساعده هكذا،. انت تزيد من حالته سوءاً، طالما هو هنا و في هذه الغرفة،فمسؤولية علاجه تقع على عاتقي انا، و إن لم تكن تنوي المساعدة فعلى الأقل لا تزد من الوضع سوءاً.
  توقعت الكثير ، ان يقوم بصفعي،. ان يقوم بضربي،. ان يأمر بإعتقالي،. اي شيء يدمر مستقبلي ولكن عوضاً عن ذلك اقترب مني، و على الرغم من الشر الذي رأيته يتطاير من عينيه الا انه ضحك و سأل ساخراً
  - هل القى عُدي بحمل ابني على كاهلك الآن؟
  - لا لم يفعل، انا مساعدة الدكتور عُدي
  - أي مسؤولية اذاً التي تقع على عاتقك ايتها الصغيرة ؟
  شعرت بالاستخفاف في نبرته، فأجبته بثقة لا ادري من اين جاءت
  - مادامت الساعة تخطت الحادية عشر، اصبح اسحاق تحت مسؤوليتي انا،. و رعايتي انا ، انا من اهتم به،. انا من اساعده و لن اسمح ابداً لأي شخص أن يعامله بهذه الحدة.
  - و إلا ماذا؟
  على الرغم من انني لا أملك ما أقول الا انني لم أقطع التواصل البصري بيننا، لن أجعله يشعر بلذه إنتصاره عليّ
  - هذا لم يكن تهديداً، هذا كان إعلاماً بما يحدث.
  حك ذقنه بخفة ، نظر الى إسحاق ثم عاد لينظر اليّ، عيناه مخيفة، إن كانت العين هي نافذة الروح، فأنا أتعامل مع أشباح!
  - حسناً ايتها الصغيره ، إن لم يتعافى إسحاق الذي تقع مسؤلية علاجه على عاتقك، في اقرب وقت، اعدك بأنك لن تري ضوء النهار من جديد.
  رمق اسحاق نظرة احتقارية قبل ان يخرج و يغلق الباب خلفه بعنف، نظرت الى أثره للحظات قبل ان اعود بانظاري الى اسحاق ، كان قد عاد الى موضعه قبل أن يدخل والده بلامبالاة، يبدو و أنه معتاد على ذلك
  - اتضح انك اشجع مما يبدو عليك.
  ابتسمت و سألته
  - هل هو هكذا دائماً؟
  قال وهو يقوم بفتح الكتاب مجدداً
  - أجل
  زفرت بضيق ، لم يكن لطيفاً حقاً ما قاله والده له، اقتربت من إسحاق و جلست على المقعد المقابل، اخرجت عبوة بسكويت من جيبي و قُلت بينما أقوم بفتحها
  - أحضرت لك هذا.
  رفع أنظاره عن الكتاب، ارتسمت إبتسامة خفيفة على محياه و سأل بعدما أنزل قدميه ارضاً
  - اليس هذا لعلي؟
  - لا لا، احضرته لك، هناك واحد آخر له.
  نظر إلى عيناي و قال محذراً
  - لن آكله وحدي
  امأت له و ابتسمت
  - أجل ، سنتشاركه
  وضعت العبوة على الطاولة و ما إن وضعت واحدة في فمي و ابتلعتها حتى آخذ إسحاق واحدة.
  -اسحاق
همهم و نظر إلي فتابعت
  - إن كان هناك ما ترغب في قوله يمكنك فعل ذلك.
  ابتلع ريقه، كان متردداً، أعاد شعره إلى الخلف و نظر إلى العاصفة بالخارج، أغلق عينيه للحظات و حين فتحها سأل
  - فيما يُفيدني الحديث معك؟
  - الا تريد أن تتعافى؟
  - الفوضى التي نعيش بها لا تقل سوءاً عن الفوضى في رأسي.
  - على الأقل لن تكون محاصراً من الداخل و الخارج.
  اخذ بسكويتة اخرى و بعد معاناة بينه و بين نفسه أخيراً قال
  - أشعر و كأن شخص ما يتحكم بي.
  - أي نوع من التحكم؟
  زفر بضيق، هل أثرت غضبه؟ كيف لصعلوك في التاسع عشر من عمره أن يجعلني اتوتر هكذا خشية  اغضابه!
مسح وجهه و أجاب بعد لحظات
  - كأنني دمية في يد احدهم، القرارات التي آخذها كأن شخص ما هو من يجبرني على إتخاذها.
  -متى كانت اول مرة راودك هذا الشعور؟
  - في ساحة الحرب
  شرد للحظات و كأنه يخوض تلك التجربة مجدداً، و تابع
  - كان السلاح في يدي، الدماء تُغطي جسدي، الكثير من الجثث، الكثير منها في كل مكان.
  رفع أنظاره لينظر إليّ، تجمعت الدموع في مقلتيه و تابع
  - كل ما كنت أفكر فيه هل حقاً قُمت بقتلهم! انا حتى لا ادري لماذا عليّ قتلهم، ما السبب الذي أحارب لأجله! صدقيني لم يكن انا، ما كنت لأقتل أي شخص، انا لست قاتلاً.
  تسارعت ضربات قلبي وانا أنظر إليه،. استطعت الشعور بمشاعره،. التمست الألم في صوته
  - انا آسفة.
  مسح دموعه ثم ابتسم و قال ساخراً
  - ليس انتِ من عليه الإعتذار، بل المرضى النفسيين بالخارج.
  - هل ذلك الشعور  يراودك بشكل دائم؟
  حرك رأسه نافياً
  - لماذا لا تأخذ علاجك إذاً؟ سيساعدك على التحسن.
  ابتسم و اقترب مني قليلاً،. كانت الطاولة هي الفاصل بيننا، همس بصوت منخفض
  - لأنهم مرضى نفسيين.
  قضبت حاجباي و سألته
  - من تقــ...
  انقطع التيار الكهربائي فجأة،. انعدمت الرؤيا، تعالت الأصوات و كل ما جاء في بالي هو
  - صابرين!!!!
انتفضت عن مكاني بسرعة و خرجت ركضاً من الغرفة وانا أهم بإخراج هاتفي ليضيء لي الطريق إلى غرفتها!
.....
كان الوضع في الممر إلى حد ما فوضاوي، الجميع يحاول التهدئة من الوضع في الطابق، الكثير من الحالات هنا تعاني من فوبيا الظلام. اصطدمت بفيروز عن طريق الخطأ فسألتها
  - الا يوجد مولد كهرباء هنا؟
  -بلى، ولكن لا ادري ماذا حدث!
  لم أعقب و توجهت بسرعة إلى غرفة صابرين،. فتحت الباب و دخلت بحثاً عنها،. لا استطيع الرؤية، رفعت هاتفي لأبحث عنها على سريرها ولكنها ليست هنا.
  - صابرين؟
  استطعت سماع صوت نحيبها قادم من ركن ما في الغرفة
  - صابرين، انا بيان... اين انتي؟
  لم تجب، اقتربت من مصدر الصوت و حين رفعت هاتفي ليُضيء ما أمامي وجدتها متكورة على نفسها في زاوية الغرفة،. ضامة ركبيتها الى صدرها و تبكي بصمت،. كان جسدها يرتجف و تمتمت بكلام لم أفهمه، اقتربت منها بحذر و ما إن قمت بلمسها حتى صرخت في وجهي بفزع
  - ابعديهم عني،ابعديهم عني، ابعديهم، ابعديهم.
  جثيت على ركبتاي امامها و حاولت تهدئتها قائلة
  - صابرين لا يوجد شيء، انا معك، انا هنا.
  حركت رأسها نافية و بدت لو انها لم تسمع ما قُلت حتى!
لمست كتفها و ربتُ عليها، اضاءة الهاتف لا تكفي لتهدئتها، كانت ترتجف أسفل يدي، ناديت على فيروز بعلو صوتي
  - فيـــروز.... فيــروز
  سماعها لي في تلك الفوضى معجزة، جاءت راكضة و بالكاد لمحتها تدخل من الباب
  - ألا يوجد كشاف؟ شموع؟ أي شيء
  - وجدت واحداً في الاستقبال
  - احضريه.
  تركتني و خرجت فعدت بإنظاري إلى صابرين،. لازلت في حالة من الهستيريا، وضعت يداي على كتفيها لأجبرها على النظر إليّ و قُلت بصوت مرتفع لتنتبه لوجودي
  - صابرين انا بيان، انظري إلي.. انا بيان
  بالكاد رفعت عينيها لرؤيتي، حركت رأسها نافية و قالت وهي تبكي
  - اخرجيني من هنا،. اخرجيني ارجوك
  - لن يقوم أحد بإيذائك.. انتي في المدينة الطبية.
  ابتلعت ريقها ، بدأت أتنفس طالبة منها ان تقوم بتقليدي
-شهيق، زفير، شهيق، زفير. شهيق، زفير
هدأت وتيرة أنفاسها ببطء فتابعتُ
  - أحسنت، احسنت هذا جيد
  دخلت فيروز و في يدها الكشاف، كان يضيء الغرفة بشكل يكفي لتدرك صابرين انها ليست في المعتقل.
نظرت إليها و سألتها
  - أهذا جيد؟ هل انتي بخير؟
  مسحت دموعها و اماءت عدة مرات، ساعدتها على النهوض بحذر، أجلستها على السرير و أمسكت يدها برفق، حقاً اريد ازالة ذلك الحزن و الخوف عنها، كانت لازالت تشهق، مسحت المكان بعينيها بسرعة لتطمئن أنها في غرقتها، كنت لازلت أمسك بيدها حين دق هاتفي، عدي يتصل!
أجبت قائلة
  - مرحبا
  فجائني صوته قلقاً
  - بيان ، ما الأمر؟ هل كل شيء على ما يرام؟
  تنهدت و أجبته
  - انقطع التيار الكهربائي و على ما يبدو هناك عطل في المولد.
  - اين انتي؟
  - مع صابرين
  - ماذا عن روبيرت؟
  - لا ادري، ولكن محمد معه.
  - لا استطيع الوصول إلى محمد .
  قضبت حاجباي ، بدأت أشعر بالقليل من القلق و مع ذلك فقلت مطمئنة إياه
  - حسناً لا تقلق، سأذهب لتفقدهم الآن و أهاتفك
  - حسناً
  أغلقت الخط و نظرت إلى صابرين ثم رفعت انظاري إلى فيروز، كانت لازالت واقفة
  - فيروز، هلّا بقيت مع صابرين قليلاً؟
  اماءت لي فتركتهم و خرجت بسرعة ركضاً تجاه المصعد ، المصعد، المصعد يجب أن اصل إليه بسرعـ...
تباً ، المصعد لن يعمل فالكهرباء منقطعة،. فيما أفكر انا؟!
ضربت مقدمة رأسي عدة مرات و توجهت الى سلم الطوارئ فكان أقرب لي.
فتحت باب المخرج و كم كان ثقيلاً، خرجت و نظرت حولي كان المكان مخيفاً ، بارداً، بدأت أصعد على الدرج المعدني، اصعد درجة و اتخطى اثنتان، أصعد درجة و اتخطى اثنتان، ذلك الدرج يخيفني لذلك اريد الخروج منه سريعاً، انزلقت قدمي فاصطدمت ركبتي اليمنى بإحدى الدرجات المعدنية،. هذا مؤلم، على ما أظن بأنها قد جُرحت، لا بأس، يجب أن اكمل، أخذت نفساً عميقاً و تابعت الصعود، بطارية هاتفي قد نفذت و حين أخرجت الهاتف الذي اعطاه لي عُدي كانت على وشك النفاذ هي الأخرى! أيعقل أن يكون الوضع أسوأ من ذلك؟!
....
المكان هادئ زيادة عن اللازم، بحثت بعيناي عن محمد في الممر ولكن لا أثر له.
  - مُحمـــد؟ هل انت هنا؟
  لا صوت، لا حركة ، أشعر و كأنني في مقبرة، أشعر بالبرد.
توجهت إلى حيث غرفة روبيرت أملاً في إيجاد محمد هناك، وصلت و طرقت الباب، فتحته ببطء و دخلت، رفعت هاتفي ليُضيء لي المكان حولي، روبيرت مستلقياً على سريره ولكنه مسيتقظ، محمد ليس هنا! هذا غريب.
اقتربت من روبيرت بحذر، هو مستيقظ، ينظر إلى سقف الغرفة بشرود، نظرت إلى ذراعه الأيسر فوجدت قبضته متشبثة بالملاءة من أسفله، تحدثت بصوت هادئ
  - روبيرت ، هل تستطيع سماعي؟
  ارتخت قبضته، حول أنظاره تجاهي،. اتسعت ابتسامتي، هو بالفعل يستطيع سماعي! اقتربت منه بسرعة و سألت مجدداً
  - كيف حالك؟ هل انت بخير؟
  ظلت أنظاره معلقة عليّ.
  - أنقطع التيار ، ولكن لا تقلق، سأبقى معك.
  - ب..يان.
  لفظ اسمي، مجدداً، أنا لا أتوهم هذه المرة، انا لا اتوهم، لقد لفظ اسمي، إبتلعت ريقي و اقتربت منه بحذر، قلبي ينبض بقوة، يا الله اتمنى الا يكون هذا وهماً، لقد التزمت على علاجي.
  - روبيرت ! هل تستطيع رؤيتي؟
  -بيان..ارحلي من هنا، ولا تخبريهم بأمري.
قضبت حاجباي ، اقتربت منه أكثر لاتفرس ملامحه، كان هادئاً، صوته رخيماً، لا استطيع فهم ما يقول، أشعر بالتشتت.
  - أووه ، يبدو ذلك المكان مخيفاً في المساء
  التفتُ خلفي بصدمة إلى مصدر الصوت،. كان يقف مستنداً على الباب، يداه في جيبه
  - اسحاق! كيف أتيت؟! ماذا جاء بك؟!
  ابتسم و اقترب مني قائلاً
  - نسيتي إغلاق باب غرفتي، لذلك خرجت لأتفقد ما تفعله طبيبتي الجميلة حين لا تكون برفقتي.
  - لا يجب أن تكون هنا.
  - اجل اعرف ، و هذا ما يجعل وجودي هنا مثيراً للاهتمام.
  سيصيبني بالجنون اقسم، قلبت عيناي و قبلما أتحدث تابع اسحاق وهو يقترب من روبيرت
  - أهذا هو إذاً؟
  سألته بفضول
  -  روبيرت، أتعرفه؟
  رفع حاجبيه و استطعت رؤية الدهشة ترتسم على محياه، لفظ الإسم بين شفتيه بهدوء متمتماً
  - روبيرت
  انفلتت منه ضحكة صغيرة و قال
  - هذا هو الاسم الذي يطلقونه عليه إذاً!
  نظر إلي و قال
  - انا اقسم ذلك الرجل بطلي الخارق
  - ماذا تقصد؟
  - الجميع يريده، الجميع يبحث عن...
  صمت للحظات قبل ان يكمل
  - روبيرت... إنه حديث القاعدة.
  اقترب أكثر و أكثر من روبيرت، إنحنى إلى مستواه، كان يتفحص ملامحه بدقة، قال بصوت منخفض بالكاد استطعت سماعه
  - يريدون قتلك، إما ان تهرب، أو ان تبقى مريضاً إلى الأبد
  - حسناً، اسحاق هذا يكفي، إلى الخارج هيا.
  قلتها بحدة و انا أشير له تجاه باب الغرفة، اعتدل في وقفته و نظر إلي.
  - هيا بيان بربك، اتقومين بطردي الآن؟
  - أجل، كم من مرة قمت بطردي من غرفتك؟
  اقترب مني و قال
  - ولكننا أصدقاء الآن ، أليس كذلك؟
  - أجل، و مع ذلك فعليك الخروج.
  ابتسم و اجاب باستفزاز
  - ماذا إن كنت أريد البقاء برفقتك؟ اهكذا تعاملي مرضاك؟ اليس من المفترض انني تحت مسؤوليتك انتي؟
  بدأ رأسي يؤلمني حقاً، سيصيبني بجلطة، أغلقت عيناي، اخذت نفساً عميقاً،. إهدأي،. على الأقل بدأ يثق بك، على الأقل أصبح إلى حد ما ودوداً معك، هيا بيان نفساً عميقاً
فتحت عيناي و ابتسمت قائلة
  - أجل ،انت تحت مسؤوليتي، و اجل نحن اصدقاء، ولكن  حقاً لا يجب أن تكون هنا، أرجوك اسحاق قد يضرني وجودك هنا. أرجوك عد إلى غرفتك و أعدك بأنني سآتي.
  صمت ولا ادري فيما يفكر، كان ينظر إليّ تارة و إلى روبيرت الذي التزم الصمت أخرى، ابتلع ريقه و سألني
  - أهذا وعد؟
  امأت له فابتسم و قال
  - حسناً إذاَ، سأنتظرك.
