البارت التاسع عشر

50 8 2
                                    

لم نعد نبحث عن الوحوش أسفل الفراش، اتضح ان الوحوش الحقيقية تكمن في داخلنا!
_. _. _. _. _._

لازلت لا ادري ماذا حدث، ولكن المدينة الطبية أغلقت الكهرباء بأكملها أثناء الغارة، ربما هذا ما احدث الخلل في بوابات المدينة السفلى، اتمنى أن يكون الجميع بخير.
هاتفي قرر أن يفقد الشغف الآن، في أكثر وقت أحتاجه فيه، اظنني سقطت عليه حين دفعني عمر من البوابة.
بقي القليل على شروق الشمس و الطريق لازال مظلماً.
مر من جانبنا الكثير من الدبابات و المضرعات، الطيارات الحربية لم تتوقف منذ خرجنا من المدينة، هناك غارة ولكن لازلت أجهل أين هي بالضبط، لا ادري أي مدينة تلك التي تتعرض للهجوم ولكن يبدو لي الوضع سيئاً، ربما لهذا أراد راكان نقل عمر، كان يعلم بأن هذا سيحدث، كان يعلم بذلك الهجوم!
حاولت تشغيل المذياع، حاولت معرفة أي شيء ولكنه بالكاد يعمل، بالكاد بدأت اسمع ما يُقال.
" البلاد في حالة حرب مـ... ع...."
زفرت بضيق و ضربت المسجل بيدي بغضب، اعصابي بالفعل تالفة، نظرت من المرآة إلى تلك المضرعات القادمة من خلفنا.
- بيان انتبهي!!
لف عمر عجلة القيادة بسرعة قبل ان نصطدم بتلك السيارة أمامنا، ضغطت على المكابح بعزم ما أوتيت من قوة فتوقفت السيارة فجأة و حمداًلله لم نكن على سرعة عالية!
ابتلعت ريقي وانا أنظر بصدمة إلى ذلك المشهد أمامي، الكثير من السيارات الخالية، كنا أمام مفترق طرق، بدأت ضربات قلبي تقرع بسرعة، هذا ليس جيداً، جميع السيارات بدى و كأنها قادمة من مدينة كياجيك، ولكن أين من كان بها! ماذا حدث لهم؟
"كما تعرضت المدن الجاري ذكرها إلى هجوم و غارات متلاحقة و...."
يا الهي ليس مجدداً، ابتلعت ريقي و شعرت بتوقف الزمن حولي، بدأت المذيعة تذكر أسماء المدن التي تعرضت للقصف ، اسم يلي الآخر، كان قلبي يضرب بقوة، يكاد يخرج من بين ضلوعي إلى أن ذكرت أسم "كياجيك"
تلك الحرارة التي تملكت مني، و كأن النيران بدأت تلتهمني ، ذلك الفراغ الذي شعرت به، نظرت إلى عمر، ابتلعت ريقي، يجب ان أذهب ، يجب أن اذهب، سأذهب، نور بخير، رسلان بخير، عائشة بخير، ميرا بخير.
- يجب أن اذهب.
بدأت اتحرك بالسيارة تجاه المدينة فاعترض عمر بحدة
- بيان لا تهذي ، يجب ان نكمل طريقنا.
- لن أفعل ، يجب أن أعثر عليهم أولاً و بعدها نذهب اينما شئت، فقط دعني اذهب إليهم، دعني اتأكد من انهم بخير.
- راكان سيبحث عنك هناك، هذا اول مكان سيبحثون عنا فيه.
بدأت أشعر بدموعي تجري كالسيول على وجنتاي يدي ترتجف، اكره هذا.
- بيان يجب ان نرحل، انتي تخاطري بكل ما قمنا به.
- هذه عائلتي ، لن اترك عائلتي افهمت؟
- ما الذي ستفعلينه هناك! المدن دُمرت ، بالتأكيد غادروا، لا احد هناك.
تحركت بالسيارة تجاه كياجيك فضرب عمر التابلو و قال بغضب
- بيان توقفي عن العناد، سيقوموا بقتلنا،. إن ذهبنا إلى هناك لن نخرج، لا انوي العودة إلى ذلك الجحيم من جديد.. لن أفعل.
- لا تأتي إذاً.
استطعت رؤية ملامحه التي تبدلت، و كأنه لا يصدق ما أقول، و كأنني اهذي، انا لا أفعل، انا لا أفعل.
