الفصل الرابع والأربعون ( الجزء الاول )

2.7K 161 46
                                    

بعد مرور يومين
كان يقف في منتصف حديقة فيلا عائلته يتحدث مع موظفة الفندق يؤكد لها حجزه لذلك الجناح وما طلب إعداده به ...
أنهى مكالمته وهم بالعودة الى الداخل عندما وجد شقيقته تتقدم نحوه وهي تهتف :-
" حياة إتصلت بي منذ لحظات ..."
عقد حاجبيه متسائلا :-
" حقا ..؟؟ لماذا ..؟!"
أضاف وقد تذكر أمرا هاما :-
" لم تخبريها إني هنا ، أليس كذلك ..؟!"
رفعت حاجبها وهي تقول :-
" لم أفعل لإنها سبقتني وأخبرتني إنك خرجت مبكرا في عمل هام ولن تعود حتى المساء ..."
أضافت تتسائل بجدية :-
" ولكنني أريد أن أعرف لماذا تكذب عليها يا نديم ..؟!"
أنهت سؤالها وعقدت ذراعيها أمام صدرها ونظراتها كانت جادة تماما ليبتسم نديم مرغما وهو يردد :-
" ما بالك يا غالية ..؟! مالذي تعتقدينه ..؟! "
ردت ببرود :-
" مالذي يجعلك تكذب وتخفي مجيئك الى هنا ..؟!"
رد وهو يتنهد بصدق :-
" من قال إني أكذب ... ؟! انا بالفعل لدي أعمال ولكني سأنجر معظمها من هنا .."
أضاف بجدية :-
" أنا أعد مفاجئة ليلا لحياة .. لا أريدها أن تعلم .. وأنا سأجري عدة إتصالات طوال اليوم وسأحتاج للخروج أكثر من مرة للتأكد مما أريد إعداده لذا أتيت هنا كي لا تنتبه أو تسمعني صدفة .."
ضحكت بسعادة تردد :-
" مفاجأة ...؟! حقا يا نديم ..؟!"
ضحك بدوره وهو يقول :-
" نعم مفاجئة يا غالية ..؟! ما بالك مصدومة هكذا ...؟؟"
إتجهت جانبه تحيط ذراعه بذراعها تسير جانبه وهي تسأله بحماس :-
" أخبرني ماذا ستفعل ..؟!"
هتف بخفة :-
" هذه أشياء خاصة يا فتاة ..."
قالت تنصحه :-
" يمكنني تقديم النصيحة .. يعني سأقترح عليك طرق رومانسية و .."
قاطعها :-
" شكرا على خدماتك التي لا أحتاجها يا عزيزتي ... أنا أعرف ما يجب أن أفعله ... كما أنتي سأفعل الأشياء التي تحبها حياة ..."
إبتسمت مجددا ثم جذبته نحو احد الكراسي الموضوعة في منتصف الحديقة ليجلس عليها وتجلس هي على الكرسي قبالته لتسأله مجددا بفضول ذو مغزى :-
" ولكن أخبرني .. ما المناسبة ..؟! هل اليوم عيدميلادها ...؟!"
رد وهو يهز كتفيه :-
" لا توجد مناسبة ... هل يحتاج الرجل الى مناسبة ليفاجئ زوجته بليلة مميزة ..؟!"
" بالطبع لا .."
أضافت عن قصد :-
" ولكن المفاجئات من هذا النوع تخص العشاق غالبا و ..."
قاطعها بجبين متغضن :-
" انا لا أفهم لماذا كل شيء لديكن أنتن النساء مرتبط بالحب ..."
ردت ببديهية :-
" ربما لإننا نستحق الحب ..."
زفر أنفاسه بضيق فقالت بجدية :-
" نديم، انت حقا لا تحب حياة ..."
صمت ولم يرد لتسأله بنفاذ صبر :-
" تحدث يا نديم ... ألم تتحرك مشاعرك نحوها طوال الفترة السابقة ولو قليلا حتى ..؟!
نظر لها وقال بملامح متصلبة :-
" أخبرتك سابقا وسأخبرك مجددا علاقتي بحياة مختلفة .. علاقة أساسها أهم من الحب .. "
قاطعتها بقوة :-
" الى متى ...؟! الى متى ستبقى هذه العلاقة قوية دون حب ..؟! ربما الحب ليس أساسا ولكنه أحد العوامل التي تمنح الإستمرارية لأي علاقة زوجية ... الحب هو الذي يجعل العلاقة تستمر رغم أي تخبط يحدث او مشاكل .. مهما حاولت إنكار ذلك لن تفلح .."
هتف بنفاذ صبر :-
" انا لا أفهم مالذي تريدينه بالضبط ...؟! إلام تريدين الوصول من حديثك هذا ..؟!"
ردت بثبات وهي التي تحاول إنقاذه من تلك الحيرة التي يتخبط بها ، تحاول إفاقته من غيبوبته :-
" أريدك أن تفهم مشاعرك وتحددها .. وأريدك أن تتذكر إن حياة مهما تجاهلت وإستمرت معك ستأتي يوم وتحتاج الى الحب .. ستحتاج أن تسمع كلمة الحب منك وتراها بعينيك ... الآن هي تتجاهل وربما ستتجاهل الى عامين او ثلاثة ولكن في النهاية سيأتي يوم وتنفجر وينتهي صبرها وتغادر حياتك وحينها فقط ستدرك حجم غبائك وستندم على خسارتك ..."
هتف بعصبية :-
" ماذا تريدين يا غالية ..؟! تريدين أن أعترف بحبها بالإجبار ..."
هتفت غالية بسخرية :-
" وهل تعتقد إن هذا سيرضيها أو إن هذا ما أريده ..؟!"
أكملت تسأله سؤالا آخرا متعمدا :-
" هل ما يحدث بسبب ليلى ..؟! هل ما زلت تحبها ..؟!"
نظر لها مصعوقا للحظات وبدا السؤال غريبا وغير واضحا ...
تأملت الضياع في عينيه .. الحيرة ... والتردد ...
وفي لحظة ما رأته أمامها .. والدها .. بسنوات عمره الضائعة بسبب عشق مفقود .. بمشاعره المحطمة .. بإمرأتين كانتا ضحية مشاعره تلك ... كانتا ضحية ضعفه وإن كانت الثانية إختارت التضحية بكامل إرادتها ..
فجأة بدأت ترى اشياء ربما لا وجود لها ..
ربما مجرد وساوس شيطانية لا أكثر ..
رأت نديم مكان والدها ورأت ليلى مكان ديانا وحياة .. رأت حياة مكان والدتها ...
إنتفض قلبها برعب ..
الثلاثة لا يستحقون مصيرا مشابها ...
نديم لا يستحق أن يضيع بسبب تخبط مشاعره وليلى لا تستحق أن تموت في محراب عشقه الضائع وحياة بالطبع لا تستحق أن تكون ضحية عشق مفقود ...
" انظر الي .. لن اسمح لك بتدمير نفسك ومن حولك ..."
" ماذا تريدين يا غالية ..؟!"
سألها بعينين مندهشتين من ملامحها التي بدأت تشتد تماما ونبرتها الحازمة لترد بقوة :-
" لم يعد هناك مجال للتغاضي أكثر .. جاء الوقت الذي عليك أن تختار فيه يا نديم .. تختار بقلبك لا بعقلك ... بقلبك فقط يا نديم .."
تسائل بعدم إستيعاب لهذا التحول الغريب والكلام الغير مفهوم :
" ماذا تقولين انت ..؟!"
ردت بجدية :-
" أقول المنطق .. عليك الإختيار يا نديم .. عليك أن تسأل قلبك وتستمع لجوابه .. عليك أن تتجاهل الماضي وتعقيداته والحاضر وما حدث وما ينتظرك وتسمع فقط صوت قلبك .."
اخدت نفسا عميقا وقالت :
" لتختر واحدة فقط .. إما حياة أو ليلى ..؟!"
نظر لها بتأهب وهو لم يستوعب كيف وصل مجرى الحديث الى هذه النقطة لتضيف بملامح سيطر عليها الجمود :
" لن أسمح لك بتدمير نفسك وتدميرهما ابدا .. لا حياة ولا ليلى تستحقان منك هذا .. ذنبهما الوحيد إنهما أحبتاك دون مقابل ... أرحهما يا نديم وأرح نفسك ايضا .."
نظرت الى جمود ملامحه لتقبض على ذراعه حيث تقربه نحوها مرددة:-
" لماذا لا تتحدث ..؟! أخبرني .. هل قلت شيئا خاطئا .."
صاح وهو يتملص منها :-
" يكفي يا غالية ..انا تعبت حقا .."
صاحت بصوت أكثر علوا :-
" انت من يكفي يا نديم .. انت من يكفي يا أخي .."
همست بعينين تشكلت العبرات داخلهما :-
" انا لن أسمح لك أن تكون نسخة ثانية منه .. لن أسمح لك بتدمير حياتك وحياة من حولك بسبب ضعفك وعدم قدراتك على إتخاذ قرار حازم .. انت لن تصبح مثله ولن تعيش حياته ... انت لن تكون حسين الخولي يا نديم .. أبي مات بعدما تعذب طوال عمره وعذب ماما وديانا وانا لن أسمح لك أن تكرر مأساته ..!!"
ثم أخذت تهزه وهي تردد :-
" انت لن تكون مثله ... لن تكون مثله .."
أوقفها وهو يصرخ بها بحزم :-
" غالية .."
تراجعت الى الخلف تتأمله بعدم تصديق تحاول إستيعاب الطريقة التي تحدثت بها والدموع التي ملأت عينيها ولأول مرة تتعرى الحقيقة أمامها ..
حقيقة إنها لم تتجاوز صدمة ما عرفته عن حقيقة قصة والدها مع والدتها وزوجته الأولى ..!!
" هل جننت يا غالية ..؟! مالذي تهذين به ...؟! وما به والدي لترفضي بهذه الطريقة ان أكون مكانه ..؟!"
أخذت نفسا عميقا وقالت :-
" أنا أعتذر يا نديم .. لقد إنفعلت قليلا .."
" هذا واضح .."
قالها بإقتضاب قبل أن يضيف متسائلا :-
" ولكن أريد أن أفهم .. ماذا كنت تقصدين بكلامك بخصوص والدي ...؟!"
" لا شيء ..."
قالتها تحاول الهرب بعينيها ليقبض على كتفيها ينظر لها بحزم يأمرها بصلابة :-
" بل هناك الكثير خلف حديثك يا غالية ... أخبريني ..."
أغمضت عينيها وهي تدرك إنه لا مفر لها من كشف جزء من الحقيقة عندما قالت بتردد :-
" بابا لم يكن يحب أمنا..."
نظر لها مدهوشا للحظات فأضافت :-
" عاش ومات وهو يحب ديانا .. اما تلك العلاقة الودية التي كانت ظاهرة بينهما فهي مجرد تمثيلية للحفاظ على شكل علاقتهما أمامنا .. بابا لم يحب سوى ديانا وهو تزوج ماما مرغما بسبب اجبار والدته .. ونتاج هذا الزواج إنه عاش طوال عمره يتعذب بحبه لديانا وماما عاشت طوال عمرها مع رجل تدرك جيدا إن قلبه ملك لأخرى وديانا أيضا تعذبت هي الأخرى ..."
همست بصوت محتقن :-
" لا أعرف ماذا حدث قبل قليل .. لكنني تخيلتك مكانه لا سامح الله وتخيلت ليلى مكان ديانا وحياة .."
قاطعها بجمود وصدمة ما سمعه ما زالت تسيطر عليه :-
" مكان والدتي .. أليس كذلك ..؟!"
