الفصل الحادى والثلاثون

121 5 0
                                    

الفصل الحادي والثلاثون .........
(كيف تسكت!)

قطب واصف جبينه وهو يراقبه ولما أخبره الطبيب عن خطورة حالتها وضرورة التضحية بالجنين لأنه يشكل خطر على صحتها كان رده الصادم الصارم الذي جعل عيون واصف تتسع: "لا .... مستحيل .... لا يجب خسارة الطفل .... انا اريده"
الطبيب وبتأكيد: "الجنين مازال غير مكتمل وصحة السيدة اهم"
صرخ جاسر وبكل انفعال واصرار: "قلت لا"
مما جعل واصف يهز برأسه مستنكر!
كانت عيون جاسر حادة التعبير ومتقدة كشعلتي نار وقراره صارم لا رجعة فيه لم يأبه لصحة هتان الجسدية لم يعد يأبه لشيء المهم عنده ان يحصل على الطفل ولا مجال حتى للتفكير مع نفسه الطفل جل غايته.
اقترب واصف بخطوات بطيئة من جاسر الذي استلم كتاب التعهد بوجه خال من التعاطف او الرحمة عندما قال له الطبيب "اذن وقع على إخراجها من المستشفى على مسؤوليتك الشخصية ففعلنا كلما يلزم وليس لدينا اجراء نتخذه ما دامك مصر على الاحتفاظ بالجنين رغم خطورة الحال وسأكتب لها علاج يمكن ان يخفف عنها الألم"
تردد واصف ان يتدخل خاصة وان قلبه لم يرتح لذلك الزوج الاناني لكن ضميره يلح عليه ان يحاوره لعله يتراجع فقال قبل ان يباشر جاسر التوقيع وبدى محرج قليلا: "لو سمحت"
التفت جاسر اليه وتطلع اليه بنظرة باردة ومتسائلة!
واصف وباتزان: "لأني اطلعت على الجزء القليل من الامر فأحببت ان أتكلم معك على صعيد انساني"
تغيرت ملامح جاسر وتطلع به باستغراب وقال بنبرة تخلو من اللطف: "من انت؟ وعمن تتحدث؟"
الطبيب وبمبادرة: "هذا الرجل الطيب الشهم جاركم الذي أنقذ حياة السيدة وأسعفها"
هز جاسر رأسه وقال بأقل حدة: "اممم .... نعم نعم فهمت .... شكرا جزيلا على فعلك للخير"
مد واصف يده لمصافحته ليخفف وطأة التوتر قائلا بابتسامة واثقة: "لي الشرف بمعرفتك"
انزل جاسر بصره الى يده ثم الى وجهه ومد يده بطريقة جعلته يفهم انه مستعجل وليس لديه وقت لمثل تلك الشكليات وقال بنبرة باردة: "اكرر شكري على صنيعك لكن الذي لا افهمه لماذا لحد الساعة انت هنا؟"
أحرج واصف ولم يستغرب سماجة خلقه لأنه اظهر له اسوء من ذلك بموقفه إزاء زوجته فقال بنبرة هادئة: "بقيت للاطمئنان على وصولك .... كنت اتصل واتصل لكنك بالكاد رددت .... خشيت ان تتأخر"
جاسر بجمود: "وها انا اتيت"
ثم تجاهله وأمضى على التعهد على إخراجها على مسؤوليته واسدل واصف اهدابه فقد طرده بطريقة ما .... يبدو بلا ذوق ولا كياسة هذا الانطباع تولد لديه منذ اللقاء الأول وأشفق على الزوجة المسكينة لكن ما بيده حيلة لفعل شيء والا أصبح فضولي ومتطفل لذلك استدار وقرر الرحيل لكنه التفت اليه وقال بتنبيه: "لم تسألني حتى ماذا كنت اريد ان أقول لك؟"
التفت جاسر اليه واكتفى بالصمت والتطلع بوجهه ببرود فقال واصف باعتداد: "لو كنت تريثت بالإمضاء على التعهد وفكرت بأن الطفل يمكن ان يعوض فمازلتم بعز الشباب والمشوار امامكما طويل لكن الصحة خسارة ولا يعوضها أي ثمن لربما هيأ الله لك امرا يرضيك"
اتسعت عينا جاسر وتطلع به من الأسفل الى الأعلى وقال وهو يعتدل: "نعم؟ .... الا ترى نفسك تقحم انفك بما لا يعنيك؟ .... سمحت لنفسك ان تتكلم عن زوجتي وعن حياتي وخصوصياتي بكل جراءة .... ما شأنك انت؟ تعرفني؟ واحد من العائلة؟ أحد اقاربي؟ ما شأنك؟ تعرف ظروفي؟ عجيب امرك!"
