رحلة الآثام - الجزء السابع...

By ManalSalem175

295K 18.6K 4.3K

الجزء السابع من سلسلة الذئاب .. -البداية- ما قبل اللقاء .. ملحوظة يمكن متابعة هذا الجزء منفردًا دون الحاجة ل... More

المقدمة الأولى
التمهيد
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن - الجزء الأول
الفصل الثامن - الجزء الثاني
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر - الجزء الأول
الفصل الخامس عشر - الجزء الثاني
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر - الجزء الأول
الفصل الثامن عشر - الجزء الثاني
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
الخاتمة

الفصل الثلاثون

5.7K 378 79
By ManalSalem175


الفصل الثلاثون

(تُقى)

حينما استفاقت من سباتها، ظل عقلها للحظات متأرجحًا بين اليقظة والإغفاء، غير مدركة إن كان ما عاشته من أحاسيس تنوعت بين وله، وهيام، وانجذاب، والتحام هي نتاج نسيج خيالها المتعطش لذلك القرب الدافئ، أم أنه حقيقة وقعت وتمتعت فيها بكل لحظة مرت عليها معه.

ما أكد لها أنها لم تكن فريسة أحلامها الجامحة هو آثار رائحة عطره على الفراش، وثيابه الملقاة على الأرضية. راودها الأمل أنه ما زال موجودًا في الحمام، لهذا لفت جسدها بالملاءة، ونهضت عن الفراش، لتهرول بتعجلٍ إلى هناك. انقباضة قوية قصفت بقلبها حينما لم تجده، في التو عادت إلى غرفة نومها، تفتش في الدولاب عن ثيابه، وجدت المعظم متروكًا كما هو، فتنفست الصعداء، ورددت لنفسها:

-الحمدلله، هو موجود.

الطرق الهادئ على باب البيت جعل حواسها تتحفز، لم تعبأ بالخروج لفتحه وهي على تلك الحالة المخجلة، فقد اعتقدت أنه عاد من الخارج، أدارت المقبض، وجذبت الباب لتطل برأسها من الفرجة الصغيرة، تسمرت في مكانها مصعوقة حينما رأت "مهاب" وابنهما متواجدين عند العتبة.

لسوء حظها لم تتمكن من النجاة من هذا الموقف المشين، وتراجعت للخلف في توتر مرتبك عندما استخدم "مهاب" قبضته ليدفع الباب حتى يتمكن من الولوج ورؤيتها. النظرة المهينة التي انبعثت من عينيه أحـــــرقـــتها حية، خاصة حينما أتبع ذلك بكلامه الجارح ليوبخها:

-مفكرة نفسك شغالة في بيت دعـــــارة عشان تفتحي بالمنظر ده؟

أحكمت "تهاني" لف الملاءة حولها، وبررت بتلعثم:

-فكرتك جوزي..

ابتسم في استحقارٍ، فحاولت لملمة كرامتها المبعثرة بمتابعة الرد:

-وهو طبيعي يشوفني بأي شكل.

بنفس الطلة المهيبة، والنظرات المزدرية قال في هدوءٍ، ليزيد من إغاظتها:

-ما إنتي زيك زيه، ماتفرقوش عن بعض.

ابتلعت إهانته المتعمدة بصعوبةٍ، لم ترغب في إثارة المشاكل عبثًا، بينما حدق "أوس" في والدته بنظرات مستنكرة، قبل أن يركض تجاه غرفته ليختفي بها، فما يدور من جدال محتدم بين أبويه كان يؤلمه كثيرًا. انتظرت "تهاني" ذهاب الصغير لتبدأ في مهاجمته مجددًا وهي تشد بقبضتيها على طرفي الملاءة:

-جاي ليه يا "مهاب"؟

قديمًا كانت رؤيتها على هذه الحالة يستثيره، ويحرك غرائزه؛ لكن اليوم بدت في عينيه مجرد امرأة وضيعة، تصلح للمتعة فقط، لا للاستقرار. مجددًا سدد لها نظرة دونية، ليضيف في نفس اللهجة المسيئة:

-ابنك نفسه يشوفك، بس ماتخيلش إنه يلاقيكي بالشكل ده.

لم تطق افتراءه الموحي بفساد أخلاقها، وصاحت مدافعة عن نفسها بضراوة المقاتل الشرس:

-أنا متجوزة يا "مهاب"، سامع متجوزة، مش ماشية على حل شعري.

ثم رفعت إصبعها أمام وجهه لتحذره:

-فبلاش تعبي دماغ "أوس" بكلام مش مظبوط عني.

ضرب إصبعها الموجه إليه بكف يده ليخفضه، وقال في جفاءٍ:

-أنا مش فاضي للرغي بتاعك...

كزت على أسنانها حنقًا، باذلة كل الجهد لتمنع نفسها من تصعيد جدالهما لأقصاه. أبصرته وهو يدس يده في جيب سترته ليخرج منها رزمة من النقود، ألقاها في وجهها وهو يأمرها:

-خدي دول، مش عاوز ابني ينقصه حاجة.

شهقت متألمة من الضربة القاسية وغير المتوقعة لحزمة الأموال، ورمقته بنظرة غاضبة، همَّ بعدها بالمغادرة فتبعته لتخاطبه في صوتٍ محموم ومهدد:

-"مهاب"، قبل ما تمشي، يا ريت تبعد عن "ممدوح"، وتسيبنا نتهنى بحياتنا سوا.

توقف في مكانه دون أن يلتفت نحوها، فأكملت من ورائه بتعصبٍ:

-احنا مش عايزين منك حاجة.

أدار رأسه قليلًا، وأخبرها في سخطٍ متهكم:

-إنتي مفكرة إن "ممدوح" بيحبك، خليكي عايشة في الوهم.

اشتاطت غضبًا على غضب من تشكيكه في مشاعر زوجها نحوها، وهتفت مدافعة عنه باستماتةٍ:

-أيوه، بيعشقني، وميقدرش يستغنى عني.

استدار كليًا نحوها، ورمقها بنظرة استحقارية شملتها من رأسها لأخمص قدميها، قبل أن يقصفها بوابل عباراته النارية:

-هو دوره كان مجرد كوبري، اتجوزك بأوامر مني، وقبض التمن، ده طبعًا على اعتبار لو فكرت أرجعك...

رأى كيف اِربد وجهها بحمرة حانقة للغاية، فأزاد بقوله المؤلم لها:

-بس ده كان أحسن قرار عملته، إني أتخلص منك.

غلت الدماء في عروقها، وفارت في ثورة هائجة، أوشكت على تعنيفه:

-إنت...

لكنه انقض على فكها يعتصره بين أصابعه القوية، تأوهت من الألم القارص، فحذرها بلهجةٍ قاتمة، وغير متسامحة:

-أحسنلك تاخدي بالك من "أوس" كويس، وإلا هحرمك منه، ومعنديش مشكلة أنسيه وجودك أصلًا.

ثم دفعها بعدئذ في قسوة للخلف، فكادت تفقد اتزانها وتُطرح أرضًا؛ لكنها تماسكت في اللحظة الأخيرة، انتفض كامل جسدها عندما قصف الباب بعنف من خلفه بعدما خرج من البيت، بصقت في غيظٍ وهي تنعته:

-حقـــــير!

..................................................

التحذيرات جاءت واضحة ومباشرة؛ ضرورة الالتزام بالراحة التامة، طوال الفترة المتبقية من الحمل، تجنبًا لمخاطر الإجهاض، مع إعلام كليهما باحتمالية ولادة طفل مشوه، أو به عيب خلقي، جراء مضاعفات ما تعرضت له، لا أحد يجزم بما هو متوقع حدوثه. على مسئوليتها الخاصة، خرجت "فردوس" من المشفى، وعادت إلى منزلها بصحبة جارتها، كانت الأولى لا تطيق البقاء بقرب زوجها، حيث تملكها الرعب من قيامهما بتسميمها مجددًا، ظنت أنه متورطًا في ذلك باتفاقه المسبق مع حماتها القاسية، وإلا لكان أصيب مثلها، لم يكن من السهل عليها تكذيب مزاعمه ببراءته وكل الدلائل تؤكد شروعه في إقناعها بتناول طعام الملفوف في الحال.

ساعدتها "إجلال" على الاستلقاء على الفراش، ووضعت الوسادة خلف ظهرها وهي توصيها:

-بالراحة يا "دوسة"، على مهلك.

أمسكت الأخيرة بيد جارتها، وشدت عليها هاتفة في توجسٍ مرتاع:

-ماتسبنيش يا "إجلال"، أنا خايفة يتعمل فيا حاجة تانية، دول عالم مافيش في قلوبهم رحمة ولا خشى.

تفهمت موقفها المناهض لهما، وقالت في أسفٍ:

-لا حول ولا قوة إلا بالله، معلش يا حبيبتي، ربنا موجود.

ثم طلبت منها في نبرة خافتة، وهي تسحب الغطاء عليها:

-طب ارتاحي.

بالكاد نجحت في تخليص ذراعها من قبضتها المتعلقة بها، وأخبرتها:

-أنا هعملك شوربة سخنة تتقوتي بيها.

استسلمت "فردوس" لتأثير الإرهاق، وغفت، فانسحبت "إجلال" بهدوءٍ من غرفتها لتتجه إلى الخارج. التقت بزوجها المهموم، فعاتبته بلا هوادةٍ:

-ينفع كده يا سي "عوض"؟ تيجي منك إنت؟

في التو نفى اتهامها المجحف:

-والله ما كنت أعرف.

نظرت إليه بعدم تصديقٍ، قبل أن يعبر لسانها عن ذلك:

-معقولة؟

أطرق رأسه خزيًا، فاستأنفت أسئلتها التشكيكية:

-ليه؟ مكانتش عارفة إنك هتاكل معاها ويجرالك زي ما جرالها؟

أجابها موضحًا لها ما غفلت عنه من حقائق:

-لأ، لأني كنت أصلًا متغدي هناك، والمحشي ده حلفتني على المصحف مراته تاكله لواحدها، وأنا قولت هبقى أصوم 3 أيام...

نظرت له بتشككٍ، فكرر حلفانه:

-اقسم بالله ما جه في بالي إنها تعمل كده!

ضمت شفتيها معًا في أسفٍ، فظل يردد:

-أنا مش مصدق أصلًا، وقاطعتها نهائي.

لم تعرف بماذا تخبره، فاكتفت بتوصيته:

-خد بالك من مراتك يا سي "عوض"، الدنيا جت عليها جامد، وهي مالهاش حد غيرك، ولو خسرتها آ...

قبل أن تتم عبارتها قاطعها:

-إن شاء الله هعوضها خير.

كلماته كانت صادقة، ودموعه أيضًا، فإن كان مذنبًا لما تكبد العناء لأجل التأكد من تعافي زوجته؟ هزت رأسها في تفهم، وتضرعت لله أن يتجاوز كلاهما هذه الأزمة الطاحنة بخير، وكذلك ينجو الجنين الذي لا ذنب له من الضرر، وإلا لاتخذت الأمور بينهما منعطفًا شديد التعقيد، سيصبح فيه الاثنان خاسرين.

..........................................

ما إن وصلت المربية التي استأجرها "مهاب" للمكوث مع ابنهما، حتى خرجت "تهاني" من البيت قاصدة الذهاب إلى زوجها، كانت مخاوفها تقتلها، ترعبها، حياتها تكاد تكون على المحك، فانهيار زواجها لن يكون سهلًا عليها بالمرة لتتخطاه، خاصة أنها عاشقة حتى النخاع في حبه. وصلت إلى غرفة مكتبه، وجدته يراجع بعض الملفات، ويضعها في حقيبته الجلدية. التقطت أنفاسها، واستطردت في صوت ما زال لاهثًا:

-فكرت إنك سبتني.

تفاجأ من حضورها، وتحولت تعابيره للاستنكار هاتفًا:

-"تهاني"، احنا اتفقنا على إيه؟

تقدمت بخطوات سريعة نحو مكتبه، تعلقت بكفيها في ذراعيه، وتوسلته بعينين باكيتين:

-"ممدوح"، اسمعني شوية يا حبيبي...

نظر إليها مليًا، فأكملت بصوتها الناهج:

-أنا مقدرش أستغنى عنك، أنا بحبك، ليه مش حاسس بيا؟

صمت ولم يعقب، فاستطردت في قلبٍ ملتاع:

-اللي بيحصلنا ده بسبب "مهاب"، هو عاوز يخرب علينا حياتنا.

