Lady Casanova.

By Tullipxx

81.7K 6.9K 6.1K

ما أجمَل مِن أن تَعشق شخصًا إلى حَدِ المَـوتِ؟ ▪كُل الحِقوق محفوظَة®. ▪السَيدة كازانوڤا [ رِوايَـة - لِويس تَ... More

السَيدة كازانوڤا.
الأوَل|سَيدة القَطيع
الثانِي|لَيلة في مَهبِ الرَيحِ
الثالِث|في عَصرِ الأزماتِ
الرابِع|رَبيع إيلڤان
الخامِس|خارِج عَن المألوفِ
السادِس|لِقاء مَع حَبة كَرز
السابِع|تُحفة فنِية غاضِبة
الثامِن|سِحر حُورِيات البَرِ
التاسِع|زِفافٌ ريفِيٌ
العاشِر|سِياسة الحُبِ
الحادِي عَشر|حُمى مُصيبة للقُلوبِ
الثانِي عَشر|سَليلة بالَوم
الثالِث عَشر|الوَجه الآخر للعُملةِ
الرابِع عَشر|الخَيط الرَفيع
الخامِس عَشر|مَع الدَقةِ العاشِرة
السادِس عَشر|حالَة زواج
السابِع عَشر|حيلَة آفروديتِي
الثامِن عَشر|القِط والفأر
التاسِع عَشر|امرأة العَصر
العِشرون|موعِد على العَشاءِ
الواحِد والعِشرون|أعادَة إحِياء الماضِي
الثانِي والعِشرون|أسرَى حَرب الذَكرياتِ
الثالِث والعِشرون|جِدال بَين شظايا مُجتمع
الرابِع والعِشرون|الأُم العَقيم
الخامِس والعِشرون|الحَياة دائِرة مُغلقة
السادِس والعِشرون|سِر الوَشاحِ الأزرَق
السابِع والعِشرون|رَومِيو وچولِيَت
الثامِن والعِشرون|قَبل غُروبِ الشَمسِ
التاسِع والعِشرون|الشُموع السَوداء
الثلاثون|بَين الحُبِ وغَريزةِ التملُكِ
الواحِد والثلاثون|الرجُل الآخر
الثانِي والثلاثون|حَواء الضِلع الأعوَج
الثالِث والثلاثون|مِكيالا العَدل والرجُل
الرابِع والثلاثون|عَرين لِوجورَيا
الخامِس والثلاثون|قلبُ قدِيس وحَياة آثِم
السادِس والثلاثون|غُربال وغِربان
السابِع والثلاثون|آخِر عَربة بقَطارِ الأوهامِ
الثامِن والثلاثون|أُمسِية على قَدمٍ وساق
التاسِع والثلاثون|عِرق ليلِيث
الأربَعون|حَلوى أم خُدعة؟
الواحِد والأربَعون|أُمنِية مَع وقفِ التَنفيذِ
الثانِي والأربَعون|حَفل على شَرفِ بِروتوس
الثالِث والأربَعون|قَوس وسَهم
الرابِع والأربَعون|تَرنيمة مِزمار المَوتِ
الخامِس والأربَعون|فَن العَودةِ للواقَعِ
السادِس والأربَعون|نَعيم مُزيف
الثامِن والأربَعون|بوصلَة ومِرساة
التاسِع والأربَعون|ساعَة رَملِية مَكسورة
الخَمسون|الكَأس الأخَير
نِهاية السَيدة كازانوڤا.

السابِع والأربَعون|جُنون أرستُقراطِي

623 73 154
By Tullipxx

"عَزيزِي؟"
المِلح. كانَ المِلح شَحِيح جِدًا. لم يكُن يستشعِره بطَعامِه. نثَر الغُبار الأبيَض فَور طَبقِه بِلا وَعيٍ ونَظرة زُجاجِية تكتسِح عَينيه. كانَ يشعُر بالإرتَباكِ بذهنِه..ورَغبة عارِمة بالنُعاسِ!

"لِوي؟"
ما هُو اليَوم؟ هَل حَل يونِيو بَعد؟ أو رُبما مَر بسُرعةِ البَرقِ كعادَةِ الوَقتِ هذهِ الأيامِ. بالكَادِ كانَ يتذَكر شَكل المَدينةِ وضَبابها الكَثيف..فهو لم يعُد يحصِي منذُ متى ولم يُغادِر أي شَخصٍ البَيت.

كانَ مسجونًا. ولكِن هل كانَ برَغبتِه أو لَا؟ لَم يتذَكر.

"لِوي!"
رمَش جَراء نِداء زوجتِه المُندفِع. توَقف عَن إفراغِ المِلحَ فوق طعامِه الَذي غُطى ببُساطٍ أبيَضٍ تمامًا..فرمَقه بدَهشةٍ قَبل أن ينتبِه لسيڤين الَتي ناظَرته بإستَغرابٍ. "لقَد كنتَ أدعوكَ بالخَمسِ دَقائِق الماضَية. ما خطبُك؟"

"أنا أعتَذِر. أنا فاقِد التَركِيز قليلًا."بَرر، وإن كانَت حِجَة حاضِرة عَن تَفسيرٍ غامَضٍ. فما كانَ خطبُه حقًا؟ يشعُر بالتَشوشِ رَغم بأنَه لم يملِك ما يُفكِر فيه فعلًا..ولكِنه لم يستطِع جَمع شتاتَه لسَببٍ ما.

"لقَد افسَدت طعامَك بالمِلح ولم تأكُل مِنه. ألَم يُعجِبك؟"

"بَلى، إنَه شهِي. ولَكِنني أشعُر ببَعض الآلمِ في المَعدةِ."

تطلَعت لَه بقَلقٍ، كانَ غريبًا ذلِك النَهار. يُرسِل لَها الكَثير مِن البَسماتِ كُلما تقابَلت عيونُهما، ولكِنه يَكون ساهِمًا أغلَب الوَقتِ، كانَ وجهُه باهِت وجفونُه داكِنة بإرهاقٍ شَديدٍ رَغم بأنَه ينامَ لساعاتٍ مطولةٍ هذهِ الأيامِ.

لَم يسَعها أن تفهَم ما عِلَته.

"هارَولد لم يأتِ منذُ أيامٍ، أتسائَل لو كانَ بِخَير."حدَثها قُبيل أن تجُره لإستَجوابٍ ما. إستَمر بإحَتساءِ نبيذَه رغم عتابِها المُستمِر بأنَه قد أصبَح يشرَبه بجُنونِ تلك الفَترةِ ولكِنه لم يستطِع أن يُقلِع عَنه. لقَد كانَ يُعاوِنه على تهدِئة أعصابَه.

"علَّه مُنشغِل ببَعضِ الأعَمالِ، قَد يأتِي اليَوم."

"كنتُ أفكِر بزَيارتِه أنا هذهِ المَرةِ، فرُبما كانَ مريضًا."

سمَع تنهيدَتها الصَبورة كَما توقَع، ترَكت سكينَتها جانِبًا وعَقدت أصابِعَها أسفَل ذقنِها رامِقة إياهَ بنظرةٍ زُجاجيةٍ. "لَا، لَيس عليكَ زِيارَته، لِوي. حينَما يتمَكن هو مِن المَجِئ سيَفعل."

كعادَةِ رَدِها كُلما جاءَ على ذكرِ خروجِه مِن البَيتِ. "ولَكِن أنا بحاجَةٍ إلى الذَهابِ قليلًا عَن المنزلِ، سيڤين. أشعُر وكأنَني سأفقِد صَوابي لَو بقَيت يومًا آخَر أُحدِق في هذهِ الجُدرانِ!"إحتَقنت عَيناه بإحَتجاجٍ، فلاقَى وجهًا عابِسًا بمُقابلتِه.

"لقَد أجرَينا ذلِك الحَدِيث مسبقًا، لِوي. لا يَوجد أي دافَعٍ يجعَلك تخرُج مِن هُنا لذلِك العالَم بالخارِج، أنتَ هنا أكثَر هدوءً وراحةً ولا يُمكِنك الإستِغناء عن ذلِك مُقابلِ بِضع ساعاتٍ مَع أشخاصٍ لا يَستحِقوا."

هو لَن يفهَم أبدًا مَدى إصَرارِها على الإعتكافِ بمكانِه. "هَذا لَيس منطِقيًا، نحَن لا يُمكِننا العَيش بمُفردِنا إلى الأبدِ! إنكِ تتصَرفِين بغَير عقلانَيةِ."تهَكم بضَيقِ ذَرعٍ،متخلِيًا عَن مُحتوِى يدِه ليَتفرغ برمقِها بجَدالٍ.

"أجَل، أنا امرأة مَجنونة."نبَثت ببُرودٍ، ليصمُت. جذَبت بصرَه معَها وهِى تنهَض على عَقبِيها بوَجهٍ مُتجمدٍ. "وتِلك المَرأة المَجنونة تَحتاج إليكَ بجانِبها أكثَر مِما تَحتاج أنتَ للعالَمِ الخارَجِي بحَياتِك."

تبَرم دَون تعَقيبٍ، ورحَلت عَنه تارِكة إياهَ يفَور بإنزَعاجٍ.
لقَد كانَت تستنزِفه عاطِفيًا رَغم مُقتِه لتِلك الحَقيقةِ، كانَت تستغِل حُبه لَها لرَبطِه بجَوارِها مَهما كانَ ذلِك خانِقًا لَه. هو لم يَكره البَقاء مَعها طَوال اليَومِ، فلَو ودَت الخُروج مَعه خَلف أسوارِ بيتِهما سيَكون بمُنتهِى سعادَتِه.

ولكِنها لم ترغَب بتَركِ المَنزلِ، ولم تسمَح لَه بذلِك أيضًا.

كقَنينةِ طَلاءٍ وَرديةٍ هُشِمت بجَوفِ سَماءٍ باهَتٍ بإبَداعٍ. وقَفت سيڤين بثَيابِها الفَرنسِية أمامَ أدواتِ رسَمِها الَتي طفَقت تُنظِفها بقَطعةٍ قُماشيةٍ مُتجعدةٍ كمَلامِحها الَتي شحُبت رَغم مُماطلتِها بعَزمٍ بأنَها لن تستسلِم لإرهاقِها كثيرًا.

"هَل يُمكنكِ على الأقلِ أن تُطلعِينني مِما أنتِ خائِفة؟"إرتَفع صوتُه خلفَها بيأسٍ. ذاتَ الحِوار مجددًا رغم بأنَه يعلَم بأنَها لَن تُخبِره آمرًا، فلم تستطِع. إن فِقدانَها ثِقَتها بأخِيها جعلَتها تفقِد آمنَها بالعالَمِ أجمَعه، ما كانَت ستُخاطِر بجَعلِه يَحتك بشَخصٍ ما مهما كانَت صِلة قرابتِه.

ودَت إبقائَه سالِمًا وبآمانٍ. ودَت إبقائَه لَها وحَسب.

تنَفِس بإستَياءٍ حينَما صمَتت، كَم كانَت تُعقِد الآمَور كثيرًا. ضَم آنامِلَه لبَعضِها بلُطفٍ وقلَص المَسافة الهالِكة بينَه وبَين ظهرِها المُولى لَه بوَجومٍ، بسَط يَديه بنُعومةٍ بطَولِ عمودِها الفَقرِي شاعِرًا بإشتِداد عودِها للَحظةٍ، قَبل أن تَسترخِ فَورما لثَم شِفَتيه بوَريدِ عُنقِها بدَفئٍ.

"رافَقِيني، لِنَذهب إلى أي مَكانٍ، لنأخُذ جولَة بالمَدينةِ أو حَتى نَرتاد حَفلة راقِصة بقَصرٍ ما. لنَفعل أي شَيءٍ قبل أن نفقِد عقولَنا هُنا..أرجَوكِ.."همَس. نشَبت كلِماتُه بَين قُبلاتِه المُناشِدة بآنفاسٍ حارَةٍ لم تُزِدها إلا بؤسًا.

هِى لم تكُن سترضَخ لرَغبتِه مَهما حدَث. فهو لَن يفهَم أبدًا ما يُراوِدها كُلما تُفكِر بالخُروجِ من البيتِ لتُواجِه النَظرات الرامَية والهَمساتِ المُلمِحة من جَديدٍ. هِى لا تعتقِد بأنَها لاتزَل قادِرة على لَقاءِ كُل هَذا بَعد الآن.

"إنَنا بِخَير هُنا."تَمتمت، فعَلت شِفَتيه عَن بشَرتِها بغتةً.
إلتَفتت إلَيه بإلحَاحٍ رنَت بِه إلى شَياطٍ رَوى عيونَه لحظَة بِلحظَة، وزَفرت. "يُمكِننا سَماع بَعض الموسيقَى، يُمكِننا القَراءة أو الحَدِيث سوِيًا. يُمكِننا فَعل أي شَيءٍ نُريده هُنا، لِوي."

هِى حقًا لم تكُن تُساعِد البَتة.
"لقَد سئِمتُ! لقَد سئِمتُ سَماع الموسيقَى! لقَد سئِمتُ القِراءة! لقَد سئِمتُ الحَديث في نَفسِ المَوضوعِ مَرة تَلو مَرة لِأنَه لم يعُد هُناك ما نتحَدث بِه! لقَد سئِمتُ مِن نفسِي..وأنا لا أُرِيد أن أسئَم مَنكِ أيضًا.."

مَيزان نبراتِه كانَ غِير مُستقِر. فبَين الغَضبِ والحَنقِ والإبتَئاسِ كانَ يتأرجَح. بَين العُلوِ بوَغرٍ والإنخَفاضِ بهَمٍ كانَ يتنَقل. كانَ مُضطرِب وقَد نفَذت كُل حيلِه للصَبرِ.

رمَش لِوي متملِكًا مِن لَسانِه النابِض أمامَ تيبُسِها مِن إنفَجارِه، وهبَطت أكتافُه بشَقاءٍ عمَر بكُل ركُنٍ من ذهنِه الدامِس. كَم كانَ يشعُر بالإخَتناقِ. "لَو لم ترغَبِ بالمَجِئ مَعي، فكَما تُرِيدين. ولكِن أنا سأرحَل عن ذلِك البَيتِ."

"لَا! لَن تفعَل!"تسَلطت بنَظرةٍ إستَنكرت قولَه، ولكِنه لَم يجِد بجوفِه تعليقًا. رمَقها بعُيونٍ إلتَهبت بتَحدٍ قُبيل أن يولِ أدبارَه منصرِفًا بتعنُتٍ خلَع فؤادُها وجعلَها تلحَق بخُطاهِ برَوعٍ.

"أنتَ لَن ترحَل عن ذلِك البَيتِ، لِوي."
صدَّت طريقَه إلى البابِ بوَجهٍ مُستبدٍ. طعَنت زَرقاوَيه المَغلَولتِين بإحَتدامٍ وكأنَما ترمَي بآمرِها بغُلظةٍ ما كانَ قلبُه الثائِر بتمرُدٍ سيَرِق لَه بتِلك اللَحظةِ. كبَح إنفعالَه بقبضتِه ومَد قدَمه ليَتعداها، لتُعرقِله مجددًا بنظَرةٍ أكثَر لينًا.

"أرجَوك لا تفعَل ذلِك..أبـقَى مَعى؟"

كِلاهُما كانَ على وَشكِ فقدانَ صوابِه، وهو لم يكُن ليَنتظِر حدوَث ذلِك. لم يخنَع لتَوسلِها اللَطيفِ وتَخطاهَا بوَجهٍ تأزَم حينَما سحَبت ذِراعَه بكُل ما ملَكته مِن حزمٍ ليَلتفِت إلَيها مِن جَديدٍ.

"إسمَع إسمَع..يُمكِننا فَعل أي شَيءٍ ترغَب بِه.
أنا..أنا لا أُريد البقاءَ بمُفردِي.."بدَت يائِسة جدًا لإعدالِه عَن قَرارِه العَنيدِ. نظَرت لَه بخَضراوِتين جَزِعتين ليُقبِل جبينَها ويَرنو لَها بإنهَاكٍ. "القَليل مِن الوَقتِ وسأعَود. أنا فقَط لا يُمكِنني الإستِمرار هَكذا."

تبَرمِت، هلُع قلبُها وهِى تَراه يَدور على عقَبِيه نَحو البابِ شاعِرة بإقطَرارِ آنفاسِها بلَوعٍ. لقَد كانَ سيَرحل رَغم كُل ما فَعلته كَي لا يَفعل. فما أدراهَا بأنَه سيَعود سالِمًا؟ ما الَذي يضمَن لَها بأنَ لا سَوء سيحدُث لَه بالخارَجِ؟

إرتَعبت.
أجفَل لِوي بغتةً عِندما أهَوت آخِر خُطوة لَه بدَربِ الإنصَرافِ من ذلِك السَجنِ الكَبيرِ، رمَقها بلَومٍ لتُقابِله بنَيرانٍ إندلَعت بكُل إنشٍ بعُيونِها المُغرورقة بإرتَيابٍ. هِى ما كانَت تستسلِم بيُسرٍ وذلِك أرهَقه تمامًا.

"دَعينِي آمُر يا سيڤين."

"أنا لَن أدَعك تَفعل هَذا بِي! أنتَ لا تملِك فكرَة عمَا يكمُن بالخارَجِ، إنَه عالَم شِرير، لِوي! ونحَن بغَنى عَنه..أنتَ لستَ بحاجَةٍ لَه!"

"إنكِ تتصَرفِين بجُنونٍ الآن. إبتَعدِ."نبَث بحَزمٍ لم تَلِن لَه صرامَتها بَل جعلَها تقطَع علَيه الطَريق مِن جَديدٍ، فإنفَلت آخِر خَيط تحمُلٍ تشَبث بِه ذهنُه المُضطرِب..ولَم يُفكِر مرَتين وهو يدفَعها بقَسوةٍ للجانَبِ غَير رامِيًا أذنًا لتأوِهها المُتألِم عَقب إصطدامِها بالجَدارِ.

هو عصَف مِن البابِ دَون النظرِ للخَلفِ كمَا يفعَل الطائِر بعيدًا عن قفصِه بحُريةٍ توغلَت إلى صَدرِه المُكبل بتَعاسةٍ سعَى لركَلِها بكُل قوةٍ تارِكًا نَسيم النَهارِ يُعانِقه بحَرارةٍ أذابَت ثلِيجَ ليالٍ تراكَم بداخِله.

بيَومٍ مُغايرٍ ما كانَ ليَهرب أبدًا مِن المرأةِ الَتي فتَنت قلبَه وآسَرت روحَه..ولكِن اليَوم، لقَد إحتاجَ أن يكُن أبعَد ما يُمكِن أن تصِل أقدامَه عَنها. لقَد خشَى خسارَتها بسَبب خوفٍ غَير مُبررٍ تملَكها،وغضَبٍ غَير مألوَفٍ سيطَر علَيه.

إحِتاجَ لوَقتٍ مُستقطعٍ.

لقَد قِيل بأنَه الرَبِيع..ولكِنه لمَسه كشَتاءٍ حَزينٍ. شَعر بالرَياحِ تُداعِب جلَبة ذهنِه بوَترٍ شَجنٍ هدأ لَه فؤادُه الَذي آخَذ ينبِذ غضَبه راكِنًا ويَسترِد بعضًا مِن سَكينتِه شيئًا فشَيءٍ. كانَ للسَيرِ بطُرقِ لَندن الضَبابِية شعورًا ممتِعًا ولكِن غريبًا.

كَم مِن الأيامِ مَرت ولَم يستَلِذ بقَرعِ خطَواتِه جهرًا؟ كَم مِن الساعاتِ فَرت ولَم يتَسِع العالَم حولَه عَن أربَعة جُدرانٍ خانَقةٍ؟ كَم كانَ بائِسًا ترَك نفسَه تقَوده لدَربٍ مُظلمٍ بالكادِ نجَح بالهُروبِ منه.

حينَما إستَرجِعت ذاكِرتُه المُرهِقة ما وَقع قَبل وقتٍ، راوَده النَدم أضعافًا حَتى أوشَك على العَودةِ أدراجِه بذُعرٍ. لقَد ألحَق الأذَى بالمَرأةِ الَتي يُحِبها لأنَه فشَل في حَشدِ إنفعالِه ولم يُفكِر حَتى برَؤيةِ ما تسَبب لَها بِه. كَيف طاوَعه قلبُه بفعلِ ذلِك؟

"أنا آسِفة، ولكِنه خرَج منذُ الصَباحِ ولم يعُد بَعد."

إنتابَه الإحِباطُ عِندما ترَك عتَبة بيتِ سيجرِيد راحِلًا بعدَما رفَض عرَض لِيديا بأنَ ينتظِر عودَة هارَولد مِن جَولتِه،فهو لم يهرَب مِن بَيتٍ كَي يلجَأ لآخرٍ.

كانَ يُرِيد إقتِفاءَ القَلِيل مِن الهَواءِ العَلِيل ليحظَى بسَلامٍ يوزِن إختِلالَه قَبل أن يعُد لعَناقِ زوجتِه مصلِحًا كُل ما أفسَده بسَذاجةٍ ويَنتشِلها مِن رهبتِها الَتي نمَت نَحو الجَميعِ بكُل بَسالةٍ.

لقَد ترَجته ليَبقى بجانِبها وهو رفَض ذلِك.
فكَيف سيُعوِض لَها فعلَته الغَبِية تِلك؟

إتخَذ مجلِسًا بالمَقهِى اليانِع بأرَجِ الشَاي وشَذا القَهوةِ.
تترامَى على مسامِعه ألحانَ كمانٍ عَذبةٍ أشجَت فَوضاه المُبعثرة بكَيانِه اللافِظ لآنفاسِه. كَم لمَسه بَعض السَلامِ أخيرًا بَعد نوبةِ إختَناقٍ كادَت تورِد رُشده للهَلاكِ.

"عجبًا، أولَيسِت تِلك صُدفة عَظِيمة، سَيد ليڤَرِنت؟"حُشِر الدَم بعُروقِه مَع سماعِ ذلِك الصَوتِ الغَليظِ يلحَق بتِلك الهَيئةِ العَريضة أمامَه. تخَشِب ثِغرُه وهو يُصعِد عَينيه المُمتقِعتين للِقاء بَسمة مُتعجرِفة آتت مِن آخِر وجهًا قَد يوَد رؤيَته بتِلك اللَحظةِ.

رفَع زَين هارَون قُبعته وملَس على شارِبه بعَنجهةٍ مقَتها لِوي كَما مَقت تِلك الرَؤية العَثِرة. شَد فكَيه بقَسوةٍ حينَما إنبَطح الخيَّال بالمَقعدِ المُقابِل لَه، منبِئًا النادِل بجَلبِ شايَّه إلى المَنضدةِ الَذي دعَى نفسَه إلَيها بكُلِ وَقاحةٍ.

"أنا لا أعتَقِد بِأنَني قَد قمتُ بدَعوتِك، سَيد هارَون."عبَس لِوي، فقابَله زَين ببَسمتِه المُستفِزة الَتي رغَب بشَدةٍ لَطمها بعيدًا. فبمُجردِ رؤيَته حَييت ذِكرَى وجودِه مَع زوجتِه أمامَ عينيه..وقَد ملَك الخيَّال الوَضيع الجُرأة للجُلوسِ مَعه بَعد ما فَعله.

"لقَد سمِعتُ بأنكَ قَد أمسَيت سَيد القَطيعِ الجَديد. كانَت فِعلَة صادِمة مِن السَيدة بالَوم أن تترُك تِجارَتها بعدَما تعلَق بِها الجَميع. أخبِرنَي، لِوي..هَل تَسير الآمور معكَ بخَيرٍ؟"مثَل الخيَّال نظرَة إهتمامٍ، وكَم تملَك لِوي أعصابَه مِن الشَطحِ بثَورانٍ.

"إن ذلِك لا يَعنِيك بشَيءٍ."

"وكَيف ذلِك؟ ألَم تُخبِرك سيڤين عَن عِلاقتِنا التُجارِية بَعد؟ ألازِلت بطَورِ التعلُمِ؟"سخَر زَين. لقَد كانَ يتعَمد ذِكرَ الشَقراء كَي يُثير غَضبه بكُل تأكيدٍ، وكأنَه كانَ بحاجَةٍ لمَ يفعَل ذلِك بالمَقامِ الأوَلِ.

لقَد كانَ بالفَعلِ غاضِبًا.

ضَب لِوي شِفَتيه بتزمُتٍ حينَما حضَر النادِل بقَدحِ الشَاي الَذي إلتَقطه زَين هارَون بتـأنٍ أسفَل نظراتِه الساحِقة، كانَ يكرَهه ويَكره وجهُه وسَماع صوتِه. كانَ يكرَه كُل شيءٍ بِه.

"في الحَقيقةِ يا لِوي، أنا مُمتن لتِلك الصُدفة..لِأنَ لدَي إعتِراف يجِب أن أُخبِرك بِه كَي أُزيح ذنبَه عن قَلبِي.."بادَر زَين بَعد دَقائِق، مرتدِيًا قِناعَ الإستَياءِ بوَجهِه المُكتز بمَكرٍ طافَحٍ، فتأهَب لِوي. "كَما تعلَم إن الشَيطان عَدو فاسِد يُوسوِس ببَعض الأشياءِ السَيئة جِدًا أحيانًا، وأنا قَد ضعِفتُ لَه مَرة وإقترفتُ خطئًا بحَقِك..مَع زوجتِك الفاتِنة، سيڤين بالَوم.."

إنكَمِشت قبضَتا لِوي بإغَتياظٍ.
فكُلما يعتقِد بأنَ زَين هارَون لا يُمكِنه أن يتخطَ مستَوى حقارتِه كانَ الآخر يَصدِمه بكَم يَستطِيع أن يكُن أكثَر بمَراحِل. كانَ يُقِر بفَعلتِه بنَدمٍ زائفٍ، كانَ يتغَزل بِها دَون إهتمامٍ. هَل أرادَ أن يَجعل ذلِك إعتِرافًا ما أم تباهِيًا بمَا فعلَه مَع شَقراءٍ أنهَكته؟

"مؤكَد أنا لا أقُل ذلِك كَي تنقلِب على سيڤين أو أجعَلك ترَى كَم زوجتُك تتصَرف بطَيشٍ لا يلِق بامرأةٍ مُحترمةٍ، ولكِنني أُنبِهك مِن رجُلٍ لآخرٍ..فلتُسيطِر على جَماحِها قليلًا، لِوي. إجعلَها تفهَم بأن ما حدَث قبَل الزواجِ لا يصِح أن يتكَرر بعدَه."