خفقت اهداب واصف وتحلى بالصبر والهدوء رغم مقته لأسلوبه وقال ببرود: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء .... هذا فقط الذي اردت قوله"
اتقد جاسر واحتدت نظرته وهو يراقب واصف يبتعد بخطوات واثقة ثم قطب جبينه واشاح ببصره وزمم شفتيه.
.................................................. .........................
كانت سولاف تجهش بالبكاء في سريرها وهي تسمعهم يطرقون وينادون وكانت واضعة اظافرها بين اسنانها وتتطلع بخوف نحو الباب ولا قابلية لها على مواجهتهم والتعامل بشكل طبيعي يخفي ما حصل لها ولا الشجاعة اسعفتها وجعلتها تنتحر وتغسل عارها بيدها
لقد خافت من الموت ومن الحساب ومن غضب الله وخشيت أيضا ان تنكس رأس أهلها واخوتها عندما يكتشفون سبب انتحارها
وفكرت ألف فكرة جعلتها تتراجع ....
وقف بعينها منظر والدتها وهي ترى جثتها خاصة انها فقدت والدها بزمن ليس ببعيد ومازالت حزينة ومجروحة لفقدانه فلا قابلية لها على تحمل صدمة جديدة قد تقتلها
وفكرت أيضا بانكسار اخوتها من الحقيقة المخجلة
لولا ذلك فالموت ارحم لها مما تشعر به الان من اليأس والخذلان والرفض ....
مسحت دموعها وقالت بصوت مرتعش بالكاد سيطرت ليبدو طبيعيا بعض الشيء: "انا .... انا متعبة وأريد ان انام ارجوكم .... لدي صداع"
تطلعت ام جاسر بيوسف الذي تطلع بها بدوره بحيرة ثم امسك يد امه وقال مطمئنا: "اتركيها ربما منزعجة من امر ما .... سأكلمها فيما بعد تعالي"
كان يوسف أصغر اخوته الرجال لكنه حليم وحنون ومنهمك دائما برسالة الدكتوراه باختصاصه التربوي والذي يحضر لها منذ أشهر وتقريبا هو بعيد عن مشاكل الاسرة وتفاصيلها لأنه مكرس وقته لدراسته وهواياته فقليل ما يتدخل بالأمور الثانوية والأزمات العائلية التقليدية.
سارت امه معه وقلبها يعلمها ان سولاف تواجه امر كبير فليس من عادة ابنتها ان تنعزل هكذا حتى ان صوتها متغير وكأنها كانت باكية!
.................................................. ..........................
تطلعت هتان بوجه جاسر المريب واستغربت بروده وهو يقول لها بلا مودة: "سأخرجك الان انهم لا يفهمون شيء وربما سيؤذونك اكثر هيا"
كانت طوال الطريق تذرف الدموع وهو صامت وبدى مشغول ومستعجل وتطلع بالساعة اكثر من مرة حتى قالت له بعتاب: "كدت ان اموت .... تركتني وحدي حتى بدون هاتف لولا"
أكمل لها بصوت مرتفع أفزعها: "لولا الشهم الفارس الذي أسرع بك الى المستشفى على حصانه الأبيض"
هزت رأسها وقالت بضعف: "أ هذا ردك بعد كل الذي مررت به؟"
صرخ بها بمنتهى الغضب: "كيف وصل اليك؟ استنجدت به؟ يبدو انك ممتنة له جدا على حنانه ورقته"
عضت على شفتها وبقيت تتطلع به بذهول وعبر عيون مبللة بالدموع وهو يتطلع امامه بعيون صقرية وساد صمت وكأنه تراجع عن مواصلة حماقاته.
اوصلها وبالكاد ساعدها بالجلوس على الاريكة حتى قال وبدى متضايق ومتردد: "ساخرج الان .... ديم في صالة العمليات ولا يجب ان تخرج ولا تراني"
هتان وبصدمة: "وانا؟ .... ديم معها ناسها واحبتها ومن يهتم بها وانا وحيدة ومتوعكة ستتركني مجددا معقول؟"