- اتمزحين؟
ابتلعت ريقي و التزمت الصمت، توقفت بجانب إحدى السيارات الخالية، عجزت عن النظر إليه.
- إن كنت سأموت، على الأقل لأموت بجانب شقيقتي.
- لقد جننت.. اقسم.
- ما بيننا انتهى منذ أخرجتك من هناك.
مال برأسه قليلاً ليتفرس ملامحي، قضب حاجبيه و سألني.
- حقاً يا بيان؟
أشحت بوجهي إلى الجانب الآخر، اغمضت عيناي ، جسدي يرتجف،. جسدي يرتجف بطريقة تثير أعصابي، انا افقد السيطرة، انا غاضبة، خائفة، لا استطيع التفكير سوا في عائلتي، ترجل من السيارة و ما إن اغلق الباب حتى أنطلقت بالسيارة على سرعة عالية، نظرت إلى انعكاسه من المرآة، كان يقف في منتصف الطريق، يراقبني،
ضربت عجلة القيادة بقوة، بغضب، بدأت ابكي،بدأت أصرخ، تباً، تباً، تبــاً
......
المباني مهمشة، محطمة بشكل يؤلم القلب، كل شيء تحول إلى رماد، كل شيء مختلف لدرجة انني اعجز عن تحديد الشوارع، مسحت دموعي و حاولت التركيز ، حاولت التذكر، هناك ضحايا، الكثير و الكثير من الضحايا، اطفال، نساء، رجال، كبار، ما ذنبهم في تلك الحرب! ما ذنبهم بقذارات الحكومات! ما ذنبهم في المشاكل السياسية! كل ما ارادوه هو العيش في سلام!
و مع شروق الشمس بدأت الرؤيا تضح، بدأ المنظر يصبح أقبح فأقبح، الجثث.. الكثير منها!
حاولت الا أنظر ، يجب أن اصل إلى البيت، سأفعل، سأصل.
......
تفاجئت حين دخلت إلى الشارع، المباني تأثرت ولكنها لم تسقط كغيرها، تأثرت بالقنابل و القصف ولكنها لم تسقط، توقفت بالسيارة بسرعة أمام البناء و ترجلت منها ركضاً تجاه المبنى.
كنت أصعد الدرج بسرعة، تعثرت و سقطت عدة مرات ولكني نهضت، كنت اقفز على درجة و أتخطى الأخرى و مع كل درجة أصعدها اشعر بضربة قوية في قلبي، إلى أن وصلت إلى الباب، كان مغلقاً ، طرقت و طرقت ولكن لا احد يجيب، اظنني كدت اكثر الباب من قوة طرقاتي، اخرجت المفتاح من حقيبتي، كانت يدي ترتجف، سقط مني فأحضرته، تباً. وضعته في فتحة الباب و لففته بسرعة.
- نــور.
دخلت ركضاً ، بحثاً عنها،. بحثاً عن عائشة، دخلت إلى غرفتها، فتحت الباب ولكن لا أحد، عدت إلى غرفة عائشة، إلى غرفتي، غرفة الجلوس، غرفة الضيوف، المطبخ، الحمامات، لا احد، لا احد، لا احد، انا وحدي، انا وحدي.
وقفت في منتصف البيت، لا ادري ماذا أفعل، لا ادري إلى أين اذهب، لا ادري كيف أعثر عليهم.
اغمضت عيناي، هل عثر عليهم راكان؟ هل هربوا من الحرب؟ ماذا حدث لهم!
أخذت نفساً عميقاً و دخلت إلى غرفة عائشة، فتحت خزانة ملابسها، معظم ثيابها غير موجودة، بدأ الأمل يتغلل داخلي، ركضت إلى غرفة نور و فتحت خزانة ثيابها، نفس الشيء، معظم ملابسها غير موجودة، أخذت نفساً عميقاً، لقد رحلوا.
ابتلعت ريقي و جلست على سريرها، لا ادري هل ابكي ام اضحك، انا وحدي، انا وحدي، ماذا افعل!
استلقيت على السرير، ضممت ركبتاي إلى صدري بتعب، انا متعبة، اغمضت عيناي ، سأبقى هنا،. سأنتظرها هنا ، ربما سيأتوا ، ربما سيرجعوا بحثاً عني، ارجو ان يكونوا بخير، ارجو ان يكونوا قد رحلوا، بالتأكيد رحلوا ، ربما سافروا لعائلة رسلان خارج البلاد، عانقت نفسي بقوة ، سيكون كل شيء على ما يرام، سيكون كل شيء على ما يرام، لن يتركني الله وحدي.
......
فتحت عيناي ، أظنني نمت! ابتلعت ريقي و قبلما انهض سمعت صوت حركة بالخارج، هل عادوا! نهضت عن مكاني بسرعة، و خرجت من الغرفة بحثاً عنهم فتسمرت في مكاني، كان احد جنود المدينة الطبية، استطعت تميزه من ثيابه، من تلك الشارة على ذراعه ، ابتلعت ريقي و تراجعت خطوة للخلف فرفع سلاحه تجاهي سائلاً
- أين هو؟
- لا أعرف.
اقترب مني ولازالت فوهة المسدس مصوبة عليّ، هدر بحدة
- أين هو؟
- أخبرتك لا ادري، إن لم تكن تصدقني فابحث في البيت كما شئت.
ألقى نظرة سريعة على البيت خلفي، عاد لينظر إلي، دفعني بمسدسه في كتفي و قال بحدة
- تحركي.
بدأ يقودني إلى غرفة الجلوس، كان ينكزني بالمسدس من لحظة لأخرى بشكل مؤلم، بشكل أشعرني بالغضب، بالإهانة، انا خائفة، ولكن شعوري بالغضب أكبر من أي خوف لدي.
دخلنا الغرفة ، بحث من دون أن ينزل المسدس
- إن كنت ستقتلني فقط افعل... أخبرتك لا أعرف أين هو.
دفعني مجدداً بالمسدس و قال وهو يشير إلى المطبخ
- ماذا يوجد هنا؟
لم أعقب فدفعني من جديد ذلك الحقير ، قام بفتح الخزانات، قام بالتفتيش خلف الستار،فتح باب سلم الطوارئ و نظر من الخارج، لم يترك إنشاً الا و فحصه، بينما هو مندمج إلتقطت طاسة القلي الموجودة على الرخام و إلتفت ضاربة إياه في وجهه بها، تراجع خطوة للخلف فضربته بركبتي أسفل معدته و ما إن سقط المسدس من يده حتى دفعته بقدمي قبل ان يصل إليه و ضربته مجدداً على رأسه بعزم ما أوتيت من قوة، ضربته بكل الخوف و القلق و الغضب الذي أشعر به، بذلك الألم في قلبي، كان توقيته في المجيء مثالياً،. راقبته يسقط أرضاً أمامي بذلك النزيف في أنفه، لست قوية، ولكنه عنصر المفجأة كل ما أحتجت إليه، وقفت مدهوشة أنظر إلى ما قامت به يداي، إبتلعت ريقي و لوهلة اردت مساعدته ولكن تباً بيان عودي إلى رشدك!
أخذت مسدسه و خرجت بسرعة من المطبخ، يجب أن أخرج من هنا، على الأرجح لم يأتي وحده، سيأتي البقية بحثاً عنه و عني.
و قبلما أصل إلى باب البيت توقفت في مكاني بصدمة، لوهلة ظننتني اتوهم ولكن، إنه هنا!
- عمر؟!
نظر إلي ثم إلى المسدس في يدي، ثم إلي، ثم إلى صوت التآوهات الصادر من المطبخ، ثم إلي من جديد، قال
- يجب أن نرحل.
- كيف أتيت! لماذا عدت؟
- طوريتك في هذا كان بسببي، أقل ما يمكنني القيام به هو حمايتك.
قضبت حاجباي ، ابتلعت ريقي و أجبته
- استطيع حماية نفسي.
نظر إلى المسدس في يدي، ابتسم و قال
- أجل ، رأيت هذا .
انتفضنا على صوت إطلاق النار الذي سمعناه، لا ادري ماذا يحدث بالخارج، لا ادري من يقتل من !
- هيا بيان يجب ان نغادر.
أخذت نفساً و تبعته بسرعة إلى الخارج فسمعنا صوت حركة على السلم، لعن عمر تحت انفاسه ثم نظر إلى و سألني بصوت منخفض
- اهناك سلم طوارئ؟
امأت له بسرعة و عدت إلى داخل البيت وهو خلفي، دخلنا إلى المطبخ و كان لازال الجندي على الأرض، نظر له عمر و سأل بدهشة
- ماذا فعلتي به؟!
ازحت الستار و قُلت وانا أفتح الباب
- ربما ارتجاج.
نظرت إلى عمر و قُلت وانا اخرج من الباب
- هيا.
بدأنا ننزل الدرج بسرعة الا اننا توقفنا للحظات على صوت ذلك الإنفجار، نظرت إلى ذلك الدخان المتصاعد في السماء، لم يكن بعيداً عن هنا، و ما كانت لحظات الا و عاد صوت إطلاق النار من جديد فما كان منا إلا ان نسرع لنخرج من هنا.
.....
- ها هم!!
هدر بها أحد الجنود من على السلم خلفنا فبدأنا نركض بسرعة متحاشين الركض في المناطق المكشوفة، لن يطلقوا النار على عمر و هذا في صالحي، لهذا كنت احاول البقاء قربه قدر المستطاع، لا ادري إلى أين نذهب ولكننا كنا نركض، نركض لأن حياتنا تعتمد على هذا، نركض لأن الإستسلام ليس خياراً، ليس بعد ما مررنا به، ليس بعد ما فقدنا، و على الرغم من أنني لا استطيع إلتقاط انفاسي الا انني لم أتوقف، لم أنظر إلى الخلف، لم أفكر إلى أين سنذهب، ولكن فجأة سحبني عمر من ذراعي إلى إحد الأبنية التي أوشكت على الإنهيار، دخلنا و إختبأنا في بئر السلم، في الظلام الحالك، فما كان يُضيء لنا إلا الضوء الخافت المنبعث من الباب.
إلتزمنا الصمت و نحن نراقبهم يمرون من أمامنا، تراجعت خطوة للخلف بحذر خشية من رؤيتهم لي، ما كان يُسمع سوى صوت أنفاسنا المتسارعة، صمتنا و صمتنا و نحن نراقب من فتحة الباب الصغيرة.
- كيف عثرت علي؟
همست بها وانا أنظر إلى عمر، أجابني ساخراً
- لقد قصصت لي قصة حياتك منذ أول يوم رأيتني فيه.
- اسمعت؟ ظننتك كنت نائماً!
ابتسم و لم يعقب و بعد لحظات سألني
- إذاً.. أي أخبار عن عائلتك؟
ابتلعت ريقي و حركت رأسي نافية ، أخذت نفساً و قُلت
- يجب أن أعثر على ميرا.
- الممرضة؟
- أجل.
- هل يبعد بيتها الكثير عن هنا؟
- لا ، لا ليست بعيدة، هل ستأتي؟
- اتمزحين!
نظرت إليه فتابع
- لن أتركك، سنخرج من هذا معاً.
......
لا ندري انختبئ من جنود المدينة الطبية، ام جنود العدو،. ام جنود الحكومة، ام الأشخاص الذين فقدوا كل شيء و باتوا في حالة من الجنون و الانهيار العصبي، ام اللصوص الذين استغلوا ذلك الدمار و بدأَوا بنهب كل ما يرونه ذا قيمة، ام ننتبه إلى تلك المباني التي توشك على الانهيار، اطلاق النار، الدبابات، الوضع كارثي، الوضع مرعب.
دخلنا إلى شارع بيت ميرا فكان ما حطم قلبي، المباني كلها منهارة، تفقدت المكان بعيناي بقلب يقرع كالطبول، ركضت إلى حيث بيتها "بقايا بيتها" كان حطاماً!
ابتلعت ريقي بصدمة ، استطيع سماع ضربات قلبي، ارتجاف يدي، مسحت وجهي وانا ادعو الله من كل قلبي الا اجدها بين ضحايا الحطام، الا اجدها هنا، لا يجب ان تكون هنا، صديقتي ليست هنا، ليست ميتة، لا لن تفعل بي ذلك.
- بيان.
عدت لأنظر إلى عمر، حركت رأسي نافية و قُلت
- انتظر،. انتظر هي بخير.
نظر إلى الخلف، إلى صوت إطلاق النار الذي يقترب منا أكثر فأكثر ثم عاد لينظر إلي و أجابني
- حسناً ، سأنتظر، لن اتركك.
امأت له و عدت لأبحث عنها من جديد، أبحث عنها في وجوه الأحياء "و الأموات".
- اهذه هي؟
نظرت إلى عمر بسرعة ثم إلتفت إلى حيث يشير بقلب يقرع كالطبول، ميرا! تجلس على الأرض أمام سيارتها، تنظر إلى الحطام و كأنها لا ترى غيره، تنظر إليه و كأنها في عالم آخر، ركضت تجاهها بسرعة، صرخت باسمها ولكنها لم تسمعني، ليست هنا، جثيت على ركبتاي أمامها، تفرست ملامحها، تلك الخدوش على وجهها، الدماء على ثيابها، سحبتها لأعانقها بقوة، عانقتها حتى كدت اخنقها من شدة عناقي.
- قلقت عليك، قلقت عليك كثيراً.
ثانية، اثنان، الثالثة هي كل ما احتاجته قبل ان أشعر بذراعيها يلتفان حولي، قبل ان اشعر بدموعها على كتفي.
- ماتت.
عانقتها بقوة أكبر ، اريد تخبئتها عن ذلك العالم، انا أشعر بها، أشعر بذلك الألم الذي تشعر به، لقد جربته، جربته في عمر باكر للغاية و للآن لم استطع تخطيه، لم اجد ما يعوضني فقدان والداي ولن اجد، ربت على ظهرها، بدأت ابكي على بكاءها.
- انا آسفة.
شهقت في أحضاني و تشبثت في ثيابي، تشبثت فيّ كطفل صغير و قالت
- أجبروني على الذهاب إلى المعسكر، لو لم اذهب لمت معها، ليتني لم اذهب، ليتني بقيت معها.
ابتعدت عنها، كدت اصفعها على وجهها بغضب و قُلت
- لا تقولي هذا، افهمت؟
صوت إنفجار قريب ارجف اوصالنا، نظرت إلى الخلف بسرعة، تلك المدينة اصبحت ساحة معركة! نظرت إلى عمر الذي كان يراقب كل شيء بهدوء، من دون ان يعقب.
- حسناً يجب ان نغادر.
قُلتها بسرعة وانا انهض عن الأرض، مدت يدي إلي ميرا التي إنتبهت أخيراً إلى وجود عمر، عادت لتنظر إلي و سألت بصوت مبحوح
- إلى اين؟
- خارج المدينة.
نظرت إلى الخلف ، سحقاً جنود المدينة الطبية.
- ميرا هيا بسرعة.
نهضت عن مكانها فسألتها
- مفاتيح السيارة معك؟
اماءت لي و ما إن اخرجتها من جيبها حتى سحبتهم منها و فتحت السيارة، تباً سيارتها قديمة! كيف أقودها!
اعدت لها المفاتيح و قُلت بسرعة
- انتي ستقودي.
ركبنا جميعنا السيارة و انطلقت ميرا بها على سرعة عالية، كانت تنظر من المرآة من وقت لآخر فلاحظت ان المضرعة بالخلف تتعقبنا، مسحت دموعها و سألت
- من هؤلاء؟
ثم نظرت إلى إنعكاس عمر من المرآة و سألت مجدداً
- و من هذا؟!
اخذت نفساً عميقاً، ابتلعت ريقي فشعرت بها تنظر إلي، تنتظر تفسيراً، و قبلما اتحدث سمعنا تلك الطلقة التي مرت من جانبنا،. نظرت ميرا من المرآة مجدداً ثم قالت
- تشبثا.
وضعت حزام الأمان فزادت ميرا من سرعة السيارة و هي تتحاشى تلك الطلقات التي كانت تمطر علينا
- ظننتهم لا يريدون قتلك!!
قُلتها وانا انظر إلى عمر فأجاب
- يصوبون على الإطارات.
- من هم؟
سألت ميرا فأجبتها
- جنود المدينة الطبية.
- ماذا؟!
لا وقت للتفسير، لا وقت لأي شيء، عادت ميرا لتركز على القيادة، على الخروج من هنا، على تضليل تلك المضرعة، الحركة في هذا المكان صعبة! ، على الارجح المضرعة ستطلب الدعم، ستبلغهم بأنهم عثروا علينا، سيكون هناك المزيد، قبل ان يحدث هذا يجب أن نكون قد غادرنا المدينة، يجب أن نغادرها، بسرعة.
......
كنا على الطريق السريع، من النادر رؤية سيارة تمر.
ذلك الطريق الذي كانت تزينه الحقول الخضراء تحول إلى ساحة حرب كئيبة ! كانت ميرا قد هدأت السرعة قليلاً بعدما تأكدت من انها اضلتهم قبل خروجنا من المدينة، لو لم تقم بهذا لكنا الآن في عداد الموتى، لكانوا حاصرونا لحظة خروجنا إلى الطريق السريع.
كانت الساعة التاسعة صباحاً ولكنها أشبه بالواحدة بعد منتصف الليل، الغيوم مكتظفة بالسماء، غيوم سوداء كئيبة، الجو خانق هنا، نظرت إلى ميرا فلم تكن معنا، تنظر إلى الطريق أمامنا بشرود، كانت صامتة بشكل مخيف، هادئة أكثر من اللازم مقارنة بما مرت به، ابتلعت ريقي و ربت على كتفها فنظرت إلي، نظرت إلى إنعكاس عمر في المرآة، لقد نسيت أنه معنا، يمتلك قدرة غير طبيعية على الدخول في وضعية الاصنام، و كأنه لازال في الحالة النباتية.
- من تكون؟
سألت بهدوء وهي تنظر إلى عمر، خرج من وضعية الاصنام خاصته و أجابها
- عمر.
أجابها بهدوء فنظرت إلي، منتظرة تفسير مقنع، أخذت نفساً و قصصت لها كل شيء، كل التفاصيل، كل ما يحدث ، كل ما لم أستطع إخبارها به طوال الفترة الماضية، راكان عبد العزيز، المدينة السفلى، الممرات السرية، المرضى تحت الأرض، عمر و ما فعلوه به ليحصلوا على المعلومات، كانت تستمع من دون ان تعقب، ان تبدي أي ردة فعل، حتى عمر لم يُعلق على أي شيء مما قُلت، لم يتدخل، لوهلة شعرت كأنني أتحدث مع نفسي، و مع كل تلك التفاصيل التي ذكرتها، مع كل تلك الاحداث التي مررت بها ،لوهلة شعرت و كأن كل هذا كان حلماً، كأن عقلي أختلق كل شيء، لا استوعب بأن هذا ما حدث فعلاً، بأن الشيء الوحيد الذي ظننته جيداً في هذه الدولة اتضح انه كذبة يخفون بها شيئاً بشعاً.
و كأنني أعجز عن تصديق فكرة الشر المطلق، انتصار الخير على الشر اقبح كذبة رأيتها في حياتي، لو كان الخير ينتصر ولو لمرة لما كان هذا حالنا.
و بعد كل هذا، كل ما قصصت، ساد صمت مخيف، صمت دخل كلٌ منا بعده إلى عالمه الخاص.
.......
"كان منعزلاً عن ذلك العالم، كل ركن فيه بدا ولو كأنه شاهداً على ذكرياتهم، النوافذ تطل على الجبال الشاهقة، صوت الطيور تغرد كل يوم، السماء دائماً ما تكون صافية، و حين يحل الليل، تبدو السماء أقرب، و كأنك قطعة منها ،وكأن بمقدورك لمس النجوم."
فتحت عيناي بتعب ، لا ادري متى نمت ولكني استيقظت على إهتزاز السيارة، دعكت عيناي و نظرت حولي ،كنا داخل بلدة صغيرة، لا يختلف حالها عن حال كياجيك، نظرت بجانبي فتفاجئت من رؤية عمر، نظرت إلى الخلف فوجدت ميرا نائمة، عدت لأنظر إلى عمر من جديد، كان يقود بذراع واحد و على الرغم من الصعوبة التي يفترض أن يكون عليها هذا الأمر الا انه بدى لي قادراً على هذا، عدت لأنظر من النافذة من جديد و سألته
- هل وصلنا؟
- لا ، لازال أمامنا الكثير من الوقت.
- ماذا نفعل هنا إذاً؟
- الست جائعة؟
- أتضور جوعاً.
عدت لأنظر من النافذة من جديد، تبدو لي القرية مهجورة، اي طعام هذا الذي سنجده هنا! كانت الساعة 5:00 م، لا أصدق أنني نمت كل هذا!
و بعد عدة دقائق توقف عمر أمام متجر، فتح ذلك الصندوق الصغير بالتابلو، إلتقط المسدس منه و قال بعدما تأكد من وجود رصاصات في الخزانة
- هيا.
نظرت إلى ميرا بقلق فقال
- لن نتأخر.
......
المتجر مهجور، اقسم انه مهجور بشكل مخيف، الأشياء مبعثرة و متناثرة في كل مكان، كنا نبحث عن الأشياء المعلبة ذات الصلاحية طويلة الأمد، إنفصلنا في الداخل لنبحث أسرع و نخرج من ذلك المكان.