  نظر إلى روبيرت و قال قبلما يخرج بصوت مرتفع
  - كما أخبرتك، إما الهرب، أو المرض.
  - إسحــــاق
  قُلتها بحدة ، وضع يده في جيبي ليسحب عبوة البسكويت قائلاً
  - أحضري لعلي واحداً آخر
  نظرت إليه بغضب شديد، ليس لأجل البسكويت بل لأنه مستفز، ضحك و خرج من الغرفة، أخيراً،. أغلق الباب خلفه و يا الهي سأجن! دق الهاتف في يدي "عُدي" أجبته
  - روبيرت بخير انا معه الآن
  تنهد من الجانب الآخر و قال
  - لماذا هاتفك مغلق؟
  -  نفذت البطارية، ولكن كل شيء على ما يرام لا تقلق.
  - حسناً، هذا جيد، هل محمد موجود؟
  - لا، لم أجده، سأبحث عنه.
  - لا لا، ابقِ مع روبيرت و إن حدث أي شيء هاتفيني.
  - أجل بالتأكيد... الكاميرا لا تعمل أليس كذلك؟
  - أجل.
  - حسناً لا تقلق سأبقى هنا.
  - جيد.
  أغلقت معه الخط، ألتفت لأنظر إلى روبيرت فتسمرت في مكاني، كان جالساً! تراجعت إلى الخلف و بدأت ضربات قلبي تتسارع، أنا أريده أن يكون بخير، اريده ان يتعافى ، ولكن حقاً ما يحدث معه يخُيفني كثيراً،نظراته.
نظراته كانت أكثر ما تُخيفني! ابتلعت ريقي، سألته بحذر وانا لازلت اتراجع ببطء
  - ر.. روبيرت، هل انت بخير؟
  حرك رأسه نافياً ببطء شديد وهو لازال ينظر إليّ
  - ما الأمر؟ ماذا هناك؟ أتريد مني مهاتفة دكتور عُدي؟
  - لا تفعلي.
  قالها ببطء ، بدا و كأنه يُعاني ليخرج كلماته.
  - ح.. حسناً، أتعلم أين انت؟
  اماء بالإيجاب
  - أتعلم من أكون؟
  أماء مجدداً، بدأت أهدأ قليلاً، مادام في وعيه لا يوجد ما يُخيف، تسرب الأمل إلى داخلي و اقتربت منه بحذر سائلة
  - بما تشعر؟
  طال صمته، أغلق عينيه للحظات، فتحها ببطء و لم يُعقب، سألته سؤالاً آخر
  - اتستطيع التحرك؟ أيمكنك أن تنهض معي؟
  حرك رأسه نافياً
  - ولكنك بخير، إن حاولـ
  قاطعني بقوله
  - الدواء..
  - أتشعر بألم؟
- الدواء يتسبب في شلل.... اقدامي.
  تسمرت في مكاني، أستطيع الشعور بالحرارة تسري في جسدي بأكمله، نظرت إليه، بصدمة، ابتلعت ريقي، لا لا لابد وأنه ليس مدركاً لما حوله، اقتربت منه مجدداً، نظرت إليه لأتفرس ملامحه ، عيناه الغير متطابقة. سألته بهدوء على عكس الإعصار بداخلي
  - روبيرت، أين انت؟
  - في المدينة الطبية.
  - من أنا؟
  - الدواء... يسبب.. لي.. شلل... .
  كان يتحدث بصعوبة، ولكنه بدا لي في كامل وعيه، اعتدلت في وقفتي، مسحت وجهي، أخذت الغرفة ذهاباً و إياباً، لا،. لا هذا لا يحدث، هل حقاً سأصدقه؟ لا لن أفعل، يجب إخبار عُدي، كان يراقب تحركي في الغرفة، اريد أن ابكي، أريد أن ابكي، لن ابكي،. لن افعل.
توقفت عن الحركة و نظرت إليه
  - منذ متى وانت في وعيك؟
  - عدة... أشهر.
  حركت رأسي نافية ، أنا لا أتوهم، انا لا أتوهم
  - ك.. كيف ؟ الأشعة التي يقوم بها عُدي.
  - الأشعة لا تُظهر كل شيء.
  حسناً، حسناً انا هادئة، أخذت نفساً عميقاً، نفساً آخر.
  - كيف إستطعت التظاهر طوال تلك الفترة! كيف لم يلحظ أي شخص ذلك؟!
  - إرحلـ.. ي.. مـن.. هنــا و.. لا تخبريهم بأمري.
  عادت الكهرباء فجأة، نظر روبيرت إلى الكاميرا ثم عاد لينظر إلي، ابتلعت ريقي و التزمت الصمت، أغلقت مصباح الهاتف و قبلما أفتح التطبيق الخاص بالكاميرا كانت بطارية الهاتف قد ماتت! يا الهي هذا سيء، لا أملك شاحن.
لا ادري إن كانت الكاميرا تعمل أم لا!
اقتربت من روبيرت لأساعده على الإستلقاء هامسة
  - لا ادري إن كانت الكاميرا تعمل أم لا.
  شعرت به يريد إخباري بشيء ما و على الرغم من ذلك فقد إلتزم الصمت و أغلق عينيه.
بعدما وضعت الغطاء عليه بيدي المرتجفة، خرجت و أغلقت الباب خلفي كالمغيبة تماماً، توقف عقلي عن العمل، قلبي يؤلمني كثيراً،. مشاعري متضطربة ، روبيرت في وعيه منذ عدة أشهر! كيف لم يلحظ أحد؟! أكان لؤي يعرف بأمره؟ ربما هو الذي ساعده لهذا قاموا بقتله؟ ولكن من؟ و لماذا؟ كانت يدي لازالت متشبثة على مقبض الباب حين تذكرت " إسحاق!" على الأرجح هو يعرف كل شيء، ولكن كون روبيرت لم يبد أي رد فعل امامه يعني أنه لا يثق به،. لماذا وثق بي إذاً؟ لماذا يريد مني أن اهرب عوضاً عن مساعدته هو!
أغلقت عيني لأمنع تلك الدموع التي ترقرقت في مقلتاي.
انا حقاً أشعر بالتشتت، حاولت السيطرة على أعصابي، حاولت تهدئة نفسي.. أين محمد؟
قررت الذهاب للبحث عنه، توجهت إلى قسم الإستقبال حيث يكون دائماً، وجدت هاتفه ولكنني لم أجده! هو لا يتحرك من دون هاتفه
  - مُحـــمد!
لا صوت ، لا أثر له، اين ذهب؟ بدأت أبحث عنه في كل مكان، في كل الغرف تقريباً، حتى في الحمام الموجود بالجانب الأيسر ولكن لا شيء،. و بالمناسبة، أدركت انه لا أحد في الطابق بأكمله غيرنا. لا يوجد مرضى لا يوجد أطباء، فقط انا، روبيرت، و محمد المفقود.
....
ألمتني قدمي من البحث عنه،. الطابق كبير للغاية، هذا وانا أبحث في جانب واحد، تجنبت الذهاب إلى الجانب الآخر ولكن على ما يبدو لا يوجد حل آخر، يجب أن أذهب إلى هناك.
....
ها هي الأشرطة أمامي تمنع الاقتراب، ابتسمت ساخرة وكل ما جاء في بالي، من مخيف أكثر، الجن ؟ أم البشر؟
على ما أظن بأن كلا الجنسين يتنافسا على من أشد سوءاً.
ابتلعت ريقي و تخطيت الأشرطة، هاتفي ليس معي هذه المرة لذا سأتحرك بحذراً إعتماداً على الضوء الخافت القادم من النوافذ، كنت أمشي بحذر، لا صوت هذه المرة سوى صوت ارتطام الأبواب و تطاير الأشياء بالخارج فالعاصفة لازالت مستمرة، أبتلعت ريقي و تقدمت بحذر، رغبت في النداء على محمد ولكن شيء ما منعني من إصدار أي صوت.
لازلت امشي بحذر ، أشعر بالبرد، أشعر بالخوف.
كنت الامس الجدار بأطراف أصابعي خشية من التعثر، أين ذهب؟! أختفى!
وصلت إلى قسم الإستقبال، آخر مرة أتيت فيها إلى هنا لم يمر الأمر مرور الكرام. حسناً لا شيء
إلتفت لأنظر إلى المصعد المقابل لقسم الإستقبال فتسمرت في مكاني لما رأيته أمامي، تجمدت الدماء في عروقي،. ما عاد الأكسجين يتسع لرئتاي، محمد! جثة هامدة.
 
 
 
 

خارج نطاق الخدمة | Out Of Order Where stories live. Discover now