Lady Casanova.

By Tullipxx

75.5K 6.7K 6K

ما أجمَل مِن أن تَعشق شخصًا إلى حَدِ المَـوتِ؟ ▪كُل الحِقوق محفوظَة®. ▪السَيدة كازانوڤا [ رِوايَـة - لِويس تَ... More

السَيدة كازانوڤا.
الأوَل|سَيدة القَطيع
الثانِي|لَيلة في مَهبِ الرَيحِ
الثالِث|في عَصرِ الأزماتِ
الرابِع|رَبيع إيلڤان
الخامِس|خارِج عَن المألوفِ
السادِس|لِقاء مَع حَبة كَرز
السابِع|تُحفة فنِية غاضِبة
الثامِن|سِحر حُورِيات البَرِ
التاسِع|زِفافٌ ريفِيٌ
العاشِر|سِياسة الحُبِ
الحادِي عَشر|حُمى مُصيبة للقُلوبِ
الثانِي عَشر|سَليلة بالَوم
الثالِث عَشر|الوَجه الآخر للعُملةِ
الرابِع عَشر|الخَيط الرَفيع
الخامِس عَشر|مَع الدَقةِ العاشِرة
السادِس عَشر|حالَة زواج
السابِع عَشر|حيلَة آفروديتِي
الثامِن عَشر|القِط والفأر
التاسِع عَشر|امرأة العَصر
العِشرون|موعِد على العَشاءِ
الواحِد والعِشرون|أعادَة إحِياء الماضِي
الثانِي والعِشرون|أسرَى حَرب الذَكرياتِ
الثالِث والعِشرون|جِدال بَين شظايا مُجتمع
الرابِع والعِشرون|الأُم العَقيم
الخامِس والعِشرون|الحَياة دائِرة مُغلقة
السادِس والعِشرون|سِر الوَشاحِ الأزرَق
السابِع والعِشرون|رَومِيو وچولِيَت
الثامِن والعِشرون|قَبل غُروبِ الشَمسِ
التاسِع والعِشرون|الشُموع السَوداء
الثلاثون|بَين الحُبِ وغَريزةِ التملُكِ
الواحِد والثلاثون|الرجُل الآخر
الثانِي والثلاثون|حَواء الضِلع الأعوَج
الثالِث والثلاثون|مِكيالا العَدل والرجُل
الخامِس والثلاثون|قلبُ قدِيس وحَياة آثِم
السادِس والثلاثون|غُربال وغِربان
السابِع والثلاثون|آخِر عَربة بقَطارِ الأوهامِ
الثامِن والثلاثون|أُمسِية على قَدمٍ وساق
التاسِع والثلاثون|عِرق ليلِيث
الأربَعون|حَلوى أم خُدعة؟
الواحِد والأربَعون|أُمنِية مَع وقفِ التَنفيذِ
الثانِي والأربَعون|حَفل على شَرفِ بِروتوس
الثالِث والأربَعون|قَوس وسَهم
الرابِع والأربَعون|تَرنيمة مِزمار المَوتِ
الخامِس والأربَعون|فَن العَودةِ للواقَعِ
السادِس والأربَعون|نَعيم مُزيف
السابِع والأربَعون|جُنون أرستُقراطِي
الثامِن والأربَعون|بوصلَة ومِرساة
التاسِع والأربَعون|ساعَة رَملِية مَكسورة
الخَمسون|الكَأس الأخَير
نِهاية السَيدة كازانوڤا.

الرابِع والثلاثون|عَرين لِوجورَيا

905 85 171
By Tullipxx

الأدَب القَوطِي نَوع خَيالي قَديم يجمَع بين الرَومانسية والعَناصر السَوداء لإنتاجِ بَعض الغُموض والكأبة حَول الشَخصياتِ وتتمَركز تَقاليده حَول الشَخصياتِ الَتي تُصاب بالجُنونِ شيئًا فشَيء. ( أُرتبِط بالشَرِ والشَيطانِ ومَصاصِي الدَماء أو الأشباحِ ).
**

كانَ يومٌ تعِيسٌ.
رَغم عَدم بُلوغِ الغِروبِ إلا بأنَ سيڤين تكَهنت بلَيلةٍ كاحَلةٍ لَن يزُورها القَمر المُكتمِل. وَقفت قُبالةِ المِرآة بوَجهٍ بُسِط بإنزَعاجٍ دَفينٍ تتفَقد ثوبَها الأبيَض بأكمامِه المُفرغة وعُقدة العُنقِ الحَريرية الَتي دلَلتها بلُطفٍ.

تمَسك شعرُها خَلف رأسِها بطَوقٍ ثَلجيٍ ضَيقٍ حَررت مِنه بِضعة خُصلاتٍ أمامَيةٍ إنحَدرت عن جَبينِها بنُعومةٍ ماثَلت سيمفَونية النَسيم وهِى تُراقِصها شجنًا إستِعدادًا لأُمسيةٍ ثَقيلةٍ.

كانَت رؤَيتها لعائِلتها مِن جَديدٍ بَعد كُل هذهِ السَنوات مرهِبًا جِدًا. ورَغم إعتِراضها الشَديد إلا بأنَها لم تجِد مخرجًا سِوى تَرك لِوي يَذهب مَع جدتِه إلى هُناك بدونِها. وكانَ ذلِك مستحيلًا، فكأنَما تُلقِي بَه وحيدًا بقَفصٍ من الذَئابِ.

هدئَت سيڤين مِن موجاتِها المُتذبذِبة.
لقَد كانَت تنزعِج بشَدةٍ مِن إذعانِه لقَراراتِ جدتِه، ولكِنها تتفَهم أحيانًا حِرصَه على عَدمِ كَسر آوامرِها مَهما كانَت مُتعصِبة أو مُبالغ بِها..فَفِي النَهايةِ لقَد كانَت المرأة الَتي نشأ تَحت جناحِها وعوَضته غَياب والِدته. بالتأكيدِ لَن يُهمِش لَها آمرًا.

إقتَلعت نفسَها مِن غَمِها مانِحة الإذنَ لطارِق بابٍ فتَحه كَي يظهَر لِوي مِن خلفِه بحُلتِه السَوداءِ ذاتَ الصَديرِي الأبيَض والعُقدةِ المُكشكشةِ حَول عُنقِه تَمنحه ذلِك المَظهر الراقَي الَذي أكملَه برَفعِ غَرتِه عالِيًا لتَهوى كالجَناحِ فَوق عَينِه اليُمنى.

"مرحبًا. تَبدِين جَميلة."عبَّر بإبتَسامةٍ صَغيرةٍ بدَدت أحمالَ صدرِها لهَنيهةٍ مُستقبِلة حَرارته بقَلبٍ رَحبٍ بَينما تلمَح قِلادَة الهَلالِ الَتي منَحتها لَه تتدَلى خَلف عُقدةِ عنقِه بلا خَجلٍ. "وكذَلِك أنتَ. لقَد تجهَزت مبكِرًا بَعض الشَيء. هَل أنتَ متحمِس؟"

أستَنكرت أن يكُن كذلِك.
فقَدر إظهَارِه عَكس هَذا، ولكِنها علَمت مَدى إرتَيابِه مِن عائِلتها..ولَم تلُمه أبدًا. لقَد كانَت عائِلتُها غَريبة الأطَوار على عالَمِ لِوي الحالِم، كانَت ذاتَ عاداتًا عجيبةً أخفَها تمايُز أردِية الرَجالِ عن النَساءِ آثناء الأُمسِيات العائِلية.

فلَطالما إلتَزم الذُكور بالحُللِ السَوداءِ الَتي تمنَحهم مظهرًا وقورًا بَينما فُرِض على السَيداتِ الأثوابَ البَيضاءِ الخالَية مِن النُقوشِ أو الزَينةِ. ورُبما هَذا سَبب كسرِها لتِلك القاعِدة وإرتَداءها لثَوبٍ فُرِغ كثيرًا حَول العُنقِ.

هِى لم تكُن مدينَة لهُم بالطاعَةِ على كُل حالٍ.

"لقَد أردتُ إهداءَكِ شيئًا ما وحَسب."بَرر، مخرِجًا مِن جَيبِه عُلبة مَخملِية مَستطيلة حَوت سِوارًا لؤلؤِيًا جعلَها تقرِن حاجِبَيها بحَيرةٍ. "إنَه لطيفًا جِدًا، لِوي. ولكِن ما المُناسبة؟"

وكأنَه كانَ بحاجَةٍ لمُناسبةٍ ما كَي يقوم بحَركةٍ شاعَريةٍ مِن حَركاتِه. راقَبته يرَفع مِعصَمها ليُحيطه بالسَوارِ الَذي تماشَى مَع الثَوبِ بمَثاليةٍ بَينما يتسِع ثغرَه بسُرورٍ. "إنَه السابِع عَشر مِن مارِس. إن اليَوم عَيد مولَدكِ."

كانَ صوتُه هامِسًا وناعِمًا جِدًا مَع خيطِ السَعادةِ يُدثِره. بدَت مأخَوذة لوَهلةٍ بالآمرِ وهو يَلتقِط كِلتا يَديها براحتِه مبقِيًا على زَرقاوِيه المُحتفِيتين اللَتين أذابَتاها بتَروٍ.

"..كنتُ سأحتَفِل بَه طويلًا مَعكِ لَو لم نكُن مُرتبِطين بمَوعدٍ آخرٍ، لِذا فكرتُ بإعطَاءكِ هديتُكِ قَبل أن نَذهب، علَّها تَرفع مِن مَعنوياتكِ قليلًا. هَل أعجَبكِ؟"

"لقَد أحببتُه."نبَثت دون تَفكيرٍ، مُتسبِبة بتَوسعِ إبتسامتِه أمام نظرتِها المَشدوهة الَتي رمَقت بِها السِوار للَحظةٍ قُبيل أن تعُد له بهُدوءٍ. "كَيف علِمت بأنَ اليَوم هو..ذلِك اليَوم؟"

هِى حَتى لم تكُن تهتَم بتِلك المُناسبةِ.فلَا مرة بحَياتِها إحتَفى بِها أحدهُم أو منَحها هدَية لذلِك السَبب، كانَ يمُر كأي يَومٍ آخرٍ حَتى برَدت مشاعِرُها سَنة تَلو سَنة فأمسَت تغفَل عن مُرورِه ولا تولِ أي إنتباهٍ لَه.

"إنَه مَكتوب بعَقدِ زواجِنا."
التَفاصِيل. لقَد كانَ يلمَح التَفاصِيل التافِهة حَتى! لم تملِك مِن الكَلماتِ ما يُفسِر ما خلَقه مِن مشاعرٍ بَها. فعلَها لَيست مِن ذلِك النَوع الخَجولِ المُحِب للشاعَريةِ المُفرِطة..ولكِن لا يوجَد شَخص يكرَه أن يُعطِه أحدهُم هدِية. خصيصًا لو كانَ شخصًا مميزًا.

لم تُدرِك كَم شرَدت بوَجهِه حَتى إبتَعد بحَرجٍ خاطِفًا تركيزَها بدَورةٍ بَسيطةٍ مكَنتها مِن رؤيةِ زَواياه، وإستَفهم. "إذَن، هَل تَبدو جَيدة؟ أنا فِعلًا لم أفهَم كَيف يَسير تَقليد عائِلتكُم تمامًا ولكنكِ قُلتِ حُلة سَوداء خالِية مِن النَقشِ. هَل فعلتُ ذلِك بشَكلٍ صَحيحٍ؟"

هُو لم يفعَل. لقَد كانَت رَبطة العُنقِ مُنقوشة والصَديري الأبيَض كانَ واضِحًا أسفَل سُترتِه. إبتَسمت بإيماءةٍ مؤكَدةٍ دافِعة بزَفرةِ إرتَياحٍ لتُخلخِل صدرَه..فكَم سيَبدوان فَريدان بَين حِفنة مِن الأشخاصِ التَقلِيديين.

"هُناك آمرٌ واحِدٌ.."إستَوقفته، فصَعد الإستَفسار لعُيونِه وهِى تلتَقِط مُحدِد العُيونِ الأسوَدِ قائِدة إياه ليَجلِس على حافةِ الفَراشِ، مطيعًا لمسَتها برَفعِ عنقِه ليُعامِد نظراتَهما بشَكلٍ مُمتازٍ.

"لا ترمِش."إنضَم حاجِباهَا سوِيًا بتَركيزٍ، رَيثما يذعَن لطَلبِها شاعِرًا بسَنِ المُكحلةِ يرسِم خَطِيه بحَافتِي جفونِه الَتي ما لَبثت أن رفَعت يدَها حَتى رمَش بحُرقةٍ طَفيفةٍ. هو لم يُفكِر يومًا بوَضعِ غَرضٍ واحدٍ من مُستحضراتِ التَجميلِ كَما يَفعل هارَولد أحيانًا..ولكِن مَع إشارتِها، لم يجرَؤ على قَولِ لَا.

"هَل أبدَو سيئًا؟"تسائَل بَعد مُدةٍ من سُكونِها مُستغرِقة بعُيونِه المَرسومة الَتي أبرَزت زُرقتها بكُل إشَراقٍ، فهَزت سيڤين رأسَها بشَدوهٍ لَحظيٍ. "بَل تَبدو وسيمًا لدَرجةِ أنَني أوَد النَظر إلى عَينيك لوَقتٍ أطَولٍ الآن."

"لا تتَوقفِ إذَن."
كانَ يحِب سَماعها حينَما يُزل لِسانُها بغَزلٍ ما، فإن أُتيحت لَه الفُرصة الآن كَي يَضيع بزُمردتِيها الناهِمتين اللَتين إنتَهكتا زَرقاوِيه بحَميميةٍ شَديدةٍ..هو لَن يُعارِض أبدًا.

لَوحت عَقارِب الساعَةِ للرابَعةِ.
خلَفت عَربة ليڤَرِنت بعَربةِ بالَوم الَتي أستَقلها سِيمون الحَزين مِن تجاهُل شقيقتِه لَه، وعدم رَدِها لتَحيتِه حَتى. كانَت العَربتان تَهتدِيا بأشِعة الشَمسِ عَبر الحَي الإنجلَيزي نَحو مُقاطعةِ لِوجورَيا بضَواحِي لَندن.

مَع كُل دقيقةٍ يَقترِبون بَها كان قلبُها ينقبِض بتَوجسٍ.
يمِض بذاكَرتِها مَشهد القَلعةِ المُرهِب المُنعزِل بالمُقاطعةِ المُتطرِفة يُحيطها شَجر التَوتِ البَري والرُمانِ ومُظلَلة بالقَناديلِ الباهِتة.

لطالَما كانَت عائِلتُها تتَمتع بطَبعٍ غَريبٍ عَن أي عائَلةٍ أُخرى، ولقَد فَعلت المُستحيل لتُنقِذ روحَها ورَوح شقيقِها مِن ذلِك العالَم الكَئيب الَذي شابَه صَرح لأشَباحٍ سكَنت كُل رُكنٍ مُظلمٍ بقَلعةِ لِوجورَيا الموحِشة.

رمَشت سيڤين بَيدٍ رَست على قَبضتِها المَضمومةِ كَي تَنحرِف عَيناها نَحو زَرقاوِي لِوي الَذي إبتَسم صاهِرًا إضطرابَها بوَلعٍ. "إستَرخِي، سيمُر الآمر على خَيرٍ."

لم تتمَكن مِن منحِه إلا بَسمة مُتكلِفة. رُبما أكثَر ما كانَ يُربِكها هو تواجَده بينهُم، لم تفهَم سَبب قلقِها المُضاعف مِن ذلِك..وكأنَها تَخشى أن يُلوِثوا نقاءَه بدناستِهم. بمُعتقداتِهم الذُكورِية الظالِمة. بعاداتِهم المُريبة الَتي اقسَمت على إجتنابِه عَنها.

كانَت مهمتُها هِى الحَفاظ علَيه مِن عالَمِ عائِلتُها المُقفر بالظَلامِ، وكَم كانَت مهمومَة بتِلك الأُمسِية الشاقَة كثيرًا.

وقَعت مُقاطعة لِوجورَيا بضاحَيةِ لَندن شِبه مُستقِلة بذاتِها. الضبابُ كانَ منبطِح على كُل زاوَيةٍ والشَجر الكَثيف حجَب ما تبقَى مِن أشعَةِ الغُروبِ المُحتضِرة. كمَن إنفَصل عن صَخبِ المَدينةِ وإنضَم لِلَوحة كَئيبة تَبعث عَن قُشعريرة بالبَدنِ برَيبتِها.

كانَ الطَريق طَويل تحِده الفُروع المُتشابِكة مِن بَساتينٍ مَهجورةٍ، تَطير طِيور مَساءٍ مُبكرٍ ناعِقة بشَجنٍ صَوب الشَمالِ حيثُ وقَع القَصر شامِخًا بآخرِ الدَربِ تفصِله عَن العَربتين بوابَة الحُدودِ الضَخمةِ.

"يَبدو كبَيتٍ للساحَراتِ."
سمَعت سيڤين هَمس السَيدةِ الكَبيرةِ للِوي المُتهكمِة، لتَبتسِم بسُخريةٍ. فهَى لم تملِك فكرَة عن أي نَوعٍ مِن الساحَراتِ يَعيش بذَلِك القَصرِ الشاهِق.

تقَدم سِيمون دَرجات السُلمِ نَحو بابِ القَصرِ المَنقوش بطَلاءٍ أرجَونيٍ داكَنٍ ماثَل هَيئة المَكانِ العامَةِ، وأستُقبِلوا مِن قَبلِ فَتاة ببَوادرِ مُراهقتِها ترتدِي ثَوب الخَدمِ الأبيَض دعَتهم للدُخولِ.

كانَ المَكان بالداخِل أكثَر ريبَة، الرَدهة كانَت طَويلة جِدًا فلَم يسَعهم إلتَقاط نَهايتِها جيدًا، مَع لَوحاتٍ عملاقةٍ غطَت كِلتا الجانَبينِ يَتوسط كُل إطارٍ لَها مَشعلٍ برَز عن الجُدرانِ لاهِبًا ما دثَرته السَتائِر المُنبسِطة مِن ضوءٍ مُتسللٍ.

"مرحبًا بِكُم."
صدَع صوتُ نايِل بأركانِ الرَدهةِ وهو يظَهر على مرأى مِن العَينِ بحُلتِه السَوداءِ بطَرازِها العَتيقِ يتدلَى عن عُنقِها صليبًا فضِيًا لمَع بأسَواطِ المَشاعِل الَتي أجَجت زَرقاوَيه بعَتمةٍ مُتفحمةٍ.

على عَكسِ طَلاتِه بالمَدينةِ، كانَ يبدَو أكثَر رسمِية وأكثَر أناقَة. حينَما مَد يدَه بجَهةِ سيڤين رجَتها رجَفة داخِلَية تحمَلتها وهِى تترُكه يُقبِل يدَها ببَسمةٍ إنعَكست على بَشرتِها. كانَت مَرهوبة..فلَقد كانَت بعَرينِه الآن.

"كَم ستَسعد العائِلة برَؤيتكِ أخيرًا يا إبنَة عَمِي."عبَّر بسَكينةٍ لَم تُعجِبها، رَيثما تشِد ذِراعَها حَول ساعَدِ لِوي ونايِل ينعطِف لَه كَي يُرحِب بَه متطلِعًا لطَلتِه بإبتَسامة مُبهمةٍ خرَجت للنَورِ.

"سعيدٌ بِحضُورك، لِوي. تَبدو متألِقًا بشَكلٍ فَريدٍ."

"شكرًا لكَ، نايِل."تكلَف لِوي الإبتسامَ. كانَ يشعُر بكُل حرَكةِ تأهُبٍ تقومَ بِها الشَقراء، تشبُثها بِه بقَوةٍ ونظراتُها الحادَة الحَذِرة لإبنِ عمِها الَذي رحَب بشقيقِها بحَفاوةٍ. كانَت قلِقة جدًا بالعُمقِ وهو لَم يلُمها لذلِك.

فلَن ينكِر ما نالَه مِن إنقَباضٍ فَور دُخولِه لذَلِك القَصر المُهيب.

لقَد كان هُناك آمرٌ غرِيبٌ بالمَكانِ، التأسِيس الزَخرفِي كانَ عتيقَ الطِراز..رُبما لحَقبةٍ إنجلَيزيةٍ بعيدةٍ. اللَوحات المُحيطة منَحته شعورًا مزعِجًا لوَجوهِ أصحابِها المُتسطِحة بنَظرةٍ شَبه مَيتةٍ، والرَدهة الشاسِعة الَتي بدَت كرَواقٍ في قَلعةٍ تسكُنها الأشبَاح بالأرضَيةِ الَتي شابَهت رُقعة الشَطرنجِ.

لَم يكُن يشعُر بدَفئِ البَيتِ الَذي إعتادَه..بَل شَعر بالبَردِ.

"لا تتحَرك مِن جَوارِي مَهما حدَث."تَمتمت لَه سيڤين وهُما يتأخَرا بإتَباعِ خُطواتِ نايِل الَذي إصطَحب جدتُه معبِرًا عَن كَم العائِلة مُتحمِسة للِقاء الجَميعِ، فأومأ بطاعَةٍ مستشعِرًا أصابِعَها الَتي حتمًا أخلَفت آثارَها فوق ذراعِه مِن شدةِ تمسُكِها بَه.

هِى لم تكُن تحاوِل الشَعور بالأمانِ، بل كانَت تَسعى لإشعارِه هو بالإطمئَنانِ.

قادَهم الطَبيب بطَولِ الرَدهةِ وعَبر الكَثيرِ من القاعَاتِ المُنغلِقة وحيثُ تنبعِث رائِحة بُخورٍ قَويةٍ جزَعت الآنوفَ، وصَل بِهم إلى قاعةٍ شاسَعةٍ حاوَطتها الشُرفات المَفتوحة والتُحفِ القَديمةِ تُنيرها الشُموع الحَمراء كالجَمرِ.

كانَ أفرادُ عائِلة بالَوم قَد إصطَفوا بشَكلٍ مُنظمٍ حَول المَكانِ. كانَ الرجُل الأكبَر ڤيكتَور بالَوم يستقِر بالمَقعدِ المُنتصِف أمامَ المدفَئةِ المُتلظِية، على يَمينِه كانَت المَرأة العَبوس ڤيكتَورِيا بالَوم الَتي جاوَرتها إبنتُها البَكر هانِيا، وعلى يَسارِه الإبنَ الأكبَر جريجَن بالَوم.

"مرحبًا بِكُم."رحَب ڤيكتَور بالَوم بحَنجرةٍ رَخيمةٍ، مبادِرًا بالنُهوضِ كإشارَةٍ لإستَقامةِ الباقَيينِ. كانَوا جميعًا يلتزِمون بتَقليدِ العائِلة المُباين بالحلةِ السَوداءِ والثَوب الأبيَض..والإتفاقُ على إرتَداءِ الصَليبِ الفَضِي مَع مَحددِ العُيونِ الداكِن.

"سَيدة ليڤَرِنت. مِن الجَميلِ مُقابلتكِ أخيرًا اللَيلة."تقَدم ڤيكتَور بالَوم بخَطواتٍ رَزينةٍ مرحِبًا بالسَيدةِ الكَبيرةِ الَتي تشَبثت بوَجهِها الجامِد وهو يَقبِل يدَها، وهزَت رأسَها بتَحيةٍ. "شكرًا لكَ لإستَقبالِك لَنا، سِيد بالَوم."

"بكُل سُرورٍ، سَيدتِي."
بهَزةِ رأسٍ لَطيفةٍ إنعَطف الرجُل نحو لِوي، وببَسمةٍ خَفيفةٍ تملَكت مِن ثَغرِه مَد قبضَته القَوية لمُصافحتِه بكُل حَرارةٍ. "مرحبًا بِكَ، لِوي-إذا سَمحت لِي بدَعوتِك هَكذا-. لقَد حكَي لِي نايِل الكَثير عَنك، وقَد سمِعتُ الكَثير عَن عائِلة ليڤَرِنت. كَم مِن العَظيمِ أن نُصبِح عائِلة واحِدة."

"الشُعور مُتبادل، سَيد بالَوم."

تجَمد قلبُ سيڤين وعمُها يَميل لرَمقِها هِى وشَقيقها بعُيونٍ ثاقَبةٍ كرَهتها. عيونٌ ذكَرتها بكُل ما مرَت بِه منذُ اول مشاجَرة بَينه وبَين والِدها بسَبب نايِل وما كانَ برتكِبه بحَقِها، مرورًا برَغبتِه في الإستَيلاء على إرثِها وإرث سِيمون بحَجةِ أن لا أحَد سيَستطيع الحِفاظ علَيه سِواه.

كَم كانَت تكرَهه.

"سيڤين وسِيمون. ألَيس مِن المُبهِج إنضَمامِكما لبَيتِ العائِلة بَعد كُل هذهِ السَنواتِ؟ هَل لازلتِ مُتحجِرة الرأسِ يا إبنَة أخِي؟"وَجه لَها تعليقَه الآنِف، لتَرفع حاجِبَها بتحاذُقٍ. "هَل لازِلتَ مُتحجِر القَلبِ يا عَمي؟"

"أرَى بأن لِسانُكِ لايَزال سَليطًا."ظهَرت عمتُها الكَبيرة ڤيكتَورِيا بنَظراتِها الفولاذَية، ليتقلَص بَدن الشَقراء بشَزرٍ تلتَزِم صمتَها بتَزمتٍ. لقَد كانَ الوَقت مُبكِر جدًا لإفتعالِ مُشكلةٍ ما.

"سَيدة ليڤَرِنت، إسمَحِ لي بتَقديمِ شَقيقتِي ڤيكتَورِيا بالَوم وإبنتُها هانِيا بالَوم."قَدم ڤيكتَور المَرأة الكَبيرة الَتي هزَت رأسَها بتحفُظٍ وإبنتُها الَتي لم تفعَل أكثَر مِن ذلِك، قَبل أن ينتقِل لإبنِه بهُدوءٍ. "وذلِك هو إبنَي الأكبَر جريجَن بالَوم."

كانَ اللِقاء مُربِك لحَدٍ كَبيرٍ. فلَم تسطَع البَسمات إلا بتكلُفٍ شَديدٍ كاسِرة ما خُلِق من تَوترٍ من العائَلةِ العَجيبةِ الَتي حافَظت على فَتورِ ملامِحها حينَما إتخَذ الكُل مجلسًا بجَسدٍ مَشدودٍ.

"يجِب أن نُعرِب عَن إمتنانِنا لَكِ، سَيدة ليڤَرِنت. فبَدونكِ ما كُنا لنَرى إبنَة أخِي بَعد الكَثيرِ من السَنواتِ الَتي كَنا نتفاجَئ بِها بزَواجِها مَرة تَلو مَرة تَلو مَرة. كَنا كالأغرابِ وأنتِ أعدَتِ جَمع شَملِنا."

تصَلب جسدُ سيڤين بضَغينةٍ من حَديثِ عمِها الصَريح، والَذي نسَج ما ستَكون علَيه باقَي الأُمسِية مِن تلميحاتٍ وأقوالٍ مُزعجةٍ ستَستنزِف طاقَتها. فلَو خالَت بأن عَشاء زواجِها أو دَعوة وينيفـرِيد كانا سيئَين فهِى حتمًا لم تملِك فكرَة بكَم ستهزِمهما تِلك اللَيلة بضَراوةٍ.

"..هِى حَتى لم تأتِ لزَيارةِ قَبرِ والِدها مَرة."أضافَت عمتُها بشَمطةٍ جعلَتها تقبِض يَديها بعَصبيةٍ. لقَد كانَا يُظهِرانها بصَورةِ المَرأةِ المُتمرِدة الجاحِدة على عائِلتها بأكملِها!

"إنَنا لم نملِك فكرَة عَن هَذا،سَيدة بالَوم. فلَو كنتُ أعلَم لكَانت تِلك الزَيارة ستأتِي مبكِرًا عَن اليَومِ. فزَوجة حَفيدِي عَنيدة للَغايةِ وغَير علَيمة بأُصولِ اللَياقةِ، وإن لَم يُرغِمها أحدٌ ما..فلَن تفعَل شيئًا."نبَثت السَيدة إليزابِيث بعَدمِ رَضى، لتحَظى ببَسمة خَفيفة مِن ڤيكتَوريا بالَوم.

"يَبدو بأنكِ قَد فهمتِ طِباعَ إبنَة أخِي بسُرعةٍ، سَيدتِي."

"ماذا لَو توقَفتم عَن الحَديثِ عَني بصَفةِ الغائِب وأنا جالِسة بينكُم؟"إندَفعت سيڤين، رمَقت السَيدتِين بغَضبٍ چمٍ لَم يذُب ولِوي يقبِض على يَدِها آملًا بتَهدِئتها بوَسيلتِه الوَحيدةِ الَتي تُشعِرها بأنَها لم تكُن بمُفردِها بجُحرِ عائِلتها هَذا. وذلِك ما خَشته.

توَترت الآجواءُ لبُرهةٍ.
تحَمحم ڤيكتَور بالَوم ليَكسر ذَبذبة الجَوِ وإنعَطف نَحو لِوي بعُيونِه الحادَة كمُقلتِي الصَقرِ. "لقَد قالَ نايِل بأنكَ مُهندِس كباقَي أفرادِ عائِلة ليڤَرِنت يا لِوي. فِي أي قَسمٍ تتخَصص بِه؟"

"بهَندسةِ السَككِ الحَديديةِ، سَيدِي."أبقَى لِوي يَد الشَقراءِ بكَلتا يَدِيه غَير خجِلًا مِن التَمسيدِ علَيها بنُعومةْ مَع إستَقرارِ عيونَه على وَجهِ كَبير عائِلة بالَوم الَذي هَز رأسَه بعَلمٍ.

"ذلِك عَبقرِي. لقَد بحَثت عَن ما يطلُبه المُجتمع ودرَسته.
هَل تعلَم، لقَد تعامَلت عائِلَتنا مَع أحَد أفرادِ عائِلة ليڤَرِنت قبل أجَيالٍ. أنا أعتَقِد بأن أحَد أجدادِك قَد شارَك ببَناءِ ذلِك القَصرِ. أذكُر بأن جدُنا الأكبَر لوثَر بالَوم كانَ يبحَث عن شَخصٍ يفهَم بالطَرازِ القُوطِي جيدًا..ووفَقه القَدر بالعُثورِ على رجُلٍ ممتازٍ من أشهَر عائِلة بالمَملكةِ جَميع أفرادِها مُهندِسيين بمُختلفِ الأقسامِ. مِن الجَميلِ الآن أن نكُن عائِلة واحِدة بَعد كُل هَذا الوَقتِ."


"أجَل، سَيدِي. إنَه كذلِك."تَمتم ببَسمةٍ صَغيرةٍ وزَرقاواه يُسافِرا تِلقائيًا لدَربِ سيڤين الَتي إرتَخت لنَظرتِه الحالِمة للَحظةٍ. رَغم قلقِها مِن مَجرى الزَيارةِ المُقبِضة إلا بأنَ وجودَه كان يُعزِزها ويَمنحها الطاقَة لتحمُل أي سَخافاتٍ تتلقاهَا.

"فِي الحَقيقةِ، لقَد كُنا نعارِض زَواج إبنَة أخِي المُتكرِر مَرة تَلو الأُخرى برَجالٍ لم يكونوا بالمُستوى المُناسِب بنَظرِنا. ولكِن هذهِ المَرة شعِرنا بأنَها قَد أحسَنت الإختَيار بالإنضَمامِ لعائِلة عَريقة تُناسِبنا."

توَسع ثَغر لِوي دون تَعليقٍ لقَولِ ڤيكتَور بالَوم الذي بدَى متحكِمًا بصَوتِ اللَقاءِ، فلم تنبَث ڤيكتَوريا بالَوم بحَرفٍ من بعدِه ولم يُسمع صوتٌ لهانِيا أو جريجَن أو حَتى نايِل. لقَد كان الرجُل الكَبير هو مَن يتحَدث.

"..لم يتبقَ سِواكَ يا سِيمون."
إرتَبك الأشقَر بموضِعه حينَما حازَ على أغلَب الإهتمامِ بالمَكانِ. لقَد كان يتجَنب لَفت الإنتباهِ منذ اللَحظةِ الأولى، فلَم يكُن محِبًا للتجمُعاتِ، وكانَ متوجِسًا مِن عالمِ عائِلته الذي كانَ جديدًا بالكامَلِ علَيه.

"أنا لَن أتزَوج، سَيدِي."صَرح بتَوترٍ خالِقًا أماراتَ أستَهجانٍ على وُجوهِهم، مِما أزعَجه لخَوضِ ذلِك الحَديث. لقَد كانَ وفِيًا بعهدِه مَع سيڤين بعدمِ إدخال امرأة أو غَريب بينهَما. فكانَت وستَظل هِى المرأة الوَحيدة بحَياتِه.

"لا يوجَد رجُل لا يتزَوج. وإن لم يكُن والِدكَ موجودًا، فنحنُ سنَجِد عروسًا تناسِبكَ."

