الفصل الثانى عشر

153 4 0
                                    

الفصل الثاني عشر
(غيرت رأيي)

جلست على السلم القريب واخفت وجهها بيديها واختنقت بعبرتها عندما سمعت عمتها تتحاور بالمطبخ مع رتاج عنها وعن لزوم عودتها الى جاسر.

فجأة رن جرس الباب وهرع الأطفال وهم يتسابقون فيما بينهم ليفتحوا وانزلت يديها ببطء عن وجهها ونهضت بشحوب عندما سمعت صوت مألوف لديها .... انه صوت ديم!

نهضت وعلى ملامحها تعابير الدهشة والذهول ديم أتت؟ ما الذي اتى بها الى هنا ولماذا؟ ترى ماذا تريد منها؟
ابتلعت ريقها ووقعت فريسة لهواجسها بأن ديم عرفت شيئا وجاءت لتحاسبها وتجلدها بكلمات مخجلة وقاسية وتذلها امام أهلها وتمسح بكرامتها الأرض!
على أساس تلك المخاوف سارت مندفعة ومستعدة للمواجهة محاولة ان تتماسك وتصلد قلبها وتقاوم هجوم ديم.

عندما اقتربت من الباب الخارجي رفعت ديم بصرها والتقت عينيهما وساد صمت وبدت ديم بلا تعابير وهتان بوجه باهت!
جمد الدم بعروقها عندما قطعت ذلك الصمت نبرة ديم: "لماذا فعلت ذلك؟"
تلاحقت أنفاسها وشبكت يديها وهزت رأسها وهي حائرة وقالت بتبرير: "ليس ذنبي .... انا .... انا"
ديم وهي تحرك عجلات كرسيها ببطء كأنها تريد الدخول وبنظرات عميقة: "تتعرضين لكل ذلك ولا تلجئين الي؟"
تحركت اهداب هتان ولم تفهم قصدها وبادرت: "تفضلي .... تفضلي"
ثم استدارت خلفها ودفعت كرسيها وبعينيها تساؤل وقلق وهدوء ديم فاجئها جدا!

طردت الأطفال من الصالة وقالت بنبرة مرتبكة: "سأجلب لك شيء تشربينه"
وقبل ان تخطو قالت ديم بنبرة معتدة: "لا اريد .... هناك من ينتظرني بالخارج .... انا مستعجلة وجئت اليك بدون علم زوجي"
تحركت اهداب هتان وكأن عبارتها الأخيرة حزت بصدرها .... زوجي .... فعلا هو زوجها ولا يمكن ان يكون غير ذلك يوما
ثم جلست ببطء امامها وقالت بعدم استقرار: "توفي ابي وتعرضت لظروف كبيرة و"
ديم وبتفهم: "عرفت .... وجئت من اجل ذلك .... عرفت انك تمرين بظروف صعبة ولم يهن علي ان اتجاهل لأني لم انكر ان بيننا عشرة .... سكنت في بيتي وأكلت زادي وخدمتني .... تحملت ظروفي وغيرت حال بيتي فليس من العدل ولا من حسن الخلق الا اعزيك بوفاة والدك"
تأملتها هتان وهي تبحث بملامحها عن تعابير أخرى تفسر لها حقيقة ما تقوله .... فعلا ديم جاءت من اجل ذلك؟
كانت جالسة باتزان وبملابس غامقة وقورة وتغطي نصف شعرها بإيشارب اسود وبدت لها أصفى وانقى من أي وقت مضى بل بدت لها أصغر سنا وبملامح أكثر استقرار وهدوء.
وفوجئت بها أكثر عندما قربت كرسيها لتصبح قريبة جدا عليها ووضعت يدها الناصعة البياض على يد هتان الشاحبة وربتت عليها ببطء وهي تقول مطمئنة: "لا تخشي .... عرفت بكل شيء "
واتسعت عيني هتان وشعرت بجفاف فمها وهي تتطلع بعيون ديم التي اومأت لها برأسها لتأكد ما قالته جيدا.
أطرقت هتان برأسها الى الأرض واغمضت عينيها عندما همست ديم: "سأبقى متكتمة على الامر واتظاهر انني لم اعرف شيء وستجري الأمور على ما يرام .... سأرضيك وترضيني يا هتان"
كلام خطير جعل هتان تجفل من الداخل ورفعت اهدابها بارتباك الى ديم الهادئة وقالت بلا تفكير: "كيف عرفت؟ من اخبرك؟"
اجابتها بابتسامة فاترة: "إحساسي .... ومنذ البداية كنت اعلم وأتغاضى لكني لم أتوقع ان يصل الامر الى ما وصل اليه لكن اعدك انني سأجنبك الكثير من المتاعب"
عضت هتان على شفتها وقبل ان تقول شيء قطعت خلوتهما عمتها التي هتفت: "اهلا اهلا .... مدام ديم انرت الدنيا .... شرفت بيتنا .... بيتنا الذي سيتم حجزه من قبل الحكومة قريبا وسنصبح كلنا بالشارع"
احرجت هتان وقالت بتنبيه: "عمتي! الوقت غير مناسب لمثل ذلك الكلام"
جلست العمة امام ديم وقالت بتملق: "كأني اعرفك ودخلت قلبي قبل ان اراك كانت هتان تكلمني كثيرا عنك وعن جمالك وكرمك واتزانك"
ابتسمت ديم ببرود للعمة وهي مسترسلة بمدحها بابتذال وتملق عجيب
اما هتان فأبعدت خصلة شعرها واشاحت ببصرها جانبا وهي تفكر بالكارثة التي حلت .... لماذا هي هادئة هكذا؟ عرفت الحقيقة ولم يبدر منها ما توقعته!
معقول! ام هو الهدوء الذي يسبق العاصفة؟ ان ما يحصل غير منطقي ولا يستوعبه عقل!
العمة وبابتهاج: "ستقضين الليلة عندنا يا مدام وسأعد لك بيدي اطيب الاكل وسنضعك وسط عيوننا و"
قاطعتها ديم وبنبرة واثقة وباتة: "سأذهب الان لكن برفقة هتان .... هتان ستأتي معي .... ستعود على العمل مرافقة لي فأنا وجدت بوجودها حياة أخرى مختلفة وذلك الإحساس تولد عندي عندما تركت بيتي .... تغير كل شيء برحيلها تدريجيا وكأن الحياة توقفت والمصابيح انطفأت .... عدت الى وحدتي عزلتي اكتئابي .... عاد بيتي الى فوضاه .... عادت اغراضي الى التبعثر فقدت التنظيم الذي اوجدته منذ اول يوم دخلت حياتي .... عشت العزلة من جديد وأدركت انني احتاج الى وجود هتان .... هيا يا هتان غيري ملابسك سنعود معا"
ازداد شحوب هتان وذهولها وقالت العمة بتشجيع ولهفة: "وهذا ما كنت اريد ان أقوله كل الوقت .... هتان تعذبت كثيرا هنا .... المكان ضيق والضوضاء والأطفال وهي اعتادت عليكم وكانت تتمنى العودة لكن الظروف اقعدتها والديون التي قصمت ظهرها بعد وفاة اخي وتستحي ان تطلب المساعدة من احد حتى من أستاذ جاسر فبعد زيارته الأخيرة ل"
توقفت فجأة عن الاسترسال وأدركت انها وقعت بالمحظور خاصة عندما ادارت ديم وجهها ببطء ورفعت حاجبها لتهمس: "جاسر؟ .... جاء الى هنا؟"
ارتبكت العمة وتطلعت بهتان التي فركت براحتيها بتوتر وبدى لها كل شيء مبهم ومبعثر ولم تعد تفهم فبدت ديم مصدومة فكيف انها عرفت كل شيء وكيف فاجئها الامر؟
العمة وبسرعة: "أعني .... قلت لها اتصلي بالأستاذ لعله يساعدنا في أزمتنا وهي خجلت من"
ديم وبعيون جامدة: "جاسر وصل الى هنا؟"
وكانت هذه المرة موجهة السؤال الحاد الى هتان التي هزت رأسها نفيا وكأنها فقدت قدرتها على النطق وضاقت عيني ديم وهي مركزة بهتان التي قالت أخيرا: "لا .... لم يأت"

رواية الحلم الرمادى لكاتبة هند صابرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن