التمهيد

18.6K 697 103
                                    


"في اللحظة دي بالذات، عرفت إني اتغيرت، مابقتش أنا!"

نطق بهذه العبارة في رأسه، دون صوتٍ، وهو منتصب القامة، مشدود الكتفين، لحظات حرجة مرت عليه كأنها أدهر، ومع ذلك لم يفقد تركيزه، راح يحدج والده بنظراته القوية الثابتة، تلك التي تبعث الرهبة على من يتجرأ لينظر إليه، استمر صوت رأسه في الكلام مؤكدًا ما أصبح عليه:

-"أوس" بتاع زمــان اتغير.

كان إصبعه لا يزال موضوعًا على الزنــــاد، حيث صوب فوهة سلاحه نحو وجه "مهاب" المشدوه، كان الأخير يُطالعه بنظراتٍ جمعت ما بين التحدي والتوجس، علم في قرارة نفسه أنه لن يجرؤ على المساس به؛ لكنه في نفس الآن يخشى أن يخرج عن طور عقلانيته، خاصة بعد أن اقتحمت هذه الحقيرة حياته، وشقلبتها رأسًا على عقب، فلم يعد كما اعتاد منه، قاسيًا، باردًا، لا يبالي بكائنٍ من كان، حتى أفعاله مؤخرًا بات من العسير عليه التنبؤ بتبعاتها، ومع ذلك لم يرتدع، قرر استثارة أعصابه، الضغط عليه حتى الرمق الأخير، ليخرجه عن شعوره، ويثبت له أنه كما هو، لم يصبح غريب الأحوال أو التصرفات.

اكتست تقاسيم وجه "مهاب" بعلامات الهدوء، كان مسترخيًا رغم ما اعتراه من قلقٍ، وأده في مكمنه، وقال باستخفافٍ، وهو يرمقه بهذه النظرة الهازئة:

-إنت جبان، ضعيف، زي ما إنت، ما تغيرتش، وعمرك ما آ...

لم يستطع الوصــول بجملته لنهايتها، حيث انطلقت طلقة نــارية غادرة، قاصدة إصابته في مقتلٍ، فشهق في صرخةٍ فزعة، قبل أن يتجمد في مكانه لحظيًا من هول المفاجأة، وهو شاخص ببصره. لقد ضغط ابنه على الزنــاد حقًا، لم يكن بمازحٍ، فعلها، ونفذ تهديده بلا ترددٍ. تدلى فكه للأسفل، وتوقف لهنيهة عن التنفس مستشعرًا انقطاع نبضات قلبه، سرعان ما أفاق من جموده ليتحسس صدره وأطرافه، راح يتفقد بقع نزيف الدماء إن ظهرت في أي موضعٍ من جسده، للغرابة، لم يجد أي شيء، لا شيء على الإطلاق! هو كما هو، بلا جرحٍ أو قطع. أدرك حينئذ أن ابنه أخطأ التصويب، فعاود التحديق في وجهه المتجهم ونظراته تشتعل غضبًا ناحيته.

كان ذراع "أوس" قد انحرف للجانب لبضعة سنتيمترات، فلم يصبه، واستقرت الطلقة النـــارية في اللوحة الفوتغرافية لأبيه والمعلقة على الجدار، تحديدًا في النقطة ما بين حاجبيه. ذُهل "مهاب" من دقة تصويبه، لم يكن ليخطئه أبدًا إن قصده، بُهتت ملامحه، ووجل قلبه بشدة، حاول إخفاء هلعه الظاهر على محياه، وهمَّ بالصياح عليه وتعنيفه بحنقٍ مبرر؛ لكن الأول بادر بقوله الجــاف، الخالي من مشاعر التعاطف، ودون أن تهتز عضلة واحدة من وجهه:

-إنت غلطان يا د. "مهاب"، أنا اتغيرت، ولو كنت زي ما أنا، كنت هتبقى ميت دلوقتي.

تلجلج رغم جهده الجهيد للظهور بالثبات أمامه:

-إنت.. إنت بتقول إيه؟

أخبره بهدوءٍ شديد؛ لكنه عكس شراسة غير طبيعية:

-كنت هقتلك، من غير ما أندم للحظة...

رمق "أوس" أبيه بنظرة عبرت عن مقتًا عظيمًا ناحيته، وكأن كل شرور الدنيا قد اجتمعت وتجسدت في هذا الماثل أمامه. أخفض من سلاحه، وأرخى ذراعه إلى جانبه قبل أن يكمل بنبرة خشنة، تخللها هدير انفعاله المكبوت:

-بس عشان خاطر مراتي وابني، أنا اتبدلت، بقيت حد تاني.

ظل يرمقه بنظراته الاحتقارية، قبل أن يستعد للاستدارة والمغادرة وهو يخاطبه قائلاً:

-من اللحظة دي أنا بقيت بــرا حياتك، مافيش رجوع.

حاول "مهاب" إيقافه فنـــداه بصوتٍ جهوري:

-"أوس"، استنى عندك.

أولاه ظهره، ولم ينظر تجاهه أبدًا، انتصب بهامته في شموخ وهيبة تليقان به دونًا عن غيره ليعلق ناهيًا جدالهما الناري الحازم، والذي احتوى على صنوف العداء والكراهية:

-إنت نهايتك اتكتبت يا دكتور، بس المرادي مش بإيدي، بإيدك إنت!

انسحب مغادرًا المكان، ومن خلفه والده يهلل بغضبٍ جم، ليطير بعدئذ عقله ويسبح في فضاءات ما طوته الذاكرة قبل سنوات .. حيث بدأت رحلة الآثـــــام ليس له فحسب، بل للجميع!


يتبع الفصل الأول بعد لحظات >>>>>>

رحلة الآثام - الجزء السابع - سلسلة الذئاب -كاملةWhere stories live. Discover now