كانت تجلس أمام المرآة تمشط شعرها المسدول على كتفها، عندما سمعت دقا. وضعت المشط على المنضدة، وقفت عن مقعدها، و أسرعت نحو الباب.
فتحته، فوجدت تاج يقف أمامها، مصفف الشعر، باسم الثغر، في زيه الأسود المطرز.
ألقى نظرة سريعة على ثوبها الفضي، على وجهها، ثم شعرها. أخذ نفسا صغيرا و هو يتأمل عينيها، ثم قال بنبرة هائمة،
- تبدين.. فاتنة!
ابتسمت و هي تبادل نظرات الإعجاب على محياه بمثلها،
- تبدوا.. جذابا أيضا!
ثم أذنت له بالدخول، و أشارت له بالجلوس على إحدى الأرائك،
- تفضل. سأنتهي قريبا.
جلس على الأريكة يراقبها و هي تسدل ثوبا خفيفا داكن الزرقة على شعرها، و تلف حول رأسها عمامة بنفس لون الثوب، مطرزة بالفضة. و بعد أن انتهت، أضافت دبوسا فضيا يحمل جوهرة زرقاء داكنة، في مقدمة العمامة، ثم أخرجت بعض خصلاتها من الجانبين و أسدلته على كتفيها.
التفتت إلى تاج متبسمة، فتعانقت نظراتهما للحظة، قبل أن يخفض بصره. و عندما شعر بها تتقدم باتجاهه، رفع عينيه إليها في بعض من الإرتباك.
- هل تحدثت إلى لمار اليوم؟
هز رأسه سلبا،
- لا، لم أراها منذ الصباح.
وقف عن الأريكة، ثم سار نحوها،
- قالت بأنها ستعود لمقابلة المارد الذي ساعد على اخفاء خاتم ملوك الجان.
- لما؟
- تريد أن تتأكد من أن هازار هو ابن ساحر البلور، فاسم أبيه و قصته، تطابق ما سمعته من تاليا. لذلك عادت لمقابلته، لتحصل على المزيد من المعلومات.
- أ تظن هي أيضا أنه ابن ساحر البلور؟
تنهد ثم هز رأسه إيجابا،
- أجل. لكن كما قلتي، لا أعتقد أنه يهدف لإستخدام الخاتم لغرض شرير.
ابتسمت فبادلها بأوسع منها، اقترب منها، ثم أمسك بيدها، و همس لها وهو يتأمل ملامحها،
- لنذهب.
....
كانت الفوانيس تضيء حديقة الخان، و لحن العود الهادئ الممزوج بصوت خرير مياه النافورات اللطيف يملأ المكان بالحياة.
شق الأميران طريقهما نحو الجزء المفروش من الحديقة، حيث يجلس الناس و يُقدم الطعام، لكنهما توقفا في منتصف الطريق عندما لمحا بدر الملوك و هازار، يقفان عند أحد مداخل الحديقة، و يتبادلان أطراف الحديث في انفعال، و تعابير الغضب و الإستياء تسيطر على تعابيرهما.
تساءلت وردة بعد أن راقبتهما طويلا،
- أتظنهما يتشاجران؟
أجاب في شرود و هو يدرسهما من بعيد،
- من يدري!
مرت عليهما جارية تحمل مشروبات مختلفة، و قدمت كأسا لتاج فشكرها، ثم كأسا لوردة، ليتزامن ذلك مع مغادرة هازار للحديقة، و دخول ولي العهد الجزء المفروش من المكان، و تعابيره تفضح ثوران مشاعره.
طلب تاج من الجارية كأسا ثانيا، فقدمته له متمنية لهما أمسية طيبة.
و ما أن غادرت حتى التفت إلى وردة،
- لنذهب.
ثم أسرع نحو الباب الذي خرج منه هازار لتوه، فلحقت به الأميرة مستغربة،
- إلى أين؟
- لأسأل هازار عن ما يحدث بينه و بين أخي.
....
بعد أن بحثا عنه طويلا، وجداه في سطح الخان، يشاهد الإحتفال من موقعه في صمت.
التفت تاج إلى وردة، فأومأت له و أشارت له بالإقتراب من صديقهما. بادلها بإيماءة صغيرة ثم تقدم نحو هازار.
- ماذا تفعل هنا؟
إلتفت إليهما المنجم و تعابير وجهه تُفصِح عن تفاجئه من رؤيتهما. ابتسم لهما ثم سار باتجاههما و هو ينقل نظراته بينهما.
مد له تاج أحد الكأسين وهو يتفحص ثوبه الأبيض المطرز راقي و تسريحة شعره الجذابة.
- يليق بك الأبيض أكثر من الأسود!
اكتفى هازار بابتسامة واسعة، ثم أخذ الكأس من يد تاج و شكره.
نظف الأمير حلقه، وهو يراقب المنجم يحتسي من كأسه، ثم سأل في تردد،
- لاحظت.. أنك و أخي ربما.. تشاجرتما؟
تقلصت ابتسامة هازار ثم طأطأ رأسه قليلا،
- تخالفنا في أمر ما وحسب.
- و أي.. أمر هذا؟
نقل عينيه بين تاج و وردة،
- لنجلس أولا، ثم نتحدث.
ثم تقدم نحو مقاعد صخرية تتوسط السطح، حولها بعض النباتات و الأزهار، و فوانيس تضيء المكان قليلا.
جلس الثلاثة.
احتسى هازار من كأسه ثم وضعه جانبا. نظف حلقه ثم رفع عينيه إلى صديقيه،
- اسمعني يا تاج. لا يمكنني أن أخبرك بأي شيء عن الأمر من دون موافقة بدر الملوك.
تبادل الأميران نظرات استغراب للحظة.
ثم عقد تاج حاجبيه ثم سأل،
- و لماذا؟
- يريد منك أن تخبره أولا عن ما حدث قبل عشر سنوات عندما اختفيت.
وضع تاج كأسه جانبا، ثم أغلق عينيه لوهلة متنهدا،
- و بماذا سيفيده ذلك؟
سكت هازار لمدة وهو يدرس عيني صديقه،
- لأنه يشك في أنك تعرف شيئا ما عن ما حدث لمدينة البلور. بما أنك غادرت و اختفيت قبل أن تتصنم بأيام، و بما أنك.. ظهرت الآن في هذا الوقت بالضبط.
ابتلع تاج ريقه، ثم أخذ نفسا مرتعشا و التزم الصمت لمدة.
وضعت وردة كأسها بعد أن احتست منه وهي تدرس تعبير وجهيهما، ثم قالت،
- و ما رأيك أنت يا هازار؟ أ توافق بدر الملوك؟
ألقى نظرة على تاج، ثم أجاب وهو ينظر إليها،
- أثق بتاج.
رفع الأمير عينيه المتفاجئتين لتتصلا بعيني المنجم الهادئتين،
- أثق بك كل الثقة. لكنني أعتقد أيضا أنك تعرف شيئا ما عن الحادث.
استغربت وردة،
- و ما الذي يجعلك تظن ذلك؟
صمت لمدة و هو يبادل الأمير نظرات شبه حادة،
- تلك الحمامة. أعلم جيدا أنها جنية يا تاج.
انقطعت أنفاس الأميران لبرهة وهما يحدقان بالمنجم في صدمة.
تنهد هازار ثم طأطأ برأسه قليلا،
- أعرف الجان جيدا. و لا يخفون علي و إن التخذوا أكثر الهيئات إقناعا.
رمش تاج بضع مرات و كأنه يحاول أن يستيقظ من الصدمة.
- ليست.. جنية سيئة.
- أعلم ذلك.
تبادل الشابان نظرات ساكنة لمدة، و وردة تنقل بصرها بينهما في صمت. ثم قاطعتهما بعد أن هزت ذراع تاج، فالتفت إليها.
همست،
- أخبره يا تاج.
هز رأسه رفضا وهو يرمقها بنظرات مستغربة، فالتفت إليها المنجم متسائلا،
- يخبرني بماذا؟
أغلق تاج عينيه متأففا،
- لا أستطيع أن-
قاطعته وردة لتجيب على سؤال المنجم،
- تاج يعرف والدك.
اتسعت عينا هازار، و لأول مرة تهتز تعابيره و تفقد ثباتها و رصانتها. ابتلع ريقه و هو ينقل عينيه المتفاجئتين بينهما، في اللحظة التي التفت فيها تاج لوردة غير مستوعب، فأومأت له وهي تحاول ارشاده بنظراتها.
- أخبره يا تاج.
ابتلع هازار ريقه و اهتزت نبرة صوته،
- ما الذي.. تعرفه عن والدي يا تاج؟
تردد الأمير للحظة، أخذ نفسا صغيرا ثم نظف حلقه،
- كان والدك.. شهبار.. ساحرا في مدينة البلور. و أظنك تعلم ذلك.
- و ماذا أيضا؟ ماذا تعرف عنه؟
سكت لثانية ثم أتمم،
- الحقيقة أنني لا أعرف عنه سوى القليل.
- أخبرني بكل شيء. حتى و إن كان قليلا.
هز رأسه موافقا،
- حسنا.
ثم أكمل،
- كان شهبار يعيش في الخفاء. و لا يعرف عن وجوده سوى القليل من الناس. هكذا سمعت. و قد أرشدني إليه أحد الجنود في القصر عندما كنت أبحث عن شخص يستطيع مساعدتي.
سكت لبرهة ثم أضاف،
- أعرف أيضا أنه يملك حديقة تحت أرض غابة الغيبهان، التي تقع في مملكة جزائر و بحور السبعة قصور.
- الغيبهان! غابة الأنفاق إلى عالم الجان؟
- صحيح.
أخذ هازار نفسا قصيرا مرتعشا،
- أخبرني عن تلك الحديقة.
- إنها.. المكان الوحيد الآمن في تلك الغابة. بابها على أرض قاحلة منقوش عليها دائرة تضم تسعة رموز غريبة، و يُفتَح عندما يتم المسح على تلك النقوش بترتيب محدد.
- دائرة تضم تسع رموز غريبة؟
- صحيح.
أسرع هازار و تناول غصنا على الأرض، و رسم دائرة متوسطة، ثم أخذ يرسم بعض الرموز داخل محيطها.
- أ تشبه هذه الرموز؟
أومأ تاج و هو يتمعن في الرموز،
- إنها هي.
رفع المنجم عينيه المتفاجئتين إلى الأمير، ابتلع ريقه ثم فتح شفتيه الحائرتين،
- ما الذي تعرفه عن المكان أيضا؟
- أعرف أنها حديقة شبه سحرية، و آمنة، لها-
قاطعه هازار متعجبا،
- مهلا! أ كنت في الحديقة من قبل؟!
اكتفى تاج بإيماءة صغيرة جعلت وجه المنجم يبيض و يشحب فجأة.
تلعثم هازار و بؤبؤتاه السوداوتان ترتعشان،
- أ تقول.. أنك.. تعرف.. ترتيب الرموز؟
أومأ تاج ببساطة، وهو يرمق المنجم بنظرات استغراب،
- أجل، أحفظ الترتيب الذي يفتح الباب.
تشوشت نظرات هازار، وهو يتمتم لنفسه،
- مستحيل! لا يصدق!
تبادل تاج و وردة نظرات استفهام، ثم أعادا انتباههما إلى المنجم الحائر في أمره.
دنى الأمير قليلا باتجاه هازار،
- ما المستحيل في الأمر؟
- ترتيب الرموز. ترتيب تلك الرموز.. تعويذة خطيرة. لا أصدق أن والدي.. قد وثق بك لدرجة أنه علمك جزءا عظيما من التعويذة.
ابتلع تاج ريقه، وهو ينقل عينيه بين الأميرة و المنجم،
- و.. أية تعويذة.. تلك؟
ترك هازار الغصن على الأرضا، ثم وقف عن مجلسه، و مسح بقدمه ما رسمه على التراب. أغلق عينيه متنهدا لبضع ثوان، ثم قال،
- تعاليا معي.
ثم نقل بصره بين الأميرين،
- علي أن أريكما شيئا.
ثم غادر موقفه.
وقف تاج و هو لايزال متفاجئا، شاردا بين أفكاره المبعثرة. أمسكت وردة بذراعه و سحبته إليها وهي تتبع خطوات هازار، ثم همست له،
- ابقى منتبها.
التفت إليها، ليلاحظ ملامح الحيرة تسيطر على وجهها،
- لا أفهم ما الذي يجري!
أجابت، و عيناها تلاحقان هازار،
- أظننا سنفهم ما الذي يجري قريبا.
....
نزل الثلاثة من السطح، و المنجم يتقدمهما، ثم سار بإتجاه الغرف. وقف عند أحد الأبواب، فتحه ثم دخل، و طلب من رفيقيه أن يتبعاه، ثم أسرع نحو مائدة عليها بضع كتب، و ترك مهمة إغلاق الباب لتاج.
تقدم الأميران نحو الأرض المفروشة بينما كان هازار يبحث بين المجلدات. أخرج ثلاثة كتب، و بضعة رسائل، حملها بين ذراعيه، ثم أسرع بها إلى حيث ينتظره صديقاه.
وضع الكتب أرضا، ثم فتح احداها، و كشف عن محتواها أمام الأميران.
- هذا الكتاب من والدي. لقد كتبه بنفسه. و ذكر فيه التعويذة، لكنه لم يذكر شيئا عن ترتيب الرموز.
أخذ تاج الكتاب، تفحص الدائرة المرسومة على الصفحة، و التي تحتوي الرموز، ثم درس ما كُتِب من كلام مفهوم و غير مفهوم بجانبها.
ارتبكت نظرات الأمير، ثم تلعثم قائلا،
- ت.. تعويذة.. الخاتم!
دنى المنجم منه قليلا،
- هل أخبرك أبي عن الخاتم؟ أو ربما.. علمك شيئا آخر إلى جانب ترتيب الرموز؟
سكت تاج لمدة تمعن فيها في الورقة جيدا، ثم وضعها متنهدا في استسلام، و هز رأسه نفيا،
- لا، لم يخبرني والدك عن الخاتم.
- أ متأكد؟
- لا أعرف شيئا عن الخاتم يا هازار.
تأفف تاج و رأسه بين يديه،
- لا أفهم! لماذا يعلمني والدك ترتيب رموز تستخدم في تعويذة خطيرة؟
ثم رفع نظراته المتوترة إلى المنجم،
- و لماذا.. لماذا لم يعلمك أنت؟! لماذا لم يذكر أي شيء عن ترتيب الرموز في الكتاب؟
مسح هازار وجهه بكلتا يديه،
- لا أدري. لماذا يخبرني عن جزء من التعويذة، ثم يخبرك بالجزء الآخر؟!
ثم تأفف وهو يهز رأسه سلبا،
- لا أدري!
خيم الصمت لبضع ثوان، ثم اختفى لحظة تحدثت وردة،
- ربما.. كان يحاول حمايتكما.
التفت إليها الشابان، فنقلت نظراتها بينهما لتلاحظ القلق و الحيرة على وجهيهما، فأخذت نفسا صغيرا استعدادا لتفسير كلامها.
- لو كان واحد منكما يعلم كل شيء عن التعويذة، لأصبح طريدة للسحرة!
نظرت إلى هازار،
- لكن بما أنك تعرف جزءا من التعويذة فقط،
ثم التفتت إلى تاج،
- و أنت تعرف سر الجزء المتبقي، و من دون أن تدرك ذلك حتى، فلا أحد يستطيع الوصول إلى التعويذة كاملة.
هز المنجم رأسه موافقا،
- ربما.. ربما صدقتي في ظنك. ربما كان يحاول حمايتنا.
تساءل تاج في شرود،
- لكن ممن؟
ثم بادلهما النظرات،
- ممن كان يحاول حمايتنا؟
لم يجد الثلاثة أجوبة على أسئلتهم، و ظنونهم، رغم تفحصهم للكتب لساعات، ثم الرسائل، و التي كان أغلبها يوميات عن حياة شهبار العادية، و وعوده بأنه قادم لزيارة ابنه و زوجته، و تمنياته لهما بأن يكونا بخير. بات الصمت رابعهم الذي برزت نبرته من بين أصواتهم.
ثم أخيرا اعتذرت وردة لتغادر، فانضم إليها تاج.
و قبل أن يتجها نحو الباب، توقفت وردة للحظة، ثم أشارت إلى الكتب و الرسائل،
- أ يمكننا أخذ الكتب معنا؟
- أ ترغبان في تفحصها؟
أومأ تاج،
- ربما نجد فيها شيئا.
- حسنا.
جمع المنجم الرسائل و وضعها بين صفحات أحد الكتب، ثم قدم المجلدات الثلاثة للأمير.
- إعتني بها. إنها من أبي.
اعتلت ابتسامة صغيرة ثغر تاج ثم أومأ،
- سأفعل.
....