الفصل السابع عشر

4.8K 338 40
                                    

الفصل السابع عشر كـــــــــــــــــــــــــــــــامل
..................................................................................
جالس فوق مقعد المشفى، وعينه مسلطة على الغرفة الكبيرة التي اخفت مـرام عنه.. يحدق في الباب بعقلٍ شارد ووجه مشدود بعصبية، في حياته لم يظن أنه سيصل لهذه الدرجة من الغضب المكبوت، كان يشعر بالنيران تندلف في صدره وتأكله بجوعٍ وحشي.. غادره هدوئه كُليًا وماعاد يفكر بتروي أو يجد حلول هادئة عقلانية لمَ يحدث حوله.
شعور ساحق بالخسارة يضرب ضميره في هذه اللحظة، خسارة لم يتذوقها في حياته قط.. طوال سنوات عمره الثلاث والثلاثون لم يُهزم ولو عن طريق الاحتمالية.. كان دومًا يتمالك زمام حياته وحياة من يهمونه.. ولكن فجأة عمت الفوضى وأغرقت كل ترتيباته واظهرته كخاسر فاشل، لم يستطع حماية امرأته

ابتلع رمقه بثقل وهو يفكر بعصبية، فوضى.. هي الكلمة التي تنطبق على الحال في هذه اللحظة، كل شيء منقلب رأسًا على عقب.. كل شيء مبعثر حوله لدرجة أنه سأل نفسه ذاهلًا.. كيف ترك الأمور تصل لهذا الحد.. أين كانت ترتيباته المُحكمة  ، والدقة امتلاكه لمقاليد الأمور؟!.. منزله  ، منزل والده الأثير الذي أستخدم فيه نظام حماية دقيق يمنع المتطفلين من عبور الردهة.. ولكن لم يعبرونه فقط.. بل أنهم دخلوا داره وتعدو على امرأته، جعلوها جثة هامدة تطفو فوق بركة دماء..

مـرام كانت ضحية إخفاقه في حمايتها.. ضحية انشغاله عنها وعدم حضور ذهن نجاة
كان اللوم يصل لحلقه وهو يسمع مبررات نجاة التي لا تدخل عقل طفل صغير..
لقد تركت المنزل ونسيت تشغيل زر الحماية مُبررة تصرفها أنها ذهبت للمساعدة سريعًا وكانت ستعود فورٍا  ، فلم يأتي لعقلها أن مـرام ستصاب بضرر بالغ..
لم يشأ ان يستمع لمبرراتها الباكية في هذه اللحظة  ، كان الدم في عروقه يجري ببطء  ، صدره منكمش في خوف لم يصفح عنه.. وصورتها وهي غارقة في دمائها جعلته يحاول تنظيم أنفاسه مرارًا.. لم يتعرف عليها بسبب كثرة الدماء عليها وحولها.. اختفت حفنة العسل وكانت حفنة من الدماء الجافة.

أغمض عينيه بقوة وهو يكور أنامله بعصبية وهو يكاد يلكم نفسه.. يحاول تخيل حالتها وهي تتلقى هذا العذاب الموحش.. هل بكت إلى أن شق صوتها الجدران  ، هل رجت المجرمين أن يتركوها بسلام..  هل صرخت باسمه تستغيث به من الحقراء.. هل ظلت مستيقظة وهي تتلقى تلك الضربات العنيفة.. أم أنها فقدت الوعي من فرط خوفها؟!

كتم تأوه أليم في صدره وهو يسترجع أخر لقاء بينهما على الشاطئ.. حينما حررها من عناقه وأخذها للمنزل لترتاح، وقد استنزفها عاطفيًا من حديثهما الطويل على الشاطئ.. كانا وصلا المنزل وقد غفت نجاة والطفل براء في احضانها في غرفتها.. حينها وقف أمام غرفتها وتحدث إليها بعبث باسم..

-(لو شعرتِ بالخوف وانتِ نائمة وحدك  ، لن أوصيكِ أن تأتيني فورًا)

احتقن وجهها بدماء خجل العذارى، وأشاحت وجهها عنه تُمسك مقبض الباب.. ولكن قبل أن تدلف للغرفة،  التفتت له ونظرت له نظرات مترددة.. وكأنها تخشى وقع كلماتها عليه.. فابتلعت رمقها ببطيء قبل ان ترفع كفيها كي تدفئ ذراعيها من رجفاته وهي تقول بخفوت متردد..

-(نُصير. أنا أعلم أنك تصديت لعائلتك من اجلي.. أعلم أنك ترعاني أنا وطفلي وتنفق علينا مالك.. أعلم أنك تحميني من الجميع.. أعلم أنك الوحيد الذي مددت لي يدك وساعدتني في غمرة ضعفي.. وانا.. أنا ممتنة لك جدًا.. وأعجز عن التعبير بالشكر.. ولكني لن أنسى صنيعك طول عمري  ، سيبقى هذا جميلًا في رقبتي....)

اقترب نُصير منها وكاد يرفع يده إلى وجهها يداعبها، ولكنها ابتعدت سريعًا عن مرمى يديه وهي تُكمل متوترة..