أشعل سيجارة على استعجال وقال متجاهلا: "سأعود بسرعة"
سمعت صوت سيارته تبتعد واسدلت اهدابها ببطء ثم همست ما هكذا الحب يا جاسر لست منصف بتعاملك معي ابدا دائما انا المهملة وانا التي يجار عليها وانا الأخيرة والمهمشة بصفحات كتابك.
والذي زاد الامر سوء لديها انه وضع ورقة التعهد مع العلاج على الطاولة مما جعلها تعرف الجريمة التي ارتكبها بحقها ولو كانت ماتت اهون لها مما تلقته من جاسر!
.................................................. .......................
أسدل واصف الستارة ووضع يده على جبينه .... معقول يوجد هكذا بشر؟ ما هذا حيوان؟ .... كيف يتركها ويغادر؟ ....
ثم دخل الى المطبخ وهو مشغول بالقصة السخيفة التي فرضت على حياته وشغلته .... حقير!
ليته لم ينزل الى هذه المنطقة ويستأجر ذلك المنزل ويرى هكذا ظلم استفزه وضايقه .... مالها تسكت عن حقها؟
لا يستطيع ان يحكم وعليه ان ينسى امرهم فهو لا يعرف ظروفهم .... لا دخل لك يا واصف .... لكن لم اعتد ان أرى الاعوجاج ولا اقومه ..... وما شأنك؟ هي زوجته وملكه وهو حر بالتعامل معها ..... أي منطق هذا كيف حر بتعامله وهي ملكة انه منطق جاهلي وغير متحضر من قال ان الزوج من حقه ان يظلم ويضطهد؟
تنهد وانشغل باعداد القهوة ثم تلقى مكالمة من العمل وانشغل ونسي الامر.
.................................................. .............................

امسك جاسر كتاب الله بين يديه وقرأ الآيات وقلبه يرتجف على ديم التي تأخرت في الصالة ودخلوا في حالة انذار وطوارئ!

وضعت بيلسان يدها على ظهر بركات الذي كان واقف قريب من باب صالة العمليات ويتطلع بالفراغ وعيونه حمراء وهمست: "لا تخشى ديم قوية وستنجو .... كل شيء سيكون بخير"
بركات وبنبرة منخفضة: "اشعر ان الله سيردها لي بأختي الوحيدة .... أخشى ان اعاقب بفقدانها .... اشعر بالندم والخوف"
بيلسان وهي تراقب جاسر الذي بدى ملهوفا وملتجأ الى الله وبنظرة حسد: "كلكم تدعون لها وتتذرعون كلكم تخشون فقدانها .... الله لا يخذلكم .... ستنجو .... ولا تأنب نفسك على صنيعك مع اخت جاسر فهو سبق وان جرح وخذل وظلم وطغى مع بنات بريئات كسولاف .... والله يردها له هو وليس لك انه عاقبه بأخته من خلال تسليطك عليها"
بركات وبتحذير: "اششش اسكتي .... اسكتي بيلسان وكأنك تشمتي ببنت عمك .... انها دمك"
التفتت اليه وقالت مغيرة النبرة وبودية: "لست شامتة انا مغتبطة لقصتكما لانها ستضطر ان تتزوجك .... هي تحبك وانت كذلك والذي فعلته سيقصر بينكما المسافات .... لكن أتساءل ما صحوة الضمير المفاجئة؟ الست تريد ان تذل جاسر بها كما ذلك كثيرا"
هو وبرهبة: "قلت اسكتي .... لو علم ربما سيقتلني .... لا تتفوهي بكلمة واحدة فالجدران لها آذان"

.................................................. ..........................
قال والد منى باستياء: "نعم؟ جاسر؟ جاسر فعل ذلك؟"
منى وبدموع: "نعم يا ابي نعم .... انا استغرب كيف يسيء اليك بعد كل الذي فعلته معه من دعم وترقيات وتقدير انه ناكر للمعروف وغير أمين .... فضلا عن كونه متقاعس عن العمل ومتغيب طوال الوقت عرفت ذلك من الموظفين .... يجب ان تطرده يا ابي وتوجه له عقوبة .... انه لا يستحق"

وضع يده على ذقنه وقال بصدمة: "جاسر؟ بلغت به الجرأة للتحرش بابنتي انا!"





انتهى الفصل

رواية الحلم الرمادى لكاتبة هند صابرWhere stories live. Discover now