كنت أقف أمام احدى الأرفف أبحث في المعلبات عن شيء صلاحيته لازالت سارية حين شعرت بأحد يراقبني، إلتفت إلى الخلف فوجدت رجلاً غريباً خلفي، شعره طويل، لحيته طويلة، ثيابه مهترئة ،ممزقة ، كان في يده سكيناً حاداً، تراجعت للخلف حتى إصطدمت بالأرفف خلفي، اقترب الرجل مني وهو يتفرسني برعب
- ماذا تريد؟
سألته بحدة، فرفع السكينة على رقبتي و قال
- انتي جميلة، انتي جميلة جداً.
تسارعت ضربات قلبي و كنت أبحث بيداي عن شيء استطيع كسره فوق رأس ذلك الرجل.
-إبتعد
نظرت إلى مصدر الصوت، كان عمر يقف، يصوب المسدس على الرجل، فنظر إليه الآخر و تراجع للخلف خطوة قائلاً
- اريدها.
- ابتعد.
- سأعطيك ما تريد، ما تريد، اي شيء.
نظرت إليه بصدمة و حقاً أُلجم لساني ، نظرت إلى عمر الذي قال بهدوء
- أمامك خمس ثوان لتخرج من هنا.
نظر الرجل إلي ، فبدأ عمر العد التنازلي، و مع كل رقم كان يقترب منا أكثر، ما إن وصل إلى رقم اثنين حتى فر الرجل هارباً وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة، أغمضت عيناي و مسحت وجهي بتعب.
- هل انتي بخير؟
نظرت إليه، امأت عدة مرات، أخفى المسدس في بنطاله و قال
- حسناً ، لا تبتعدي عني مجدداً.

......
عدنا إلى السيارة فكانت ميرا لازالت نائمة، حاولت فتح زجاجة الماء في يدي ولكن تباً، هل لحموا الغطاء في الزجاجة! حاولت لف الغطاء حتى شعرت بإحمرار كفي.
- تباً..لا تُفتح!
نظر عمر إلي و قال
- هاتها.
اعطيتها اياه و في اقل من ثانية كان قد فتحها، فتحها بإصبعان فقط، ضيقت عيناي و اخذتها منه قائلة
- حسناً انا مرهقة.
ابتسم و قام بتشغيل السيارة لننطلق بها، كان الظلام قد حل فقام بتشغيل مصابيح السيارة و بدأ يتحرك بها حتى سمعنا صوتاً غريباً، يبدو لي صوت ثوار.
- ما هذا الصوت؟
- على ما أظن لسنا وحدنا هنا.
ابتلعت ريقي بتوتر و عدت لأنظر من الطريق فلمحنا تلك النيران المشتعلة من بعيد، صوت أشخاص ثائرين،. وكلما اقتربنا كلما اتضحت الرؤيا، كانت هناك رافعة في منتصف الطريق و في العامود خاصتها هناك اربع اشخاص متدلين منها، اقدامهم مربوطة بعامود الرافعة، كانوا على قيد الحياة، كانوا يصرخون، بينما الناس بالأسفل فكانوا يلقون عليهم أشياء ثقيلة.
- ماذا يحدث؟
إلتفت لأنظر إلى ميرا، و أجبتها
- لا ادري.
- سحقاً.
قضبت حاجباي و سألتها
- ما الأمر؟
ولكن قبل ان التفت رأيت إنعكاس النيران من عينيها، قاموا بحرقهم،. حرقوهم أحياء! وضعت يداي على عيني و إختبأت في المقعد، لا اريد ان ارى، لا اريد رؤية المزيد من الضحايا، من الجثث، من التعذيب، لازلت لم اتعافى من منظر المرضى في المدينة الطبية بعد.
قام عمر بتغير إتجاه السيارة و انطلق بها في الجهة المعاكسة بسرعة عالية و حقاً لا ندري ما كان هذا، لماذا قاموا بذلك؟! ماذا يحدث!
......
كان الطريق أطول مما ظننت، قمنا بتبديل الأدوار فيه عدة مرات، مرة ميرا تقود و عمر ينام، و مرة العكس، شعرت و كأنني صبارة على هذا المقعد، اردت المشاركة معهما في القيادة، قال عمر اننا أوشكنا على الوصول لذا لا أظن انها ستكون مشكلة لو تركتني ميرا أقود قليلاً.
- ميرا.
نظرت إلي فابتسمت و قُلت
- دعيني أقود.
- في احلامك.
- اسمعي، اسمعي اقسم انني استطعت قيادة سيارة من كيازم إلى كياجيك وحدي.
رفعت ميرا حاجبيها فتدخل عمر الذي لا ادري متى استيقظ
- اجل، و كادت تتسبب في مقتلنا.
إلتفت لأنظر إليه بغضب، القيت عليه زجاجة الماء و قُلت بحدة
- ايها ال....
ابتسم باستفزاز فنظرت إلى ميرا و قُلت
- صدقيني سنكون بخير
- بيان، تلك السيارة هي كل ما بقي لي من عائلتي.
- انتي بجانبي إن حدث شيء لا تدعيني اقودها مجدداً.
تدخل عمر الحقير مجدداً
- إن حدث شيء لن يقودها أي منا مجدداً،. سنكون أمواتاً.
ابتسمت ميرا و قالت
- ارأيت؟ حتى هو يتفق معي.
ضممت يداي إلى صدري، و زفرت بحنق و بعد عدة ثوان قالت ميرا بضيق وهي تهدئ السرعة
- حسناً، فقط لبضع دقائق.
تبادلنا المقاعد، نظرت إلى عجلة القيادة أمامي، استشعرت الدواسات بالأسفل، أخذت نفساً عميقاً فسألني عمر
- اين البنزين؟
- انتظر سأخبرك.
نظرت إلى الدواسات فقالت ميرا
- اتعلمين امراً؟ أظنها فكرة سيئة.
- لا لا لا انتظري، انتظري، سأخبرك فقط انتظري.
أخذت نفساً عميقاً، ثانية، اثنين، الثالثة، الرابعة.
- اظنني نسيت.
......
إن دخلت إلى سباق مع سلحفاة بتلك السرعة التي جعلتني ميرا اسير عليها لربحت السلحفاة بلا منازع، سيارتها مختلفة عن السيارة التي كنت أقودها، بدى لي قيادة تلك السيارة اصعب قليلاً، نظرت إلى ميرا بجانبي، كانت تنظر من خلال النافذة بشرود، أخذت نفساً عميقاً و عدت لأنظر أمامي، لازلت لم اسألها بعد عما حدث، لم اسألها عن نور إن كانت قد هاتفتها ام لا، لازلت أحيا على أمل ان نور سافرت، هذا ما اريد تصديقه، هذا ما يجب ان يكون قد حدث.
- بيان.
نظرت إلي عمر من المرآة فقال
- إتجهي إلى اليمين.
اشار بذراعه إلى ذلك الطريق الصغير على اليمين و قال
- اترين تلك البلدة ؟
ضيقت عيناي، حاولت تمعن النظر، استعطت رؤية مباني قديمة، مهترئة ولكنها صغيرة للغاية، لازالت بعيدة.
امأت له فتابع
- سنذهب إليها
......
توقفت بالسيارة حيث طلب مني عمر، كنا نتفقد المكان حولنا بذهول، يبدو لي كمدينة اشباح، لا اثر لوجود آدمي هنا، المباني قديمة، مهجورة.
ترجل عمر من السيارة فتبادلت النظرات مع ميرا، لا ندري ماذا نفعل، لماذا نحن هنا!
ترجلت من السيارة و سألت عمر
- ماذا تفعل؟
- يجب ان يكونوا هنا.
ترجلت ميرا هي الأخرى و سألته
- من تقصد؟
إلتزمنا الصمت جميعاً حين سمعنا صوت حركة قادم من مكان ما، إلتفتنا إلى مصدر الصوت، أشعر بشخص ما يراقبنا، و بعد مرور أقل من دقيقة خرجت أمامنا إمرأة و في يدها بندقية، شعرها الأسود يصل إلى ظهرها، ثيابها أشبه بثياب المناضلين، ملامحها فاتنة، جسدها قوي، أمسكت يد ميرا و تراجعنا للخلف خطوة، ولكن المرأة بدت ولو كأنها لا ترانا من الأساس، كانت نظراتها مصوبة على عمر، بدت و كأنها في صدمة، ادمعت عينيها و قالت.
- عمر!

يتبع

خارج نطاق الخدمة | Out Of Order Where stories live. Discover now