الفصل الحادي والأربعون ( الجزء الثالث والأخير )

2.7K 155 16
                                    

كانت تسير داخل غرفتها ذهابا وإيابا وعقلها لا يتوقف عن التفكير ...
منذ محادثتها الأخيرة مع نديم وهي تكاد تنفجر من الضيق والإنزعاج ..
إلتزمت البقاء في غرفتها كي لا تجعل والدتها تشعر بأي شيء مما يحدث ...
لا تريدها أن تتأثرها بما يعيشه شقيقها أكثر ..
لا تصدق إن شقيقها تحول الى هذه النسخة التي يبدو عليها الآن ..
لا تلومه أبدا فما عاشه ليس قليلا على الإطلاق ولكنها يجب أن تنقذه .. تنقذه من تدميره لكل شيء جميل يحيطه .. تنقذه من خراب روحه الذي بات يشكل خطرا كليا عليه ..
جلست على سريرها بتعب وعقلها يعاود تذكر كلماته ..
كم ندمت لإنها لامته بتلك الطريقة وجعلته مذنبا بينما هي لم تعرف الحقيقة كاملة بعد ..
كان عليها التروي .. تعلم ذلك ولكنها لم تتحمل ما تسمعه ..
لم تتحمل إصراره على عدم حبه لحياة ..
ذلك الحب الذي تقسم إنه موجودا ..
الحب الذي إستوطن قلبه تماما ...
لا تفهم كيف لم يفهم مشاعره بعد ..؟!
كيم لم يستوعب لهفته وإرتباطه الروحي بها ..؟!
ألا يلاحظ هذا حقا أم إنه كره الحب وكل ما يتعلق به ...؟!
لكن حتى لو فعل هي لن ترتاح حتى تصلح عقليته الغبية وتعيد توجيه أفكاره بالشكل الصحيح ..
ليس لأجله فقط بل لأجل تلك المسكينة التي كانت هي نفسها أول من جاهدت لتجمعها به ...
نديم يجب أن يتحرر من ماضيه القاسي ..
يكفي إلى هنا ..
هكذا فكرت وهكذا قررت عندما نهضت من مكانها تحمل هاتفها وتجري إتصالا بحياة ...
توقعت إنها لن تجيب عليها لكنها أجابت بعد قليل بصوت هادئ ترحب بها فردت تحيتها قبل أن تضيف بجدية دون التطرق الى اشياء لا معنى لها :-
" انا علمت بما حدث يا حياة .."
صمتت حياة ولم تعلق عندما أضافت غالية بجدية :-
" نديم أخبرني بأمر طلاقكما ..."
وأخيرا تحدثت حياة بصوت هادئ مصطنع :-
" حسنا .. من الجيد إنه فعل .. بكل الأحوال كان الجميع سيعرف ..."
قاطعتها غالية عن قصد :-
" هو لم يخبرني في البداية لكنه إضطر لذلك عندما سألت عنكما وشعرت بتغيره وسوء نبرته .. "
أضافت بتمهل :-
" نبرة صوته وحدها كانت تشير الى ما يعايشه من ألم وضيق .."
شعرت حياة بالألم فقالت بعفوية :-
" انا آسفة حقا يا غالية .. لم أكن أود أن يحدث هذا ولكن هذا نصيبنا وإنتهى الى هنا .."
قالت غالية بنعومة :-
" انا لا ألومك يا حياة ... أبدا لن أفعل .. لذا لا تعتذري أبدا .."
أضافت وقد عادت الجدية تكسو ملامحها :-
" ولكن إسمحي لي أن أتحدث معك ... هناك كلام يجب أن أقوله .. لصالحك أنتِ قبله ..."
ظهر التوتر في نبرة حياة وهي تقول :-
" تفضلي ..."
تنهدت غالية ثم قالت :-
" لماذا تركتيه بهذه السرعة يا حياة ..؟! هذا سؤال وليس لوم أبدا .. لماذا فعلتي هذا ..؟! لماذا لم تحاولي الإنتظار ...؟! لماذا لم تصبري قليلا وكل شيء كان سيحدث كما تريدين ..؟! "
أضافت بصدق :
"أخبريني يا حياة .. إعتبريني أختك الكبيرة .. لا تنظري إلي كأخته فصدقيني انا دائما سأكون في صفك في جميع الأحوال .."
قالت حياة بنفس الصدق :-
" أعلم ذلك يا غالية ..، أعلم إنك ستكونين بجانبي دائما .. صدقيني وأنا أعتبرك بمثابة أختي الكبيرة .."
قالت غالية بخفوت :-
" ظننت إنكِ إتخذت موقفا مني بسبب ما حدث قبل سفركما ..."
ردت حياة بصدق :-
" لا أنكر إنني غضبت منك وقتها لإنك لم تخبريني لا أنا ولا حتى نديم بتلك الحقيقة ولكنني تناسيت الأمر بعد فترة وتفهمتك ..."
قالت غالية بجدية :-
" لكن عليكِ أن تعرفي إنني لم أدرك حقيقة زواج عمار من ليلى إلا متأخرا .. في ذلك الوقت كنت أنتِ بالفعل في حياته وهو كان يريدك ..."
سألتها حياة بصوت شاحب :-
" كان يمكنك أن تغيري الأمور جميعها لو تحدثت ..."
قاطعتها غالية تدافع عن نفسها :-
" أبدا يا حياة ... لم يكن ليحدث هذا .."
تنهدت ثم قالت :-
" أعلم ما تفكرين به ..  لكن هل ستصدقيني إن ضميري يؤنبني دائما لأجلها ولأجلك وحتى لأجله .. ؟!"
أضافت بصدق :-
" لو كان بيدي كنت سأنهي القصة بطريقة أفضل لكن عندما علمت الحقيقة بالصدفة البحتة تماما كنتِ قد دخلتي حياته بالفعل .. كنت حينها أرى شيئا لم يره أيا منكم .. "
" شيء ماذا ..؟!"
سألتها حياة بحشرجة لترد غالية :-
" إنه إكتفى بك .. "
أضافت بتمهل :-
" ليلى ابنة خالتي وبمثابة أختي .. لم أكن لأتراجع عن مساعدتها لو كان هناك أمل في عودتها لنديم .. لكن الأمور جميعها كانت معقدة .. بدئا من مشاعر نديم المتخبطة إضافة الى وجود عمار في حياتهما إنتهاءا بتأثيرك المختلف بأخي ..."
أكملت بتروي :-
" أنت تعتقدين إن نديم ما زال يحب ليلى والأهم تظنين إنك بإنفصالك عنه ستمنحينه الفرصة ليعود لها ... لكن دعيني أخبرك شيئا أتمنى أن تستوعبيه .. شيئا سأقوله بناء على معرفتي بشقيقي ..."
صمتت للحظات ثم قالت :-
" لا أحد يعرف نديم بقدري .. إنه شقيقي .. قطعة من روحي .. أفهمه دون أن يتحدث .. نديم يا حياة لم يكن ليعود الى ليلى حتى لو بقي يعشقها للأبد .. نديم أحبها بقوة .. وأرادها بقوة .. لذا عندما تركته حفرت داخله جرحا بالقوة ذاتها ... انا من شهدت على تلك الفترة في زياراتي المتكررة إليه داخل السجن .. قبل زواج ليلى كان هناك شيء ما زال حيا داخله لكن بعد زواجها هذا الشيء ذهب .. إختفى .. الحياة التي كانت ثابته داخله بفضل حبها ماتت ... زواج ليلى كان النهاية بالنسبة له .. ربما هذا من جعلني أقسو على ليلى كثيرا وأقاطعها لسنوات .. لم أتحمل أن أرى شقيقي يعاني بهذا الشكل .. لقد حطم زواج ليلى آخر نقطة ثبات داخله .. "
أخذت نفسا عميقا ثم قالت :-
" هل تعلمين لماذا أقول هذا ..؟! لإن هنا مربط الفرس كما يقولون .. نديم لم ولن ينسَ ما عاناه .. لن ينسى جرحه من زواجها .. لم يكن ليفعل وعندما علم الحقيقة كان الوقت قد فات تماما فجرحها إستوطن روحه تماما ... لقد تأخر سنوات حتى أدرك الحقيقة فباتت الحقيقة باهتة لا معنى لها .. "
أكملت :-
" نديم شقيقي أعرفه جيدا ... رغم رزانته وهدوءه وشخصيته العاقلة يحمل داخله بركانا فياضا من المشاعر .. هو شخص عاطفي بشكل ما .. عندما يحب يحب بكل روحه وكيانه وعندما يقرر أن ينهي هذا الحب من قلبه سيفعل ذلك بكل تجبر حيث تختفي العاطفة داخله ويأتي بدلها قوة مخيفة وثبات إنفعالي .. نديم كان يقسو على نفسه قبل أي شخص كي يقتل أي مشاعر لليلى داخله ... لإن شخصيته هكذا .. عندما يحب يكون حبه كبيرا جدا .. قويا جدا وعندما يكره .. يكره بالمثل ..  ونديم عاش الإثنين مع ليلى .. "
سألته حياة بعدم تصديق :-
" نديم لا يمكن أن يكره ليلى بعدما علم الحقيقة .."
قاطعتها غالية :-
" كلا هو لا يكرهها حاليا .. لكن كما أخبرتك قبل قليل .. الحقيقة جاءت في وقت متأخر .. في وقت لم تعد ليلى تمتلك تلك السلطة على مشاعره .. نديم حاليا لا يكره ليلى لكنني أؤكد لكِ إنه لم يعد يشعر ناحيتها كما كان .. بإختصاره مشاعره باتت حيادية نحوها .. "
حل الصمت المطبق بينهما عندما أضافت بعد لحظات :-
" هل تعلمين لماذا أخبرك هذا ..؟! "
سألتها حياة بخفوت :-
" لماذا ..؟!"
أجابت غالية بجدية :-
" لسببين .. الأول والأهم إنك رغم كل شيء لم تفهمِ حقيقة ما يشعره نديم نحوك .."
" ومالذي يشعره نديم نحوي ..؟!"
سألتها حياة بيأس لترد غالية بثقة :-
" إنه يحبك ..."
إعترضت حياة على الفور :-
" كلا يا غالية .. نديم لا يحبني ..."
تنهدت غالية بصوت مسموع ثم قالت :-
" انت فتاة ذكية يا حياة .. ذكية في الحياة الإجتماعية وفي الدراسة لكن في الأمور العاطفية لا تبدين لي كذلك .."
برمت حياة شفتيها عندما أكملت غالية :-
" آسفة لقولي هذا لكن الغباء العاطفي ليس عيبا .. عموما انا محقة في قولي .. انت لو كنت نبيهة حقا لأدركتِ قوة مشاعره نحوك دون أن يخبركِ .. لشعرت بذلك من نظراته ونبرة صوته ولمساته .. من تمسكه بك .. من ضياعه بدونك .. انا لا أصدق حقا إنك لم تشعري بهذا .. "
"قد يكون تعلقا طبيعيا يا غالية.."
قالتها حياة بخفوت لتضحك غالية مرغمة وهي تقول :-
" حقا ..؟! يا إلهي يا حياة .. أي تعلق بالله عليك ..؟! ثانيا من قال إن التعلق لا يشير الى الحب أيضا ..؟! حياة شغلي مخك قليلا من فضلك .."
إسترسلت بنبرة ثابتة :
" انت لا تدركين ما تمثلينه له .. انت بالنسبة له كل شيء .. منذ أن دخلتِ حياته وهو بدأ يتغير .. انت الوحيدة من إستطاعت ترويض قلبه المشتت وإنارة عتمة روحه .. أنت الوحيدة من منحته الفرصة ليتعايش مع الحياة مجددا .. نديم قبلك كان ميت .. جسد دون روح .. أنتِ من منحته الروح التي تنبض داخله مجددا .. انت من خلقت داخله حياة جديدة .. كيف لا تفهمين هذا ..؟! مشاعر نديم نحوك ليست مجرد مشاعر حب .. مشاعره أقوى من هذا بكثير ... ما بينكما أعمق من الحب حتى .. الذي بينكما بات إرتباط روحي لا يمكن الفكاك منه .. "
إرتجف جسد حياة بالكامل لما تسمعه على لسان غالية التي أضافت بتروي :-
" أنا لا أصدق إنك رغم كل هذا تصدقين إنه لا يحبك .. يعني أنا أتفهم نديم جيدا بسبب ما عاشه لذا من الطبيعي أن يتخبط بهذه الطريقة لكن انت .. انت وحدك من ستفهمينه .. هل تعلمين ..؟؟ انا شعرت بمشاعره تلك قبل زواجكما حتى ..؟! أدركت مدى قوة ما يحمله نحوك منذ خطبتكما .. أنت تغلغلت داخل روحه تدريجيا يا حياة حتى أصبحت جزءا لا يتجزأ منها فلا تأتين بعد كل هذا وتظنين إنه لا يحبك .."
همست حياة بضياع :-
" لا أعلم حقا يا غالية .. انا حقا لم أعد أفهم شيئا .. انا  منذ زواجي منه وأنا أعيش حالة من التخبط والضياع .. لا أستقر يومين حتى أعود لنفس الحالة مما جعلني تعيسة وغير قادرة على التفاعل معه ... هل تفهمينني يا غالية ..؟! حسنا انا لن أنكر إنني أخطأت .. أخطأت كثيرا معه ولم أمنح زواجنا الفرصة الكافية لكن أقسم لكِ ليس بيدي .. في كل مرة كانت هناك أمور كثيرة تحيل بينه وبيني ... حواجز لم أستطع تخطيها ... حاولت .. والله حاولت .. لكنني فشلت .. كنت أنجح ليومين ثلاثة ثم أفشل .. كنت خائفة .. خائفة من اللحظة التي يستيقظ بها ويدرك إنني مجرد دواء بالنسبة له .. اللحظك التي تختفي حتى مشاعر الراحة والإحتياج نحوي داخله .. لم أكن أتحمل أن أصل الى تلك اللحظة وأعايشها .. قولي عني أنانية .. قولي ما تشائين .. لن ألومك .. فأنا أستحق .."
"كلا يا حياة .. لن أقول ذلك لإنني أتفهمك .. لكن بالله عليك حاولي أن تصدقي كلامي لإنني لن أكذب عليك أبدا .. انا لا يمكن أن أخبرك بشيء غير حقيقي فقط كي تبقي معه .. "
أكملت بصدق :-
" انا أخبرك بهذا كي لا تفعلي مثله .. كي تكوني أذكى منه وتتصرفي على أساس سليم في علاقتكما .. كي لا تخسري رجلا تحبينه ويحبك بسبب تخبطاته التي تكونت نتيجة لما عايشه .. "
أكملت تسألها :-
" هل تعلمين ما هو السبب الثاني الذي جعلني أخبرك عن ليلى تحديدا وعن ما عايشه نديم بسبب زيجتها وتحول مشاعره نحوها ..؟!"
" ما هو ..؟!"
سألتها حياة بتوجس لتقول غالية :-
" كي تفهمي ما مر به نديم وجعله على هذه الحالة فتستوعبي ما يمر به حاليا .. انت الجدار الذي يستند عليه نديم فلا يسقط أبدا .. لا تتخلي عنه .. كوني معه وصدقيني سيأتي يوم ويدرك هو إنه يحبك بحق وسيعترف لك بذلك .. لكن يجب أن تساعديه يا حياة .. أن تنتشليه من ضياعه هذا .. أن تكوني له الحياة كما كنتِ منذ البداية فهو يكتمل بوجودك ومعك تماما ... "
سمحت غالية صوت أنفاس حياة العالية عبر الهاتف لتضيف :-
"وهناك سبب آخر لذلك أيضا .. هل تعلمين ما هو .. ؟!"
لم تنتظر سؤالها عندما أكملت :-
" عندما تحدثت مع نديم وأخبرني بطلاقك سمعته يتحدث بنبرة أعرفها جيدا .. وأكاد أجزم إن ملامحه وقتها وكل جزء منه كان يصرخ بنفس الطريقة .. انا أعرف ما يعايشه نديم الآن .. لقد عايشه مسبقا .. مرة واحدة فقط .. مرة واحدة كان بها يعيش بكل هذا الكم من الألم واليأس والضياع .. يوم معرفته بخبر زواج ليلى من عمار .. يومها تحدث معي بنفس النبرة التي تحدث بها عن إنفصالكما وأكاد أقسم إنه يعاني بنفس الطريقة ..."
تمهلت وهي تضيف أخيرا منهية الحوار متمنية أن تكون رسالتها قد وصلت :-
" لكن إنتبهي يا حياة .. جرحه بسبب زواج ليلى كان الأول .. هو تعايش معه بشكل ما وتخطاه في النهاية .. صحيح آثاره ما زالت موجوده لكنه تخطاه أما جرحك أنت سيكون مختلف .. سيكون أقوى وأكثر قساوة .. جرح لا يمكن أن يتخطاه أبدا .. أنت جرحتيه بنفس الطريقة ... تخليت عنه أيضا ولكن عليك أن تعلمي إن الجرح الأول ليس بتعقيد الجرح الثاني .. الأول مجرد بداية أما الثاني فيمثل الضربة القاضية لأنه أتى بعدما منحك صاحبه الثقة مجددا والحب مجددا لذا تخطيه لن يكون واردا أبدا .. أتمنى أن تكوني فهمت ما أعنيه ..!!"
...................................................................

حبيسة قلبه المظلم ( الجزء الأول من سلسلة ضباب الروح ) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن