الفصل السادس :
ازدرد صاحب محل الجزارة ريقــــه بتوجس شديد بعد أن وقف ديــــاب في مواجهته متحدياً إياه تحدياً سافراً. فقد تجرأ الأخير بحماقة جلية على إحدى النساء ، وهذا يعد جرماً في نطاق منطقتهم الشعبية .
ظلت نظرات الجزار مرتبكة للغاية وهو يحاول سبر أغوار عقل خصمه القوي. هو يعلم جيداً أن مواجهة ضارية كتلك مع أشهر رجال المنطقة لن تكون في صالحه مطلقاً ، بل ربما تودي بحياته أو على أقل تقدير تدمر محله ، لك بادر بتلطيف الأجواء وتلمس الأعذار عله ينجو ببدنه من بطشه ، لذلك أرخى قبضته الحاملة للساطور للأسفل ، وهتف صائحاً بحدة :
-يا سي دياب هي اللي قلت أدبها عليا وعلى حريمنا !
تجمدت نظرات دياب الشرسة عليه ، ولم يعقب ، فتابع الجزار مضيفاً بإنفعال :
-وأنا وحياة الغالي يحيى كافي خيري شري عنها ، فده يرضيك يا سيد الناس ؟
اغتاظت بسمة من إدعائه الباطل عليها ، فتحركت للجانب لترمقه بنظرات نارية ، وصرخت فيه بإهتياج ملوحة بذراعها في الهواء :
-ليه إن شاء الله ؟ ماشية أخانق دبان وشي ، ولا انت ومراتك اللي بتتعرضولي في الراحة والجاية ؟!!!!
التفت ديـــاب برأسه التفاتة خاطفة نحو بسمة ، ورمقها بنظرات جادة للغاية ، بدا وجهها مألوفاً بالنسبة إليه ، لكنه لم يستطع تخمين هويتها تحديداً أو أين رأها من قبل ، ثم عاود النظر في اتجاه الجزار ليهتف بصلابة :
-لو هي غلطت حريمك ياخدوا حقهم منها ، لكن تيجي انت تعمل دكر على حُرمة ، لأ عندك ، أقفلك أنا فيها !
ابتلع الجزار ريقه بخوف ، كما تجمعت حبات العرق الباردة أعلى جبينه ، وارتجف جسده قليلاً من إثر تهديده الصريح.
بينما احتدت نظرات بسمة ، واصطبغ وجهها بحمرة غاضبة وهي تصيح بصراخ :
-وهو أنا عدمت صحتي عشان أجيب اللي ياخدلي حقي ، ده أنا أده وأد عشرة زيه !
انزعج ديــــاب من استهانتها بقواه وشخصيته المهيمنة ، فهدر بغلظة آمراً إياها :
-اسكتي شوية !
ردت عليه بعصبية وهي تشير بإصبعها :
-لأ مش هاسكت ومش هالم لساني ، بقى واحد زي ده يهددني ويرفع عليا الساطور !
ثم سلطت أنظارها على الجزار ورمقته بكراهية صارخة بتهديد خطير :
-وربنا ماسيباك وهاعملك محضر في القسم ! ده إن ماقلعتش كمان جزمتي ونسلتها على دماغك !
اشتعلت مقلتي الجزار من إهانتها له ، وصاح متذمراً بغضب :
-شايف يا سي دياب طريقتها معايا، وتقولي ماجبش دماغها على الأورمة !
حدجه دياب بنظرات محذرة ، وهتف فيه بصوت قاتم يحمل القوة :
-اهدى !
استشاطت بسمة غضباً من تطاول الجزار السمج باللفظ والفعل عليها حتى بات يهددها علناً بالإطاحة برأسها كالبهائم دون اكتراث لها ، فعمدت إلى استفزازه بشراسة لتشعله أكثر :
-أورمة !! ده تمامك ، اللي يرحم الرجالة ، ماتوا في الحرب ، وسابولنا النسوان اللي زيك يخطرفوا بكلام مش أده !
وبالفعل حققت مرادها ونالت منه ،فانفجر فيها الجزار صائحاً بصوت جهوري منفعل للغاية وهو يتحرك بجسده نحوها :
-رجالة مين اللي ماتوا يا آ...................