سكوته المريب أفزعها أكثر، فسألته والحزن يفيض من عينيها:

-مش إنت بتحبني؟

هزته لتستحثه على الرد:

-قول إنك بتحبني؟

أجاب بعد زفرة بطيئة وهو يستل قبضتيها من عليه:

-أيوه...

حينها فقط تسللت إليها قدرًا من الراحة، ومع ذلك ناوشها ذلك الخوف المهلك عندما أخبرها بهدوءٍ:

-بس زي ما قولتلك سابق، احنا محتاجين ناخد أجازة من بعض لحد ما نشوف أمورنا هتوصل لإيه.

سألته في لوعةٍ:

-وأهون عليك تبعد عني؟

خفض من يديه ليمسك بكفيها، ضغط عليهما قليلًا، وقال:

-"تهاني"، من فضلك.

انسالت عبراتها بغزارة، فقد أنبأها حدسها أنه لا يزال مُصرًا على هجرها، وهذا ما ينهش في روحها، وجدته يجمع كفيها معًا، ليرفع يده الطليقة ويمسح بها دمعها الساخن، أغمضت عينيها في اشتياق وهي تستشعر ملمس أطراف أنامله على بشرتها الملتهبة، صوته الدافئ تسرب إلى أذنيها وهو يكلمها بهمسٍ:

-أنا مش أد دموعك دي.

أعادت فتح جفنيها، ونظرت إليه بعتابٍ قبل أن تسأله:

-طب ليه عاوز تحرمني منك؟

صمت كأنه يبحث عن الكلمات المناسبة لإقناعها بضرورة فراقهما، حينما لم تسعفه العبارات، قال ببساطةٍ:

-بصي أنا مضطر أسافر تدريب كام يوم، اعتبري دي فترة الأجازة بينا، وبعدها هنرجع لبعض.

وكأن هناك بصيص من الأمل لاح في الأفق، لذا سألته في تلهفٍ:

-وعد؟

برزت على شفتيه هذه الابتسامة الماكرة وهو يخبرها:

-أكيد، طبعًا.

ارتمت في أحضانه هاتفة بمشاعر متحرقة:

-بحبك أوي.

ضمها إليه، ووجهه يعكس تبرمًا واضحًا لم تره من زاويتها، حاول إخفائه وراء قناع البرود الهادئ، وذلك الصوت المتذمر يصيح في عقله:

-إيه الشبكة السودة دي؟!

......................................

منذ ذلك اليوم المشؤوم وقلبها لم يعد يرق إليه، كانت تخشاه حد الموت، فهجرته في الفراش، ونامت بالغرفة الأخرى. زارتها الكوابيس ليلًا، والهواجس نهارًا، مما دفع "عوض" للبُعد عنها قسرًا حتى تلتئم جراح نفسها وتصفى من ناحيته، فتنهي خصامهما المستمر. مجددًا جاءت إليها جارتها لتجلس بصحبتها وتسليها، سألتها في شيء من الفضول:

-برضوه لسه زي ما إنتو؟

عقدت طرفي منديل رأسها معًا بعدما ارتدته، وردت وهي لا تزال ممددة على سريرها:

-لولا العيبة وكلام الناس كنت اتطلقت منه.

انصدمت لهنيهة، ثم زوت ما بين حاجبيها معلقة عليها في تحيزٍ واضح لجانبه:

-بس ده حلف إنه مكانش يعرف، وكان هياكل معاكي من نفس الطبق.

ظلت على اعتقادها اللائم قائلة:

-هو السبب بردك!

لم تطل في الحديث عن ذلك الموضوع لحساسيته، وزمت شفتيها هاتفة في أسفٍ:

-مش عارفة أقولك إيه غير ربنا يهدي الحال ما بينكم.

نغزة خافتة ضربت في جانب "فردوس"، فتأوهت من الألم بصوت خفيض، وراحت تدلك موضع الوجع، حتى يسكن، لحظتها تساءلت "إجلال" باهتمامٍ:

-واللي في بطنك؟ الدكتورة قالتلك حاجة عنه!

تنهيدة طويلة تحررت من رئتيها، أعقبها قولها التعس:

-الله أعلم بحالته إيه، بس مش مستبشرة خير.

على عكسها بدت جارتها متفائلة، فأخذت تخبرها بصوتٍ متأمل للأفضل:

-سبيها على الله، إن شاء الله ربنا مش هيضرك فيه، وهيتولد ويبقى زي الفل.

ما أسهل التمني عن تقبل الواقع المرير! استسلمت "فردوس" لهزيمتها باكرًا، وتحديدًا منذ اللحظة التي حُرمت فيها من حق الاختيار، وأجبرت على التأقلم مع ظروفها المفروضة عليها.

.........................................

من المفترض أن تكون عطلته معها مختلفة ومتميزة، حيث وعدته أن تعوضه فيها عن غيابها وتقصيرها في حقه؛ لكنها انزوت بنفسها في غرفتها، تبكي فراق زوجها، وتاركة إياه وحيدًا ومهملًا. راقبها "أوس" من فرجة الباب وهي منكفأة على وجهها الذابل، تضم ركبتيها إلى صدرها، بنظرات سوداوية حادة، كان ناقمًا عليها، وراح يحمل في قلبه الضغينة تجاهها، فكيف لها ألا تحبذ وجوده وهي من كانت تحارب لأجله؟ هل افترت محبتها الأمومية ببساطة لأجل ذلك المقيت المزعج؟ حقًا وضعه في مقارنة معه كان يعذبه، يحـــرقه من الداخل!

لمحته "تهاني" أثناء وقوفه بالخارج، كفكفت دمعها، وسحبت شهيقًا عنيفًا لتخمد به بكائها المتواصل، ثم وضعت على شفتيها ابتسامة مهزوزة، وأشارت له بيدها ليدخل وهي تناديه:

-"أوس"، تعالى يا حبيبي.

استجاب لها، وولج إلى غرفتها ليناظرها عن قربٍ، كانت كئيبة، شاحبة، باهتة الملامح، متورمة العينين، ومنتفخة الأنف، نسخة ذليلة لامرأة مكللة بالأحزان. شعر بالتعاطف نحوها، وتساءل وهو يجلس على طرف الفراش ليجاورها:

-إنتي شكلك بقى عامل كده ليه؟

أجابته وهي تجاهد للحفاظ على ثبات ابتسامتها المُلفقة:

-زعلانة شوية يا حبيبي.

سألها بقلبٍ وجل:

-مني؟

هزت رأسها نافية وهي تعترف له بما ألمه:

-لأ، بس عشان عمو "ممدوح" مسافر.

بدا متحفزًا ضده، استطال وجهه، وانقلبت سحنته للغاية، وقال:

-ما أنا معاكي.

رفعت يدها لتمسح على شعره وهي تخبره:

-أنا عارفة، بس وجوده جمبي كان محلي حياتي..

ما زالت تعابيره متعكرة، غير رائقة، يشوبها الضيق، رغم أنها أكملت عبارتها بما ظنت أنه سيسره:

-زيك بالظبط.

رمقها بنظرة مؤنبة قبل أن ينهض فجأة من جوارها، استغربت لابتعاده عنها بهذا الشكل المريب، وسألته في صوتٍ مال للغضب:

-إنت رايح فين؟

لم ينطق بشيء، وأظهر جفاءً غريبًا ناحيتها، فما كان منها إلا أن صرخت في حمئة:

-"أوس"، تعالى هنا، ماتدوخنيش معاك!

غادر غرفتها فاستفزها رحيله غير المبرر، وصرخت به وقد استحوذت عليها نوبة غضبها الهوجاء:

-إنت زي أبوك، دايمًا تحبوا تعذبوا وتذلوا اللي حواليكم!

مضى في طريقه متجهًا إلى غرفته، وصوت صراخها الحاد لا يزال يرن في أرجاء المنزل، لم يعرف حقًا على من كانت تصب جام غضبها، عليه أم على أبيه؟ لكنها صدقت في وصفها بأنه يشبه أبيه في هدوئه القـــاتل، وتسلحه بالصمت عندما لا يعجبه ما يُقال من حوله.

.............................................

تعلقت، وتشبثت، وتمسكت بذلك الأمل، أن يكون القدر رحيمًا بها، ويعطيها هدية غالية، تضمن بها وصل ما انقطع، خاصة مع طول الغياب، واستمرار البعد والفراق. للمرة الثانية أجرت "تهاني" اختبارات الحمل لتتأكد من صحة النتائج، ابتهجت وسَرَّ قلبها مع الأنباء المفرحة. ضمت أوراق تحاليلها إلى صدرها وهي تكاد لا تصدق أنها تحمل في أحشائها بذرة حبها المتيم به. أدمعت عيناها من فرط السعادة، وهتفت مع نفسها:

-يا ريتك كنت هنا يا "ممدوح"، أكيد كنت هتفرح زيي.

غمرها الشوق، وراحت تتنهد قائلة:

-إنت وحشتني أوي.

سرعان ما استبد بها الخوف، فتكلمت بذعرٍ مفهوم:

-بس لو "مهاب" عرف!!

هربت الدماء من بشرتها، وتقطع صوتها وهي تكمل حديث نفسها الجاد:

-ده آ.. ده ممكن يأذيني.

غاصت في تفكيرٍ عميق لبضعة لحظاتٍ قبل أن تقول في حسمٍ:

-أحسن حاجة أعملها إني أخبي الموضوع ده لحد ما "ممدوح" يرجع.

ما لبث أن امتلأ وجهها بأمارات الضيق وهي تتساءل في ترددٍ:

-طب و"أوس"؟

اتخذت قرارها الحاسم بشأنه أيضًا:

-مافيش داعي يعرف هو كمان!

خفضت "تهاني" من يدها على بطنها تتحسسه في رفقٍ ممزوج بالمحبة، لتقول بعدها في نشوة بائنة في عينيها:

-إنت هتفضل سري الغالي مؤقتًا.

..................................................

وخزات الألم والنغزات التي تفشت في محيط ظهرها كانت في البداية متفاوتة، متباعدة؛ لكنها صارت تداهمها في أوقات متقاربة. قاومت الصراخ، وكافحت لتصمد، وحاولت الاسترخاء على الفراش، ومع ذلك فشلت، حيث غلبها إحساسها بالوجع الشديد، فنهضت من مكانها، ودارت حول نفسها في غرفتها، إلى أن انهارت قدرتها على التحمل، انفلتت منها صرخة مفزعة جعلته يأتي إليها على عجلٍ. أضاء "عوض" مصباح الغرفة لينظر إلى زوجته التي وقفت في المنتصف، تنحني للأمام، ويدها موضوعة على بطنها المتكور، وكأنها تخشى سقوطه، سألها في جزعٍ:

-في إيه يا "فردوس"؟

نظرت إلى الماء المتدفق من بين ساقيها ليشكل بركة متزايدة بعينين متسعتين في رعبٍ، استوعبت ما يجري معها، وصرخت بعدها في فزعٍ متزايد:

-الظاهر بولد، إلحقني.

ركض نحوها حتى بلغها، ثم تساءل مدهوشًا، وكأنه لا يصدق مثلها حدوث الأمر:

-دلوقتي؟ ده لسه بدري على ميعادك!

صاحت به في عصبيةٍ وهي تشد بأصابعه المتشنجة على بطنها:

-بقولك بولد، ده القرن طش، إنت مش شايف ولا إيه؟

سيطرت عليه حيرة واضحة، وسألها في تخبطٍ:

-طب أعمل إيه؟

لكزته في كتفه، قبل أن تهدر به:

-وديني المستوصف أوام، وفوت على "إجلال" خليها تحصلنا.

هز رأسه هاتفًا في طاعة:

-ماشي.

................................................

أبلغوه في المشفى المتواضع بعدما تم إدخالها لغرفة العمليات أن ولادتها مبكرة ومتعسرة، وإذ ربما لا ينجو الجنين الذي نما في أحشائها، خاصة مع فقدانها لكميات كبيرة من الماء، وقع الصدمة كان قاسيًا عليه، ومفطرًا لقلبه، لحظتها أحس بانسحاب روحه من جسده، وبكى بكاءً حــارقًا، فكم رجا الله أن يحظى برضيع يعيد الوصال مع زوجته، بل يرأب الصدع الذي أقيم بينهما. حضر الشيخ "عبد الستار" لمؤازرته، فسحبه بتؤدةٍ ليجلس على مقاعد الانتظار بالاستقبال، ثم خاطبه في لهجة لينة مترفقة:

-إنت مش مؤمن يا "عوض" بقضاء الله وقدره؟

أومأ برأسه قائلًا، والحزن الجسيم يخيم عليه:

-أيوه يا شيخنا، وراضي بالنصيب، ودايمًا حامده وشاكره.

ابتسم محدثه في وداعةٍ وهو يتابع بيقين عظيم:

-ربنا سبحانه وتعالى بيقول أنا عند ظن عبدي بي، فأحسن الظن بالله.

أحنى رأسه على صدره متمتمًا:

-ونعم بالله.

مد الشيخ "عبد الستار" يده نحو كفه المسنود على فخذه، ربت عليه برفقٍ، وأمره في هدوءٍ:

-ادعي ربنا يقومهالك بالسلامة، وخليك عارف إن ربنا رؤوف رحيم.

وكأن بكلماته البسيطة أعطاه الحل الناجز، فطبب بجراحه الغائرة، ليرفع بصره بعدها للسماء، ولسانه يتضرع في صوت مهموس:

-يا رب نجيها هي واللي في بطنها، يا رب سمعني كل خير عنهم!

............................................

جاءته البُشرى كنسمة عليلة، هبت في نهار شديد الحرارة، لتمحو قساوة أشعة الشمس الحارقة. أخمد الخوف البازغ في نفسه، وازداد يقينًا في قدرة المولى عزوجل ومقدرته على فعل كل شيء وقتما شاء وأراد. استُجيب دعائه، وأبلغته الممرضة بنجاة زوجته، وإنجابها لطفلة صحيحة البدن، لا تشكو علة أو مرض، في سابقة غريبة تشبه المعجزة في حد ذاتها. من فرط سعادته احتضن "عوض" الشيخ الجليل بحماسٍ متقد، وهلل مبتهجًا:

-الله أكبر، الحمدلله يا رب.

ربت الأخير على ظهره بضعة مرات، وخاطبه:

-ربنا عطائه غير محدود.

تراجع عنه ليرفع كفيه للأعلى هاتفًا في حبورٍ عظيم:

-اللهم لك الحمد والشكر.

أوصـاه الشيخ بصوته الهادئ الوقور:

-روح اطمن على مراتك، وخد بنتك في حضنك.

أذعن له في الحال:

-هيحصل يا شيخنا.

قبل أن يهم بالمغادرة شدد ليه في نفس النبرة اللينة:

-وماتنساش تتقي الله في عطيته ليك، وتحافظ عليها، دي أمانة استودعها عندك.

قال بوجه مبتسم، وعينان تضحكان:

-حاضر يا شيخ "عبد الستار"، كلامك كله على راسي.

دعا له الشيخ بصدقٍ ومحبة:

-ربنا يراضيك يا "عوض"، ويعوضك خير في ذريتك.

-يا رب أمين.

قال جملته هذه وهو يهرول ركضًا ليتبع الممرضة التي سبقته نحو الردهة، لم تخبت ابتسامته الراضية، وظل لسانه يلهج بالشكر الكبير:

-الحمدلله يا رب، الحمدلله على كرمك معايا.

........................................................

جلجلت ضحكته بعدما حمل بين ذراعيه قطعة من الجنة، رائحتها كالمسك، وجمالها يشبه الملائكة. اندهشت "فردوس" من الفرحة العارمة التي أصبح عليها زوجها، فقد توقعت بتفكيرها المحدود أن يحزن لإنجابها أنثى لا مثلما يرغب غالبية الرجال في أن يكون مولودهم الأول ذكرًا. لن تنكر أن ضيقها منه ما زال نابضًا، لكن سعادته الكبيرة غطت مؤقتًا على كل ما تضمره تجاهه. تقلبت على جانبها، لتتطلع إليه وهو يجاور فراشها متسائلة بصوتٍ شبه واهن، معلنة بشكلٍ غير مباشر عن عدم رغبتها في مشاركته ذلك الأمر المصيري:

-هتسميها إيه؟

ظهر التردد على محياه، وقال وهو يهدهد مولودته الحديثة بترفقٍ حذر:

-مش عارف، أنا لسه مش مصدق إني شايل الملاك ده بين إيديا.

وكأنها عجزت عن كتم حنقها أمام سروره المستفز، فسألته في غير احترازٍ:

-ما تقول لأمك عشان تيجي تكتم نفسها وتموتها، وأهو بدل ما نطلعلها شهادة ميلاد، نخليها وفاة مرة واحدة.

اختفت البسمة من على قسماته، وانقشعت السعادة من عينيه، ليسود العبوس في كامل وجهه، نظر ناحيتها وسألها في عتابٍ جلي:

-ليه الكلام ده يا "فردوس"؟

أتى ردها محمومًا بغضبها المكبوت:

-ما هي كانت عايزة تخلص عليا وعليها ...

تقلب على شوك كلامها القاسي، وجُرحت مشاعره وهي لا تزال تضيف:

-ومش بعيد عملت ده بموافقتك!

حاول امتصاص حنقها بترديده:

-بلاش سوء الظن، أنا أقسمتلك مليون مرة إني مكونتش أعرف.

من جديد تعبأ الجو بالتوتر عندما باحت "فردوس" بما يستعر في نفسها المكدومة:

-اللي بينا انكسر من زمان، من يوم ما غدرتوا بيا، والعَيلة اللي جت دي عمرها ما هتصلحه، ده لو إنت مفكر كده.

لو كان يقدر "عوض" على إعادة الزمن للوراء، لما تردد للحظة، ولسعى لمحو هذه اللحظات المدمرة لحياته، يا ليته لم يقم بزيارة أمه! أو يقبل بهديتها! قاوم عبرات متأثرة تلألأت في حدقتيه ليخاطبها في ودية:

-ربنا واحده قادر يغير اللي في القلوب وينسينا اللي حصل.

أصرت على جفائه بقولها القاسي:

-لو إنت نسيت، فأنا استحالة أنسى.

استعطف مشاعرها الأمومية البازغة باستجدائها:

-طب خلينا نفكر في بنتنا دلوقتي.

لاذت بالصمت، فاقترب منها مسافة خطوة واحدة، وسألها مجددًا، كأنما يحاول تذكيرها بهبة الله إليهما:

-يا ترى حابة اسمها يكون إيه؟

بحرصٍ شديد دفعت جسدها لتتقلب على الجانب الآخر، ثم أخبرته في غير مبالاة:

-مش فارقة، سميها زي ما إنت عايز.

استاء من معاملتها الجافية معه، ونظر إلى رضيعته بحزنٍ عاجز، فإرضاء أمها كان عسيرًا ومحيرًا. تململها الرقيق بين ذراعيه جعله يتناسى في غمضة عين همومه الثقيلة، تجول بها بعيدًا عن فراش والدتها الحانقة ليخاطبها في همسٍ متشوق:

-أيوه، لاقيتها ...

التمعت عيناه بهذا البريق الحماسي وقد طاف بخلده اسمًا متفردًا، ظن أنه لائق بها، وتستحقه. رفع رضيعته للأعلى قليلًا، ثم انحنى بفمه المبتسم على جبينها، ليطبع قبلة صغيرة عليه، قبل أن يهمس عند أذنها في صوت عذب أشبه بالسحر:

-أنا هسميكي "تُقى" ........................................ !!

.....................................................

Continue Reading

You'll Also Like

1.3M 23.4K 62
نتحدث هنا يا سادة عن ملحمة أمبراطورية المغازي تلك العائلة العريقة" الذي يدير اعمالها الحفيد الأكبر «جبران المغازي» المعروف بقساوة القلب وصلابة العقل...
224K 14.3K 16
#عاطفية #رومانسبة #الماجن
1.9K 177 22
تطلعت حولها في ذلك المكان المظلم ، وكان أول شيء وقعت عيناها عليه هو باب يشبه باب غرفتها تمامًا ، فركضت فورًا نحوه ودخلت ، وإذا بها تتصلب بأرضها كالأل...
77.8K 974 14
هي فتاة سمينة من الجامعة خانها حبيبها و بدأ يتنمر عليها بعد ان استغل كل اموالها و لكن بعد الوقت تتغير الى الى حسناء يتمنى جميع الطلاب مواعدتها فيا ت...