"لقَد قالَ بِأنَه لا يُريد الزَواج."تدَخلت سيڤين بحَدةٍ، مُنقِذة شقيقَها مِن ربكتِه وشِباكَ عمِه المَنصوبةِ حولَه. كانَت تعلَم كَم مِن الصعبِ على سِيمون الجَدالِ، كَم أن مسألة الزَواجِ بعَينيه مُعقدة. فلَيس مِن السهلٍ علَيه الإعتَياد على شَخصٍ ما.

"حينَما يتحَدث الرِجال لا تتَدخلِ."
اجفلَت بنَهرِ عمِها لَها بصَوتٍ خَشنٍ ونظراتٍ ساحَقةٍ. جعَدت جبينَها بجَحودٍ بوَجهِه الزاجِر بقَسوةٍ مستشعِرة ما شُيد مجددًا مِن تلجلُجٍ بالجَوِ، والَذي مُزِق بحُضورِ إحدَى الخادَماتِ اليافَعاتِ مُنبِئة بموعدِ العَشاءِ.

كانَت قَد إعتادَت على تَقاليدِ المَدينةِ حَتى كادَت تنسَى تقاليدَ عائِلتها الخاصَة. فلَقد كانَ يتقَدم الرِجالُ أولًا نَحو حُجرةِ الطَعامِ ليَتخِذون ما يَجِدونه مجلسًا مناسِبًا، تلحَق بِهم السَيدات كَي يتخِذن ما تبَقى مِن المَقاعِد.

كانَ نظامًا غريبًا لم تُحِبه رَغم بساطتِه.

كانَت الحُجرة واسِعَة مُزينة بالإطاراتِ القَديمةِ والمَزهرياتِ الثَمينةِ، إرتَصت فَوق الطاوَلةِ العَريضة صَحون الطَعامِ الفَضِية يلتَمِع علَيها شِمعَدين الشُموعِ الحَمراءِ الَتي جعلَت الإضاءَة ساخِنة قليلًا.

إبتَسمت براحَة حينَما أبقَى لَها لِوي مقعدًا يتوَسطه هو وسِيمون،فهِى لم ترغَب حَتى بإغفالِ نظرَة عنه. منَحته نظرَة شُكرٍ صامَتة وهو يُعاوِنها بالجُلوسِ قُبيل أن يُجاوِرها غير عابِئًا بنَظراتِ عمتِها الَتي كانَت تثقَبهما كُلما حدَث أي تَواصلٍ حَميميٍ بينهُما.

فكانَت تعلَم كَم أن المَشاعِر لَيست بمَوضعِ إهتَمامٍ أو مَقبولٍ بعالَمِ عائِلتها. وكَيف ينظَرون للرجُلِ الَذي يُظهِر حبًا ما نَحو زوجتِه بنَظرةٍ مُهينةٍ تُقلِل من شأنِه. كانَ عالمٌ بارِدٌ إكتَشفت مَدى تعاستِه حينَما طلَت على عالمِ زوجِها الحالِم.

لم يكُن العَشاء يبدأ إلا بإذنِ كَبير العائِلة، والَذي ترَقب إنتَهاء الخادِمات مِن مَلِئ الكَؤوس القَوقعيةِ بالمَشروبِ القُرمزِي الثَقيلِ بوَجهٍ ساكنٍ وأصابَعٍ إشتَبكت فَوق المَنضدةِ. كانَ الجَو مضغوطًا جِدًا.

"يا غَبِية!"جلجَل نَهر هانِيا بغتةً وهِى تَستقيم بثَوبٍ تلَوث بقَطراتٍ من الشَرابِ، ملحقًا بصَوتِ صَفعةٍ جلَدت وَجه الخادِمة اليافِعة مُجفِلة السَيدة الكَبيرة ولِوي اللَذين تفاجَئا برَد فعلِها القاسِي، والذي لم يواجِه أي إعتَراضٍ من الآخرينِ.

وكأنَه كانَ فعلًا طبيعيًا جِدًا.

"إنظُرِ ما الَذي فَعلتِيه!"

كظَمت سيڤين فكَيها بكَيدٍ. بحالٍ آخرٍ كانَت لتُشعِل جدالًا كبيرًا بفَعلٍ كذلِك، ولكِنها لم تستطِع العُثور على لَسانِها بذلِك المَكان..لقَد كانَت تشعُر بالحَملِ الكَبيرِ الَذي تملَكها بوجودِها بينهُم. وكأنَ بطشُهم طغَى على صوتِها.

"إجلَسِ بمكانكِ، هانِيا."آمَرت السَيدة ڤيكتَورِيا إبنتَها التي نفَذت بعيونٍ شَرسةٍ، قَبل أن تدعٌ إحدَى الخادِمات الَتي هرَعت مُلبِية صوتُ السَيدة الهادِي تمامًا.

"خُذِ تِلك الفَتاة الصَغيرة إلى الطابَقِ السَفلِي وتأكدِ من تهدَئةِ روعِها وتَناولها لوَجبةِ العَشاءِ. وأنا سأنزِل بنَفسِي بالمَساءِ كَي أحظَى بكَلمةٍ ما مَعها."

أومات الخادِمة وهِى تصطَحِب الصَغيرة الَتي اجهَشت بالبُكاءِ فور إبتعادِها، مُخلِفة جوًا متوتِرًا لمَس قلبَ سيڤين بحَسرةٍ. فلم يكُن آمر عمتِها باللُطفِ الذي بدَى علَيه..بَل كان يُخفِي ما هو أبشَع تمامًا.

فعائِلتُها لا تتهاوَن بالآخطاءِ أبدًا.
كُل جلدةِ سَوطٍ على ظهرِها أكدَت لَها تِلك الحَقيقة.

"كانَ ذلِك قاسِيًا قليلًا."علَّقت السَيدة إليزابِيث بَعد ثَوانٍ، لتُواجِه وجهًا متسطِحًا مِن السَيدةِ ڤيكتَورِيا ونَبرة خاوِية. "مَع ذلِك النَوع مِن الفَتياتِ لَو لم تَقسِ عليهُن لن تتمَكنِ من التحكُمِ بهِن."

"فَتيات الرَيف الكَندِي. يالهُن مِن غَبياتِ! لا عَجب بأنَهم يُرسِلوهن للعَملِ بالبَيوتِ العَريقةِ وتلقُن أدابَهم، وإلا لجَلبوا الخَزِي لعائِلتهن بتِلك البَلاهةِ."سخَطت هانِيا بلَسانٍ سَليطٍ بلَعته مع تَنبيهِ والدتِها الثانِي لَها.

تقلَصت سيڤين بإنزَعاجٍ. كانَت تعلَم بأن قليلين مَن يعرِفوا حَقيقةِ والدتِها وقِصتها مَع أبيها، ولكِنها لم تُحِب سَماع هانِيا تتحَدث بذلِك الإسلَوب وكأنَها تُلمِح لآمرٍ ما. فسيڤين كانَت نِصف كَندِية، وأُمها كانَت ريفَية جلَبت الخَزي لعائِلتها بعُيونٍ الجَميعِ.

خطَف ڤيكتَور بالَوم بأستقامتِه متحمحِمًا بخُشونةٍ رجَت بالزَوايا القاتِمة الَتي طافَت فِيها رَياح اللَيلِ بغُموضٍ شابَه ما أُحيط بالمُقاطعةِ بمَثاليةٍ.

"لقَد بورِكنا اليَوم بلَمِ شَملِ العائِلة لأوَل مَرة منذُ أعوامٍ.
وتشهَد أرواحُ الغائِبَين ولكِن باقَين بذِكرانا على إمتِناننا الكَبير وسعادتِنا غَير المَحدودةِ وترحيبِنا الحارِ لكُل فردٍ جلَس على هذهِ الطاوَلةِ كجُزءٍ من عائِلة بالَوم. مرحبًا بِكُم."

ترتَل كلِماتَه بنَبرةٍ ساكَنةٍ، هازًا رأسَه بجَهةِ ضَيوفِه الأربَعة قُبيل أن يلتَقِط كأسَ شرابِه شابِكًا آنامِلَه مِن حولِه كَما نفَذ باقِي أفرادَ عائِلة بالَوم مُغلِقين العَينِ بخُضوعٍ وهو يُتابِع بصَوتٍ مُتهاودٍ.

"أبانَا الَذي في السَمواتِ، نشكُرك على هَذا الجُزء مِن فَضلِك. أنتَ تزوَدنا يومِيًا برَغباتِنا الكَثيرة على الرَغمِ من جَحودِنا. ساعِدنا على أن نَكون عاقلِين وشاكَرين بعُمقِ لُطفِك ورَحمتِك. بارَك لَنا تِلك الوَليمة وهذهِ اللَيلة. أغفَر لَنا خَطايانا وخلِصنا برَوحِك المُقدسة. آمِين."

"آمِين."توحَدت الأصواتُ بنَفسٍ واحدٍ،وإرتَفعت الكَؤوس للحَطِ فَوق الشَفاهِ كنَخبٍ مُقدسٍ للوَليمةِ. تفاجَئ لِوي بسَحبِ سيڤين لكَأسِه قَبل أن يبلَغ فمَه وهَزت رأسَها بلُطفٍ إندَهش مِنه وإن هاوَد حذرَها الفَج حولَه.

هو لَم يكُن معتادًا على كُل تِلك الرَسمِية العَتيقة جِدًا بالعَشاءِ، صَلاة الشُكرِ التَقليدية أو النَخب المُفتِتح للأُمسِية. كُل هذهِ التَفاصيلِ كانَت نادِرة وقَديمة لِلغايةِ.

كانَ يستطَيع رَؤية عبوسَ زوجتِه الَتي لم تُشارِك بطَقوسِهم ولَم تدَعه يفعَلها أيضًا، وكانَ يشعُر بَيدِها الَتي تسَللت مِن أسفَلِ المَنضدةِ كَي تُعانِق خاصَته بحَرارةٍ كمَن تمِد وتستمِد الصَلابة للحَفاظِ على القَوةِ بوَجهِهم.

كانَت تَحمِيه بشَكلٍ مُبالغٍ جدًا.

"إن مَذاقه غَريب."علَّقت السَيدة إليزابِيث بأستَغرابٍ مُنزِلة الكأس جانِبًا، ليتحَرك نايِل بمُواجهتِها مبتسِمًا بخَفةٍ. "إنَه مَنقوع التَوت البَرِي، سَيدتِي الجَميلة. إنَه مُفيد."

ولَو لم يكُن كذلِك، فهَل سيَبحث أحدٌ خلف طَبيب؟

كانَ العَشاء خامِدًا، لم يعلُ صوتٌ على صَوتِ الشَوكاتِ والسَكاكينِ مَع حَفيفِ حركةِ الخَدمِ الماكَثين بالجَوارِ لتَعويضِ ما نُقِص بالكَؤوسِ.

كانَت سيڤين تأكُل أقَل القَليلِ مُحافِظة على نظراتِها المُتحفِزة بكُل نفسٍ تلفَظه. لَم تُفلِت يدَ لِوي أبدًا ولم يُعرِب عَن مَدى صُعوبةِ ذلِك، فإن ودَت مُعانقة قبضَته بأي وَقتٍ كانَ هو لَن يُهدِر فُرصة كتِلك من أجلِ وَليمةٍ لم تكُن نفسُه لَها مُشتهِية.

أذرَت مِدفَئة الحُجرةِ الداكِنَة شَرارتها كَي تخلِق نوعًا مِن الوَنسِ الَذي راقَص النَسيم بشَجيٍ بَعد وَليمةٍ مُربكةٍ للقُلوبٍ المُنقبِضة بعَدمِ راحَة بَين تِلك الجُدرانِ الكَئيبة وكأنَ عيونُ البيتِ تُراقِب كُل نفسٍ يُزفر.

بالكَادِ تملَصت سيڤين مِن أكَبالِ عمتِها وإبنتِها الَلتين إصطَحبتا السَيدة إليزابِيث لتَعريفِها علَى شَجرةِ العائِلة المَرسومة بطَولِ الرَدهةِ الجانَبية الَتي أودَت للسُلمِ اللَولبِي الطَويل حيثُ مكَثت الطَوابِق عالِيًا.

هِى لم تكُن مستعِدة لتَكون وَحيدة أو تَرك لِوي كذَلِك.

"وَجب علَيكِ البَقاء مَع السَيداتِ، سيڤين. فلَيس مِن الجَيدِ الجُلوس بَين مَجموعةٍ من الرَجالِ، نحنُ نَخشى أن نَخدِش حَياءكِ."تلائَم نايِل بسُخريةٍ جاذِبًا إنتباهَها مِن العَبثِ بآنامَلِ لِوي على مَضضٍ. كانَت تحاوِل إشغالَ نفسَها عن المُثولِ أمامَ مشاكَسةِ أحدِهم.

ولكِنه كانَ يسعَى لذلِك.
رفَعت سيڤين خَضراوِيها النافَرِتين لَه، وإبتَسمت برَتابةٍ. "ما سيَخدِش حَيائي سيَخدِش حَياء أي شَخصٍ آخرٍ، نايِل. أن تكُن رجلًا لا يعنِ بالضَرورةِ أن تكُن منحرِفًا."

لجَم لِسانَه بنَظرةٍ بارَدةٍ وبَسمةٍ إستَفزتها. كانَت شاكِرة لغَيابِ عمِها فِي غُموضٍ ولَم تأبَه بذلِك. فلَو كرَهت نايِل أطنانًا لَن يُعادِل أبدًا حِقدَها على الرجُلِ الَذي جعلَه على هذهِ الشاكِلة المُنحلةِ، بَل وكانَ يُبرِر أفعالَه بمَنطقِ أن لكُل رجُلٍ رغَبة تظهَر بوَقتٍ مُبكرٍ.

فأي رغَبةٍ كانَ يملِكها نايِل بسَنِ الثالِثة عَشر كَي يُبيح لنَفسِه تلمُس طِفلة بالثامِنة وحَسب؟ لقَد كانَوا جحيمُها المُستعِر.

"هَل تعلَم يا لِوي؟ سأُخبِركَ بآمرٍ يخُص سيڤين.."بدأ نايِل مِن جديدٍ، كانَت الفُرصة مُتاحة لَه لبَكمِ شَقيقِه الأكبَر وعدم إنضَمامِ سِيمون لَهم بالحَديثِ، لتَزفر بصَبرٍ. "لقَد كانَت فَتاة عَنيدة جِدًا، مِن النَوعِ الغاضِب والمُحتج دومًا،وكانَت تُعبِر عَن رأيَّها بكُل شيءٍ كالرَجالِ! أنا لَم أعتقِد بأنَها قَد تتزَوج يومًا ما بصَراحةٍ. فلَقد كانَت رجولَية جِدًا، وأي رجُل سيُحِب أن يَفرِض سَيطرته على زوجتِه ولَيس العَكس. ألا تتفِق مَعي؟"


"لَا. الزَواج لَيس بفَرضِ سَيطرة فَردٍ على آخرٍ. أي رجُل يظُن ذلِك فهَو يسعَى لتَعويضِ ضَعف شَخصيتِه بنوعِ جَنسِه وحَسب."نبَث لِوي بحَدةٍ أدهَشت الكُل. كانَ يفهَم ما يُحاوِل الطَبيب فِعله ولم يكُن ليَرضخ أمامَه. فلَا أحَد يَستخِف بزوجتِه ويصمُت.

ابتَسمت سيڤين بتَشفٍ، مُراقِبة نايِل يتراجَع بفَتورٍ وينتقِل ببَصرِه إلى سِيمون واكِزًا منكَبه كَي يَحوز إهتمامَه. "لِمَ الصَمت يا سِيمون؟ لا تكُن خجولًا، فلَا أحَد غَريب بَيننا."

لم يُعقِب سِيمون. كانَ غارِقًا بعالمِه الخاصِ ولم يكَن معجبًا بسحبِه مِنه. أزالَ يدَ نايِل عنَه بلُطفٍ ورمَق شقيقَته بنَظرةٍ طالَبةٍ مُستائةٍ. "سيڤين، هَل يُمكِنني الحَديث مَعكِ لبَعضِ الوَقتِ؟"

لقَد كانَ يتألم بتجاهُلِها لَه.
كادَت سيڤين ترفُض طلَبه، ولكِن إمتَنعت. لقَد أرادَت إشعارَه بأن عِصيانَها لم يكُن مقبولًا ونظرَة الذَنبٍ بعيونِه أنبأت بتعلُمِه للدَرسِ جيدًا.

"سأعَود بَعد دَقائِق."تَمتمت لِلوي الَذي هَز رأسَه بفَهمٍ قُبيل أن تَتبِع أخيها المُتلهِف نَحو إحدَى الشُرفاتِ الفَسيحةِ حيثُ رحَبت بِهم الرَياح بأحضانِها بإنقَباضٍ هَب مِن أرضِ المَقابرِ الَتي إحتَلت الجُزء الخَلفِي للقَصرِ.

إستَغل نايِل إبتعادَها عَن مَرمِى المَسمعِ وجذَب إنتباهَ لِوي بنَبرتِه الخافِتة ولَكِن مُتلاءِمة. "بَيني وبَينك لا يجِب أن تكُن بهذا اللُطفِ مَعها وإلا ستُقوِي عودَها. سيڤين مِن النوعِ الَذي يحتاجَ لشَخصٍ صارَمٍ كَي يحجِم مِن جموحِها ويُسيطر على أفكارِها المُتطرِفة. أنا أنصَحك لٍأنكَ صديقَي ولا يعجَبنِ إسلوبَك السَلِس معها. هَل تفهَمنِي؟"


رمَش لِوي بوَجهِه بصَمتٍ، عالِمًا إلى أينَ سيصِل بحديثِه هَذا. ولكِنه لم يكُن صديقًا لَه. لم يكُن كذلِك. لن يكُن كذلِك.

"هَل لازَلتِ غاضَبة علِيَّ؟"تطلَع سِيمون لمَلامحِ شَقيقتِه الَتي رمَقت السَماء المُنطفِئ بتجهُمٍ، وعَض لِسانَه بتَوترٍ. "..أنا أعلَم بأنَ ما فعَلته كانَ وقِحًا وما كانَ يجِب أن أعصِ أمرَكِ او أن أتحَدث عن لِوي بهَذا الشَكل. أنا أُحِب لِوي يا سيڤين، إنَه أفضَل رجلًا تزَوجتِيه. ولكِنني كنتُ حزينًا."

"علَيك أن تَفهم بأنَك سَبب وجودِنا هُنا اللَيلة."رمَت كلِماتَها بحَزمٍ، وإلتَفتت لَه بعُيونٍ دكَنت. "..فِي أكثَر مكانًا سعِيتُ لإبعادِكَ عنَه منذُ ماتَ والِدنا. بَين أكثَر الناس اللَذين حاربتُ كَي لا تغدُ مِثلهم. قَد إستَغلك نايِل ليَبتزنِي. لقَد إستَغل قبولكَ لدَعوةِ العائِلة كَي يقنِع السَيدة ليڤَرِنت بقُبولِها. هَل تُدرِك ما كانَ سيحدُث لو تركتُك تأتِي إلى ذلِك المَكان بمُفردِك؟ لم تكُن ستخرُج مِنه أبدًا."


كانَ سيَكون مِثلهم. عابِس، تَعيس، وقاسِي القَلب.

"أنا آسِف."همَس سِيمون بنَدمٍ، خَضراواه حُمِلا بيأسٍ رَق له قلبُها الَذي لم يعتَد رؤية أخيها الصَغير محبطًا، فتَنهدت بعُمقٍ. "دَعنا نُنهِي تِلك اللَيلة بسَلامٍ وحَسب. كَما ارَى فإنَها حَتى الآن تَسير بـ..-"

لَم يسَعها إنهَاء جملَتها حَتى، حيثُ إلتَقطت عَيناهَا عَبر بابِ الشُرفةِ بالجانَبِ الآخر للحُجرةِ جريجَن الَذي كانَ يُناوِل لِوي لِفافَة ببَسمةٍ جانَبيةٍ خلَعتها، وهِى تتوَجه للخارِج بقَلبٍ دَب بعُنفٍ.

"ما هَذا؟ ما الَذي تُعطِيه إياهَ؟"إنفَعلت، مُنتشِلة اللِفافَة بقوةٍ من أصابَعِ لِوي الَذي تشارَك الدَهشة مَع إبنِي عَمِها وهِم يقطَعون الحَديث كَي يرمُقون وجهَها الساخِط، وهَز نايِل كِتفَيه بتعجُبٍ. "إنَها مُجرد سيجارَة. هَل تَحرمينَه مِن التَبغِ أيضًا؟"

"لَا. بَل أحرِمَه مِن الأعشابِ المَحروقةِ الَتي تُدخِنونها."

لم تُبالِ بأي مَسارٍ آخذَته كلماتُها. كانَت غاضِبة لأنَها تعلَم بأنَها لم تكُن لِفافة تبغٍ عادَيةٍ، فعائِلتها كانَت صارِمة بذلِك كثيرًا. كانَوا يُدخِنون حِفنة مِن الأعشابِ كالقُرنفلِ والَتي كانَت رائِحَتها ثَقيلة على الصَدرِ جدًا.

فمَن يدرِ ما قَد تتسَبب بِه للِوي. لم تكَن ستُخاطِر.

"أنا أعتَقِد بأنَه هو مَن يُقرِر ما يُدخِنه ولَيس أنتِ."تبَجح نايِل بنَظرةٍ مُستهزئةٍ قابلَتها بواحِدة شَزِرة هزَتها بكُلِ قسوةٍ. فلَو كانَ ذلِك موعِد الجَدالِ، لَه ذلِك إذَن. "توَقف عن إفسادِ زوجَي بأفكارِكَ الدَميمة!"

"أنا لستُ بطَفلٍ كَي تُتابعِ كُل حركةٍ يَقوم بِها."ذُهِلت بوَتيرةِ لِوي الحادَة الَتي مزَقت أنسِجَة غيظِها، إرتَفعت جفونُها بتهكُمٍ لعيونِه المُشتعِلة بضَراوةٍ بَينما يمِد لَها يدَه بحَزمٍ. "أنا رجُل. لِذا أعَيدِ ما هُو لِي."

لقَد كانَ مِن الخَطأ تَركه بأنيابِ نايِل حتمًا. لمَحت بسمَة الطَبيبِ تتشَكل بشَماتةٍ وهِى تُسقِط اللِفافة بقَبضةِ زوجِها وملامِحُها تتسَطح أمامَ إشعالِه لَها بعَنادٍ. هِى لم يكُن يجدر بِها أن تترُكه وحيدًا أبدًا.

"هانِيا، لِمَ لا تَصطحبِ سيڤين بجَولةٍ كَي تتوَقف عن التطفُلِ على جَلساتِ الرَجالِ؟"قُوطِع هِياجُ رأسِها بنَبرةِ عمتِها ڤيكتَورِيا البَطيئة والبارِدة بَعدما عادَتا مَع السَيدة إليزابِيث مِن رحلتِهن حَول شجرةِ العائِلة.

لَم تُبدِ الشَقراء فِعلًا وإبنَة عمتِها تَشبِك ذِراعَها بساعِدها، ولَم تُقاوِم جذبَها المُباغِت لَها لخارَجِ الحُجرةِ بعيدًا عن الأنظارِ. لم تملِك أي رَغبة بقَضاءِ الوَقت مع تِلك الفَتاة المُدللة، ولكِنها على الأقلِ ستُخمِد ما أشعَله لِوي برأسِها مِن إغتَياظٍ.

فهِى إنتظَرت مِنه دعمًا ولَيس فِعل ما يفعَله الآخرون!

"أُمِي ساخِطة على تعلُقكِ المُبالغ بِه بزَوجكِ. فهَى تَقول بأنكِ لَو لَم تترُكِ للرجُلِ مِساحَة حُرية قليلًا سَوف يمِل منكِ ويُحاوِل الهُروب."تَمتمت هانِيا كالفَتياتِ الصَغيراتِ وهُما ينزِلا بالدَهاليزِ العَميقةِ المُتأجِجة بالمَشاعِل الَتي اضفَت لمسَة مُهيبة للجَوِ الصامِت.

"..ولَكِنني أعذُركِ، فلَو كنتُ متزوِجة برجُلٍ مَثل زوجكِ ما كنتُ سأتحَرك مِن جانِبه لحظَة واحِدة."إنزَعجت سيڤين مِن حديثِها المُلتهِب، الشَبه مُتغزِل بزوجِها بكُل جَراءةٍ لمَسامِعها.

لَبت إشارَة إبنَةِ التاسِعة عَشر لدُخولِ حُجرتِها على مَضضٍ مُستقبلة بجُدرانٍ مُتباعدةٍ طُلت باللَونِ الإرجَوانِي الداكِن مَع الأثاثِ الَذي إتفَق بآلوانِه القاتِمة ككُل شيءٍ آخرٍ. لقَد كانَت تفهَم تجذُر الثَقافة القَوطِية بعائِلتها منذُ أجيالٍ..وهَذا ما جعلَها تُحاوِل كَسر إطارَها.

فقَد كانَت ثَقافة تبعَث عن الكَأبةِ والحُزنِ، أو رُبما كرَهتها لكونِها جزءً مِن عالمِ عائِلتها المُوحِش.

"لَديكِ غُرفة لَطيفة."أطرَت، جالِسة بجَسدٍ مُتخشبٍ على إحدَى المَقاعدِ سامِعة شُكر الفَتاةِ المَسرورِ وهِى تَقف أمامَ مِرآتها مُهذِبة مِن شَعرِها البُنِي وثَوبها الأبيَض الطَويلِ،قَبل أن تلتَفِت نَحو سيڤين بنَظرةٍ مُتلهفةٍ. "بِما أننا بمُفردِنا، وكِلتانا فَتاتان..هَل يُمكِنني سؤالكِ سؤالًا شخصِيًا قليلًا؟"

"يعتمِد ذلِك على لأي دَرجةٍ هو شَخصِي."أبقَت سيڤين على وجهِها المُنبسِط وهانِيا تجلِس بالمَقعدِ المِوازِي لَها وتَميل نحَوها ببَسمةٍ خَفيفةٍ ترجَمت ما يكمُن بنَيةِ الفَتاةِ من آمرٍ غَير مُريحٍ.

"إنَه شخصِي جدًا، ولكِن لا أحَد سيَسمع على أي حَال.."أقَرت هانِيا بخُفوتٍ، لتتحَفز الشَقراء بمَجلسِها. "لقَد تزَوجتِ لعَدةِ مَراتٍ وحتمًا إكتَسبتِ خَبرة بهَذا الآمر. لقَد أردتُ أن أعلَم كَيف يَبدو الزَواج؟"

"ماذا؟"دُهِشت سيڤين كثيرًا. رغَبت آخذ سَؤالها بنَيةٍ طَيبةٍ ولكِن لمَعة عيونِ الفَتاةِ الخاطِفة كانَت بادِرة لمَ أفشاهَ لِسانُها بَعد لَحظاتٍ. "..كَيف يَبدو الآمر حينَما تَكونين برَفقةِ رجلًا ما؟ كَيف هو ذلِك الشُعور؟ هَل هو جَيد؟ وكَيف يَسير الآمر بالتَحديدِ؟"

"كَيف علَمتِ بهذهِ الآمورِ؟"رمَقتها الشَقراء بسَخطٍ.
كانَت مَصدومة لعَلمِ فَتاة بالتاسَعةِ عَشر بهذهِ الأشياءِ الَتي لا تعلَمها أي أُنثى حَتى لَيلة زَفافِها، بَل وتملِك الجَراءة لتَسأل عَنها بكُل وَضوحٍ وفَضولٍ. لم تتوَقع أن تجِد ذلِك من أحَدِ أفرادِ عائِلتها المُحافِظة.

"أنا أعلَم بأنَه لا يُجدر بِي مَعرِفة ذلِك. ولَكِنني عثرتُ على كَتابٍ يتحَدث بهذهِ الآمورِ بمَكتبةِ عَمي ڤيكتَور وكانَ يجعَل نايِل وجريجَن يقرأنَه كثيرًا، فأنتابَني الفَضول وأخذَته خِلسة دون أن يَدرِ."بدَت هانِيا فَخورة بفَعلتِها جِدًا،بَينما لم تكُن سيڤين مُستوعِبة ما تسمَع.

"..مؤكَد لم يُمكِنني سَؤال أُمِي في ذلِك الشأنِ لأنَ عِقابَها سيَكون أقسَى مِن عَقابِ عَمِي. ولكِن نحنُ الأثنَتان فَتاتان وأنتِ لَستِ مِثلهم، فرُبما يُمكنكِ أن تُخبِرينني كَيف يَسير الآمر."طالَعتها الفَتاة بكُل شَوقٍ، فسَكنت سيڤين لدَقائِق.

كانَت هذهِ نَتيجة بَديهية للكَبتِ الَذي يفرِضه مُجتمع يتظاهَر بالتحفُظِ. مُجتمع يتعامَل بأنَ المرأة لا تملِك رَغبة مِثل الرجُل بكُل شيءٍ. مُجتمع ينظُر للرجُلِ ككَيانٍ شَبقٍ لا يُمكِنه كَبح نزواتَه، بينما المرأة قَديسة لا يجِب أن تتشابَه مشاعِرَها مَعه. لا يجِب أن يكُن لها مُطالبات مِثله.

كانَ فِعلُ هانِيا غَير مُفاجِئ. فلَو كانَت مُترعرعِة بَين أشخاصٍ فَرضوا علَيها آمرًا دون أسبابٍ، آمرًا لم يكُن حاكِمًا لأحَدٍ سَواها..فمَع أوَل فُرصة لكَسرِ ذلِك الآمر المُستبِد لَن تترَدد. فمَا لا يعلَمه الآخرون لَن يؤذِيهم.

"لا يجِب أن نتحَدث بمَثلِ هذهِ الآمورِ يا هانِيا."صَرحت سيڤين بجُمودٍ. لم تكُن مُستعِدة لتَغدو جزءً مِن إعَوجاجِ مَسارِ الفَتاةِ رَغم سَخطِها على مَبادئ عائِلتها الأزدَواجية. فما حُرِم على المرأةِ يجب أن يُحرم على الرجُلِ.

"لا تَكونِ قَديسة الآن يا سيڤين."رَمت هانِيا مُقلتِيها بضَجرٍ إستَنكرته الشَقراء. "..لا تَقلقِ يا إبنَة عَمِي، أنا لَن أُخبِر أحَد بأنكِ مَن أخبَرتنِي بهذهِ الأشياءِ. ولكِن لا تؤدِ دَور المرأة القَديسة الآن، لأنكِ لَستِ كذَلِك بتاتًا."

ضمَت سيڤين حاجِبَيها بتهكُمٍ جذَر فروعَه بداخِلها، ظنَت بأنَ أبتعادَها قليلًا عن باقِي أفرادِ عائِلتها سيُهدِئ مِن نفسِها الثائِرة، ولكِن يَبدو بأنَ وجودَها بعرينِهم وحدَه يُصيبها بالغَضبِ.

"لا تَكونِ وَقِحة."

"إذَن لَا تتظاهَرِ بالنُبلِ. علِّي لا أترُك القَصر كثيرًا، ولكِنني أعلَم ما يحدُث بالمَدينةِ جيدًا، وأعلَم مَن تكونِ حقًا. السَيدة سيڤين بالَوم، السَيدة كازانوڤا الإنجلَيزِية، سَيدة القَطِيع وفاتِنة القُلوب. هَل تَعتقِدين بأنَ العائِلة غافِلة عن سُمعتكِ السَيئة بَين الناسِ؟"

كانَت هانِيا تواجِهها بنَظرةٍ مُتعجرفةٍ ولَسانٍ مَشحوذٍ كالسَكينِ. شَلال كلِماتها المُهِينة ينهَمِر فَوق مسامِعها المُنقبِضة ولكِن بِلا صَوتٍ قادَرٍ على دَفعِ هجومِها. كالواهِنة كانَت تُنصِت بصَمتٍ مُريبٍ.

"لا تَلعبِ دَور القَديسة وأنتِ لا يُمكنكِ البَقاء بدونِ رجُلٍ ما بحَياتكِ. فأي امرأةٍ مُحترمةٍ تتزَوج لسَت مَراتٍ خَلال أعوامٍ قَليلةٍ؟ لا عَجب بأن لا واحِد مِنهم يَبقى طويلًا، فكَيف لشَخصٍ أن يتحَمل امرأة مُخادِعة مثلُكِ؟ إنكِ شؤمًا على كُل رجُلٍ تتزَوجِيه."

كُل كلمةٍ قالَتها لم تكُن مِن خُلدِها. بَل هو كُل ما زُرِع ورُدِد أمامَها مِن عائِلتها الَتي تنظُر لَها كفَرعٍ مُنحلٍ كسَر تقاليدَهم المُتعصِبة، لأنَها لم تكُن بصَورةِ المرأة الَتي يَجِب أن تكونَها. لم تكُن امرأة ضعَيفة، صامِتة، ومَهزومة.

زَفرت سيڤين بعُمقٍ ونَهضت. لقَد سمَعت الكَثير بالفَعلِ وما قالَته هانِيا لم يكُن بشَيءٍ جَديدٍ، ولكِنها شعَرت بالكَلماتِ أكثَر وطأة علَى تحمُلِها، وكأن تواجُدها بذلِك المُكان يَستنزِفها ويرُج كَيانها ببَطشٍ. شَعرت بالوَهنِ.

"على الأقلِ أنا أعلَم جيدًا مَن أكونَ، ولا أتظاهَر بأنَني فَتاة بَريئة وهادِئة لكَسبِ رَضا الآخرينِ بَينما في الحَقيقةِ أنا أكسَر كُل قوانينَهم بالسَرِ. هكَذا تَكون المرأة المُخادِعة يا هانِيا."

ردَت نظرَتها الحاقِدة بواحِدة فاتِرة قَبل أن تنسَحِب مِن الحُجرةِ مُنصِتة لصَدى كُل كلمةٍ قالَتها يصدَع بمؤخرةِ رأسِها، بَينما تتحَرك برَواقِ الطابِق الخَاوِي ودَبيب خطواتِها يخلِق هسيسًا تَقاذف بالأركانِ البارِدة.

كانَت تعلَم كَم هانِيا مُدللة رَغم الطَقس القاسِي الَذي نشأت فِيه، كَما أن الغَيرة مِن طَباعِها صَريحة ولم تعتَد على رَؤيةِ من يرفُض لَها مطلبًا قَط. كَما لم يوجَد لَديها ما يَمنعها مِن إهانةِ سيڤين بوَقاحةٍ، فلَقد وُضِع برأسِها بأنَها الفَتاة المَثالِية بالعائَلةِ، والشَقراء لا تستحِق أي إحتَرامٍ من أحدٍ.

لقَد كانَت سيڤين فَتاة العائِلة المُتمرِدة.

"لِوي؟"
توَقفت بمكانِها بعُيونٍ سُحِبت بحَيرةٍ حينَما إلتَقطت زوجَها المُتوقِف بمُنتصفِ أحَد الدَهاليزِ قُبالة إحدَى اللَوحاتِ المُعلقة بكُل جَدارٍ بالقَصرِ. كانَ منسجِمًا جدًا بتأمُلِه حَتى أقتَربت كَيانها مِنه بسُكونٍ.

"مرحبًا، حُبِي. كنتُ أبحَث عنكِ حينَما إصطدمتُ بتِلك السَيدة الجَميلة."بدَى صوتُه مبوحًا ولكِن ناعِمًا جِدًا بَينما يَستقبِلها بذَراعٍ مُنبسطٍ سُرعان ما تَقوس حَول خَصرِها بلُطفٍ. "..إنَها تُشبهكِ."

تآمَلت بجُفونٍ مُثقلةٍ اللَوحة الَتي مثَلت امرأة يافِعة، ملامِحُها كانَت تنبسِط براحَةٍ تجعَل الناظِر متمتِعًا، شعرُها الذَهبِي تدَرج خَلف ظهرِها مَع ثَوبِها الكَرزِي وبَسمة عَذبة تتعلَق بزَوايا شِفَتيها مانِحة المَشهد روحًا حيةً ناقَضت كُل ما أحاطَ المَكان بأكملِه مِن غَمٍ.

"هَذهِ الشَقيقة الصُغرى، ڤيرونِيكا. كانَت آخِر إبنَة بشَجرةِ العائِلة. أذكُر بأنَها كانَت مُختلِفة تمامًا عَن أبِي وعَمي وعَمتي، كانَت حالِمة ولَطيفة. ولكِنها ماتَت بسَنٍ يافَعٍ بَعد وَفاةِ رجُلٍ أحبَته. كانَت الوَحيدة الَذي رأتَ الجانِب الوَردِي للعالَمِ..وعَل ذلِك كانَ سبَب موتِها، فلم تتحَمل حَقيقته القاتِمة."

تذكُر كَم كانَت تتعَجب مِن كونِها واحِدة مِن عائِلة والِدها. كانَت بَشوشة ونَشيطة دومًا، كانَت تؤمِن بالحَياةِ والحُبِ حَتى إنطَفئت كنَجمةٍ فقَدت سطوعَها بلَيلة مَحاقيةٍ كَئيبةٍ.

"تَبدو فاتِنة مثلُكِ."همَس، شاعِرة بشِفَاهِه تُلثم بجانَبِ جبينِها برَقةٍ كادَت تُنسيها ما قامَ بأقترافِه قَبل قليلٍ على مَرأى مِن الجَميعِ، ولكِنها كانَت أبعَد مِن أن تُجادِل أو تُعاتِب بهذهِ اللَحظةِ، لَيس بذلِك المَكان، لَيس بوجوَدِ هؤلاء الناسِ.

"كَيف وَصلت لذلِك الجُزء مِن القَصرِ؟"

"لقَد كنتُ ضائِعًا بالحَقيقةِ. أنا لم أملِك أي فَكرة عَن أين يُمكِنني العُثور علَيكِ، ولَكِن توجَب علِّي الهُروب من مَخالبِ عَمتكِ الَتي كانَت تُخبِرني بأنَ أتوَقف عن كَونِي مهاوِدًا وهادِئًا معكِ، وبالتأكيدِ جدَتِي وقَفت بصَفِها. يَبدو بأنَها تأقلَمت مَع عائَلتكِ كثيرًا."

"ماذا عَنك؟"ناظَرته بإستَفهامٍ دَقيقٍ، لتَلمع عيونُه المُنتشِية بتَوترٍ عالِمة كَم يحاوِل جَعل كلماتَه لَطيفة. فهى قرأت عَدم إرتَياحِه منذُ اللَحظةِ الأولى.

"حسنًا. إنَ عائِلتُكِ.."

"مُخيفة."أكملَت عَنه حينَما توَقف، فوافَقها بوَجهٍ ساكنٍ.
كانَا كالغَريبان بمَكانٍ لَيس لهُما. لَم تدرِ كَم مِن الدَقائقِ وَقفا أمامَ اللَوحةِ والهَواءِ يأتَي مِن كُل مدخلٍ تارِكًا صدًا عميقًا بدَهاليزِ القَلعةِ، حَتى إنحَنت عنقُه إلَيها بنَظرةٍ مُتفقدةٍ.

"هَل أنتِ غاضِبة؟"

"لَا. أنا أعلَم قُدرة نايِل على إقناعِ أي شَخصٍ بأي شَيءٍ."تَنهدت،مُميلة رأسَها كَي يستنِد على حافَةِ منكَبِه بكُل إنهاكٍ نَفسيٍ خالَجها. بكُل وَهنٍ لم تشعُره يومًا كانَت فاقِدة لطاقتِها بأكملِها.

"لقَد كانَت سيجارَة سَيئة لَو كانَ ذلِك سيُعوضكِ."أبتَسمت لتَعليقِه المُتمرِر. كانَت مُرتخِية بوَجودِه، كانَت تشعُر بِه يُقوِيها مَع كُل ضغطٍ واجَهته تِلك اللَيلة..ولكِن كِلاهما كانَ يتماسَك بالآخرِ رَغم عُسرِ ذلِك.

"لِوي؟"
هَمهم لنَداءِها الخافِت، بَينما ترفَع سيڤين رأسَها عَن منكبِه بخَفةٍ،ورمَقته بعيونٍ مُهتزةٍ لم يرَها يومًا."..كَيف هِى نظرتُك لِي، بصَدقٍ؟"

لم تُغادِر تعليقاتُ هانِيا عقلَها، لم يبرَح حديثُ نايِل خلدَها. كانَت تتجاهَل دومًا كَيف تَكون نظرَة الآخرين لَها، كانَت تتشَبث بثقتِها بصُمودٍ، ولكِن تِلك الأُمسِية جرَدتها مِن ثوبِ المَرأةِ القَوية وجَعلتها مُنهزِمة على مَذبحٍ دامٍ.

"هَل تَرانِي مُتسلِطة، رَجولِية، غَريبة الأطَوار..أو شؤم؟"

"لِماذا قَد أنظُر إليكِ بتِلك الصَفاتِ البَشِعة؟"تهَكم لِوي،نطَقت زَرقاواه بإعَراضٍ على حديثِها، لتُحرِك كِتفَها بوَجهٍ راكَدٍ. "هَذا ما يَراه الآخرون."

كُل الآخرين.
"لقَد تخلِيتُ عن حَديثِ الآخرينِ منذُ زمنٍ طَويلٍ."أقَر بنَبرةٍ جادَةٍ جدًا قشَعرتها. مَد كِلتا يَديه لَها كَي تُلحِمهما بقَبضتِيها اللَتين ذابَتا بعناقِه الحَار لهُما وهو يَرنو لعيونِها بعُمقٍ شديدٍ.

"..سيڤين، أنتِ أكثَر امرأة فَريدة، جَميلة، ورَقيقة رأيتُها بحَياتِي. ونظرتُي لكِ لَن تتغَير أبدًا مَهما حدَث. فلَا تدعِ أي شَخصٍ يَجعلكِ تنظُرين إلى نَفسكِ بأيٍ من هَذهِ الصَفاتِ السَيئة."

شتانٌ بينَه وبَينهم. شتانٌ بين عالَمِه وعالمِهم.

"لا تكُن مِثلَهم، أرجَوك.."طلَبت هامِسة، بدَت بعيونِها نظرَة تضرُعٍ لم تجرَؤ على مسِ عيونَها قَط. كانَت أمامَه عارَية المَشاعِر غير مُتمكِنة مِن إخفاءِ آمرًا عَنه لأوَل مَرة على الإطَلاقِ.

"مِثل مَن؟"

"مِثل عائِلَتي. مِثل الجَميعِ."
لقَد أرادَته أن يكُن كَما هُو. العالَم المِثالي الَذي يَحتوِيها.
الجانَب المُشرِق الَذي تلجَأ لَه مِن قَساوةِ الآخرينِ وظُلمتِهم المُوحِشة. العُيون الَتي تَرنو لَها ككَيانٍ يشعُر ويحلَم ولَيس كرَوحٍ نُفِخت لتَندثِر.

"أبدًا."أبتَسم، مقبِلًا كِلتا يَديها كقَسمٍ صامَتٍ أسكَنها.
مدَّها بالنَورِ كَي تُضِيء ما أعتَمته عائِلَتها، منَحها القَوة كَي تُتابِع تِلك الأُمسِية الطاغَية دَون أن تُشهِر إنهَزامها. بطَريقةٍ ما كانَ يَفنِي إستِسلامَها لهُم.

حينَما قطَعا الأروِقة الباهِتة بَين أطَيافِ الصَمتِ العابِثة، لم تُفكِر بالتَخلِي عَن قبضةِ يدِه مُسترجِعة رَسمة وجهِها الحادَة كمَن شُحِذت طاقَته مجددًا، ولكِن سُرعان ما حلَت الدَهشة بعيونِهما مَع ولوجِهما لحُجرةِ المُعيشةِ الواسِعة.

"ما الَذي يحدُث؟"تحَفزت سيڤين، ونظَرت إلى عمِها الَذي عاوَد الظُهور ليَجلِب مَعه مشهدًا غريبًا للغايةِ.

كانَ يترأس معينًا خُماسِي الشَكل كانَت حدودُه يُكمِلها نايِل وجريجَن مِن جانَبٍ، وسِيمون وهانِيا مِن جانَبٍ آخرٍ. والأربَعة يُنافون الرجُل الكَبير الَذي أمسَك مجلدًا صغيرًا بإمساكِهم للشُموعِ الحَمراءِ الَتي كانَت مَصدر الإضاءَة الوَحيد مَع المَدفئةِ.

"لقَد قَررنا مُباركة زواجِكُما."صَرحت السَيدة ڤيكتَوريا بالَوم الَتي كانَت تستقِر بجانَبٍ مَع السَيدة إليزابِيث الَتي بدَت مَشدودة للوَضعِ الجارَي، والَذي لم ينَل إعجابَ الشَقراء كثيرًا.

"إنَنا لَسنا بحاجَةٍ لمُباركةٍ ما."

"إنَه تَقليد العائِلة."آنَص ڤيكتَور بالَوم بوَجومٍ رامِيًا بعيونِه الثاقِبة عَبر الحُجرةِ لتَنقبِض سيڤين وكأنَما نفَذ إلى روحِها مباشرةً، فشَدت على يَدِ لِوي بإرتَيابٍ. "والآن تقَدما."

"لا بأس."تَمتم لِوي كَي يُصهِر تزمُتها. المَوقِف كانَ مخيفًا جِدًا والشُموع تتراقَص يمنة ويسرَة خالِقة ظِلالًا أخفَت نِصف الوَجوهِ. ذَعنا للسَيدةِ ڤيكتَورِيا الَتي عقَدت شريطًا أرجَوانيًا حَول المِعصَم الأيسَر لكُلٍ منهِما، قُبيل أن يتَوسطا الحَلقة بقُلوبٍ إرتَبكت.

تعامَدت عيونُهما اللامِعة بقَلقٍ، كِلاهُما لم يكُن مرتاحًا ولكِن حاوَلا الإستِرخاء بكَنفِ بعضَيهما البَعضِ وڤيكتَور بالَوم يَتحمحم فصَمت كُل شيءٍ حَتى أزيزِ الرَياحِ، وتَلى بصَوتٍ جُمهوريٍ رَخيمٍ.

"عِندما نأتي إلى هَذا العالَم، يَكون لدَينا أنفُسنا وحَسب، نَسير مُعظم رِحلتنا في الحَياةِ بمُفردِنا. البَعض مِنا يرضى بوحَدتِه، والبَعض الآخر يَقضي حَياته بأكملِها بحثًا عن شَريكٍ لشَغفِهم وأحزانِهم وأفراحِهم. قِلة هُم مَن يَنجحوا بالعُثورِ على هَذا الشَخص. شَخص يُساعِدنا في تحمُلِ أعبائِنا وتَحقيق أحلامَنا، تمامًا كَما نُساعِدهم بدورِنا. إنَها لَحظة نادِرة وعَجيبة عندما نُدرِك أننا قد وَجدنا شخصًا نبنَي معه حَياة جَديدة. نجتمِع هُنا اللَيلة لِأن بَيننا رَوحان تصرُخان مِن أجلِ الوَحدةِ. لقَد سارَوا معًا بكُل سماءٍ وقُدِر لهُما التَلاقِي على دَربٍ واحدٍ فأدرَكا بأنهُما لم يَعودا يَرغبان بالمَشي بمُفردِيهما بَعد الآن."


شَعر لِوي بيَدِ سيڤين تَهتز بتَوترٍ، ليَشِد علَيها بقَوةٍ محافِظًا على وَثاقِ نظراتِهما فيُصرِفها عَن الأنتَباهِ لكُل ما يَدور مِن غَرابةٍ حولَهما. رَفع الرجُل عيونَه القاتِمة إلَيهما، وأستأنَف.

"مِن خلالِ آداء القَسمِ فإنكُما تُساعِدان في تَكوينِ رابِطة ستَكون معكُما في كُل وقتٍ وكُل مكانٍ خلال الرَحلة الطَويلة حَتى تبلَغ الحَياة مَنتهاها. الزَواج لَيس مُجرد رِباط مِن الجَسدِ، وإنما رِباط نُفوسٍ أيضًا."

"عِندما يلمِس أحدكُما الآخر. عِندما يُقبِل شِفاه الآخرِ.
وعِندما تُمارِسا الحُب. فإنكَما لا تحتضِنا الجَسد وحَسب، بَل تلمِسا رَوح الآخر كذلِك. إن إتحادَ الجَسدِ مُقدس وجَميل ولكِن إتحادُ النفوسِ أبدَي."

شَعرا وكأنَهما يتَزوجان مَرة أُخرى. يُلقِيا بنُذورِهما الطَويلة مِن جَديدٍ في طُقوسٍ مُريبةٍ مَلكت التَوجس بقَلبِيهما.

"رَدِدا مَعي.."

"هَل ذلِك ضَرورِي؟"إعتَرضت سيڤين، حاوَلت إخراجَ صوتها متضجِرًا ولكِن رَجة أحبالِها جعلَته خافِتًا متوتِرًا أمامَ نظراتِ عمِها المُتملِكة الَذي هَز رأسَه بإيجابٍ جعلَها تبلَع لِسانَها بتبرُمٍ. "رَدِدا وَرائِي. أعِدُك.."

"أعِدُكِ بوَلائِي غَير المَشروطِ."بدأ لِوي بهَزةِ رأسٍ محِثًا إياهَا على المُتابعةِ آملًا بإنهاءِ تِلك المُباركة سريعًا، لتُردِدها بنَبرةٍ خانَقةٍ مُتزمتةٍ. "أعِدُك بوَلائِي غَير المَشروط."

"أن أكونَ قوتَكِ لَحظة ضَعفكِ."

"وأن أكونَ راحتَك لحظَة مرَضِك."
لم تكُن تُغير شيئًا مِن العَهدِ هذه المَرةِ، كانَت تُردِد ما يُملى علَيها بلَسانِ صَدقٍ قَشعره.

"أن أكونَ عائَلكِ لحظَة حاجَتكِ."

"وأن أكونَ بهجتَك لحظَة حُزنِك."
كادَت تَضيع باللَحظةِ وبعَينيه، حَتى رَفع عمُها يدَه عالِيٌا كَما تهاوَدت الشُموع بحَركةٍ عَبثيةٍ مزَقت إنسجامَها اللَحظي وذَكرها بأي وَضعٍ كانا. كالسَجينينِ كانَا يتشَبثا بأيدِي بعضَهما البَعض، خاضِعان للتَقاليدِ رَغم آنفِهما.

"سمَع وشَهد الكُل على هذهِ الطُقوس. قلوبُكما تعلَم أنكَما مُتزوِجان عقلًا وروحًا ونفسًا واحِدًا. عَسى تكتِب لكَما رَوح القَمرِ مبارَكتها القاتِمة لأجَلٍ أبَديٍ ووَثاقٍ قَويٍ يوحدكُما بتِلك الحَياةِ، وكُل الحَيواتِ الأُخرى. في الظَلامِ والنَورِ."

"للأبَدِ."أتَحدت أصواتُ الجَميعِ حولَهما بنَفسٍ واحدٍ، لتَسترِق سيڤين نظرَتها للأربَعةِ اللَذين أحاطَوهما كالتَماثيلِ يُطفِئوا لَهيب الشُموعِ واحِدًا تَلو الآخرِ، لتُعِد عَينيها على آخرِ ضَوءٍ شَع قَبل إستَبدادِ الظَلامِ نَحو زَرقاوِتين لم تهتَزا عَنها، وتشعُر بنَفسٍ دافئٍ ركَض جَوار عنقِها كالحَرارةِ التي مالَت لَها بظَلالِ اللَيلِ.

فإقشَعرت.
"سأُحبكِ حَتى تفنَى رَوحي ويَنهك جَسدي ولا يتذَكر قلبُي حبًا سِوى إسمُكِ ينبُض بِه بكُل وَلهٍ."

**
مَلحوظة:- لم تكُن مستحَضرات التَجميلِ مُحببة وشائِعة بالعَصرِ الڤيكتَورِي حيثُ إرتَبطت ببَعضِ المُناسباتِ القَليلة بجانِب تَقدير الڤيكتَورِيون للشَكلِ الطَبيعي كونَه هِبة من الله. وإن كانَ مباحًا للمَرأةِ والرجُل إستِعمالَ المُستحضراتِ المَحدودة وَقتئذٍ بأضَيقِ الظُروفِ.
..
تَعود حُقوق طَقوسِ الزَواجِ إلى مَقالِ Love To Know.
**
مساءكم لذيذ أحبابي في الله🥰🥰
من أهم أهم أهم فصول الرواية حرفيًا،يعني هو مش بس فِيه مواجهة بين رُموز الرواية كُلها لكن كمان فِيها تمهيدات للنهاية هنرجعلها في الآخر🙇🏻‍♀🙇🏻‍♀

عيلة بالَوم مش بس عيلة رجعية ومُريبة في تصرُفاتها لكن تآثيرها النفسي هو الجانب الّي إهتميت ابرزه خلال الفصل،العيلة الّي بتتظاهر بالتديُن والتمسُك بالتَقاليد لكنها بتحرفُهم على كيفها ولمصلحتها وقت اللزوم وإزاي ده بيكون إزدواجي ومش في صالح المرأة الّي بتطالب بحقوقها.

أتمنى أكون قدرت أوصلكم الفكرة واضحة ولسه هنرجع للفصل ده تاني بعدين عمومًا. يارب يكون الفصل عجبكم واستمتعتوا بِيه زي ما أنا استمتعت بكتابته جدًا جدًا🙆🏻‍♀💜💜

ليلتكُم سعيدة💜💜💜.

Continue Reading

You'll Also Like

1.5K 119 3
عندما يكون حُبًا غريبًا، مُتطفلًا ومُفاجئًا. كالمرض يدخُل لخلاياهُم. لكنهُ ممنوع، لكنهُ مُحرم، لكنه خطيئة. عندما تُحِب من لا يجِب أن تُحبه، بشكلٍ مُف...
574K 37K 23
{ Sexuel contact} جنيرالٌ مخدرمٌ أنتَ أوقعتنِي بينَ سلاسلِ عشقكَ الأبدية و أنا مجردُ أنثى عذراء سقيتُ بعسلِ علاقتناَ الآثمة و بللت إطار علاقتنا بدمو...
1.9K 196 5
" هي نسيتْ أنني أحبها." " أرجوك... إن نسيتك يوماُ ذكرني بك. أخبرني إن نسيت من أنا أنني فايلت، ذكرني بأطفالي، ذكرني بنفسي، اروِ لي حكايتنا، أعد على مس...
66.3K 6.4K 25
أن الفَرق بين السَـيدة النَبـيلة وبـائِعة الـوردِ لَيس بِكَـيف تتـصرَف، بل بِكَـيف تُـعامل. ▪ كُل الحِقوق محفوظَة®. ▪ لَيالي آوبلَڤلِت [ رِوايـَة - ل...