منعه ديــــاب عن التقدم خطوة نحوها بجسده الصلب وهادراً فيه بنبرة قاسية ومقاطعاً إياه :
-اخــــــــــرس ! في ايه !!!!
تراجع الجزار للخلف خطوة مردداً بعصبية :
-اعذرني يا سي دياب ، هي عمالة تغلط وطايحة في الكل وهي بنت مين أصلاً عشان تكلم كده
كادت بسمة أن تهينه بشراسة أقوى ولكن منعها عن الحديث صياح دياب الصارخ بعدائية :
-جـــــرى ايه ؟ مش عاجبك وقفتي ؟!
أدرك الجزار تهوره الغير محسوب ، وردد بإمتعاض شديد :
-مقصدش ، على راسي وجودك والله !
أكملت بسمة إهانتها قائلة بصوت مهتاج :
-اغلط في أهلي كمان عشان بدل المحضر يبقوا اتنين ، وهاعرفك بنت عواطف ممكن تعمل ايه ؟
انتبه ديـــاب للإسم جيداً ، وتمتمت هامساً لنفسه بجدية :
-عواطف !
استعاد زمـــام الأمور سريعاً قبل أن يشرد بتفكيره في عائلة تلك الشابة الجامحة التي تتشاجر مع من يفوقها حجماً وقوة بلا خوف ، وصاح بصوت خشن لكنه صارم :
-خش جوا محلك ولم الليلة ، بدل الزعلة ما تقلب معايا أنا !
ثم مـــال بجسده نحوه ليضيف بنبرة مهددة لكن بصوت خفيض لم تتمكن هي من سماعه :
-وبأحذرك كلمة تانية معاها ، مش هايحصلك طيب ! وانت عارفني أنا مش بأهدد ، أنا بأنفذ على طول !
هز الجزار رأسه بإيماءة إيجابية وهو يردد بإرتباك :
-آآآ.. أوامرك يا سي دياب !
حدجت بسمة ذلك الفظ بإزدراء كبير ، وهمست بغل :
-ماشي ، والله لأوريه بتاع الحمير ده !
ثم انحنت لتجمع أشيائها المبعثرة على الأرضية الإسفلتية ، وتحركت مبتعدة بخطوات غاضبة
تأكد ديـــاب من دخول الجزار لمحله ، ثم التفت برأسه للخلف ليبحث عن تلك المشاغبة لكنه لم يجدها ، فبحث سريعاً بعينيه عنها فرأها تسير بخطى متعجلة ، فركض خلفها مردداً بصوت مرتفع :
-انتي يا أستاذة !
توقفت عن السير لتلتفت نحوه ، وردت عليه بإنزعاج :
-عاوز ايه ؟
رمقها بنظرات حادة قبل أن يعاتبها بسخط :
-دي شكراً بتاعتك بعد ما منعته عنك
زمت شفتيها للجانب ليزداد عبوس وجهها ، ثم ردت عليه بإمتعاض :
-أها ، قولتلي ، متشكرين ، كتر خيرك !
دقق ديـــاب النظر في قسمات وجهها ، وأردف قائلاً بدون سابق إنذار :
-شكلك مش غريب عليا !
ظلت بسمة متجهمة الوجه وهي تجيبه بضيق :
-ما هو انت متعرفنيش ، بس أنا عرفاك كويس يا ابن الحاج طه !
أثار ردها الغامض فضوله أكثر لمعرفة هويتها تحديداً ، خاصة أنه بات متأكداً من وجود صلة قرابة بينهما ، فتساءل بجدية :
-الجزار قال إنك بنت عواطف ، عواطف بنت خالة أبويا ، صح ؟
ردت عليه بنبرة متأففة وحاجبيها مرتفعان للأعلى :
-اه هي بعينها ، أنا بنتها بسمة !
ابتسم لنفسه بغرور بعد أن أصاب في تخمينه لها ، وردد بثقة :
-اها ، افتكرتك !
رمقته هي بنظرات قوية قبل أن تتركه وتتحرك مبتعدة عنه متجاهلة إياه عن عمد.