هزت رأسها وهي تكتم دموعها ليرد بهدوء مصطنع محاول تجاهل صدمة ما عرفه مؤقتا على الأقل :-
" هذا لن يحدث .. اطمئني .."
أضاف بثبات :-
" ليلى انتهت من حياتي وانا لم أعد أفكر بها ..."
سألته بتوجس :-
"ومشاعرك نحوها .."
قاطعها بصرامة ونبرة لا تقبل المزيد من النقاش :-
" حياتي لا يوجد فيها إمرأة غير حياة ولن يكون هناك .. حياة هي حياتي القادمة وكل ما سبق دونها إنتهى دون رجعة ... "
هزت رأسها ترغم نفسها على عدم طرح المزيد من المسأله وغادرت المكان تاركة إياه يتخبط كليا بعدما عرفه عن ماضي كان كاملا في نظره والآن أدرك إنه لم يكن سوى كمال وهمي لا حقيقة له ...
............................،...................................
كانت تجلس على مقدمة الطاولة الواسعة تقابله وهو الذي يجلس على مقدمة الطاولة من الجهة الأخرى يترأس الإجتماع بقيادية كعادته ..
يتحدث بهدوء ورزانة لا تخلو من الحزم ..
يطلق قراراته بشكل وكأنه يستشير الموجودين لكن واقعيا كان قراره حاسم والإستشارة مجرد واجهة شكلية ليس إلا ..
هو رجل قيادي من الدرجة الأولى ..
قوي وحازم ...
عملي جدا وذكي جدا ...
يدير أعماله بشكل مبهر ...
يجعلها تستمع إليه وهو يتحدث عن المشروع بسلاسة فتشعر لأول مرة بالمتعة أثناء العمل الذي بغضته منذ اول يوم ولم تشعر بالراحة لكنها كانت مجبرة على الإستمرار لأجل والدها الذي ما زال غير مستعدا للعودة الى ميدان العمل ولا تعرف متى سوف يستعد ..؟!
انتهى الإجتماع بسلاسة وقد إتفقا على الأمور الأساسية وتم توقيع عقد الشراكة عندما غادر موظفين شركته اولا يتبعهم النائب الأول في شركتها والذي تستشيره في كل شيء ومعه ثلاثة من الموظفين المهمين في شركتها تاركين لها المجال لتنفرد مع كنان وتتحدث معه بناء على رغبتها ..
أشار لها وهو ما زال محتفظا بلهجته العملية :-
" لنذهب الى غرفة مكتبي ونتحدث هناك .."
وافقته وسارت أمامه بعدما أشار لها أن تتقدمه ليخرجا من غرفة الإجتماعات ويتجها الى غرفة مكتبه المقابلة لها عندما وقفت كارين تستقبلهما فأشار لها بكفه أن تعود مكانها ...
توقفت ليلى أمام باب المكتب المغلق وتحركت الى الجانب قليلا ليفتح هو الباب فشكرته بإبتسامة مقتضبة ودلفت الى الداخل يتبعها هو ليغلق الباب ويتأملها وهي تسير بخطواتها الأنيقة نحو مكتبه وتلك البذلة العملية الجذابة بلونها الأزرق الغامق بدت رائعة عليها ومجددا يستوعب كم هي أنيقة وكم تجيد إنتقاء الملابس التي تجمع بين الرقي والبساطة ...!
إتجه نحو المكتب بعدما طلب منها أن تجلس على الكرسي الجانبي لمكتبه ليتجه بدوره ويجلس على كرسيه الرئيسي عندما سألها :-
" ماذا تفضلين أن تشربي ..؟؟"
ردت بإبتسامة رسمية :-
" شكرا .. انا فقط أردت قول شيء ما قبل مغادرتي .."
عاد بجسده الى الخلف وهو يسألها بإهتمام :-
" تفضلي .. مالذي تريدين قوله ..؟!"
تنحنت مخفية إرتبكاها وإن كان قليلا وقالت :-
" كنان بك .. مبدئيا دعني أقول إن شراكتك مميزة لنا .."
صمتت للحظة ثم قالت بصراحة لا مفر منها :-
" انا شخص صريح جدا لذا سأقولها بكل صراحة إنك بعرضك الذي قدمته لي أنقذت شركتنا من الإفلاس .."
كان يتأملها بهدوء وتعابير عادية لا تشي بشيء عندما أكملت هي بحذر :-
" ولكن ما زال هناك سؤال يؤرقني ... ما سبب هذه الشراكة ...؟! ما غايتك منها ..؟!"
التزم الصمت لثواني ..
من المفترض أن يقول الحقيقة دون تزويق فهو لا يجيد التزويق أساسا أو تجميل الحقيقة لكن معها الأمر مختلف ..
هو يدرك جيدا إن عليه مهادنتها ..
إمرأة مثلها لا يناسبها إندفاع مشروع ولا إنتظار صبور ..
ليلى لا تناسبها هذه الطريقة ..
لا يناسبها إعتراف صريح وقرب يفرضه كأمر واقع عليها وفي نفس الوقت لا يناسبها الإنتظار حتى تتحرك مشاعرها وربما لن تفعل ..
وهو بدوره رجل يدرك جيدا كيف يوازن بين الاثنين ..
كيف يحوم حولها ويفرض سطوته على قلبها دون أن يحاصرها بشكل علني .. دون أن يفرض وجوده عليها ..
هو معها يتبع طريقة التسلل البطيء فلا يقف مكانه ينتظر أن تشعر به وبما يرغبه ولا يهاجم فيخسرها الى الأبد...
هو يتعامل معها بصبر وتروي .. يسعى للتسلل داخلها تدريجيا دون أن تعي حتى يستحوذ تماما عليها وحينها ستدرك هي ذلك ولن تجد من قرار قبولها به أي مفر ..!
أجاب وهو ما زال محتفظا بهدوءه :-
" لا توجد غاية محددة ... انا أيضا أستفيد من هذه الشراكة .. ربما أنتِ لا تعين ذلك ولكنني أعرف إنني أستفيد .."
تأملته لثوان بدورها .. تدرس تفاصيل وجهه الثابت .. كلماته التي تبدو ظاهريا واضحة لكنها مبهمة وهي ليست غبية لتنطلي عليها بضعة كلمات يصوغها ..
تحدثت ببرود :-
" أنا أدرك جيدا إن هناك غاية ما بعيدة عن العمل .. غاية أكاد أجزم إنني أعرفها ..."
إبتسم بخفوت وهو يقول بجدية :-
" أعلم .."
تسائلت بحاجبين مرتفعين :-
" مالذي تعلمه ..؟!"
رد وهو ما زال محتفظا بنفس الإبتسامة :-
" أعلم إنك ذكية بما يكفي لتدركي غايتي يا ليلى .."
توقف للحظة ثم أكمل :-
" هانم ..."
تقابلت عينيها بعينيه فرأت بهما الكثير من المشاعر العاصفة ... مشاعر تحمل إعترافا صريحا برغبة ...
رغبة بأشياء كثيرة لا تقتصر على الحميمية ... رغبة جعلتها تشعر بالقشعريرة فنهضت من مكانها وهي تهتف بعدما فقدت تعقلها وثباتها دون أن تعي :-
" إذا كنت ما أفكر به صحيح فعليك أن تعلم إنك صفقتك خاسرة ..."
ظل على وضعيته المسترخية وإبتسامته بدا غامضة تماما وهو يردد بثقة أرادت أن تهشم وجهه بسببها :-
" أخبرتك مسبقا على ما أتذكره إنني لا أخسر ..."
نطقت بإنفعال لم تفهم لماذا سيطر عليها وهي التي دائما ما عرفت برزانتها وهدوئها وطول بالها :-
" انا لست صفقة يا كنان بك ..."
قاطعها وهو ينهض من مكانه يهتف بإندفاع ماحيا تلك الفكرة الحمقاء التي سيطرت عليها :-
" أنت لست كذلك بالطبع وأنا لا يمكن أن أفكر بك على هذا النحو ..."
نظرت له بجمود إحتل ملامح وجهها .. جمود تخفي من خلاله توترها أمام حضوره الطاغي والمخيف بالنسبة لها عندما أضاف وقد كست ملامحه جدية تامة :-
" ربما علي أن أكون صريحا بما يكفي طالما الأمور وصلت الى هذه النقطة أسرع مما تخيلت .."
أخذ نفسا عميقا وقال :-
" انا رجلا واضحا وصريحا يا ليلى .. لا أجيد المراوغات او العبث .. منذ أول مرة وقعت عيناي عليكِ بها وشعرت بشيء ما ينمو داخلي نحوك .."
توقف للحظة ثم أكمل بصدق :-
" جذبتني يا ليلى .. شيء ما بك جذبني ... "
توقف للحظات متجاوزا كيف ومتى جذبته فهذا سر سيحتفظ به لنفسه ولن تعرفه حتى يأتي الوقت المناسب عندما إجتاز هذه النقاط وأنهى حديثه بحسم :-
" انا أريدك يا ليلى .. أريدك زوجة .. شريكة حياة .. إمرأة تزين حياتي القادمة ومستقبلي .. إمرأة أبني معها العائلة التي أريدها ... إمرأة تكون زوجتي وحبيبتي وأم أطفالي ..."
همست بهدوء :-
" وهل تعتقد إنني هذه المرأة ..؟!"
رد بحسم :-
" بل لا يوجد سواكِ .."
أكمل بتروي :-
"انا إخترتك دونا عن الجميع .. "
" لماذا ..؟!"
سألته بجمود ليرد بصدق :-
" لإنك أنتِ .. لإنك أنتِ يا ليلى .. لإنك الوحيدة التي رأيت بها زوجة المستقبل ... الوحيدة التي وجدتها مناسبة لتشاركني حياتي المقبلة وتكون هي مرساي الأخير ...."
الكلام كان ثقيلا على روحها .. ثقيلا جدا .. وهي لم تستطع أن تسمع المزيد ..
همست وهي تجذب حقيبتها التي كانت قد وضعتها فوق الطاولة أمامها :-
" وأنا لا أناسبك ولن أكون المرأة التي تريدها .. لن أكون كما ذكرت ... لن أكون لك ... "
أنهت كلامها وغادرت بخطوات سريعة تهرب من كلمات لا تحب سماعها وعرض تخشاه أكثر من أي شيء ..
.................................................................
تأملته وهو يقف أمام المرآة يغلق أزرار قميصه الأسود الأنيق ..
ملامحه جامدة تماما كعادتها طوال اليومين السابقين...
تذكرت ما حدث قبل يومين وتلك الرصاصة التي إخترفت جسد مهند ..
صدمتها وهي تسمع صوت تلك الرصاصة ..
إنطلاقها بسرعة خيالية ولا وعي نحو مكتبه الذي يوجد به ثلاثتهم وقلبها ينتفض رعبا عليه لتجده واقفا بكل صلابة يحمل مسدسه في كفه ومهند مرمي على الأرض والدماء تنزف من كتفه وشقيقه جانبه يحاول فعل أي شيء لإنقاذه عندما صاحت بلا وعي :-
" المشفى .. خذوه الى المشفى .."
حينها أخفض عمار مسدسه وهتف راغب وهو ينهض من مكانه يبحث عن هاتفه :-
" سأتصل براجي حالا وأطلب الإسعاف .."
لكن مهند الذي لم يكن قد فقد وعيه بعد حاول أن ينهض قليلا بجسده وهو يشير لشقيقه :-
" توقف .. لا تفعل .."
توقف راغب عما يفعله وسأله مدهوشا :-
" يجب أن نطلب الإسعاف حالا و .."
توقف عن حديثه وهو يسمع أنين مهند الخافت وهو الذي فشل في رفع جسده فعاد يسقط أرضا عندما همس أخيرا بجدية رغم ضعف صوته والشحوب الذي إحتل ملامحه :-
" إتصل براجي ودعه يأتي الى شقتك في وسط المدينة ليعالجني .. لا داعي للمشفى ..."
أنهى كلماته الأخيرة وقد بدأ يفقد وعيه ورغم إن راغب لم يفهم ولم يستوعب ما حدث إلا إنه نفذ طلبه وتم نقله بمساعدة حراس الفيلا الى سيارته وأخذه حيث أراد تاركا عمار واقفا مكانه بجمود يتابع الموقف بعينين صلبتين لا حياة فيها ..
بدا الموقف غريبا .. عابثا ..
رصاصة ودماء وشخص مصاب ...
والجاني يقف بصلابة والضحية تتصرف بغرابة ...
كل شيء بدا غريبا وغير مفهوما ...
كيف إنتهى الأمر بمغادرة الرجلين بسرعة دون أن يلتفتا لمن أطلق الرصاصة ..؟!
كيف طلب هو منها بكل برود أن تطلب من الخادمة تنظيف الأرضية من دماء ذلك القذر كما وصفه ..؟!
لم تفهم شيئا ولكنها منذ تلك الليلة والضيق والألم يأكلانها دون رحمة ..
إستدار وهو يحمل هاتفه عندما وجدها تنظر إليه بجمود وهي التي تقف على بعد مسافة منه مستندة على الجدار خلفها وذراعيها معقودين أمام صدرها ...
رمقها بعدم إهتمام وهو يهم بالخروج عندما سمعها تردد :-
" إلى أين ..؟!"
رد بإقتضاب :-
" ليس من شأنك .."
تقدمت نحوه تجذبه من ذراعه وهي تهتف من بين أسنانها :-
" بل من شأني .. "
نظر الى كفها التي تقبض على ذراعها بقسوة فهدر بها :-
" هل جننت يا شيرين ..؟!"
ردت بأنفاس متسارعة :-
" نعم جننت .. بسببك جننت .. بسبب حياتي معك جننت .. انا لا أفهم مالذي يحدث معك .. لا أفهم كيف تسير حياتك ..."
أكملت بنبرة عاجزة :-
" ولا أعرف كيف أتعامل معك ..؟؟ "
إسترسلت بتعب ودموع مكتومة :-
" انت كيف تعيش هكذا ... كل شيء في حياتك فوضى .. كل شيء تعيشه مليء بالقسوة والكره والإنتقام .. قبل يومين كدتَ أن تقتل شابا .. صوبت رصاصة مسدسك نحوه بكل قسوة وتركته ينزف دما بلا مبالاة ... كيف يمكنك أن تكون قاسيا لهذه الدرجة ..؟! كيف يمكنك أن تدمر حياة الأخرين بهذه البساطة ..؟؟ أنا لا أفهم ..."
توقفت عن حديثها بأنفاس متقطعة عندما تأملها هو بصمت امتد للحظات قبل أن يهتف بجمود :-
" إنها المرة الأولى التي أدركِ فيها إنكِ لم تفهمينني يوما ولن تفعلي مثلما أدركت أيضا مدى الفجوة التي نشأت بيننا منذ زواجنا .."
همست بحرقة عاشقة فشلت في إصلاح معشوقها :/
" بل أنا من أدركت ذلك ... انا من أدركته بعدما فات الآوان ..."
تحركت مبتعدة عنها تتحدث بصوت مسموع لكنها كانت تحدث نفسها قبله :-
" أم إنني كنت أدرك ذلك وتغاضيت عنه ..؟! كنت أدرك حقيقتك ..؟! كنت أدرك كم الشر داخلك ومع هذا تزوجتك .. قبلت بك .. إرتضيت بك رغم بشاعة روحك وسواد قلبك .."
إستدارت نحوه تهمس بعينين باكيتين وحرقة شديدة :-
" تحديت الجميع لأجلك .. لأجل أن أكون معك ..."
" لماذا ..؟!"
سألها بقوة وهو يضيف بثبات :-
" لماذا فعلت ذلك ..؟! لماذا تحديت الجميع لأجلي ..؟! لماذا تخليتِ عن عائلتك لأجلي ...؟! لماذا فعلتِ هذا وأنتِ تعرفينني جيدا وتعرفين إن هذه حقيقتي وصفاتي التي ليست جديدة عليك أبدا .."
هتفت بنبرة مشحونة بكافة المشاعر المتناقضة التي تعتريها في تلك اللحظة :-
" لإنني أحبك ... "
أكملت ودموعها تنسكب فوق وجنتيها :-
" لإنني أحبك يا عمار .. أحبك دون توقف .. أحبك رغم كل صفاتك السيئة التي أدركها جيدا .. أحبك كمرض لا دواء له .. أحبك بقدر كرهي لذلك السواد والحقد الذي تحمله داخلك .."
تقدم نحوها يجذبها من ذراعيها يهمس بالقرب منها :-
" وهل هذا ما يبكيكِ ..؟! هل هذا ما يحزنك ..؟! إنك تحبينني ..؟!"
صاحت بوجع :-
" نعم ، لإنك لا تستحق هذا الحب .. لا تستحق مشاعري .. لا تستحقني .."
سألها بقوة وهو يقبض على ذراعيها :-
" لماذا أنتِ هنا إذا...؟! لماذا لا ترحلي ..؟! لماذا لا تتركيني ..؟!"
أكمل وهو يهزها من ذراعيها :-
" لماذا لا ترحلين ..؟! لماذا لا تغادرين حياتي ..؟! لماذا تعيشين مع رجل مثلي ..؟! لماذا تستمرين في إيلام نفسك بسببي ..؟! لماذا لا تهربين ..؟! لماذا تبتعدين ...؟! لماذا أنت هنا ..؟!"
كان يهزها يعنف ولا وعي بينما هي تبكي بصمت عندما بدأ يفقد عقلانتيه تدريجيا وهو يسترسل وقد تحول لشخص آخر تماما بعينيه اللتين تشكلت بهما لمحة شيطانية مخيفة وملامحه التي قست تماما :-
" مالذي يجعلك تعيشين مع رجل مثلي ..؟! مالذي يجعلك تتحملين قسوتي وحقارتي ...؟! مالذي يجبرك على قبول حياة كهذه لا تشبهك ...؟! الحب ..؟! الحب يا ديانا ..؟! اللعنة على الحب الذي يجعلك تدمرين نفسك بسببه ...اللعنة على الحب الذي يجعلك تتألمين لسنوات بسببه .. اللعنة على الحب الذي يجعلك تخسرين ثباتك وقوتك بسببه .. اللعنة على الحب الذي يجعلك تنتحرين بسببه وتتركين كل شيء محطما خلفك ..."
وهنا صاحت شيرين وهي تدفعه بقوة :-
" توقف يا عمار .. انا لست والدتك ديانا ... انا شيرين يا عمار .. انا لست ديانا .."
" هي ليست دينا .. هذه ليست ديانا .. هذه شيرين زوجتي .. شيرين وليست ديانا ..."
بهتت ملامحه للحظات وقد بدأ كل شيء يصبح اكثر وضوحا ..
من تقف أمامه هي شيرين وليست ديانا ..
من تقف أمامه هي زوجته وليست والدته ..
لماذا إذا رآها ديانا ..؟! لماذا إذا كان يرى والدته أمامه ..؟!
هل كان يتخيل ..؟! أم كان يخبر شيرين بما أراد أن يخبر به والدته ..؟!
أم كان يرسم أمام عيني زوجته مصيرها القادم وما ينتظرها معه ..؟!
عند هذه النقطة تجمدت أطرافه وسقط قلبه أسفل قدميه ولم يكن بوسعه سوى الفرار هربا بأقصى سرعة من طيف والدته وواقع زوجته ...
.....................................................................

حبيسة قلبه المظلم ( الجزء الأول من سلسلة ضباب الروح ) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن