(غصونك تُزهر عشقًا)

By WesamOsama357

311K 17.3K 1.6K

يناديها يا حفنة العسل فيسيل الحب في قلبها حارًا غصونك تُزهر غشقًا الرواية الأولى في سلسلة (لعنة تسمى العشق) More

غصونك تُزهر عشقًا
اقتباس من وحي الأحداث
تواقيع أبطال رواية غصونك❤️❤️
تنويه عن مواعيد الرواية💚
الفصل الأول
اعلان الفصل💚
الفصل الثاني
تنويه❤️
الفصل الرابع
الفصل الخامس
اعادة نشر الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع " الحزء الأول"
مهم❤️✨
الفصل السابع2
الفصل الثامن 1
الفصل الثامن 2
الساحرة البدوية❤️
الفصل التاسع
حضور معرض الكتاب
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
معرض القاهرة الدولي💚
مهم جدا
مهم
الفصل الثاني عشر
الرواية الجديدة
الفصل الثاني عشر 2
الفصل الثالث عشر
الثالث عشر 2
الفصل الرابع عشر
اقتباس❤️
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر 1
الفصل السادس عشر2
الفصل السابع عشر
مهم❤️
اقتباس
الفصل الثامن عشر
العودة💖
الفصل التاسع عشر
الفصل التاسع عشر 2
الفصل العشرون
الواحد والعشرون
هام جدًا
الفصل الثاني والعشرون
اعلان الفصل
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون (جزء أول)
مهم
العودة
الفصل الرابع والعشرون الجزء 2
الرابع والعشرون الجزء٣
الرابع والعشرون 4
جزء من ٢٥
الفصل الخامس والعشرون الجزء2
الفصل الخامس والعشرون ٣
معرض الكتاب
لعشاق رد قلبي والغزالة الشاردة
مهم
الخميس والجمعة
العودة
(الفصــل الســـادس والعشـــرون)
(الفـــصل الســـابع والعـــشـــرون)
(الفصــل الســابع والعشــرون ٢)
الفـــصل الثامن والعشــرون
الفصل الثامن والعشرون ٢

الفصل الثالث

4.9K 320 29
By WesamOsama357

{الغصن الثالث}

كانت ترتعد رغم حر القرية ورطوبتها العالية، وجهها الشاحب كان يكتم كل انفعالاتها ببراعة عجزت عن تفسيرها في تلك اللحظة، كل ما تعلمه أنها لن تفلت براء من يدها ولن تتخاذل أمامهم، لن تنهار أمام ألفاظ والدة فايز ولن تحترق بنيران كراهيتها الغير مبررة، ستتفاوض معهم وترحل بولدها بعدما تأخذ منهم عهدًا ألا يحاولوا تهديد استقرارها، وبالمقابل هي لن تمنع حفيدهم عنهم، بل سينشأ على حبهم رغم كراهيتهم لها، ستفعل ما يرضي الله في سمائه، وفايز في أرضه، ستفعل أي شيء لهم مقابل ألا يستمروا في تهديدها، وألا يستخدموا أساليبهم القاسية التي أخبرها فايز بها ذات يوم، ستدخل الدار تلقي التحية وتطلب منهم أن يدعوها وطفلها في حال سبيلهم، وستأتي لهم بالطفل حينما يشتاقوا له.
كانت ترتب الأفكار في عقلها وتُهدأ خفقاتها الجنونية التي كانت تصدح في أذنها تصمها عن أي صوتٍ أخر، فلم تنتبه لنُصير الذي توقف أمام بوابة حديدية ضخمة وأشار لها بالدخول وهو ينظر لوجهها نظراته الناعسة المخلوطة بهدوء وشيء آخر تجهله تمامًا.

ما أن عبرت البوابة، انقبض صدرها وهي تتذكر يوم وفاة فايز، ذلك اليوم الأليم الذي فارقت فيه حبيبها وزوجها، فارقته على حين غرة دون أي إنذار.
كل ما حدث أنها استيقظت صباحًا وتفاجئت بوجوده جوارها رغم علمها إنه يستيقظ باكرًا ويرحل لعمله ويحادثها بعدما تستيقظ هي، ولكن حينها كان نائم جوارها بسكونٍ تام وبلا حراك، ربتت على كتفه توقظه برقة متغاضية عن جدالهما يوم أمس ومبادرة بالصلح بدلًا منه، ولكنه لم يجيبها، ربتة بعد أخرى وصوتها يردد اسمه بقلق حقيقي حينما مسدت جبينه ووجدته بارد بلا دماء؛ حينها انتفضت فزعًا وصارت تقلبه يمين ويسار وتتفحص نبضه وتضرب على صدره ولكن قابلها الصمت والخواء، عينيه كانتا قد فارقتا الحياة، مُعلقة بوجهها وكأنه يودعها
صرخت ولطمت وجهها وألقت الماء في وجهه ليستيقظ ولكن لا صوت ولا استجابة، تعالى صُراخها وهي تمسك هاتفها تتصل بالإسعاف واجتمع الجيران عند باب شقتها على أثر صُراخها العالي، ولكن فايز لم يستقيم من الفراش، لم يستيقظ ويخبرها أنها مزحة ثقيلة يعاقبها بها على جدالهما، لم يعانقها ويخبرها أنها في أمانته ورعايته كما كان يخبرها في الماضي، بل كان صمته هو إعلان رحيله وبداية عذابها.
كرهت الصباح؛ لأنه فارقها فيه، وكرهت الليل؛ لأنه خالي منه، وما بين الصباح والمساء كان وقتها يمضي محسوب من دفتر عمرها.
ولكن الجزء الأصعب على فؤادها هو مجيئها للقرية كي يُدفن فيها بناءًا على رغبة عائلته، استقبلوها بالعويل والصراخ والاتهامات الموجعة، ألقتها والدته بكل ما يُدمي القلب ويخدش الحياء، ركلتها بكلماتها القاسية، وطعنتها بكراهيتها الغير مبررة.

اغدقتها بالكراهية في الوقت التي كانت تتمنى فيه لو ترتمي في أحضانها وتَشُم رائحة فايز على صدرها، عاملوها بالقسوة واتهموها بالفسق والجُرم والشعوذة لأنها تزوجت فايز؛ حينها لم تجد حل غير الهرب منهم، هربت بطفلها الساكن في أحشائها ولعقت جراحها بنفسها وعاشت على ذكرى زوجها وقد ظنت أنها خاتمة قصتها مع تلك العائلة.

نظرت للمنزل الضخم القابع أمامها، بناء كئيب ذو لون بُني، جُدرانه قديمة، بل عتيقة قد ترك الزمن عليها أثره رغم صلابتها، ورغم أنه بيت من البيوت التراثية التي لا تراها سوى في الأفلام الوثائقية، ولابد أن قيمته المالية تساوي الكثير والكثير من الأموال، إلا أنها كرهته منذ أن وطأته في وفاة فايز، كرهته حينها وحينما رحلت عنه وعن أهله تنفست الصعداء، وكرهته الآن لأنها عادت له مُجبرة ومُكبلة بتهديداتهم القاسية
ولكن ها هي الان، تقف على أرضهم، يفصلها عنهم باب خشبي عتيق تود ألا تجتازه وتهرب بعيدًا هي وطفلها
حدسها يعنفها أنها جائت لوكر الأفاعي بقدمها، وعقلها يهنئها على الخطوة الذكية التي حجبت عنها نيران الحب وأبواب جحيمهم، وكل ما فيها يناقض نفسه.

حتى الدمع في عينيها ناقض صلابة ملامحها التي رسمتها حالما قُبلت بالصمت حينما رجت مساعدة نُصير وأعلن رفضه بصمته، حينها علمت أنها وحيدة في حربها؛ لذا ستكون الحماية لنفسها ولطفلها، لن ترتجي أحد، ولن تنكسر أمام أحد، هي صاحبة القرار في حياتها.

انتبهت على صوت صرير الباب عند فتحه بعدما طرق نُصير بكفه القوية عليه وكأنه حارس يَطرق باب الجحيم قبل دخوله.
ابتلعت رمقها حينما فُتح الباب بواسطة امرأة واجمة كانت أول من ألقاها بنظرة نارية قاسية، ثم لانت نظرتها وصارت ناعمة كالحرير وهي تنظر لنُصير وتقول بأدبٍ حنون:
-(الحمد لله على سلامتك يا نُصير بيه، والله أظلمت القرية حينما سافرت. )

أهداها الآخر ابتسامة ناعمة ونظرته الناعسة وهو يغمغم بصوتٍ هادئ وكأنه لم يقطع ساعات سفر طويلة:
-(وهل أنا أم عبده لتُظلم القرية عند سفري ؟!
أود كوب قهوة ثقيلة جدًا من يديكِ لأنني أتوقع مجيئ صداع الرأس بعد لحظات.)

وصلها تلميحه المبطن الذي يحمل قُبح ما سيحدث معها، كما أنه وصل لأم عبده التي ألقت مـرام بنظرة إزداء واضحة لم تخفيها ولسانها ينفلت كـساطور الجزار:
-(أعانكم الله يا نُصير بيه، ولكنه صداع لابد منه، كفانا الله شرع الصداع وأذاه.)

تجاوزها نُصير ومـرام التي ابتلعت إهانتها دون أن تقول كلمة واحدة، كانت تتمسك بقناع الهدوء والصلابة، تُهيئ نفسها لمَة هو أسوء بكثير؛ لذا لن تُشغل نفسها بإهانة أم عبده، فهي كانت قريبة لقلب زوجها الراحل، ولطالما أخبرها بمدى حنانها وعطفها عليه وكأنه ولدها الذي لم تلده، ولأجل عيني فايز سـتسامحها على ما فعلته معها.

تبخر كل شيء في عقلها، وضمت ولدها النائم لصدرها أكثر حينما بصرت عائلة فايز أمامها.
كان المجلس يعج بوجودهم ولكن بلا صوت، الرجال يجلسون بصلابة وبَأسِ، والنساء يتململن في جلستهن ويلقين نحوها كرههن ولعناتهن كـترحيبٍ صامت.

كانوا كـالذئاب المتربصون بالفريسة، ينتظر كلًا منهم سكونها كي ينقضوا عليها ويقتلعوا كل ما فيها بكل ما فيهم من قسوة وغل وكراهية سوداء.
ومن بينهن برزت السيدة أميرة في لباسها الأسود ووجهها المتجعد بملامح تُخيف الأنس والجان، عينيها جمرات من جنهم ولهيبها من سعير.

تغلب صوت نُصير على الصمت الثقيل وهو يتجه نحو رجل ذو عينٍ واحدة، وعينه الأخرى أُقتلعت من محلها ومُسح أثرها وظل فراغها يُثير في النفس هلع حقيقي؛ فانكمشت مُـرام في نفسها حينما تحدث ذاك الرجل بلهجة قوية خشنة يفوح منها التهور والجنون:
-(طال انتظارك يا نُصير.)

ضحك نُصير بذهنٍ صاف وهو يبادله العناق وقد غض الطرف عن العداء الصامت الدائر بينها وبينهم وهو يغمغم بهدوء مثير:
-(الصبر مفتاح الفرج، ألم تسمع بتلك الحكمة يا فراس؟!)

توسعت عينيها بذهول خائف وهي تسمع اسم فراس الذي أُطلق على الرجل ذو العين الواحدة، فنبض قلبها برعب وهي تفكر بهلع، أنها كانت تخافه من الحديث عنه واسمه فقط.، والان بعدما رأته كادت معدتها تخونها وتخرج كل ما فيها أمامهم، ولكنها تماسكت ووضعت كفها سريعًا أمام فمها وهي تشيح وجهها عنه وتحاول ضبط أنفاسها المتسارعة، فسمعت صوت أميرة وهي تدمدم ببغضٍ حاد:
-(هل دخلتِ على كُفار يا امرأة؟
ألم يعلمك والدك أن تُلقي السلام حينما تدخلي مكان، أم أنكِ ورثتي أخلاق عمتك الفاجرة وأمك الفاسدة ؟!)

شحب وجهها وشعرت بأنفاسها تغادرها وهي تسمع سؤالها المُهين الذي جعل الدنيا تدور من حولها، من أين تعرف عمتها ووالدتها لتنعتهما بالفجر والفساد؟!
ولمَا تبدو واثقة مما تقوله وكأنها تقول حقيقة من حقائق الدنيا ؟!
ارتجف جسدها وكادت تفتح فمها لترد على إهانتها، ولكن صدح صوت الرجل ذو العين الواحدة وهو يردد جملته بتحذير ثقيل:
-(أم فـــراس.)

أغلقت أميرة فمها وجعدت كفها على عبائتها السوداء واكتفت بنظراتها الحادة الكارهة، فجاء صوت فراس عاليًا مره أخرى وهو ينظر لمـرام من رأسها لأخمص قدميها:
-(أم عـــبده.)

جائت أم عبده على صيحته العالية وامتثلت أمامه بطاعة مغمغمة:
-(نعم فراس بيه.)

ألقى نظرة على خصلاتها بغير رضا وهو يدمدم بصوتٍ جامد يحمل ما يكفي من النقد والانتقاص منها:
-(اجلبي لها وشاح أسود تضعه على رأسها لتحتشم؛ فهي ستجلس بيننا ولا يصح هذا.)
حينها خرج صوت مـرام مبحوح يحمل ما تشعر به وهي تمسد على خصلاتها المعقودة خلف رأسها قائلة:
-(أنا لست مُحجبة.)

جائتها إجابته قاسية منتقدة وهو يشيح عينيه عنها ويجلس على مقعده بثبات دون أن يبدي أي تعاطف مع حالتها المضطربة:
-(أنت هنا في قرية من قرى الصعيد, ولستِ في البندر لتتبجحي بكونك غير محجبة، دار أل غانم يسير وفق عادات وتقاليد، وقواعده لا تُكسر يا لستُ محجبة.)

ابتلعت إهانة آخرى، لم تجد القوة الكافية لتصدها؛ بل إنفلت من فمها تنهيدة مرتجفة وهي ترى أم عبده تقترب منه وبيدها وشاح أسود طويل تمده لها بملامح حادة ونظرة ضائقة، فمدت كفها البارد لتُمسكه منها ولكنها تراجعت للخلف سريعًا حينما اقتربت ام عبده لتأخذ براء من يدها وخرج صوتها تلقائيًا يحمل حدة وارتجاف:
-(ابتعدي عن طفلي.)

جملتها الفزعة كانت كـالبنزين الذي أشعل نيرانهم وخاصة أميرة التي خرج صوتها صارخ حاد:
-(طفلك هذا حفيدنا يا بنت الفاسقة يا فاجرة.)
أتمت كلماتها المُهينة واندفعت نحوها بجنون وقد فشلت كليًا في كبت غضبها وكراهيتها، كانت تنوي نزع الطفل من بين يديها ولكن ابتعدت مـرام سريعًا وقد خرج صوتها كالزئير المجروح حينما استشفت رغبتها والتقطت نظرة الشر على وجهها:
-(لا تحاولي انتزاع طفلي مني، أنا جئت هنا للتفاوض معكم، لا لتلقي الإهانة أو لتأخذوا ولدي مني هذا لا يرضي الله.)

بقوة جبارة انتزعت منها براء الذي استيقظ صارخًا بسبب الأنامل القاسية التي اقتلعته من والدته، فتزامنت صرخته مع صرخة مـرام الفزعة حينما حاولت أخذ ولدها من جديد، ولكن أميرة وضعته في يد أم عبده وأشارت لها كي تأخذه وتبتعد، ولكن مـرام تحركت خلفها بسرعة كي تمنعها وهي تصرخ فيها بكل قوتها:
-(ولدي سيفزع بعيد عني، أعطني ولدي لأرحل به، براء يمرض حينما يصرخ هكذا أعيدي طفلــــــــي الآن.)
منعتها أميرة من السير خلف أم عبده وقبضت على مرفقها بقسوة عنيفة وتغرز أظافرها في جلدها وتضغط على نواجذها بحقد دفين وكلماتها تندفع من فمها كـالسُم الحي:
-( اصرخي قدر ما تريدين، الطفل لنا بالشرع والقانون والقوة والغصب، لا حيلة لكِ إلا الصراخ.)

حاولت مـرام أن تخلص مرفقها منها ودموعها تجري بفزع وانهيار على وجنتها الشاحبة وشهقاتها تندفع منها كشهقات الموت عند الغفلة، وحينما فشلت في انتزاع مرفقها تمسكت بها بكل يأسها وانهيارها، كلماتها تخرج فزعة أليمة:
-(أرجوكِ أعيدي براء، اقسم بالله ألا أحرمكم منه، ولكن أعيدي طفلي، هذا لا يرضي الله، أُقبل يديكِ إن أردتِ ولكن أعيدي لي ولدي براء.)

نفضتها أميرة بازدراء تُلقيها بعيد عنها دون ان تكترث بحالتها المنهارة:
(وهل يرضي الله أن تأخذي ولدي وتقتليه؟
أكان يرضي الله أن تدمروا عائلتي في الماضي وتقتلي ولدي الآن؟
أكان هذا يرضي الله يا مشعوذة يا حقيرة؟
جئتي لتتفاوضي ها، أنا سأحرق قلبك كما احترق قلبي، أقسم بالله أن أكويكِ بنار القهر والألم كما اكتويت أنا.)
كانت كلماتها عبارة عن طلاسم وأحجيات تجهل حلها, ولم تكترث بها من الأساس، كل ما تأبه به هو أن تاخذ ولدها وتهرب به بعيدًا، وتندم على مجيئها.

تحركت مره أخرى تسير حيث سارت أم عبده ولكنها أحكمت قبضتها على مرفقها مره أخرى وهي تصرخ فيها بحدة....
-(أين تحسبين نفسك ذاهبة، هل تظنينه دار أباكِ يا امرأة، قفي مكانك بأدبك أو...)

صدح صوت فراس بعنف هذه المره يزجر والدته بصوت ثقيل خشن:
-(كـــفي يا أمي وعودي لمقعدك ودعينا ننهي هذه المهزلة.)

أشار لشقيقته فلك التي اقتربت منه ومعها أوراق وقلم وضعتهم في كفه، فسار نحو مـرام الباكية وهو يمد لها الأوراق والقلم وعينه الواحدة تسدد نحوها نظرة قاسية وكلماته الأشد قسوة وسطوة تهبط على رأسها كالسوط قائلا....
-(والان كي لا نضيع مزيد من الوقت، خزي ووقعي على هذه الأوراق، وخذي المبلغ المُدون وارحلي عنا.. وتذكري أن ما ان توقعي هذه الأوراق تنسي عائلة غانم وتنسي كل شيء يخصنا، هل فهمتي)

نظرت للأوراق في يده ولازال صدرها يرتفع ويهبط في بكائها الذي لم ينضب، صوت نحيبها يخرج مقهور أليمًا، ودت لو تضرب وجهها وتشق ثيابها، أو تقفز على الأرض كالمجانين ليعيدو لها طفلها.
لم يكن عقلها يستوعب ما يحدث، لا يستوعب قسوتهم ولا جبروتهم الذي لم يكن له مثيل

وكذالك لم تستوعب هدوء نُصير الذي كان يجلس على أحد المقاعد وينظر لما يدور وكأنه يشاهد تمثيلية درامية تافهة، لا تصدق أن فايز جزء من هذه العائلة اللعينة، لا تصدق أنها وقعت في فخهم بكل سهولة وغباء.

أرادت أن تمسك الأوراق وتمزقها وتُلقيها في وجهه وتدعوا عليهم بكل أيات الدعاء على الظالمين، أرادت أن تخبرهم بمدى كرهها لهم في هذه اللحظة، وتندم على اللحظات التي أرادت أن تتفاوض معهم فيها
أرادت أن تفعل الكثير ولكن النتيجة ستكون قاسية، لن تأخذ ولدها منهم.. لذا رفعت كفها تمسح دموعها الغزيرة وهي تنظر لفراس برجاء ضعيف وتغمغم...
-(سيد فراس بالله عليك لا تفعلوا بي هذا، أنا كنت زوجة أخاك الاصغر، لم تروا مني شيء سيئ لتفعلوا بي هذا، ولا أدري أي سوء تفاهم يدفعكم لتقسوا عليّ بهذا الشكل... أنا ارجوك أن تعيد لي طفلي، اقسم بالله أنني لا أود أي مال، ولست طامعة بأي شيء حتى أنني لم أسألكم ميراث فايز ورحلت بهدوء، لذا أرجوك أن تعطيني بـراء فصراخه قبل قليل سيؤدي لمرضه، ولدي سريع المرض، أرجوك أن تتقي الله في ولا تحرمني من ولدي)

وقف نُصير بشكلٍ مفاجئ واقترب من فراس يُخفض كفه المُحملة بالأوراق قائلا بهدوء مُسيطر كمن يحادث طفل وهو ينظر له مليًا...
-(فراس لا داعي لاجتماعكم الان، طالما أن الطفل فزع وسيمرض كما تقول والدته، دعها ترتاح هي وطفلها أولاً وغدًا سيكون النقاش أفضل للجميع، فـ الوضع تحول لمهزلة كما قلت قبل قليل)

بادله فراس النظرات قبل أن يغمض عينه ويتأفأف مستغفرًا وصوته يصدح بقوة مستدعيًا أم عبده لتأتي بالطفل
فانتفضت أميرة مره أخرى تتحدث بصوتٍ عصبي موجهة حديثها لنُصير....
-(لا شأن لك يا ابن أختي، ولدي لا يُؤمر، ثم أن ليس هناك شيء ليتم النقاش فيه، الولد من حقنا ولتضرب هي رأسها في الحائط)

لم يوجه لها نُصير أي كلمة، بل لاح التقدير الهادئ على وجهه وهو يربت على كتف فراس قائلا له بهدوء تام كي يتخطى اتهام خالته...
-(لا أشك لحظة أنه سيفعل الصواب، ولكن الان أنا أرى من الأفضل أن يؤجل هذا النقاش...مصلحة الطفل وصحته أولاوية الجميع)

تحدث أميرة بعنف حاد...
-(من أنت لترى او لا ترى، هذا قرار ابني وحده و...)

قاطعها فراس بنبرة حادة مؤنبة...
-(أمـــي)

ثم نظر لأم عبدو التي أتت بالطفل الذي لازال يبكي بقوة وقد توهج وجهه من كثرة صراخة، وما أن رأى والدته الباكية، ارتفع ذراعيه يطالبها بحمله
فاتجهت مـرام سريعًا نحوه تخطفه من بين يدي أم عبده وتقربه لصدرها تعانقه وتربت على رأسه كي يهدأ، وقد عادت الروح لها بالرغم من استمرار شهقات بكائها ولمعان الدموع على وجهها

كانت حالتها سيئة للدرجة التي جعلت جسدها يرتجف بلا توقف وشحوبها يزداد أكثر.

فتنهد نُصير وهو ينظر لساعة معصمة مغمغمًا بجدية...
-(سأخذها لمنزلنا يا فراس لتبيت فيه ليلتها، وغدًا تستطيع متابعة النقاش بطريقة حضارية أكثر دون مشاكل.)

حرك فراس رأسه بإيجاب مما زاد عصبية أميرة، ولكن نُصير تجاهلها تمامًا وهو يتجه نحو مـرام ويمسك مرفقها لتسير معه نحو الخارج.. أطاعته وسارت معه وهي تحضن طفلها لقلبها وقد ظنت أنها ستُحرم منه للأبد لولا تدخله في النهاية وقد أنقذها لتوه من أسوء خيالاتها.

استقر في سيارته أمام عجلة القيادة وهي جواره لازالت تعانق براء وشهقاتها تخرج متقطعة وقد فقدت السيطرة عليها، رأت كفه يمتد لها بزجاجة ماء صغيرة وصوته العميق يغمغم...
-(اشربي)

مدت كفها المرتعش تحاول امساك الزجاجة، ولكنها انفلتت منها دون أن تجد القدرة على امساكها وقد خارت قواها كليًا

فأمسكها مره أخرى وفتح غطائها ويقول بهدوء...
-(اعطني الطفل وخذي لتشربي)

حركت رأسها نافية وأبت أن تترك ولدها، ومره أخرى انفجرت في نوبة بكاء عنيفة وجسدها ينتفض بضعف
كلما تذكرت ما حدث معها في الداخل، وأنها كادت تفقد طفلها تنهار ويتمزق قلبها ألمًا، لا شيء يُعادل ألم الخوف والرهبة، لا يشاء يجابه ألم الفقد .

فأعاد نُصير غلق زجاجة الماء ووضعها جانبًا وهو ينظر لها مليًا، يحاول سبر أغوراها وهو يغمغم بسؤاله الهادئ...
-(فايز لم يخبرك عن سبب كراهية عائلته لكِ ؟!)

حركت رأسها نافية دون أن تنطق بكلمة، فشهقاتها المتلاحقة منعتها من الحديث، والبكاء غلبها واستنزف طاقتها كليًا... كل ما استطاعت فعله هو دفن وجهها الباكي في كتف ولدها براء الذي هدأ من بكائه أخيرًا وانشغل في بكائها

أما الجالس جوارها فلم يرفع عينيه عنها، وقد أدرك في نفسه أن فايز وضعها في ورطة حقيقية لا فرار منها

***

***
طوال رحلة العودة للمدينة كانت تنظر للهاتف وتردد النص مرارًا وتكرار تحاول حفظه قبل وصولها كي لا ترتبك وتنسى النص أمام المُنتج الذي وضع على عاتقها ثقته وأمله, فـ ميمي أخبرتها أنه جادل المُخرج حولها لدرجة أنه المتحرش هدده بأنه سيترك الفيلم لو انضمت له ولو بدورٍ صامت, ولكن المنتج أظهر لا مبالاة كبيرة وأصر على حضورها فورا لتجربة الاداء

لذا ستفعل كل ما بوسعها لتحصل على الدور وتنال اعجاب المنتج بموهبتها, ونكاية في المخرج المتحرش الذي يشوه شمعة الفن بأساليبه الرخيصة, فكانت قد انتهت من حفظ ما أرسل لها وبدأت تُدرب نفسها على تمثيله.. فتجاهلت الجالس جوارها كليًا كما تجاهلها هو منذ قيادته السارة قبل نصف ساعة, ونظرت امامها وهي تتخيل وجود الممثل الأخر وتُهيئ لنفسها أنها داخل المشهد.
فجعدت جبينها وكورت ثغرها في تأثر وخرج صوتها ضعيف حزين يحمل نبرة الرجاء والألم...
-(أرجـــوك يا أبي لا اتكسر قلبي بعنادك, لا تفرق بيني وبين طارق.. انه حبـــي الوحيــد, ارجووك يا أبي لا تفرق بين قلوب عاشقة.. لا تقترف الإثم العظيم حول عالم العشق والمحبين.. وإن صممت على موقفك سأقتل نفسي وأكون شهيدة حبي الاليم)
كانت كلماتها تنطلق منها بمبالغة شديدة جعلت وجه عبدالعزيز يتجعد أثناء قيادته وقد غادره هدوئه الشارد بسبب تلك المعتوهة التي انطلقت تتغنى بكلماتها الغريبة التي رأها ألف مره في الأفلام القديمة.. ولكن تمثيلها المبالغ تفوق على الجميع في مدى سوئه وعدم اقناعه, ولكنه تجاهلها وتابع القيادة وقد كبح ردة فعله.

أما هي فتنهدت ورفعت كفها لجبينها وهي تهمس لنفسها بخفوت..
-(أشعر أنني غير مُقنعة بالمره.. أووف كيف سأعلم مستوى تمثيلي قبل أن يراني المخرج)
طالت صمتها وهي تفكر قبل أن تتسع حدقتيها وتلقي نظرة خاطفة على الجالس جوارها ويتابع قيادته بكل تركيزه, فحمحمت قبل أن تلتفت له في جليتها وتوليه كل انتباهها قائلة بهدوء مصطنع ناقد ازدرائها له قبل ساعة..
-(أستاذ عبدالعزيز)

لم يصلها أي اجابة منه بل تابع القيادة بوجهٍ منغلق تمامًا وكأنه لم يسمعها, أو انها لم تتحدث من الأساس
فعقدت جبينها وهي تقترب وتمد اصبعها لكتفه تلكزه مكرره بصوتٍ لحوح..
-(أستاااذ عبدالعزيز, أنا احادثك ألا تسمعني!)

أجابها بعد لحظات بهدوء شديد..
-(بل سمعتكِ)

اتسعت عينيها من صراحته في الاجابة، فعقدت جبينها بضيق واضح وهي تكرر...
-(إذًا لمَ لم تُجيبني!)

-(ظننت أن اسمي هو رشدي أباظة)
لم تكن كلماته تحمل لمحة من المزاح أو خفة الظل، بل كانت كمن يُلقي خبر اختفاء طائرة في مثلث برمودا.. ورغم ذلك تشقق وجهها بالاجبار تحاول أن تبتسم وتطلق ضحكة مرحة خرجت منها صفراء وهي تغمغم...
-(عسل يا أستاذ عبد العزيز عسل )

لم يبدي ردة فعل للمره الثانية ولم يحيد بعينيه عن الطريق، فشعرت أنها مضطرة تتحمل ثقل دمه وهدوئه المريب.. فهي تحتاج التمرن على المشهد وأن يبدي رأيه في تمثيلها كي تطمئن لمستواها في التمثيل

لذا نظرت امامها للحظات وهي تهمس لنفسها بصوت ضيق مغلوبة على أمرها...
-(هيا يا فاتن لا بأس، إن كان لكَ عند الكلب حاجه قُل له يا أستاذ، لا بأس يا فاتن)

حمحمت وهي تلتفت له بابتسامة مشرقة وعينين تشع بالحماس والحذر وتردد بصوت حاولت ترقيقه وتأديبه بكل طاقتها....
-(أستاذ عبد العزيز هل أستطيع طلب شيء!؟)

جائتها اجابته مختصرة هادئة
-(تفضلي)

-(أنا حفظت المشهد المُرسل لي، أود تمثيله أمامك وكأنك أنت أبي، وبعدما أنتهي تقول لي رأيك الصااادق، وأرجوك ألا تجاملني بكلمات رقيقة، قُل الصدق فقط.. اتفقنا )
ألقت كلماتها دفعة واحدة بمنتهى الجدية والثقة، وكانت تضغط على كلماتها الأخيرة لُثنيه عن أي مدحٍ زائف

كاد يضحك ساخرًا على جديتها، ود لو يخبرها رأيه الصريح قبل أن تقوم بإعادة ذاك المشهد الكارثي، ولكنه تنهد وهو يضرب بخفة على عجلة القيادة مُجيبًا على مطلبها...
-(حسنًا ابدأي)

أسدلت رأسها وتهدلت معها خصلاتها كمن يتحول من هيأته لهيئة أخرى، ثم رفعت وجهها له وقد امتلئت عينيها بالدمع الحزين وتجعد وجهها في حزنٍ وانكسار كاد يُصدقه ويُشيد بموهبتها... ولكن نبرتها المُبالغ فيها جعلته يصرف عن عن تلك الموهبة.. فصدح صوتها وهي تقول...
-(أرجـــوك يا أبي لا اتكسر قلبي بعنادك, لا تفرق بيني وبين طارق.. انه حبـــي الوحيــد, ارجووك يا أبي لا تفرق بين قلوب عاشقة.. لا تقترف الإثم العظيم حول عالم العشق والمحبين.. وإن صممت على موقفك سأقتل نفسي وأكون شهيدة حبي الأليم)

أنهت كلماتها وهي تتمسك بمرفقه وتحركه متأثرة بالكلمات الغريبة، فما كان منه إلا أن تنهد وهو يتمتم بنبرة خافتة ممتعضة...
-(اقتلي نفسكِ)

خرجت عن الشخصية وهي ترف أحد حاجبيها وتجعد جبينها مرددة..
-(ماذا، لم أفهم )

-(لو كنت والدك وأنتِ ابنتي تقولين هذا الكلام، فـ سأقول لكِ اقتلي نفسكِ أو اذهبي وتزوجيه لأتخلص من تلك المبالغة الدرامية.. لم أرى أداء أسوء من أدائك الان يا أنسة)

بهتت ملامحها فورًا وتهدل كتفها وقد ضربتها كلماته كصاعقة نسفت كل حماسها وأملها كعاصفة اقتلعت كل ما على الأرض وأطاحت ما في السماء.

ابتلعت رمقها ولازالت عيناها معلقة بوجهه الهادئ الذي لم يكلف نفسه ويُديره لها ليرى أثر كلماته المفتقرة للذوق عليها... ولكن لحظات وسمعته يقول بهدوء بعد أن توقف بالسيارة...
-(المبالغة تقتل كل شيء، وجهك معبر، ولكن ما ان تفتحي فمك يفسد كل شيء، لذا تحكمي بحس الدراما المبالغ به، والمشهد ذاته لم أرى أسوء منه... فـ لو كان جزء من الدور المعروض عليكِ أضمن لكِ انكِ ستكونين حديث الساعة
وانما حديث سخرية وتهكم ومادة دسمة للنقد... بالتوفيق)

انهى كلماته وهو يُشير لوجهتهم التي وصلوا لها أخيرًا، فنظرت حيث أشار ولازالت ملامحها واجمة من صراحته الوقحة ونقده الهدام، فلم توجه له كلمة واحدة وهي تهبط من السيارة وتتجه نحو المبنى المنشود

وقبل أن تدلف شعرت به يقف خلفها تمامًا، فـ التفتت له رافعة أحد حاجبيها بضيق واندفع لسانها يقول في حدة..
-(ماذا هل ستقول للمنتج أنني لا أملك الموهبة ومبالغ فيّ)

قابل حدتها بهدوء رغم التسلية التي بدأت تنمو داخله بسبب غضبها وتناقضها في كلماتها وأفعالها، فهي طالبته بالحقيقة لا غير، وحينما أخبرها الحقيقة غضبت واندفعت كطفلة متمردة

-(من المفترض أنني معك كما طلبتِ مني شقيقتك، لا شأن لي بعملك او موهبتك، فقط سأرافقك كـ حماية لكِ)

ضحكت ساخرة وهي تنفض شعرها الغزير خلف ظهرها وتقول...
-(ماذا هل غيرت مهنتك من محامي لحارس شخصي، عد لسيارتك يا رشدي أباظة أنا لا احتاجك)

همهم وهو ينظر حوله ويقول بنبرة هادئة...
-(حسنًا طالما عدنا لرشدي أباظة لنجد المنتج ونخبره عن شهيدة الحب والمبالغة الدرامية)

تمسكت بمرفقه سريعًا تمنعه وقد صدقت تهديده فسارعت تقول بانفعال متوتر...
-(أستاذ عبدالعزيز، أرجوك لا تفسد فرصتي الأولى.. لي أشهر أقفز بين تجارب الأداء والمسرح ومعهد التمثيل، أحاول انتزاع فرصتي دون واسطة او تنازلات أو شيء مشين.. أفعل كل ما في استطاعتي لأصل لحلمي وأثبت للجميع أنني قادرة على تحقيق أهدافي، تود أن تكون معي حسنًا تعالى معي، ولكن أرجوك لا تغدر بي)

نظر لها مليًا ولعينيها الواسعتان كالدُنيا، ذاتها العينين التي رأها حينما كانت خضراء اللون منتفخة الشعر، ولكنها الان كانت بديعة الخلقة، بهية الطلعة.. تملك في وجهها قبول غير مشروط، وحصرت في حدقتيها الواسعتين سحر غريب.

لم تكن بالنسبة له إلا فتاة تافهة طائشة تركض خلف الأضواء والشهرة، وحتى الان يرى هدفها تافه لا يرتقي لأن يكون مسار صحيح في الحياة.
ولكنها تبدو صادقة في رغبتها ومتفانية في تحقيق حلمها، كانت تدري مالذي تريده في الدنيا، وتعلم موطئ قدمها
وكل ما تريده هي فرصة..فرصة واحدة وتبدأ مسيرتها.

نظر حوله يبحث عن المنتج بعدما تمتم...
-(هيا لنجد المنتج، من حسن حظك أن نُصير له واسطة سينمائية لا تعوض)

لم تفهم حديثه ولكنها تبعته حتى وصلوا للمنتج وبدأت تجربة ادائها أمام المنتج وعبد العزيز وبعض أبطال العمل باستثناء المخرج الذي رفض الحضور ولازال يتمسك بتهديده حول ترك العمل.

-بعد ساعتين أو أكثر

نظرت للمطعم حولها بانبهار حقيقي قبل أن تميل على الطاولة وهي تنظر له بضيق واضح وتغمغم منتقده...
-(اعذرني يا أستاذ عبد العزيز، ولكنك مُسرف جدًا، كيف لك أن تأتي بي لمكان فاتورته تكلف راتب شهر )

أمسكت بشوكتها تغرزها في قطعة اللحم الموضوعة أمامها وتقطع منها بشوكتها كما يفعل عبدالعزيز الذي حدق فيها للحظات قبل أن يقول...
-(من أخبركِ أن الفاتورة تساوي راتبي !؟)

وضعت قطعة اللحم في فمها تمضغها بهدوء وتستطعم طعم الثوم والروز ماري بها وتتلذذ به قبل أن ترفع المنديل وتمسح فمها قائلة بدهاء وابتسامة مختالة
-(انا أتذكر قولك حينما قلت أنك تعيش في حارة شعبية، مع أنني خُدعت في مظهرك الأنيق أنك ابن ناس)

ترك شوكته وحدق بها بنظرة جعلتها تندفع سريعًا موضحة مقصدها..
-(أقصد ابن ذوات، كلنا ابناء ناس بالطبع، ولكن بذلتك الغالية وساعتك وطريقتك جعلتني أظن انك غني)

همهم وهو يريح ظهره لظهر المقعد ويحدق فيها مليًا، يتأمل سكناتها وحركاتها وهي تقطع اللحم وتأكله، تغمص عينيها عند أول قضمة ثم تفتحها منتشية كمن يتجرع الخمر.

كان جمالها ورقة ملامحها لا تتناسب مع أسلوبها أبدًا
وحينما انتبهت لنظراته، تحدث بهدوء ساخر...
-(وهل كوني لست ابن ذوات قلل من قيمتي !)

-(لا بالطبع، كلنا أولاد تسعة.. أبي يقول أن قيمتنا نأخذها من عقلنا وأفكارنا، المال ينزع القيمة في بعض الأحيان، ولكنه لا يعطي القيمة لذوي العقل الفارغ..وصدقني لو كنت ابن ذوات لما تساهلت معك وجئت لهذا المطعم الغالي الذي سنغسل صحونه بعد انتهاء وجبتنا)

خرجت منه ضحكة خافتة وهو يحرك رأسه نافيًا ويغمغم بنبره هادئة لانت جوانبها...
-(لا تقلقي أستطيع تدبر الفاتورة إن لم تطلبي شيء أخر)

ضحكت وهي تضع شوكتها وقد انتهت أخيرًا من تناول وجبتنا واستندت على الطاولة وهي تنظر لوجهه الذي أضائته الضحكة العابرة التي رسمها على ثغره للتو وقالت...
-(أنت لطيف يارجل كما قال السيد نُصير، ولكن عيبك الوحيد أنك صامت على الدوام، هل فرضوا رسوم على الحديث وأنا لا أعلم)

للمره الثانية يبتسم قبل أن يرفع الكوب لفمه يرتشف منه ويقول بعدها...
-(خير الكلام ما قل ودل يا فاتن)

لا تدري لما جرت قشعريرة طويلة في جسدها حينما تمتم باسمها وحدق في عينيها بتلك النظرة الهادئة.
لم تكن تسخر منه حينما أطلقت عليه رشدي أباظة
لم يكن يشبهه في الشكل، ولكنه كان يجابهه في الوسامة والشخصية وقوة الحضور، كان رجل ثقيل من الرجال الذينٰ لا يتلفتوا للشيء مرتين

بل يجذبوا رؤوس الفتيات لهم بكل بساطة
وعبدالعزيز كان رجل يتمتع بأشياء كثيرة تجعل أي فتاة تنجذب له، بخلاف وضعه الاجتماعي.

خرجت من شرودها وتحكمت في طوفان مشاعرها وهي تحمحم وتجلي صوتها وتقول باسمة...
-(أنت الان تعلم عني كل شيء، ولكن أنا لا أعلم سوى أنك عبدالعزيز وتعمل محامي وتعيش في حارة شعبية)

لم تخفى عنه لمعة عينيها التي طفت عليها فجأة، او الاحمرار الذي غزى وجنتيها، فنظر للكوب الموضوع على الطاولة أمامه للحظات قبل أن يرفع عينيه لها ويبتسم ابتسامة هادئة تميل للفتور...
-(انتِ محقة، اسمي عبدالعزيز رفال، أعمل محاميًا لعائلة غانم ولعائلة عريقة أخرى، عمري اثنين وثلاثون عام
ومخطوب على وشك الزواج)

انطفأت اللمعة التي احتلت عينيها وتحول التوهج لشحوب وماتت الابتسامة على ثغرها حينما سمعت كلماته الواضحة تمامًا.

كانت الرياح تجري بما تشتهي سُفنها، قررت الحياة أن تعطيها فرصة وتمنحها أحلامها البعيدة وأمنياتها الذهبية
ولكنها ضمت حلم جديد لقائمة أحلامها المستحيلة، حلم غير قابل للمشاركة..حلم ملك لأُخرى.

***
كانت أميرة ترغي وتزبد في المجلس مع فراس بعدما رحل البقية، أما فلك فدخلت المطبخ وجلست أمام طاولة الطعام تحدق أمامها بصمت، بينما أم عبده تتابع تحضير طعام العشاء بوجهٍ شارد وحيرتها بادية في عينيها وهي تغمغم...
-(أيصدق الانسان عيناه أن الأقاويل، البنت تبدو مسكينة ولا يد لها بما حدث، ولكن أيمكن أن تكون تمثل الضعف أمامنا !؟)

تنهدت فلك وخرجت من شرودها وهي تمسد جبينها المتألم من الصراخ والعويل الذي حدث قبل قليل فتمتمت بصوت ثقيل خافت...
-(أكثر ما اغضبني هو الطفل، نُصير كان محق في تدخله، لولاه لـ زاد الوضع سوءًا)

مصمصمت ام عبده شفتيها وهي تحرك رأسها بإيجاب قائلة بضيق من شعورها المتعاطف نحو مرام..
-(قطع قلبي بكاء الطفل والله، حاولت تهدئته واللعب معه ولكنه كان يبكي ويصرخ يريد والدته، حمدت الله في نفسي حينما استدعاني السيد فراس، خفت على الطفل أن يفقد الوعي من كثرة صراخه... وأيضًا أشفقت عليها)

تجاهلت فلك الحديث كُليًا وهي تتنهد مطولاً وتقف متجه نحو المبرد تخرج زجاجة مياه لترطب حلقها الجاف قبل أن تقول...
-(وأين فيدرا من كل هذا الصراخ، غير معقول أنها لم تسمع أو تدري ما يحدث)

ارتبكت أم عبده وكادت تُسقط المعلقة الخشبية من يدها وهي تلتفت لفلك وتتحدث بصوتٍ خافت خشية من سماع أحدهم لما تقوله....
-(انها في الجناح الغربي، أخبرتني قبل ساعة أنها ستذهب للجناح الغربي وإن سألني أحد سواكِ اخبرهم أنها نائمة )

تغضن جبين فلك وأغلقت المبرد بقوة وقد تعكر ذهنها أكثر وانفلت منها تأفأف متعب وغاضب في الان ذاته وهي تهمس من بين أسنانها...
-(فراس أو أمي لو علموا بذهابها لن ينتهي اليوم على خير، اذهبي لها يا أم عبده وأخبريها أن المنزل لا تنقصه مشاحنات غاضبة، يكفينا ما فينا، وهدديها أنني أقول لو ذهبت للجناح مره أخرى سأخبر فراس بنفسي )

حركت ام عبده رأسها بطاعة ولكن تسمرت محلها وزاغت عيناها بشفقة وارتبكت الكلمات على لسانها وهي تغمغم..
-(ولكن سيدتي، السيد مريض جدًا و...)

-(أم عـــــبده)
قاطعتها فلك بحدة وبرقت عينيها بنظرة زاجرة جعلت أم عبدو تبتلع لسانها وتضع كفها على فمها سريعًا كعلامة على الصمت

وخرجت من المطبخ لتفعل ما أمرتها به فلك، كي تتجنب عواصف أل غانم وتأمن غضبهم
أما فلك فجلست أمام الطاولة مره أخرى ووضعت رأسها بين كفيها تحاول التفكير بهدوء فيما حدث قبل قليل
ولكن رنين هاتفها قطع شرودها وزاد من ألم رأسها حينما قرأت الاسم على شاشة الهاتف

تنهدت مطولاً تحاول ضبط أعصابها قبل أن تفتح الخط وتتحدث بنبرة فاترة خالية من الذوق...
-(نعم)

جائها صوته هادئ يحمل بين جوانبه اشتياق فاض من قلبه دون أي ضبط أو تحكم
-(اه لو أسمعها من فمك طائعة بدلًا من فاترة يا فلكي، ألم يشتاق قلبك القاسي لي ؟!)

أغمضت عينيها للحظات والحرارة تندفع لرأسها وتغطي عيناها فتزيد الألم... ألم لم يحتل رأسها فقط، بل بدأ يتسرب لقلبها الذي بدأ يتشقق وتصدع بسببه فقالت ببرود لا تشعر به...
-(اسمعني جيدًا، لو كنت أنت تستحل عرض غيرك فأنا لا أخون، فلك الغانم لا تُعامل كخطيئة، ولو كنت تراني في خسة عُهر فتياتك فذكرني أن أقتلع عينيكِ كي لا ترى أبدًا.. هل سمعتني )

ثم أغلقت الهاتف ووضعته على الطاولة والضيق يتملك منها أكثر من ذي قبل، كل الأشياء حولها ادعوا للغضب، وهذا الرجل وحده يدفعها للجنون، يود لو تسير على نهجه في الحياة واستهتار مشاعره

ولكنها فلك أل غانم تَكسر ولا تنكسر.
***



Continue Reading

You'll Also Like

1.2M 97.1K 77
‏لَا السَّيفُ يَفعَلُ بِي مَا أَنتِ فَاعِلَةٌ وَلَا لِقَاءُ عَدُوِّيَ مِثلَ لُقيَاكِ لَو بَاتَ سَهمٌ مِنَ الأَعدَاءِ فِي كَبِدِي مَا نَالَ مِنَّيَ م...
2.2K 128 5
_ كوب وجهها بين راحتيه ولثم جبينها بحب جمًا لتُغمض عينيها بخجل بينما يُمسك يديها ليُحدث قشعريرة يهتز لها بدنها ويرفع كُل يدٍ على حِدة ويطبع القُبل ال...
2.4K 105 7
تمايل خصرها بصورة متناغمة مع تلك الموسيقى، أطبقت جفنيها لتنغمس مع تلك النغمات الصاخبة، وأخذت تهز كتفيها بصورة احترافية مستعرضة منحنيات جسدها البض بصو...
58.8K 1.3K 11
احبك وانت تحبني ولكن اللذي بيننا هو الكبرياء اشتياقي لك كسطور خرساء لا انت تقراها ولا انا أنطق بها