كَم تعدَى حدودَه تمامًا الآن!
كبَح لِوي غِلَه المَحموم بمُعجزةٍ، وأصَّر على أسنانِه بضَغينةٍ. "لَو كانَت هذهِ مُحاوَلة وضِيعة مِنكَ لقَذفِ سُمعة زوجَتِي بحَديثٍ حَقيرٍ، سَيد هارَون، فأنا أنصَحك بالتَفكيرِ مجددًا..إن سيڤين صارَحتنِي بكُل شيءٍ فعَلته قَبل الزواجِ، وأنا متأكِد بأنَها لم تُكرِره بَعد ذلِك."

كانَ يعلَم بأن ذلِك غَير حَقيقيٍ، ولكِنه كانَ يحفَظ ماءَ وجهِه الَذي بدَدته زوجتُه بتهورِها مسبقًا، فهِى لم تُطلِعه على شَيءٍ سَوى ما إكتشَفه هو بمَحضِ صُدفةٍ مُقبِضة..ولكِن مَحال بأنَها لاتزَل تُبقي أي أسَرارٍ مُظلمةٍ أُخرى عَنه.

لَيس بَعد كُل هَذا الوَقت.

"عجبًا، إن ذلِك يَجعلنِي أندَهِش الآن، سَيد ليڤَرِنت.."قطَب زَين جبينَه بضَفةِ شَفاهٍ مَرفوعةٍ، بَينما يشبِك يَديه معًا بلُطفٍ. "فحتمًا أنتَ رجلًا متسامِحًا جدًا لتَستمِر بحُبِ زوجتِك بعدَما تُخبِرك بأنَها كانَت على علاقةٍ بالكَثيرِ من الرَجالِ..بمَا فيهم والِدكَ! هَذا مُذهِل."

تيبَس لِوي. أُعتِم كُل شيءٍ بعَينيه كضَبابٍ بارَدٍ بعدَ سماعِ جُملةٍ ما مِن الخيَّالِ الَذي راقَبه بتعجُبٍ..ولكِنه كانَ بأبعَدِ نُقطة يُمكِن أن يقِف بِها كالصَنمِ المَكسورِ. نظرَ لزَين بنَظرةٍ ساهَمةٍ وهَز عنقَه بعدمِ إستَيعابٍ.

"ما الَذي قُلته لِلتو؟"
بدَى شيئًا ما يخُص زوجَته ووالِده..هَل سمَع بصَحةٍ أم تشَوش عقلِه قَد فاقَ حدَه بشَكلٍ مُضحكٍ؟

"لقَد كنتُ أتعَجب مِن تسامُحِك مَع امرأةٍ جامَحةٍ كزوجتِك. فَها أنا رجُل خاضَ معها عِلاقَة لطَيفة ومَع ذلِك تجلِس لتُحادِثني، وهَا أنتَ لاتزَل واقِعًا بغَرامِها على الرَغمِ مِما فَعله والِدُك قبل وفاتِه كَي يُبهِرها."

"ما الَذي فعلَه والِدي كَي يُبهِر مَن؟"
إستَغرب زَين لبُرهةٍ، رأى نظرَة حائِرة بصَدقٍ تستَحِيل زُرقة عيونِه الزُجاجِية..وهو يُكرِر سؤالًا خلَف الآخر وكأنَما ينكِر ما يُملِيه علَيه مِن ماضٍ ظَن بأنَه قد زعَم بعَلمِه بكُل ما وقَع بِه.

إبتَسم الخيَّال بجانَبيةٍ، ورمَقه بنَظرةٍ مُتعاليةٍ لم يلمَحها لِوي رَغم نظرِه لَه مباشرةً. "ألَم تسمَع عَن حِكايَة الرجُل الكَبير الَذي باعَ كُل أملاكِه ورَهن منزَل عائِلته كَي يَستمِيل امرأة شَقراء حَسناء فتَنت جَميع العُيونِ الَتي وقَعت علَيها؟ فقَد خِلتُك أحَد المَفتونين."

مكَث لِوي بصَمتٍ مُطبقٍ، وكأنَ عالمُه بأكملِه يتشَقق.
فذلِك الحِجابَ الَذي تمايَلت خلفَه بدَلالٍ قَد تمزَق، لتَظهر صَورة بشِعة لم يدرِ كَيف وقَع بحُبِها. ألَيس مجنونًا مَن يفعَل؟

طابَ الفَضاء بمَشارِف غَسقٍ خطَى كأرمَلةٍ تراقَصت بثَوبٍ حَريريٍ على مَعزوفةِ كَمانٍ بَديعةٍ. عبَق الكامَيلِيا فاحَ لآنفِه المُستنشِق بسَكينةٍ مسَته وهو يستقِر فَوق الرَصيفِ المُواجِه للمَنزلِ المُنشود بقَلبٍ قرَع بتَرددٍ.

تطَلع هارَولد إلى البَيتِ رَقم ٢٨ بشَارعِ ريجَنت والشَجر يمِده بظَلٍ وارَى كيانَه المُرتبِك عَن قَطعِ الطَريقِ لوَضعِ تِلك الباقَةِ الفَواحةِ جنبًا إلى جَنبٍ مَع خَطابِه الَذي كتَبه بمَشاعرٍ صادَقةٍ قد لا يشعُر بِها مجددًا.

لم يُفارِقه حديثَ ڤاليرِيا للَيالٍ وآخذ يعبَث مَعه بشَغبٍ حَتى شَعر بكَم كانَت كلِماتُها حَقيقية، وذلِك أرعَبه. فهو لم يُفكِر بتاتًا بالخُروجِ من لَندن مِن قبل، فمَدينةِ الضَبابِ كانَت موطِنَه منذُ وَعى ورَغم آلامِه المُحتشِدة بساحَتِها هو لم يترُكها قَط.

ولكِن رُبما حانَت ساعَة رحيلِه عَنها.

أرخَى أكتافَه بزَفرةٍ، ورَفع قدمَه عَن الرَصيفِ بهَمةٍ سُرعان ما إنقَضت بتَوترٍ مَع رؤيتِه لبابِ المَنزلِ يُفتح كَي يخرُج ذلِك الهَيكلِ الَذي جعلَه يتصَلب بمكانِه. راقَب ويندِي تستقِر فَوق عتبةِ بابِها يُقابِلها زوجُها چوزِيف لاڤجَود على مَقربةٍ أوقَدته.

علَّها لم تأتِ على ذَكرِ ذلِك الرجُل بدَقائِق لقاءِهما، ولكِنه ملَك آملًا ضعيفًا بأنَها لم توطِد مَعه العِلاقة إلى الحَدِ الَذي يجعَله يُقبِلها بذلِك الشَغف الَذي أشاحَ عنه نظَره بشَزرٍ. لقَد ظنَها قالَت بأنَه قد دمَر حياتَها وأنَها لن تُسامِحه أبدًا.

"أخبرتُك أن تتوَقف عن ذلِك!"تَمتمت ويندِي مارشِييل مِن بَين أسنانِها بنَبرةٍ مُنخفضةٍ كَي لا تصِل لتشارلِي الَذي وقَف بنَهايةِ المَمر مودِعًا والِده الَذي إبتَسم بجَانبيةٍ. "كُله مِن أجلِ أطفالِنا، عَزيزتِي. تشارلِي، وطِفلنا المُستقبلِي أيضًا."

شَدت فكَيها بإزدَراءٍ، تارِكة إياه يَغتنِم فُرصته بتذَكيرِها بمَا أرغَمها على فعلِه وهِى لم تملِك ما قَد تفعَله حَيال ذلِك. هِى لاتزَل غَير مُصدِقة بأنَها قَد حمَلت مِن جديدٍ من ذاتَ الرجُل الَذي خرَب حياتَها بالكامَلِ ولم يكتَفِ..بَل ربَطها بطَفلٍ ثانٍ سيحمِل إسمَه هذهِ المَرةِ.

طِفلٌ آتى مِن علاقةٍ طُرِحت لَها قسرًا.

حفَظت جَمود وجهِها وهُو ينصرِف بَعد إشارَة مُلوحِة أخيرَة لتشارلِي الَذي إبتَهج بوجودِ أبٍ لَه في حياتِه. مكَثت ويندِي ببُقعتِها بإبتَئاسٍ، هو قَد إستَغل رغَبة الصَغيرِ لدُخولِ حياتِها مجددًا ويُقيدها، فهو لا يهتَم بآمرِ تشارلِي أو بآمرِ الطَفل النامِي بأحشاءِها.

فمَهما رمَى بالوَعودِ وتظاهَر بالتَغييرِ..كانَ مخادِعًا. لقَد أرادَ مُمارسة ذُكوريته علَيها وحَسب.

اغلَقت البابَ بوَجهِ نَسمةِ رَبيعية إرتَدت عَبر الطَريقِ الفارِغ حيثُ وانَست باقَة وَردٍ بقَت فَوق سَورِ الرَصيفِ تذرِف بتلاتَها بحُزنٍ. هُجِرت وَحيدة، مَهزومة، وذابِلة.

كعَواصفِ العالَم بأكملِه أَثقل قلبُه بحَفنةٍ من صَرخاتٍ لم يتمَكن مِن إخراجِها لمَدى قسوتِها. لم يكُن يسمَع خطواتَ دربِه الَذي آخذَه رجوعًا لذلِك القَفص راجِيًا البَحث عَن سَلامٍ ما، ولكِن ظُلمة حياتِه لحَقت بِه كوَحشٍ طرَحه بشَرٍ.

أدارَ لِوي مفتاحَ مَقبضِ البَيتِ بوَعيٍ زائغٍ وصَل لحائطٍ مَسدودٍ، فلَم تكُن عَيناه تُفسِر أركانَ الرُدهةِ الَتي سارَها كشَبحٍ جابَ غياهَب عالمِه التَعيس مُقيد بأغلالٍ خاذَلت خطواتَه الزاحِفة. خَر على أوَلِ مقعدٍ قابَله بأرضِ مَكتبِه..وصَوب وجهَه المَمسوح للأمامِ بلا مَرسى.

"لِوي؟"
إنتَشر عَبق ياسَمينٍ بَين جُدرانِه كتَعويذةِ حُبٍ وقَع تحَت تأثيرِها بقَهرٍ. لمَح ظِلَها يقترِب مِنه ببُطيءٍ كمَن تتهاوَد على أشَواكِ تحمُلِه، فنَهض كالمَلسوعِ من مكانِه قبل أن تبلُغه ملتقِطًا إحدَى قنيناتِ النَبيذِ كَي يسكُب منها بجَوف كأسٍ إبتلَعه بنَهمٍ.

"لقَد عدتَ سريعًا. هَل أنتَ على ما يُرام؟"تفَرست بِه سيڤين بقَلقٍ. كانَت غاضِبة مِما فَعله بِها بثَورتِه قَبل الرَحيلِ، وكانَت مُستعِدة لتَوبيخِه بشَدةٍ حالَما يَعود..ولكِنها نسَت كُل ذلِك براحَةٍ تسلَلت لَها فَورما رجَع إلى البيتِ سالِمًا.

كَم كانَت تتحَرِق خوفًا عَلِيه.

"عَزيزِي؟"
إستَقرت بجَوارِه لرَمقِ جُزء وجهِه المُسددِ للأمامِ، كانَ صامِتًا يَحتسِى الخَمر بشَرهٍ مُقلقٍ جدًا. كانَت تقرأ طلاسِم عيونِه المُغيمة ولكِنها لم تفهَمها للمَرةِ الأُولى على الإطَلاقِ، وكانَ ذلِك مريبًا.

"هَل كُنتِ على علاقةٍ بأبي؟"هُزِمت نبرتُه لبَحةٍ رَخيمةٍ شبَكها الخَمر ببؤسِه، فلَم يتلقَ إلا السُكوتِ. صُدِمت، شَعرت بإرتجَافِ بدنِها رَيثما تتجَمد أطرافُها بزُرقةٍ بارَدةٍ جعلَتها كمَنحوتةٍ رخامَيةٍ جاوَرته.

"أنا أتحَدث إليكِ، فيَجب أن تُجيبِيني. هَل كُنتِ على علاقةٍ بأبـي؟"بصَوتٍ خَشنٍ أكَد لَها سَؤاله الَذي أظلَم بصرَها بالكامَلِ، فشَعرت بتزلزُلِ قلبِها بضُلوعِها مختنِقًا، كصوتِها الَذي إقتَلعته بجُهدٍ.

"مَن أخبَرك بهَذا؟"

"الصُدفة. نَفس الصُدفة الَتي تُلقِي بوَجهِي كُل يومٍ في حَياتي معكِ سِرًا عنكِ لم أكُن أعرِفه. ولكِن هَذا..هذا الَذي إكتَشفته اليَوم، كانَ أقبَح وآسوء أسراركِ على الِإطلاق."

"لِوي، أنتَ لـ..-"

"لا تَلمسينِ."زجَرها بغَضبٍ تراجَعت أمامَه يدُها الَتي بغَت مُعانقة خاصَته. مكَثت بمكانِها مُحملة بذَنبٍ وبإستَياءٍ، مَجروحة بنظرَةِ النُفورِ الَتي وكَزها بِها ببَطشٍ. هو لم يسمَح لَها حَتى بالشَرحِ، بالدَفاعِ عن نفسِها.

لقَد ظنَت بأنَ ذلِك السَر إندَثر بطَياتِ الكَتمانِ مَع ماضيَّها المُظلِم، فكَيف عثَر علَيه ليَفتح علَيها بابًا أغلَقته بعدَما وجدَت نفسَها أخيرًا مَعه. لقَد كانَت ضائِعة تتخَبط بطَيشٍ وهو مَن رسَم لَها طَريق النَجاةِ. لَيته يفهَم.

"في كُل مرةٍ أشعُر بأنَني أعرِفُك أكتَشِف بأنَني لَم أقترِب من هَذا حَتى. كَم سِرًا كريهًا تُخبئينه؟ كَم رجلًا عرَفتيه؟ لقَد جعلتِني أُصدِق بأن كُل الرِجال إستَغلالِيين وأنهُم ظلَموكِ طِوال حَياتكِ! لقَد..لقَد صدقتُ حديثكِ عن كَوني المَنشود الَذي أعادَ لكِ الشُعور بالإطمئنانِ والحُب من جَديدٍ!"

كانَ يَطعنها بنَظراتِ إتهامٍ صَريحةٍ آلمَتها، يُقابِلها بوَجهٍ بطَش بِها فلم يمنحَها فُرصة كَي تستُر الجُزء المُشوه بِها الَذي كانَت تخفَيه عَنه بإستَماتةٍ. لقَد أخبَرته بأنَه لن يُحِب كُل وجهٍ لَها وهو عانَد..فلَم يتوقَع أن تملِك وجهًا بهذهِ الفَظاعةِ.

"أُقسِم لكَ بأغلى شَيئًا بحَياتي بأن كُل كلمةٍ أخبرتُك بِها كانَت صادِقة! ما حدَث بينِي وبَين والِدك لم يكُن أكثَر مِن صداقةٍ عابَرةٍ، أؤكِد لكَ بأنَ لا شيء وَقع بَيننا ولم أُفكِر حَتى في هَذا."

"أنا لا أُصدَقكِ."

تمَررت عَيناها بنَدمٍ، وجاهَدت لحَشدِ شُتاتها الَذي إنفَطر أمامَ نظرةِ الإحَتقارِ الَتي عذَبها بِها..نظرَة ظنَت بأنَه لن يرمُقها بِه كَما فَعل الآخرون طِوال حَياتِها. فلَو ملَكت العُيون أنصالًا لكانَت صريعَة بمكانِها لا مَحالة.

بعَصبيةٍ كانَ يجَوب الحُجرة مَع أنظارِها الخاضِعة لَه بعَجزٍ. كانَت تشعُر بنَغزِ قلبِها مِن وطأةِ المَوقفِ القاسَي الَذي مزَق روحَها المُتهالِكة بشَراسةٍ لم تُقاتِلها كَما فَعلت طِوال حَياتِها. فللمَرةِ الأولى رأت نفسَها مَذنبة بحقِ رجُلٍ ما..رجُل لم يطلُب سِوى حُبِها ولكِنها عظَمته علَيه.

"لقَد جَعلتِني أشعُر بالخَجلِ من نَفسي عِندما سَددتِ دَيونِي لهارَون وكنتُ أعتَقد كُل يومٍ بأنَني لا أستحِق امرأة مِثلُك، بينما كُنتِ أنتِ سَبب أستِدانة أبِي لجَميعِ أملاكِه. كُنتِ أنت وخداعكِ السَبب فِي شَطحةِ عقلِه الَتي أماتَته."وقَف لِوي بمكانِه بجُفونٍ مُلتهِبة بحَقدٍ، لتَهِز سيڤين رأسَها بقوةٍ سريعًا.

"هَذا لَيس صحيحًا! أُقسِم لكَ! والِدكَ كانَ مَن يُحاوِل إستمالَتِي وجَذب إنتباهَي! أقسِم بأنَني لم أعلَم بشأنِ هذه الدَيونِ أبدًا!"

"لا تجرؤِ على إلقاءِ وِزر أفعالكِ المُشينة على أبِي. لا تجرؤِ."نبَهها بحَدةٍ لجَمتها بجَزعٍ، صوتُه كانَ قاسِيًا ونظراتُه كانَت ساحِقة. كَم تمنَت لَو تختفِ الآن كَي لا تتلقَ ذلِك من الرجُلِ الوَحيد الَذي أحبَها بجُنونٍ ولكِنها لَم تُقدِر ذلِك حَتى تبَدد ذلِك الحُب أمامَ قُبحِ أسرارِها.

لقَد أخبَرها بأنَه لا يُحِب الأسرار.

"أنتِ تَجعلينَني أشعُر بالِاشمئزازِ."
تألمَت بشَدةٍ أمامَ نظرتِه الشَزِرة الَتي لم تتمنَ رؤيَتها مِنه قَط. كَم كانَت ضربَة قاضِية لَه كَي يرمُق المرأة الَتي فتَنته بعينٍ حانَقةٍ كتِلك، كَم تغلَظ قلبُه كَي لا يرِق أمامَ وهنِ عيونِها بَعد تصريحِه النافِر.

لقَد كانَت هذهِ هِى القَشة الَتي قصَمت كُل صُمودٍ عافَر للتمسُكِ بِه. لقَد كانَت هذهِ هى اللَحظةِ التي كانَ يخَشاها ويَستبعِد أن ينتهِ به المَطاف عِندها.

حينَما ترَكها ورحَل، لم تملِك رُكبتين تُطيعاها للِحاق بِه بذُعرٍ، لقَد كانَت تشعُر بالخَوارِ يرُج لَها كيانَها بالكامَلِ. تكَتلت دَموع إنكَسارٍ بعيونِها ولم تجرَؤ على طمسِها..كانَت أضعَف مِن أن تصمُد أمامَ إنهَيارٍ تملَك مِنها بعد معركةٍ خاضَتها لأيامٍ.

ولكِنها الآن لم تجِد ما قَد تتمَسك بِه بلحظَة إنفَجارٍ ركَعت لَها بإستَسلامٍ. فإرتَعشت بعُنفٍ..وبَكت بحُرقةٍ.

كالمَمسوسِ كانَ يُدخِن تبغَه بغَضبٍ، يرمُق فلَك اليَومِ الَذي شُوه بظُلمةٍ آتيةٍ كَي تُجاوِر العَتمة الَتي شعَرها بقَلبِه بتِلك اللَحظةِ التَعيسة الَتي ما كانَ يراها سِوى بالرَواياتِ الحَزينةِ. ولكِنها الآن كانَت واقِعه الدَميم.

كَم رغَب بالصُراخِ بكُل ما أوتَى مِن قوةٍ. كَم رغَب بالإنفَجارِ كبُركانٍ تحمَل بشاعَة العالَم بجوفِه. كَم رغَب بالإنتحَابِ على غَرامٍ لعَن حياتَه ببؤسٍ لا يُطاق.

أهَو الخَمر؟ أهَو الغَضب؟ أهَو الآلم؟
لقَد عاشَ حياتَه بأكملِها يتَمنى ألا يصِل لتِلك اللَحظة التي وصَل إلَيها اليَوم. لحظَة شعورِه بكَل ذرةِ حُبٍ بقَلبِه تبهُت لتَغدو لَوحة مأساوَية رسَمتها النَدوب والجُروح الَتي كانَ يتظاهَر دومًا بعدم وجودِها.

ولكِن على مَن كانَ يكذِب؟

شَد لِوي شعرَه بكَيدٍ، شَعر بصَداعٍ ضخَمٍ يُهاجِمه بإستَبدادٍ كانَ واهِنًا عَن مُحاربتِه. غَمامة عَينيه تشَوشت وهو يرحَل عَن فناءِ البيتِ إلى سَجنِه الَذي أمسَى البَؤس زعيمًا لَه. فما عسَاه يفعَل كَي يتحَرر مِن أغَلالِه؟

موسيقَى.
كانَ هُناك خِيوطُ موسيقَى تنغزِل بخُفوتٍ أسفَل ذلِك السَقف المُتهاوِي. عزَف بيتهوڤِن لحنَه الحَزِين بشاعَريةٍ مسَت قلبًا نزَفت جروحَه بشَقاءٍ، بَينما يتوَقف على عتبةِ مَكتبِه الَذي غدَى كومَة مِن الشَظايا والحُطامِ.

تَدور المَعزوفة السادِسَة كخَلفيةٍ للَوحةٍ مُنفطِرة أحيَتها شَقراء جثَت ضِد الحائِط بجَسدٍ سَكن، ورأسٍ حجَزتها بَين يَدِيها وكأنَها تُسيطِر على إضطَرابٍ إنتهَكها بأنيابٍ حادَةٍ..حَتى لم يبقَ مِنها سِوى أشلاءٍ تكَومت على بعضِها بحَسرةٍ.

"هَل جُننتِ؟"سخَط، ناظِرًا إلى كُل جزءٍ نثَرته بنَوبةٍ عارَمةٍ ترَكتها مُحطمة تنزِف آلمًا وتَبكِي همًا على ما أصابَ حَياة حاوَلت الحِفاظَ علَيها مِن قسوةِ عالَمٍ جاهَلٍ، ولكِنها كانَت أضعَف مِن مواجهتِه وَحيدة.

"أنا مَجنونة بالفَعلِ."بنَبرةٍ مُحتشرجةٍ ردّته، بعَينٍ مُنطفئةٍ سكَنت. كانَت كجُثة تجلِس بمكانِها تَسعى لإنقاذِ ما تبقَى مِن كَيانِها المَنهوش بوَحشيةٍ. لقَد كانَت امرأة مَجنونة، هِى لن تنكِر ذلِك بَعد الآن.

"أوقَفِ هذهِ الموسيقَى."
لم ترمِش. بدَت وكأنَها إنقَطعت عن العالَمِ رَغم إرتجَافِ جسدِها العَنيفِ..تهتَز عَيناها بكُل مكانٍ بضَياعٍ كانَ سِر حالِها،لقَد كانَت ضائِعة بمكانٍ ما بعقلِها..وكانَ اللَحن هو كُل ما تسمَعه هُناك.

شَعر بغَضبٍ شَديدٍ لم يعلَم مِن أينَ إجتاحَه. شَعر بإرتجاجِ كُل طيةٍ بجَسدِه بعُنفٍ لمَس قلبَه الَذي هاجَ بإنهَيارٍ لم يعُد يتمَكن مِن كَبحِه بَعد الآن. شَعر بطَنينِ رأسِه يَعلو على صوتِ الموسيقَى الَتي بدَت كمَعزوفةِ حَياتِه التَعيسة منذُ الدَقيقةِ الأُولى.

لم يكُن بواعٍ حينَما آخَذت ساقاه الدَرب نَحو الآلة الدائِرة بَين الفَوضى الَتي مثلَت كُل شظَيةٍ مُهشمةٍ برَوحِه الصارِخة، لم يكُن بمُدركٍ وهو يُمسِك بالآلةِ العازَفةِ كَي يهَوى بِها بكُل عزمٍ ضَد الحائَطِ مَرة تَلو مَرة تَلو مرة.

لم يتوَقف رَغم تلاشَي اللَحنِ، فهو لَم يسمَع سِوى صَخب ذهنِه الأليمِ وقَد إختَمرت رؤيتَه بضَبابِ دَموعٍ تكَتلت فَوق جفونِه وهو يُفلِت أنقاضَ الجَرامافونِ تسقُط مِن بينِ قَبضتِيه المُرتجِفتين بوَهنٍ قاسٍ.

"مرحبًا بِكَ بالعائَلةِ."
زَينت عِبارَتها لوحَته الكَئيبة الَتي مثَلت حياتَه بتِلك اللَحظةِ. إنهَزم أمامَ ضَعف جسدِه الَذي إنزلَق خامِدًا بجَوارِها بَين الحُطامِ الَذي إفتَعله بنَوبةِ غضبٍ لم يتصَور بأنَه قد يمُر بِها يومًا.

هَل أصابَه الجُنون؟ هو لم يملِك فكرَة. لقَد كانَ مشوشًا، منهارًا ومَفطور القَلبِ تمامًا لحَدٍ جعلَه يجهَل أي حالةٍ هو بِها بتِلك اللَحظةِ. ولكِنه كانَ يعلَم بأنَه أبعَد ما يَكون عَن الإتزانِ.

فهو لم يعُد يشعُر بأي حُبٍ بقَلبِه بَعد الآن. ألَيس ذلِك كافِيًا ليَفقِد صوابَه؟

جَهرت الساعَة بدَقاتٍ سَتٍ مُقبضةٍ بدَهاليزِ بيتٍ مَيتٍ.
إنبَطحا مُتجاوِران بهَمٍ كسَر ظهرَيهِما وأثقَل روحَيهِما بقَيدٍ من حَديدٍ. تمُر علَيهما الدَقائِق لتَدهسهما بطَغيانٍ أمامَ نضالٍ مُحتضرٍ، لقَد كانَت نفوسُهما مُشوهة..لقَد كانَت عقولُهما مُشتتة.

كانَا بآخِر مرحَلة مِن مَراحلِ الإنهَزامِ.

"هَل تكرَهنِي؟"همَست، صوتُها كانَ مرتجِفًا وخفقاتُها إختَنقت بخَوفٍ شَديدٍ مِن جوابِه الَذي سيَكون كطَعنةٍ أخيَرةٍ تُنهِكها. لم يُحرِك لِوي ساكِنًا، كانَ ساهِم بوَجهٍ هابَطٍ وعيونٍ دامَعةٍ لا تَذرِف..وقَلب دامٍ لا ينطِق.

"أنا لم أعُد أعلَم كَيف أشعُر بَعد الآن."
هَل تحدَث حقًا أم كانَ مُجرد صَوت نفسِه يُصرِح بعقلِه؟ لم يهتَم لأنَها كانَت حقيقَة مُرعِبة. هو لم يعُد يعلَم هَل يشعُر بالحُبِ أم الكُرهِ، هَل يشعُر بالحُزنِ أم الغَضبِ، هل كانَ ذلِك آلمَ الخُذلانِ أم لذعَة الإستَسلامِ.

هو لم يعُد يعلَم أي شَيءٍ.

لم يقُم بحَركةٍ حينَما شَعر بقَبضتِها تَلمِس خاصَته بتردُدٍ شَديدٍ، كانَت رُكبتاها تؤلِماها وإن لم تُوقِفاها عَن قَنصِ المَسافةِ القَصيرةِ بينهُما كَي ترفَع ذقنَه إلَيها وتَنعكِس عيونِه كمُحيطٍ راكَدٍ جرَى فَوق ورَقةِ شَجرٍ ذابَلةٍ.

"لا تكرَهنِي؟"طلَبت، مُرِيحة جبينَها ضِد جَبينِه بنَظرةٍ حزَينةٍ تشاطَراها. كرَهت رؤيته يصِل لتِلك النُقطةِ، وكرَهت أن تكُن سَبب وصولِه لَها.

ترَكته يَلتقِط كِلتا يَدِيها كَي يتملَى بِها بعُمقٍ..قَبل أن يتنهَد ناهِضًا بظَلٍ ترنَح، وعَبر الحُطامِ رَحل. وكأنَما يهرَب مِن الفَوضى الَتي شابَهت ما يوجَد بعقلِه الآن..كانَ مُشوش، غَير مُتزِن ومُكتئِب تمامًا.

سحَقت سيڤين شِفَتها كَي لا ترتجِف أمامَ ضعفٍ آخذ مِنها ما يَكفِي، تحامَلت بإصَرارٍ للإستَقامةِ ورَمت نظَرة فارِغة على الحُجرةِ الَتي بدَت كساحَةِ معركةٍ ذهنيةٍ خاضاهَا ضِد عقولٍ جُنت..وخرَجا مِنها بجُروحٍ غائَرةٍ.

تحَت جِناح ظَلامٍ ثَقيلٍ سارَ ناكِس الرأسِ بيأسٍ. شَعر هارَولد بإخَتناقٍ رَغم برودةِ اللَيلِ القاسَيةِ، أخفَى معالِم وجهِه المُحبطة وهو يعبُر بوابة بَيتِ ليڤَرِنت محاوِلًا إزاحَة أحزانَه أرضًا. فهو آتَى لإخطارِ صديقِه بقرارِه الأخَير.

هو سيَرحل عَن البَلدةِ.

إستَقر فَوق عَتبةِ البابِ مترقِبًا جوابًا لطَرقتِه، ولكِنه لم يتلقَ شيئًا. قطَب جبينَه وكَرر دَقه بإلحاحٍ أكبَرٍ وتَنفس بضَيقٍ،حَتى آتَه ذلِك الصَوت الأنثَوِي الحَذِر من خَلفِ البابِ. "مَن الطارِق؟"

"إنَه هارَولد سيجرِيد."
وقَف بحَيرةٍ مُستمعًا لطَقةِ المَقبضِ وهو يَدور كَي ينفتِح لبَضعةِ إنشاتٍ طَلت مِنها سيڤين بنَصفِ وجهٍ ظُلل بعَتمةِ الرُدهةِ، فقَرن حاجِبَيه بإستَغرابٍ. "مرحبًا؟"

"مرحبًا، هارَولد."لاحَظ إجبارَها لبَسمتِها الَتي سُرعان ما سَقطت. هِى لم تسمَح لَه بالدُخولِ وكانَ ذلِك تصرُف غَريب. لقَد كانَت غرَيبة. "هَل تَحتاج لشَيءٍ ما؟"

"كنتُ أتسائَل لَو يُمكِنني الحَديث مَع لِوي قليلًا؟"

"لِوي لا يرغَب برَؤيةِ أحَد الآن. أنا آسِفة، هارَولد."

أمسَك بالبابِ قَبل أن تُغلِقه الشَقراء عَقب عبارتِها المُقبِضة، قلَقت ملامِحُه وهو يَتفرس بالجُزءِ الواضِح بوجهِها بتَوجسٍ. "هَل وقَع للِوي مكروهًا ما؟"

"لَا. لقَد أخبرتُك بأنَه لا يرغَب برَؤيةِ أحَد."تشَرِست نبرتُها، ليَتهكم. هِى ردَعته عَن الدُخولِ، وهو كانَ بارِع بالكَذبِ فلم يكُن مِن الصَعبِ علَيه أن يرَه بعَينِها المُنطفِئة بوَجومٍ مُريبٍ. فأيًا كانَ ما قبَع خَلف ذلِك البابِ لم يكُن جيدًا.

"سيڤين، هَل وقَع للِوي مكروهًا؟ هَل هو بِخَير؟
كونِ صادِقة مَعي أرجَوكِ."

ضمَت سيڤين قبضَتها بتجهُمٍ. لقَد كانَ لِوي بغَنى عَن أي شَخصٍ آخرٍ من ذلِك العالَم الخارَجِي مَهمن كانَ. لقَد آخَذ كِفايتَه اليَوم مِن الحُزنِ والآلمِ ما لا يستحِقه رجلٌ مِثله..وهِى لَن تتوانَ أبدًا عَن ردعِ أي أحدٍ يسعَى لإقتحامِ المأوَى الَذي حمَته فِيه.

ذلِك البَيت. حيثُ هو وهِى وحَسب.

"لَم يحدُث شيئًا لَه. إنَه على ما يُرام."أقَرت بوَترٍ فاتَرٍ أهابَه، وإن ألانَ قسماتَه المُتحفِزة بوَجهٍ مُحبطٍ تمامًا. "حسنًا، هَل يُمكنكِ أن تُخبرِيه بأنَني أحتاجَه؟ أنا أُريد الحَديث مَعه بشَدةٍ."

كانَ بأمسِ الحاجَةِ إلى الشَخصِ الوَحيدِ الَذي سيَحتوُيه ويتفَهمه ويُداوِي كُل جرحٍ ترَكه ذلِك الكَون البَشِع فِيه بدَمامةٍ.

"لقَد نالَ لِوي ما يَكفِيه مِن المَشاكلِ بيومٍ واحدٍ. أذهَب وإبحَث عَن شَخصٍ آخرٍ لتَشكو لَه."نهَرته بغُلظةٍ، ودَفعت البابَ قبل أن يتمَكن مِن صَدِه مجددًا. وَقف ببُقعتِه مصدومًا مِن سلوكِها المُهِين، وتَنفس بإرتَجافٍ من عُصارةِ قَلبٍ لم يقوَ على الصُمودِ.

"أرجَوكِ يا سيڤين..أنا أحتاجَه أرجوكِ.."
طَرق بإهَتزازٍ، شَعر بأنَه على حافةِ البُكاءِ. كانَ مكسورًا ووَد مِنه أن يُعِد جَمعه مِن جديدٍ بحُبٍ وإهتمامٍ..شيئان لم يحظَ بِهما يومًا مِن أحدٍ قَط سِواه. والآن هو كانَ يُسلب مِنه.

"أنتِ لا يُمكنكِ آخذَه مِني! لا يُمكنكِ!"هتَف بحُرقةٍ، وطَرق البابَ بكُل ما أُوتى مِن قوةٍ قرَعت بآنحاءِ الحَي الصامِت بصَدى مُخيفٍ ترَدد بذهنِه المُتخبِط، كانَ متعَب..غَير قادِر على المُعافرةِ بَعد الآن.

"أنا لا أملِك أحَد سِواه الآن يا سيڤين..أرجَوكِ أفتَحِ البابَ.."أستَند ضِد البابِ بأنهزامٍ، خسَر معرَكة الصمودِ ليَكون طريحَ مِنصَة القَتالِ..وأسفَل سماءٍ دامَسٍ حَرر حزنَه بنَحيبٍ وضَع بِه كُل شهقةٍ جرَها قلبُه ولَم يذعَن لهَا.

"أرجَوكِ، أرجوكِ أنا أحتاجـه.."

ضَم رُكبتِيه لصَدرِه المُتقِد بجُذوةِ وَجعٍ تملَكته، وبعُيونٍ مُنهزمةٍ سَقط رأسُه ضِد البابِ متوسِلًا إياهَا بِلا توَقفٍ، ومرتعِشًا بخَوفٍ من البَقاءِ وحيدًا بين شَياطينِه الَتي أحاطَته بكُل جَوعٍ تنهَش فِيه دون رَحمةٍ.

أجفَل فَورما أُعيد فَتح الباب مجددًا، لتَعلو حَدِقتاه البالَيتان نَحو أُخرِتين ساكَنتين رَغم ما عمَر بِهما مِن إبتئاسٍ. مسَح دموعَه بعُنفٍ، وسمَع زفرَتها العَميقة.

"لَو فتحتُ أنا لكَ بابَي، فهَل سيفَتح هو لَنا بابَه؟"

لم يَفهم سَؤالها، ولم يبقَ ليفَعل. فقد أنطلَق عَبر البابِ قَبل أن تحجِزه عَنه مجددًا، وبآنفاسٍ متلاحَقةٍ ووجدانٍ يَصيح بخَوفٍ نادَى صديقَه بصَوتٍ مُتحشرجٍ وعَينٍ مَذعورةٍ.

"هارَولد؟"
وثَب قلبُه، تحَرك مِن حُجرةِ المَعيشةِ إلى الرُدهةِ بلَهفةٍ حيثُ رأى صديقَه يهبِط السُلم ببُطيءٍ شَديدٍ، فإبتَسم بإرتَياحٍ رَغم هيئةِ الآخر المُزرِية..فهو قَد توقَع أي شَيءٍ آسَوء تمامًا.

"ما الخَطب؟ هَل كنتَ تبكِي؟"

"لَا لَا، أنا لم أكَن أفعَل!"نفَى اللَورد الحَزِين، ومَرر يَده فَوق وجهِه كَي يُزيل علاماتَ إنهَيارِه السابِق بأساريَرٍ شُدت برَحابةٍ مُتكلفةٍ قابَله بِها. "لقَد جِئتُ لأراكَ! ولأُخبِرك آمرًا بغايةِ الأهمَيةِ."

كانَ هارَولد مشَتت لحَدٍ لم يسمَح لَه برَؤيةِ إحمَرارِ عيونِه، أو بقَراءةِ نظراتِه المَجروحةِ، أو بمُلاحظةِ أطرافَه المُتدلِية بإستَياءٍ. فلَقد إجتَمعت ثَلاثة قُلوب تَحت سَقفٍ واحدٍ بإضطَرابٍ رَج الأرَواح كالرَعدِ.

"لقَد قرِرتُ السَفر. سَوف أذهَب لفَرنسا، لإيطالَيا، لمِصر!
سَوف أذهَب لِأجد لِي مُستقبل كَما فَعلت أنتَ. أنا أعلَم بأن ذلِك كانَ متأخِرًا قليلًا ولكِنني مُستعِد الآن لفـ..-"

كَم حاوَل لِوي التَركيز مَع كُل كلمةٍ نطَقها، ولكِن ذلِك الصُداع. ما بالَه لا يُمكِنه الإصِغاء لشَيءٍ سَوى طَنينٍ عَجيبٍ داخِل رأسِه؟ ثقُلت جفونُه وكأنَما ربَض فوقَها أطنانًا مِن الصُخورِ..ولكِنه حارَبها لتَبقى عالِيًا.

وكَم شَعر بالنُعاسِ. كَم أرادَ النَوم بشَدةٍ.

"رَباه! لِوي هَل أنتَ بِخَير؟"
لم يستطِع أن يعلَم ما إن كانَت صَيحة سيڤين أم لمسَة هارَولد..ولكِنه شَعر بإنهيارِ جسدِه فَوق دَرجةِ السُلمِ كَي يجلِس خائِر العَضلات مُحتضِر الوَعي، بالكَادِ يُميز حَرارة الإثنَينِ بجَوارِه.

"أنا بخَير."جَف لِسانُه بشَكلٍ غَريبٍ، تلجلَجت مُقلتاه بمَحجرِيهما شاعِرًا بقَبضةٍ ناعَمةٍ تنبَسِط بجَبينِه قُبيل أن تنزلِق نَحو وجنتِه بلُطفٍ شَديدٍ. هَل خرَج صوتُه أم ضاعَ بزحامِ ذهنِه؟

"إنَه لا يبدُ بِخَير."

"لنُصعِده لحُجرتِه."

كانَ يستمِع إلى هَمساتٍ تأتَي مِن مكانٍ ما، ولكِنه لم يُميزها بصَورةٍ سلَيمةٍ. كانَ يشعُر بذَراعِين قَويينِ يَسنِدانه وبجَسدِه المُرتخِي يَرتفِع على ساقَين لم تقَويا على حَملِه أكثَر مِن خُطوةٍ واحَدةٍ. كانَ يشعُر بالدَوارِ.

عانَقه مَلمِس مُرِيح، إعِوجاجُ الفَراشِ كانَ رفيقًا ببَدنِه الَذي إستَلقِي بثَناياه منكمِشًا ولكِن مُنمل بشَدةٍ. شُعلة ضَياءٍ إلتَهبت على يَمينِه، وبشَقِ العينِ رأى ظِلين تحَركا بخَفةٍ.

"لا تقلَقِ. سأذهَب لإحَضارِ الطَبيب، وإبقَي أنتِ بجَوارِه حَتى أعَود."نبَث هارَولد بقَلقٍ متآمِلًا حالَ صديقِه شِبه الغافَي بحَيرةٍ، فأومأت سيڤين بفهمٍ شاعِرة بقَلبِها يختلِج برُعبٍ. "لا تستغرِق الكَثير مِن الوقتِ أرجَوك."

لا يعلَم إياهِما كَيف يُمكِن ليومٍ واحدٍ أن يتمَوج على هذهِ الشاكَلةِ المُرهِقة بطَرفِ عينٍ، ولكِنهما كانَ أبعَد مِن أن يشرِدا لأستيعابِ الآمرِ. إنصَرف هارَولد بعَجلةٍ كَي تَرنو الشَقراء لزوجِها المُنهك بنَفسٍ حُشِر.

كَم كانَت ترتجِف خوفًا.
"عَزيزِي؟"ترَدد همسُها بجَوانبِ عقلِه كَي تسكُن وحوشُه الصارِخة، ببَقايا وَعيٍ ضائَعٍ شَعر بيَدٍ تضُم قبضَته المُتنمِلة ورُبما بمَلمسٍ رَطبٍ يُلثم فوقَها بحَرارةٍ. لقَد كانَ مُشوش، مُرتبِك العَقل جِدًا.

هَوت جفونُه هذهِ المَرةِ بسُلطةٍ أكبَر لم يُعادِلها مَقدِرة، لتَنسحِب زُرقة عيونِه للظَلامِ بعدَما شَهد على زُمردتِين لمَعتا بسَماءِ لَيلِه الخاصِ قَبل أن يَنحدِر نَحو فَلكٍ عَميقٍ وبَعيدٍ.

حيثُ للجُنونِ أكثَر مِن مَعنى.

Continue Reading

You'll Also Like

6K 292 40
تبدو الحقيقة مرعبة حين نرددها بصوت عال ألا تفعل ؟ ألا تفعل يا يونا الأليمة ؟ تماما كذلك الذي يزين حبل مقصلته ، إخترتك بحذر شديد من بين الأشواك ، إنتق...
49.6K 3.4K 29
" ليسَ العيبُ في أن تُخطئ ، بَلِ العيبُ كامنٌ في أن تُكَرِّر نفسَ خطأِك ، و اعلم أنه لا يوجَد خطأ لا يُغتفَر " جُملة قالها لي ذاتَ يَوم ، و لَكنني لَ...
My Helper By _

Fanfiction

681K 48K 75
عندما تقرر مساعدتي فإنك تضع حياتك بين الموت و الحظ السيء - لوك هيمينغز
1.6K 123 3
عندما يكون حُبًا غريبًا، مُتطفلًا ومُفاجئًا. كالمرض يدخُل لخلاياهُم. لكنهُ ممنوع، لكنهُ مُحرم، لكنه خطيئة. عندما تُحِب من لا يجِب أن تُحبه، بشكلٍ مُف...