أزعجه تصرفها الفظ معه ، فسار إلى جوارها أولاً ، ثم سبقها بخطوة ليسد عليها الطريق متساءلاً بقوة :
-رايحة فين ؟
أجابته بتهكم وهي تزفر في وجهه بنفاذ صبر من اعتراضه لطريقها :
-هاعمل محضر للزفت ده وأشوف شغلي ، عندك مانع ؟
حدجها دياب بنظرات قوية مردداً بصوت جاد :
-استني ، الليلة خلاص اتلمت ، وأنا خدت منه كلمة إنه مايتعرضلكيش ، فمافيش داعي آآ...
قاطعته قائلة بإصرار وقد ظهرت العصبية في نبرتها :
-أنا مش هاسيب حقي من الحيوان ده !
رد عليها دياب قائلاً :
-هو اللي عملتيه قليل ، ده أنتي بعترتي بكرامته الأرض !
هتفت بعصبية وهي تنفخ بغضب :
-مش كفاية !
أيقن دياب أنه يتعامل مع شابة عنيدة متمسكة برأيها ، فأثناها عنه قائلاً بجدية :
-طب ويصح تمشي وهدومك مقطعة كده ؟
ثم أشار بعينيه نحو كتفها الأيسر الذي ظهر جزءاً منه من أسفل كنزتها التي تمزقت بفعل التشاجر مع زوجة الجزار.
شهقت مصدومة حينما رأت ما يشير إليه :
-هــاه !
حاولت هي تغطية ذلك الجزء المتعري من كتفها بيدها ، فتابع هو قائلاً بصوت آمـــر :
-اطلعي يا بنت عواطف عند أمك !
ردت عليه بتذمر وهي تحاول تعديل هندامها ليخفي البارز من جسدها :
-اسمي بسمة مش بنت عواطف
رفع كفيه أمام وجهها ليردد بجمود :
-تمام .. وصلت ! اتوكلي على الله وارجعي بيتك !
زفرت بحدة أكبر ، واستدارت عائدة للخلف وهي تضع يدها على كتفها ، وتمتمت بكلمات غاضبة لكنها وصلت إلى مسامع دياب الذي دس كفيه في جيبي بنطاله :
-هو يوم باين من أوله ! مهبب على دماغي ودماغ أهلي !
تقوس فمه بإبتسامة باهتة وهو يراقبها تنصرف من أمامه ، ثم أخرج زفيراً عميقاً من صدره ، وتحرك بخطوات واثقة نحو وكالة أبيه وهاتفاً بصوت جهوري :
-يالا ، الكل على مصالحه ، المولد اتفض !
لمح دياب أخيه منذر وهو يسير بخطوات أكبر للركض نحوه صائحاً بنبرة مشحونة :
-في ايه يا دياب ؟ العمال بلغوني إنك بتتخانق هنا ، وآآ...
قاطعه دياب بهدوء وهو يقف قبالته :
-اطمن يا منذر ، حاجة هبلة كده وعدت !
ثم جاب بأنظاره سريعاً على رجال أبيه الذين تجمعوا سريعاً وهم يحملون في أيديهم العصي الغليظة وبعض الأدوات الحادة.
سأله منذر بنبرة قاتمة وقد تحولت نظراته للإظلام :
-يعني مافيش عوأ ولا آآ... ؟
نفى أخيه الأصغر الأمر قائلاً بتأكيد :
-لالالا .. أنا حلت المُشكل !
هز منذر رأسه بتفهم ، وأشـــار بإصبعيه لرجاله الواقفين خلفه ليعاودوا أدراجهم ، وهتف بصوت خشن :
-ماشي ، يالا على الوكالة ، أبوك مستنينا هناك !
رد عليه دياب بنبرة عادية وهو يربت على ظهر أخيه :
-طيب ، بينا !
....................................
خرجت ولاء من المرحــاض وهي تجفف شعرها المبتل بمنشفة قطنية ، ثم جلست على المقعد الصغير الموضوع أمام ( التسريحة ) لتبدأ في تمشيطه برفق.
أدار مازن جسده للجانب ليراقبها بنظرات راغبة أكثر فيها ، ثم نفث دخـــان سيجارته في الهواء دون أن ينبس بكلمة.
رأت هي انعكاس صورته المتطلعة لها بشهوانية في المرآة ، فابتسمت لنفسها بغرور وثقة.
التفتت نحوه برأسها ، وهتفت متساءلة :
-مش ناوي تتجوزني رسمي بدل ما احنا بنتقابل في الدرى كده زي الحرامية ولا اللي عاملين عاملة ؟!
أجابها بفتور دون أن تتبدل ملامحه أو يحيد بنظراته عنها :
-والله أنا عاوز ، بس الرك عليكي إنتي !!
أثار رده حفيظتها ، فنهضت من مكانها ، ووقفت قبالتها لترمقه بنظرات حادة وهي توجه سؤالها الجاد إليه قائلة :
-قصدك ايه ؟!
اعتدل في نومته ، وسحب بيده الوسادة ليضعها خلف ظهره ، ثم نظر لها بنظرات ذات مغزى ، وأجابها بنبرة غامضة :
-أنا لو قولت ، مافيش ضرر عليا !
ضاقت نظراتها نحوه ، وكتفت ساعديها أمام صدرها ، وكانت على وشك الرد عليه لكنه بادر بقول :
-بس انتي هتتحرمي من حاجات كتير ، وأولهم ابنك يحيى !
فهمت مقصده ، فتبدلت تعابير للإنزعاج ، وأرخت ساعديها بضيق كبير.
جلست على طرف الفراش إلى جواره ، وزفرت بغيظ وهي تهتف من بين شفتيها :
-أوف ، يادي يحيى اللي معجزني ومكتف ايدي !
نفخ في وجهها دخـــان سيجارته ، ورد بنبرة متحدية وقد تجمدت نظراته عليها :
-أحب ما على قلبي يا ولاء إني أقف في وش طليقك وأقوله إني اتجوزتك وبقيتي مراتي !
نظرت له بجدية ، بينما تابع هو بحذر :
-بس أنا عارفه مجنون ، هايخسرك كل حاجة وهيدفعك الدين القديم والجديد ، ومش بعيد يموتك !
تملكتها العصبية ، وصاحت بنبرة أقرب للصراخ :
-مازن ، خلاص قفل على سترته بتعصبني !
رد عليها بنبرة عقلانية – من وجهة نظره وهو يطفيء العقب الأخير في سيجارته :
-ماهو كل مرة بنتكلم فيها عن اعلان جوازنا بنوصل لنفس الطريق المسدود ده ، فخلينا كده أحسن لحد ما أخلص منه خالص !
نهضت من على الفراش ، واتجهت نحو خزانة الملابس لتنتقي لنفسها ثوباً ملائماً ، ولكنها التفتت فجــأة للخلف لتضيف بغموض :
-صحيح الكلام اللي سمعته ؟
انتبه لجملتها ، وسألها بإهتمام وقد انعقد ما بين حاجبيه :
-انهو كلام ؟
أجابته بنبرة جادة ونظراتها القوية مسلطة عليها :
-انت هتدخل معاه شريك ؟
لوى ثغره للجانب ، ونفخ بصوت مسموع ، ثم أجابها بتنهيدة محتقنة :
-على عيني والله ، بس أبويا اللي عاوز كده !
هزت رأسها متفهمة ، وسألته بفضول :
-أها ، ولازمتها ايه الشراكة دي ؟
أجابها بصوت قاتم وقد حدق في الفراغ أمامه :
-مفكر إنه بكده بيهدي اللعب بينا ، ميعرفش إنها والعة وعلى أخرها !
مطت فمها للجانب ، وأضافت قائلة بضجر :
-مممم.. وانت طبعاً مضطر تكون معاهم ؟!
هز رأسه بإيماءة هادئة وهو يجيبها بنبرة غامضة وغير مريحة على الإطلاق :
-ايوه ، يمكن تكون دي السكة اللي أحط فيها ايدي على كل حاجة ، وأخد بحق مجد أخويا المسجون !
.......................................
وقفت عواطف أمام حوض الغسيل لتكمل تنظيف الصحون المتسخة ، وهتفت بإحباط :
-يا مراري اللي مابينتهيش !
هدهدت ابنتها نيرمين رضيعتها التي تحملها بين ذراعيها لتغفو ، وردت عليها بحنق :
-كفاية بقى يا ماما ، أنا مش ناقصة تنكيت ، فيا اللي مكفيني !
تابعت عواطف عويلها قائلة بحزن :
-آه ياني ، اتخرب البيت ، واحنا لا حول لينا ولا قوة
ردت عليها نيرمين بعصبية وقد استشاطت نظراتها :
-هو وأهله كانوا عاوزين يخربوه من الأول ، وماسكتشوا إلا لما عملوا ده !
أضافت والدتها قائلة بجدية وهي تحاول التفكير بعقلانية :
-احنا عاوزين نشوفلنا صرفة في حاجتك ، مش هانسيبهالهم ، ولازم نربيه !
ردت عليها نيرمين بحزم :
-هايحصل ، أنا كلمت واحدة صاحبتي تشوفلي محامي شاطر ، وربنا يسهل !
سألتها عواطف بجدية وهي تغلق الصنبور :
-القايمة موجودة معاكي صح ؟
أومـأت برأسها إيجاباً مرددة بثقة :
-ايوه ، خدتها
تابعت والدتها قائلة بنبرة عازمة :
-كويس ، نديها للمحامي ويصطفل مع العالم دول !
ثم تنهدت بعمق لتضيف بتضرع :
-كملها بالستر معانا يا رب !
استمعت كلتاهما إلى صوت غلق باب المنزل ، فخرجتا سوياً من المطبخ ليريا من بالصالة.
تفاجئت الاثنتان بوجود بسمة وهي في حالة غير مهندمة.
تساءلت عواطف بتوجس قليل وهي تدقق النظر في ابنتها :
-ايه اللي رجعك يا بسمة ؟
أجابتها الأخيرة بصوت مغتاظ وهي تلقي بحقيبتها على الأريكة القريبة :
-كنت بتخانق تحت مع الزفت الجزار !
لطمت عواطف على صدرها شاهقة بفزع :
-يا نصيبتي تاني ! ايه اللي حصل ؟
أجابتها بصوت محتد وهي تغطي كتفها :
-اتعرضلي وكان عاوز يجيب رقبتي بالساطور
اتسعت حدقتي والدتها في إرتعاد أكبر ، وشهقت مذهولة :
-يا لهوي !!!!
تابعت بسمة حديثها قائلة بإمتعاض :
-بس ابن الحاج طه اتدخل ومنعه !
تنهدت عواطف بإرتياح لوجود أحدهما في المنطقة وقت حدوث المشاجرة وتدخله لإنقاذها قبل أن يتطور الوضع للأسوأ ..
وبالطبع الفضول تملك نيرمين لمعرفة هويته تحديداً ، فتساءلت بإهتمام :
-مين فيهم ؟ منذر ولا دياب ؟
التفتت بسمة نحوها ، وأجابتها بفتور :
-هتفرق يعني معاكي يا نيرمين !
ردت عليها بنبرة مستاءة تحمل السخط :
-لأ ، بس الواحد لما بيشوف الرجالة اللي زيهم بتصعب عليه نفسه !
هتفت والدتهما بنبرة شاكرة :
-الف حمد وشكر ليك يا رب ، دايماً ساترنا !
هتفت بسمة بنبرة عدائية وهي تشير بيدها :
-والله لو كان سابني عليه كنت دبحته !
نهرتها والدتها على تصرفاتها المتهورة قائلة بتبرم :
-كفاية خناقات الله يهديكي ، كل يوم فضايح وقلة قيمة
نفخت بسمة بصوت مسموع ، ولم تعقب عليها ، فهي تعلم أن الحديث معها لن يجدي بأي حال ..
نظرت نيرمين لأختها شزراً ، وتمتمت قائلة بفتور :
-الكلام مع بنتك مش هيأثر ، هي بتعمل اللي في دماغها وبس
رمقتها بسمة بنظرات ساخطة ، ثم هتفت من بين أسنانها بتأفف :
-أنا داخلة أغير هدومي خلوني ألحق أروح الدرس بدل ما اليوم يضيع هدر !
رفعت عواطف بصرها للسماء ، وهمست متضرعة :
-استرها مع بناتي يا رب !
........................................
أسند طــــه أريجلته على الجانب بعد أن فرغ منها ، ثم حدق في الأوراق الموضوعة أمامه على سطح المكتب ليحصر الطلبات الأخيرة الخاصة بالعملاء ، ولكنه رفع بصره للأعلى حينما سمع صوتاً مألوفاً يناديه بود :
-سلامو عليكم !
ابتسم طــــه ابتسامة عريضة وهتف مرحباً وهو ينهض لمصافحة مهدي :
-يا مرحب بالحاج مهدي ، الوكالة نورت !
بادله الأخير المصافحة ، ثم جلس على المقعد المقابل لمكتبه ، وردد قائلاً بعتاب زائف :
-أهلاً بيك يا حاج طه ، قولت أعدي واسأل بدل ما أنتو مقللين الزيارات عندي
أجابه طــــه بنبرة مرهقة :
-مشغوليات يا مهدي ، أديك شايف السوق وطلباته اللي مابتخلصش !
هز مهدي رأسه متفهماً وهو يقول :
-الله يكون في العون !
ســـأله طـــه بجدية وهو يشير بيده لأحد عماله :
-تشرب ايه ؟
رفع مهدي كفه للأعلى قائلاً بإعتراض :
-مالوش لزوم
احتج طـــه على رفضه للقيام بواجب الضيافة معه مبرراً :
-ودي تيجي بردك ، ده انت ضيفي ، أنا هاطلب أكل وشاي نحسب بعدها
أصـــر مهدي على رأيه قائلاً :
-والله ما له أي لازمة ، أنا واكل وكله تمام والحمدلله
في نفس التوقيت ولج منـــذر إلى داخل الوكالة متحدثاً في هاتفه المحمول بكلمات مقتضبة وغامضة :
-خلاص تمام ، على قديمه ، ولو في حاجة اطلب عليا ! سلام !
أنهى المكالمة مع المتصل ثم اقترب من الحاج مهدي ليصافحه قائلا ً بصوت جاد :
-سلامو عليكم ، ازيك يا حاج مهدي ، منورنا !
رد عليه مهدي بإبتسامة مصطنعة :
-وعليكم السلام يا منذر يا بني
التفت منذر ناحية أبيه ، وهتف بجدية وهو يوميء بعينيه :
-بأقولك يا حاج ، دياب راح المخازن يحمل بضاعة ويسلمها وهيرجع على الفجر كده !
رد عليه طه بهدوء :
-اها ، ربنا معاه ويعينه
ثم استدار ناحية مهدي وجلس في مواجهته، وباشر حديثه مردداً :
-شرفتنا يا حاج مهدي ، الوكالة بتاعتك ، انت مش غريب فاعذرني لو مشغول عنك شوية !
رد عليه مهدي بتفهم :
-الله يكرمك ، ابن أصول !
هتف الحاج طه متساءلاً بنبرة عادية :
-ها قولي ايه الأخبار معاك ؟
سلط مهدي أنظاره عليه ، ورد عليه بنبرة غامضة :
-ده أنا اللي جاي استفسر عن الجديد عندكم يا حاج طه
تبادل طه مع ابنه البكري نظرات حائرة ، فأكمل مهدي موضحاً بجدية :
-قصدي عن المطعم !
رد عليه طه بهدوء وهو ممتعض الوجه بسبب استشعاره لوجود شكوك ما في نفسه :
-احنا شغالين فيه !
اكفهرت تعابير وجه منذر بعد أن لاحظ الضيق الظاهر على وجه أبيه ، واستطرد حديثه قائلاً بنبرة شبه حادة ومشيراً بكفه :
-اعذرني يا حاج لو هاقطعك !
رد عليه أباه قائلاً بتنهيدة متعبة وهو يضرب بعكازه الأرضية :
-خد راحتك يا منذر !
سلط منذر أنظاره القوية على ضيفه ، وهتف قائلاً بجمود :
-شوف يا حاج مهدي ، احنا عند اتفقنا وبدأنا في التوضيب والتوسعات ، بس في كام حاجة معطلة الموضوع شوية ومأخراه !
ضاقت نظرات مهدي ، وسأله بتوجس قليل :
-مش فاهم ، ده معناته ايه ؟
مد طـــه يده ليربت برفق على فخذ مهدي قائلاً بإبتسامة باهتة :
-كل خير ، اطمن !
أوضح منذر حديثه المقتضب هاتفاً بضيق قليل :
-الحكاية باختصار إن في دكان في نص المحلات اللي بنفتحها على بعض مش بتعنا ، احنا هنشتريه من أصحابه ومستنين يوقعوا ورق البيع ونبتدي على طول !
حرك مهدي رأسه متفهماً :
-تمام ، إن كان كده يبقى على بركة الله !
رد عليه طــــه بزفير عميق :
-ربنا كريم !
هب مهدي واقفاً من مقعده بعد أن اطمأن على سير الأمور وفق ما يريد ، وتشدق قائلاً :
-طيب هستأذن أنا !
نهض طــــه هو الأخر من على المقعد مردداً بعتاب مجامل :
-ما بدري ، هو انت لحقت تاخد قهوتك ولا آآ....
قاطعه مهدي بصوت هاديء :
-وقت تاني ، أنا قولت أعرف الجديد عندكم ، والحمدلله اطمنت !
أومــأ طــــه برأسه متفهماً وهو يقول :
-ماشي
ودعهما مهدي قائلاً بإبتسامة ودودة :
-فوتكوا بعافية ، سلامو عليكم !
رد عليه منذر بصوت قاتم وهو يتابعه بنظرات حادة للغاية :
-وعليكم السلام !
ثم التفت برأسه نحو أبيه لتزداد نظراته عمقاً ، وتابع بنبرة مرتابة :
-زيارته دي مش مريحاني !
رد عليه طـــه بهدوء هو يعاود الجلوس على مقعده :
-عاوز يطمن يا بني ، ما انت عارف !
انزعج منذر من أسلوبه المشكك ، وصاح بضيق واضح :
-هو كان كلام عيال !
رد عليه أباه بهدوء محاولاً امتصاص نوبة غضبه قبل أن تندلع :
-لأ ، بس ابنه مش راجل في كلامه !
هتف منذر قائلاً بنبرة متوعدة وقد ضاقت نظراته بصورة مخيفة :
-والله اللي حايشني عنه هو انت يا حاج !
ربت والده على كتفه قائلاً بنبرة متريثة :
-ده مش من قيمتك يا بني ، ركز انت بس في شغلك
ضغط منذر على شفتيه ليردد بصعوبة :
-ماشي ! هاركز !!!!!!
......................................
أوصدت حنان الخزنة المعدنية القديمة الموجودة بالرف السفلي بخزانة ثيابها الخشبية بعد أن وضعت عدة ملفات وأوراق على حجرها.
تراجعت بمقعدها المتحرك للخلف ، ثم أغلقت ضلفتي الخزانة ، واستدارت نحو فراشها.
بدأت هي في مطالعة محتوى الملفات أولاً باحثة عن شيء محدد ألا وهو ( صك ملكية الدكان ).
لم تجده وسطهم ، فتنهدت بإستياء ، واكتسى وجهها بعلامات الضجر.
ولكن استرعى انتباهها ذلك المغلف القديم الموضوع وسط الأوراق.
أمسكته بأطراف أناملها ، وتأملته وهي تديره بأصابعها للجانبين محاولة اكتشاف مابه. ولكنه كان خالياً من أي معلومات تشير إلى محتواه.
وبحذر شديد قامت بفتحه لتخرج ورقة مطوية بعناية.
حدقت فيها بإستغراب ، ثم قامت بفردها لتقرأ بصوت شبه مسموع ما دون أعلاها :
-عقد بيع
خفق قلبها إلى حد ما، وابتلعت ريقها بتوتر ، ثم تابعت قراءة ما كتب فيها بتأنٍ شديد.
اتسعت حدقتيها مع كل كلمة تقع عيناها عليها ، وارتسمت علامات الذهول الممزوجة بالصدمة على قسمات وجهها المرهق.
تسارعت أنفاسها وهي تردد بنبرة مصدومة متلعثمة:
-أتنازل عن حصتي المملوكة في ميراث أبي بدكان عطارته لابنتي أسيف بيعاً وشراءاً
انفرجت شفتيها بصدمة أكبر ، وتراخت يدها الممسكة بالعقد.
حدقت أمامها بنظرات فارغة ، وبدت لوهلة عاجزة عن استيعاب الأمر.
هزت حنان رأسها مستنكرة ما فعله زوجها ، ورددت بقلق كبير :
-ليه عملت كده يا رياض ؟ ليه ......................؟!!
............................................