-(أعلم من الوقاحة ان أقول هذا.. ولكن انت فعلت الكثير من المحاسن معي  ، لا تسكب الملح على قالب الحلوى وتغويني  ، أنا الان كغصنٍ شِبه منكسر.. لا تستغل انكساري.. لا تستغلني عاطفيًا حتى لو كنا زوجين)

شاهدت ملامح التسلية تختفي من وجهه  ، وتظهر أخرى هادئة  ، وقد بدت نظرته عميقة تحمل ألف معنى ورد على كلماتها.. ورغم ذلك لم يتأثر بكلمة واحدة  ، بل حرك رأسه بإيجاب وقد فهم تلميحها الخفي.. ترجوه ألا يغزوها عاطفيًا وهي في هذه الحالة، حتى لو كانت زوجته أمام الله والناس.. فهو في نفسها ليس زوجها بعد.. مـرام الرقيقة لقنته درس شديد اللهجة الا يلعب على عواطفها المشتتة  ، فهذا يعتبر استغلال من وجهة نظرها..!

دلفت للغرفة واغلقت الباب بعدما وجهت له نظرة معتذرة.. أغلقت بابها في وجهه وقد أعلنت رفضها لحديثه الذي حاول اقناعها به أمام البحر.. أعربت عن إرادتها بكلماتٍ بسيطة خجولة أدت غرضها دون المزيد..
إذًا تعتبر محاولاته للاقتراب منها تحرشاتٍ واستغلال؟!

كان يحترم رغبتها جدًا.. لذا قرر أن يغيب عن منزل الشاطئ كي يحجب يديه عنها  ، لن يحاول الاقتراب منها في الوقت الحالي  ، خاصة وهي في حالة انكسار كما وصفت.. ومهما كانت تراه كريمًا أو حقير.. فهو لا يستغل النساء ولا يُسئ إليهن.. لن يحاول الاقتراب منها  ، وسيحاول الإقلال من حضوره لمنزل الشاطئ كي يحاول هزيمة رغبته فيها.. وكي يترك لها مساحة للتعافي كما طلبت

وبالفعل.. غاب لأيامٍ معدودة  ، ولكن حينما عاد بسبب اتصال نجاة التي صرخت له بانهيار وهي تخبره ما حل بمـرام  ، حينها نقض اتفاقه مع نفسه وعاد في أسرع وقت.. عاد ليراها جثة هامدة بفعل ملاعين سيعثر عليهم ويذيقهم من العذاب ما يكفيهم عمرًا كاملا
انتبه من شروده الطويل على صوت نجاة التي جلست جواره وهي تبكي منهارة...

-(قُل لي ما قاله الطبيب لك.. لمَ وجهك شاحب يا نُصير.. هل. هل ماتت مـرام !)

كان سؤالها مأسوي ونبرتها أشد بؤسًا من الافتراض الذي رمته في وجهه بلا رحمة  ، فحاول جذب عدة أنفاس لرئتيه قبل أن يحرك رأسه نافيًا ويغمغم بنبرة واجمة  ، حملت مشاعره السلبية في هذه اللحظة..

-(لا لم تمت.. الطبيب وضعها تحت الملاحظة.. وضعها صعب  ، ولم يستطيع إخبارنا بشيء إلا بعد مرور ثمان وأربعون ساعة لتستقر حالتها.. وإلا لن تنجو)

شهقت نجاة وهي تضع كفها على فمها تحجب صرخة مذبوحة  ، وعينيها تفيضان بالدمع.. هناك احتمالية ألا تنجو.. هناك احتمال لموتها.. شهقت نجاة تدخل الهواء لرئتيها ودموعها تهبط كما الانهار على صغيرتها.. مـرام التي كانت بمثابة ابنة لها.. لم تكن تدري أنها احبتها بهذا الشكل سوى الان.. لم تدري أن يمكن لقلبها أن يُكسر مره أخرى لأجل مـرام
همست تتضرع الى الله متوسلة..

-(يا الله احفظها لنا أرجوك  ، احفظها لي ولطفلها ولكل ناسها يارب.. مـرام فتاة مسكينة تشبعت بالألم  ، فلا تُبليها بالعجز وقلة الحيلة يارب)

امن نُصير على دعائها في نفسه ووقف عن مقعده وهو يتحدث بنبرة حادة..

-(أين الطفل يا نجاة؟!)

مسحت دموعها بمنديلها الذي تهرأ من كثرة بكائها، وتحدثت بصوتٍ محشرج مُشفقة على مـرام وصغيرها الذي لم يكف عن البكاء منذ ساعة أو أكثر..

-(مع ربيع أخذه مني ليهدهده  ، الطفل لا يتوقف عن الصراخ بفزع  ، وكأنه شعر بما حدث لوالدته)

وقف عن مقعده ومدد طوله الفارع وبدت الصرامة واضحة على وجهه  ، رغم خطوط التعب ولمحات الخوف الذي توارت في عينيه الحادة.. فتمتم بصوتٍ جاف حوى اللوم والضيق..

-(خذي الطفل وعودي للمنزل يا نجاة، هذه المره أرجوكِ اعتني بالطفل.. يكفي ما حدث لمرام اليوم)

كانت الملامة هي عنوان كلماته التي القاها في وجهها بقوة وجفاء.. معه كل الحق أن يلومها  ، فلولا اخفاقها لكانت مـرام بأمان الان.. ولكنها صدقت تلك الحيلة القذرة في القصة المختلقة التي سحبها بها الطفل خارج المنزل  ، ونسيانها زر تفعيل الأمان.. معاناة مـرام بسببها.. لقد فشلت في حمل الأمانة التي تركها لها نُصير.. فشلت.
أخذت عدة أنفاس مرتجفة وهي تقول لنصير أسفة...

-(انا أسفة يا نُصير أقسم لك أن..)

قاطعها بحدة غاضبة لم تألفها منه  ، ولا يدري اهي موجهة لها ام لنفسه.. بدى غير متمالك اعصابه.. على غير العادة كان مشتت وخائب كقائد خانته خططه وفشل في حربه الوحيدة.. فشل في حماية مـرام.. ولأجل هذا الفشل سيفعل أي شيء ليأتي بحقها  ، وسيحميها.. لو عاشت سيحميها بكل ما يملك..

-(لا تكوني أسفة لي، بل لمرام، ادعي لها أن تكون بخير)

انهى كلماته بعيون خائبة لا امل فيهما.. نظرة جعلت نجـاة تتأوه بذنبٍ كاد يقتلها وهي تهمس بنشيج أليم..

-(لا تنظر لي هكذا يا نصير بالله عليك، لم أكن أقصد التقصير معها.. والله لم اكن اعلم ولو كنت أعلم لما...)

-(عودي للمنزل يا نجاة  ، لا وقت لهذا الحديث)

قاطعها بحدة وهو يسرع في الابتعاد عنها.. هي وضميره يؤلمانه.. ناهيك عن ألم قلقه على النائمة في غرفة الملاحظة الان
لو كانت تعلم لمَ كانت مـرام في هذه الحالة
ولو كان يعلم لكان وفر لهما الأمان اللازم.. لكان تصدى لأي مخلوق يقترب منها.. لكان نفذ وعده لمرام انه سيحميها من أي سوء هي وطفلها.. ولكن في أول موقف حقيقي لم يكن موجود.. ولاقت هي الأذى حتى وضع احتمال موتها ضمن الاحتمالات.. يا لها من سخرية.. يا لها من مأساة

نهب طرقة المشفى الحديثة التي وضع بها مـرام، وأثناء سيره تخطى ربيع الذي كان يحمل الصغير ويتجه لنجاة كي يعطيها براء الذي غفى على كتفه بعد نوبة بكاء طويلة استنزفت كل طاقته.. فوقف مع نجاة ونظر في ظهر نُصير الذي كان يسير بسرعة وغضب.. فهمس لها بهدوء..

-(إلى أين يذهب هذا ؟!)

حركت رأسها جاهلة بوجهته.. لم تكن تهتم إلى اين سيذهب.. كان عقلها مسجون مع الفتاة النائمة بلا حول او قوة على فراش المشفى.. كان قلبها ينفطر المًا على حالتها  ، ولكي تُصمت الوجع فيها، قررت أن تعود للبيت  ، تضع الصغير في فراشه وتتوضأ وتصلي ركعتي قضاء حاجه.. وفي سجودها ستدعو لها بالشفاء والصحة وطول العمر  ، ستدعو لها بالسعادة والأمان الرباني.. ستدعو لها كما لم تدعو من قبل.. ودون أن تعلم وجدت نجاة ان أحب الناس لقلبها لم يكونوا ثلاثة كما قال ربيع ذات مر، بل زادوا واحدة وكانت الأغلى على الاطلاق.

****
لم تكن رحلة العودة للقرية هادئة، بل كانت نارية جعلته في أشد لحظاته غضبًا و خاصة حينما كلف أحد معارفه في الأمن، وقد فرغ كاميرات المراقبة امام المنزل وفي غرفة الجلوس وأرسلها له عبر موقع المراسلة، ضغط نصير على زر التشغيل.. فـ رأى مـرام وهي تفتح باب المنزل، وتعدي الرجلان عليها بالضرب.. كان يراهم يضربونها بلا أي رحمة.. وهي كانت تتألم وتصرخ في اول دقيقة، ثم فقدت الوعي بعد الضربة القاسية التي وقعت فوق رأسها وشجته ليسيل منه الدماء.. ورغم ذلك لم يتوقفا ولم تأخذهما بها شفقة ولا رحمة.. شاهد الجريمة بالتفصل، رأى هجومهم عليها وضرباتهم العنيفة التي أفقدتها الحياة

ومع كل ثانية تمر كان يتعذب بنيران الغضب.. كان يتلوى بلظى من جهنم.. حتى بعد طمأنة الشرطي له أن وجوههم ظاهرة ويمكنهم العثور عليهما بسهولة.. كان يود أن يعثرا عليهما.. وهو سيعثر على من خلفهما.
بالتأكيد أن خلفهما أحد.. فمرام لا علاقة لها بأشخاص خطيرين مثلهما.. مـرام لا علاقة لها باي شخص من ألأساس
لذا سيعثر على الفاعل.. او الفاعلة

وكان منزل أميرة أل غانم هو أول وجهته حينما وصل للقرية.. فلم يتردد ولو ثوان في الذهاب لها ومواجهتها بفعلتها المشينة.. رغم تأكده من أنها الفاعلة  ، ولكن لأجل فراس سيعطيها فرصة الاعتراف.. وما عليه سوى البحث وبالفعل

طرق باب المنزل وفتحت له ام عـبده وهي تُهديه أفضل ابتسامتها وترحب به بحرارة.. ولكنه لم يستطع رد تحيتها  ، واتجه رأسًا حيث تجلس اميرة كما العادة.. وقد رأها بالفعل.. جالسة على أريكتها، بيدها مسبحتها الطويلة وقد لفتها أكثر من مره في راحة معصمها، وترتشف قهوتها السوداء المُره.. وما ان بصرته تبسمت متهكمة وتحدثت بلا مبالاة وهي ترتشف قهوتها..

-(ما سر الزيارة الكريمة يا ابن شقيقتي, لا أظن أنك تفترض ترحيبي بك في منزلي)

وقف نُصير أمامها مباشرة  ، وحدق في وجهها مليُا.. يتأمل خطوط الزمن عليها.. كانت خطوط قاسية  ، جافة تُماثل قلب صاحبتها.. حتى جمالها المعروف لم يكن ظاهر له في هذه اللحظة.. كان يشعر انه ينظر للنسخة الحقيقة من أميرة.. النسخة التي لا يعرفها أحد سووا هو وشمس ووالده.. نسخة مشوهة.. مسخ لامرأة حاقدة جارت على نفسها واهلها
خرجت نبرته عميقة مارهة حملت ما يكفي من غضبه الضاري..

-(تلعبين لعبة قذرة يا أميرة)

لم تغضب كعادتها ولم تنتفض ثائرة  ، بل اكتفت بالتمتمة الباردة وقد اختفت ابتسامتها المتهكمة..

-(تأدب يا ولد)

برودتها الغير معتادة جعلته يتأكد أكثر أنها هي الفاعلة..هي من ارتكبت الذنب في حق مـرام كما فعلت مع الجميع في الماضي.. لطالما كانت مصدر الأذى للجميع.. لطالما ألمت من حولها حتى أحب الناس لها.. وإن لم تفعل هى، لن تكون أميرة الغانم حينها
تحدث بصوتٍ بارد أخفى خلفه نيران غضبه..

-(أدبي لم ينفع معكِ  ، ولكن على ما يبدو أنك تحبين الألعاب)

-(ما الذي أخرجك عن هدوئك المعتاد.. هل استوعب من تعادي أخيرًا؟)

لم يضحك ساخرًا ولم يتهكم على حدثها المغرور  ، بل شدد على قبضته بقوة يمنع نفسه من لكمها.. فهو لا يضرب النساء  ، حتى لو كان لا يعتبرها امرأة..وتحدث بجمود استفزها..

-(بل استوعب خوفك الشديد مني.. أنت خائفة كحيوانٍ يخشى ذبحه، فيرفص كل من حوله بمنتهى العناد.. غافلًا أن ذبحه يقترب مع كل رفصه له)

انتفضت من جلستها وألقت الفنجان على الطاولة أمامها بعنف وهي تصيح بصوتٍ كان كالصرير في أذنه...
-(أنا حيوان يا حقير يا جرذ)

لمع الازدراء في عينيه وأجاب على كلماتها الوقحة بأخرى باردة..
-(انت امرأة كبيرة بما يكفي.. لن أرد لكِ سُبابكِ لي.. ولكن سأرد لك ما فعلتيه مع مرام)

لانت ملامحها للحظات وطفت السخرية على قسماتها وهي تتسائل متهكمة..
-(وما الذي فعلته مع حرمك المصون يا تُرى؟!)

فكر في نفسه مستحقرًا.، لازالت تراوغه وتتلاعب بالكلام، فلا هي تنكر فعلتها ولا هي تعترف بها.. لطالما كانت ثعلبة ماكرة لا يأمن مكرها.. فأجابها بحدة لا تقبل الهزل..

-(تعلمين ما الذي فعلته)

تلاعبت بحبات اللؤلؤ في مسبحتها البيضاء، وقد وجهت له نظر ساخرة مستهينة بتهديده الأجوف، الخالي من الواقعية أو الجرأة فقالت...

-(لتفرض انني اعرف.. ما الذي ستفعله؟!)

كم أراد أن يمحو لك النظرة الساخرة وابتسامتها المستهينة.. أراد صفعها بحقيقة قاسية تمسح عنها ملامحها الغرورة، فلم يجد أفضل من سلاحه الذي تخشاه منذ سنواتٍ طويلة.. هو أفضل صفعة لها في هذه اللحظة
لذا ردد في ثباتٍ وجمود يُزيد من حدة الموقف...

-(سأقول لفراس أنك السبب في إصابته.. سأخبره بكل ما سمعته في هذه الليلة.. سأخبره بما قالته شمس لأبي قبل هروبها.. سأفضح أمرك كليًا يا أميرة)

كان له ما أراد، شحب وجهها كُليًا حتى ما عاد فيه قطرة دماء واحدة.. وشخصت عيناها في صدمة بالغة من تهديده الصريح.. تهديد أيقنت أنه ليس بأجوف.. بل هو حقيقي لدرجة أنه قادر على تدميرها وسط عائلتها
وستخسر مكانتها وأولادها وكل شيء تملكه
فاسرع لسانها ينفي كلمات نُصير في انفعالٍ ملحوظ...

-(ما الذي تقوله.. أنت كاذب)

حان دوره ليستهين لكلماتها المندفعه فقال بهدوء..
-(حقًا؟!.. تعلمين أنني لا أقول شيء بلا دليل)

حاولت تنظيم أنفاسها، حاولت ألا ترتبك أمامه وتُشمته بها، ثوانٍ قليلة واستجمعت زمامها وأعادت التوازن العصبي لصوتها وهي تقول بلسانٍ ثقيل كاره...

-(افعل ما تريده  ، ولكن تذكر ما الذي ستفعله في فراس بسبب هذه الأكاذيب يا حقير)

صوت في نفسه أخبره أن فراس سيتضرر من هذه الحقيقة، وربما يفقد ثقته بالجميع.. سيتألم ويثور ويغضب.. ولكنها الحقيقة التي لا مفر منها.. مهما بلغ مبلغ الألم.. لا مفر من المكتوب.. لا مفر من الحقيقة...

-(تقصدين الحقيقة ستؤلمه.. سيعلم أن والدته هي السبب في الخراب الذي حدث. والدته هي التي افقدته عينه بأمرٍ منها)

لم تدري أميرة كيف قطعت المسافة بينهما وأمسكت قميصه بعنف وقد خرجت عن اتزانها المصطنع، وصرخت في جنونٍ هستيري ينتابها وقت الفزع غالبًا....

-(لم يكن المقصود هو.. كان المفترض أن يكون أن.. أنت الذي كان عليه أن يعيش دميم منبوذ، انت الذي كان عليه أن يعيش بعينه الواحدة وليس ولدي)

بأنامل قوية استطاع فك قبضتيها عنه بكل سهولة، وهو يزيحها جانبًا ويُلقي كلماته الحادة المُغلفة بهدوء مصطنع أخفى به غضبه...

-(حفرتي حفرة لي  ، فوقع فراس فيها.. دعينا نخبره الحقيقة وهو يقرر من عليه أن يعيش منبوذ)

أنهى كلماته وأعطاها ظهره ليرحل، ولكنها صرخت من خلفه بتهديد شيطاني...

-(كان علي أن أتخلص منك في تلك الليلة)

نظر جانبًا كي يرمقها بطرف عينه قبل أن يقول بجمودٍ متهكم خلفه الازدراء...

-(حاولي.. ولكن تحملي ثمن المحاولة.. أما ما فعلتيه مع مرام سأخذ حقها منكِ.. لن أتركك تفلتين بفعلتكِ يا خالتي)



أطلقت صرخة عالية كادت تشق جدران منزلها من فرط الجنون والغضب اللذان يبتلعانها...
-( أم عـــــــــــــبده.. يا ام عبـــده.. هذا الحقير لا يدخل دااااري, سمعتني لو رأيته فوق أرضي سأقطع رزق من هنا)

وقفت أم عيده بفزع بين يديها وهي تحرك رأسها بإيجاب تطيعها فيما أمرتها به وهي تهمس بخشية...
-(حاضر يا سيدتي حــاضر)

صرفتها من أمامها بعدما جعلتها تلملم بقايا الفنجان وتمسح أثره.. فجلست على مقعدها بعجز وهي تكاد تأكل نفسها غيظًا وألمًا
وصوتها يخرج من حلقها مجروح وهي تغمغم في نفسها..
-(يا حقير.. يا حقير, شمس الحقيرة هي السبب.. لا ليس هي فقط ليست هي فقط)

اندفعت كما المجنونة إلى الجناح الغربي
ذاك الجناح الذي نبذت فيه هادي ليعيش فيه مسجونًا في داره.. محرومًا من أي متعة في الحياة.. وقد كانت شامتة بسجنه الأبدى على كرسي متحرك بسبب اصابته بالشلل
شلل في كل جسده.. مع إعراضه عن الحديث
عشرون عام وهو مسجون في الجناح الغربي، مهمش، منسي، لا قيمة له بين أهله ولا قبيلته.
ورغم كل هذا لم تستطع منع نفسها في التعدي عليه في جناحه وتقطع جلسته مع فيدرا، التي تتسلل خلسة من خلف ظهورهم كي تكون جواره
انحنت على مقعده وفي تصرخ في وجهه بكراهية مرعبة...
-(هذا كله من تحت رأسك انت يا زير النساء يا خائن, كل ما يحدث لي ولأولادي من تحت رأسك الماجن)

كان الرجل ذو الخصلات البيضاء كما الثلج، والوجه الأبيض المخلوط بحمره انتشرت على وجهه المجعد بخطوط الزمان.. ينظر لها مليًا وهو يسمع كلماتها المهينة دون أن يصدر ردة فعل واضحة لتكون كرد على كلماتها الشيطانية

ولكن أجابت عنه فيدرا التي تحكمت في صدمتها بدخول والدتها المفاجئ، وتحدثت سريعًا تدافع عن أباها بقوة وحب فشلت في اخفائهما...
-(أمي ما الذي تقولينه.. أبي لم يفعل شيء لتجرحيه هكذا)

ألقت نظرة قاسية منزعة الفطرة الأمومية وهي تصرخ في وجهها بجنون عاصف جلب الدموع لعيون فيدرا، وجعلتها تنكمش في نفسها بفزع..

-(أغربي عن وجهي يابنت, وإن رأيتك تدخلين هذا الجناح مره أخرى سأقطع قدميكِ.. هيا اخرجي حالًا)


أعادت نظرها لهادي مره أخرى، ترمقه لكراهية سوداء وغيظ لم يمحوه الزمان قبل أن تعاود الحديث بحرقة...
-(لا تنظر لي هكذا, هل سمعت.. لا تحدق بي وكأنني الظالمة الجبارة.. أنت الذي ظهرت فجأة وأخذتها لنفسك.. تمردت على نعمتك وخُنت اميرة الغانم.. كل هذا من تحت رأسك)

اقتربت منه وقبضت على ملابسه بعنف وهي تنظر لملامحه الهادئة ونظراته التي تحمل ألف معنى قد كرهتهم جميعًا وانطلقت صراختها في وجهه...
-(هل تسخر مني الان, هل تستخف بحديثي.. اقول أن ولدي سيضيع مني بسبب افعالك يا حقير وأنت تسخر مني؟!)

لم ينطق بكلمة واحدة، بل تابع النظر لملامحها العصبية التي فضحت مدى رعبها في هذه اللحظة، كان رعبًا خالصًا أخفى خلفه غضب هادر.. فأعادت كلماتها بحدة أكبر
-(تحدث.. لا تنظر لي هكذا وتحدث إليّ.. تحدث يا لعين)

قاطعها صوت فراس القوي وهو يوقفها عن متابعة نوبة جنونها...
-(ما الذي يحدث هنا)

تركت هادي سريعًا وسارت نحو فراس تجذب مرفقه وتخرج من الجناح بسرعة وهي ترمق هادي بنظراتٍ قاتلة محذرة.. قبل أن توجه اهتمامها لولدها الذي كان ينظر لها مستنكرًا...
-(لا شيء يا حبيبي.. متى عدت من عملك, ولمَ عدت باكرًا؟)

أجابها بهدوء مندهش، وقد علم من أم عبده أن هناك عراك ما دار بين والدته ونصير...
-(علمت أن نُصير هنا فجئت فورًا.. ماذا حدث بينكما)

اصطنعت ضحكة تهكمية كإجابة أولية على سؤاله قبل أن تقول بسخرية مغرورة...
-(لا شيء طبعًا.. أنت تعلم هذا الولد كثير الجدال.. جاء يتهمني أنني فعلت شيء بتلك الـ***, ولكنني أوقفته وأعطيت له ما في النصيب.. لا تقلق يا عزيزي)

بدت الريبة واضحة على وجهه وهو يسمع كلمات والدته، فتغاضى عن الجزء الأخير في حديثها وقال...
-(ما الذي حدث لزوجته؟!)

حاولت ألا تجعل عينيها تزوغ يمينًا ويستر، وجاهدت أن تتحكم في انفعالاتها قبل أن تقول بهدوء يشارف على اللا مبالاة....
-(لا أدري.. جاء يتبجح بأكاذيب ويتمني بأشياء لم افهمها)

عقد جبينه للحظات وقد بدى الشك واضحًا في عينه وهو يسألها بهدوءٍ حذر...
-(أمي.. هل فعلتِ شيء لزوجته؟)

-(هل جننت.. بالطبع لم أفعل شيء)

تأملها مليًا يحاول أن يستشف أي شيء من ملامحها المنغلقة، ولكن والدتها كانت بارعة في اخفاء مشاعرها، بارعة جدا في الحقيقة
لذا تنهد وهو يستعد للمغادرة مره أخرى قائلا...
-(حسنًا يا أم فراس.. سأذهب له وأعلم ما الذي حدث)

اوقفته بسرعة قبل أن يغادر وهي تصيح خلفه برجاءٍ مُر خرج منها كصيحة حيوانٍ يُذبح...
-(لا تصدق أكاذيبه يا فراس)

سألها عابسًا وقد توقفت خطواته والتفت ينظر لها مليًا يخاول فهم يا يدور حوله، خاصة بين والدته ونُصير..
-(أي أكاذيب؟)

ابتلعت رمقها بصعوبة، وتمنت ألا يكون وجهها شاحب فيُدينها.. فقالت بهدوء خاوٍ كاد يفضح قُبح ذنبها
-(أي أكاذيب يقولها.. أي شيء)

تنهد فراس وعاد يتابع سيره بعدما غمغم بجدية وعبوس من حالة والدته الغريبة...
-(الله المستعان, سأذهب له.. ولا تدخلي الجناح الغربي مره أخرى.. دعي المنزل في سلام يا امي)

نظرت أميرة في أثره وقد اجتمعت غصة مسننة في حلقها وهي تسترجع تهديد نُصير في ذهنها، فأغمضت عينيها بحرقة وهي تهمس
-(أي سلامٍ هذا يا بُني.. أي سلام سيكون موجود ونُصير بيننا)
                                 ****
خلال نصف ساعة أو أقل، كان فراس في منزل خالته فاطمة ليقابل نُصير الذي جاء للقرية دون أن يحادثه أو يمر على المصنع.. وأيضًا لا يُجيب على اتصالاته، وهذا أمر نادر حدوثه بينهما.. لذا لم يجد أمامه إلا الذهاب له حيث يكون كي يفهم سبب حضوره لمنزلهم واشتباكه في عراكٍ محتد مع والدته كما قالت أم عبده

وقف فراس امام نُصير يحدق في وجهه المتجعد غضبًا لم يكن هو ذاته نُصير الهادئ الرزين، الذي لا يطرق للغضب باب.. بل كان شخص أخر.. شخص لمعت الوحشية في عينه  ، وحشية لم يكن لها وجود في حياته من الأساس.. هل يمكن أن يكون تأثير مرام عليه فعال لهذه الدرجة؟!
حاول فراس ان يتمالك أفكاره السيئة  ، وتحدث بهدوء يساله...

-(ما الذي حدث يا نُصير لتذهب لأمي وتهددها)

-( كُن خارج هذه الامور يا فراس.. دعك من هذا وانتبه أنت لأمور المصنع والشركة.. سأكون منشغلًا في الفترة القادمة)

أنهى نُصير بصق كلماته بحدة دون أن يجد في نفسه حاجه للتبرير أو الشرح.. كان يود المغادرة في أسرع وقت ليعثر على المجرمان اللذان تسببا في الأذى لمرام.. وبعدما أنهى كلماته كاد يغادر  ، ولكن منعه فراس الذي أمسك مرفقه ومنعه قائلا بحدة...

-(قف هنا وحادثني كما أحادثك.. ما الذي ثرثرت به زوجتك كي تأتي لنا والنيران تخرج من انفك هكذا )

زوجته تُثرثر ؟!
لم يجد نُصير داخله ما يكفي للفكاهة أو السخرية من الجملة الغير منطقية، مرام تُثرثر بسوء عنهم !؟
هي بالكاد تتذكرهم وتتحاشى الحديث عنهم، لأنها بكل بساطة ترهبهم ولا تحب ذكرهم.. ولكن صديقة المقرب يرى أن حالته الغاضبة في هذه اللحظة بسبب ثرثرة مرام عنهم.. ليت الأمر كان هكذا.

-(زوجتي لن تستطيع الثرثرة لي يا فراس  ، فهي في المشفى تواجه الموت )

تجعد وجه فراس في مفاجأة وقد تبخر غضبه وحل محله الاستنكار فغمغم...

-(وضح كلامك.. ما بها مـرام)

-(أحدهم استغل غياب نجاة عن منزل الشاطئ  ، وذهب لها وأبرحها ضربًا.. لا بل ابرحوها ضربًا، فهذا الفعل لا يصدر عن شخص واحد.. والنتيجة أنها بالعناية المركزة  ، هناك احتمالان أحسنهما مُر.. إما أن تموت خلال ساعات  ، او تعيش مع إعاقة)

-(ومن تجرأ وفعل بها هذا الفعل؟)

-(وتسألني ؟)

استطاع تمييز الاتهام في صوته  ، نُصير يتهم والدته فيما حدث لزوجته.. لذا اندفعت الدماء في وجهه بغيظ وتحدث مؤنبًا بنبرة جادة أخفى خلفها مدى حنقه من التلميح الرديء الذي يُدين والدته دون أي وجه حق..

-(أمي خارج الاحتمالات يا نُصير.. هي ليست بلطجية أو امرأة إجرامية لتفعل هذا في والدة حفيدها)

رد نُصير بتهكم فشل في كبحه..
-(ولكنها كانت قادرة على تلفيق تهمة لها وزجها في السجن كي تتعفن فيه.. أليس كذلك)

كان يعلم الحقيقة  ، لن يستبعد عن والدته فعله كهذه  ، خاصة وهو يعلم مدى كراهيتها لمرام ولكل عائلتها  ، المذنب فيهم والبريئ.. ولكنه لن يعترف بأمرٍ كهذا.. حتى ولو كان هذا الاعتراف لصديق عمره وأقرب أهل الأرض لقلبه.. فتمتم بهدوء حانق وهو يحاول نزع الشك من رأسه..

-(لا تدع الخلافات بينك وبين أمي توصلك لاتهامات باطلة انا لن أقبل بها)

تجاهل نُصير تحذيره المستتر  ، ورد عليه بصوت حاد دون أن ينتبه لطريقته الغير معتادة مع فراس.. كان جامد الوجه  ، حاد الصوت  ، الغضب الذي يسكن عيونه كاد يطيح جميع من حوله.. خاصة حينما بصق كلماته وغادر سريعُا دون أن يعلن عن رحيله أو وجهته القادمة..

-(سأبحث في الموضوع  ، ولو كانت المذنبة  ، حينها لن أصمت يا فراس.. حتى لو كان لأجلك)

واسته فاطمة بصوتٍ حانٍ لائم طبيعتها اللينة  ، وحنانها الذي يشمل كافة ابناء القبيلة..
-(لا تغضب منه يا ولدي، هو الأن متوتر وخائف على المسكينة)

لم يدري من أين ظهرت دُنيا فجأة.. لم يراها منذ شهور.. منذ تلك الواقعة بينهما قُرب شجرة البرتقال حينما أخبرته أنها تُحبه وهو زجرها بحدة.. كانت الان مختلفة عن هيئتها حينذاك.. كانت ذابلة، واجمة، تحاوط عيناها بقع سوداء تُشير للسهر الطويل وسوء التغذية.. وربما البكاء.. المهم أنها كانت مختلفة.. هزيلة الجسد  ، واجمة الوجه  ، وحادة العينان  ، وصغيرة جدًا جدًا.. هكذا استطاع وصفها في نفسه قبل أن تنطلق كلماتها الحادة لأذنه وهي تقول بنبرة كارهة..

-(اخي لم يُخطئ  ، أنا لا أستغرب هذا الفعل من الخالة اميرة)

تحدثت فاطمة بحدة مؤنبة ناسبت الموقف وهي تحاول قطع النظرات الحادة المتبادلة بين فراس ودُنيا...

-(تأدبي يا دُنيا عيب)
-(لا بأس يا خالتي.. لا بأس)

تمتم فراس بهذه الكلمات المقتضبة  ، قبل أن يُشيح عينه عن دنيا ويتحرك خارج المنزل بخطوات سريعة غاضبة  ، تشابه خطوات نُصير حينما غادر فجاة في نفس الحالة قبل لحظات..
زجرتها فاطمة على كلماتها المشينة التي ألقتها في وجه فراس بكل وقاحة..

-(هل جننتِ يا بنت، كيف تقولين هذا امام فراس.. كيف تقولينه من الاساس؟)

اندفعت الدموع لعيون دُنيا وانطلق لسانها في عصبية لم تحاول اخفائها..

-(لأنني أكرهه هو وأمه الخبيثة)

انقبض قلب فاطمة بين ضلوعها وهي تنظر في اثر ابنتها الذابلة منذ شهور دون أن تبدي السبب وراء الحزن الذي يكتنفها، والغضب الذي يندفع في نفسها كلما ذُكر اسم أميرة.. وعلى الجانب الأخر كان ولدها البكر يمر بحالة غريبة لم تألفها عليه  ، وكان في أقصى لحظات غضبه بسبب ما حدث مع زوجته
تنهدت بقوة تحاول زحزحة الثقل من على صدرها وهي تردد داعية..

-(سترك وعفوك ورضاك يارب !)

                           ****
عاد للمنزل بعد غياب أيام طويلة عنه.. كان لازال غاضبًا من كلماتها القاسية، حانقًا منها لدرجة تمنعه أن يشاركها منزل واحد دون أن يوجه كلمه عاتبة لها.. فقرر أن يقضي لياليه في مرسمه القريب من الشقة... كان عاجز عن الرسم، وعاجز عن النوم.. وعاجز في التوقف عن حبها
لا يستطيع استيعاب أن هناك من يكره بعدما كان يحب.. لا يستوعب أنه يستطيع فعل هذا، ولا يستوعب أنها فعلت هذا هي أيضًا.
ازاحها عن تفكيره وهو يسير في الشقة المظلمة تمامًا، كانت الساعة لم تتجاوز التاسعة مساءًا ورغم ذلك كانت تطفئ الاضائه في أنحاء الشقة وتنام.. هذا كان نشاطها المعتاد منذ أن أتت للشقة.. تنام في فراشها دون حراك.

سعر بالخوف يتسرب لصدره، فهو لم يراها منذ ثلاثة أيامٍ أو أكثر، ولم تهاتفه أو يهاتفها ولو مره واحدة على الأقل
فخشى أن يكون قد أصابها سوء وهو غائب عنها في الأيام الثلاثة.. لذا تحرك لغرفتها بسرعة، يفتحها ويطمئن عليها.. ولكن ما ان أمسك المقبض، وحاول فتح الباب دون أي نتيجة، كان الباب موصد من الداخل بشكلٍ مُحكم

اندفعت الدماء حارة في عروقه، وقد تعاظم الخوف في نفسه وهو يكرق على الباب بقوة ويصيح بنبرة قلقة...
-(فـلك..فلك.. هل أنتِ بخير، فـلك.. افتحي هذا الباب اللعين فورًا.. بالله عليكِ لما أغلقته يا امرأة)

استمرت طرقاته القوية إلى أن فُتح الباب فجأة، وظهرت فلك أمامه من بين ظُلمة غرفتها.. ولم يسمع منها سوى كلمة واحدة مقتضبة زادت غضبه...
-(ماذا تريد)

أريد أن أكسر رأسك الصلد، وأصفع وجهك خمس صفعات، علك تعودين لرشدك يا امرأة، علك تعودين فلك التي عرفتها وأحببتها طوال عمري يا قاسية
كاد ينطق بتلك الكلمات ولكن منعته كرامته من البوح بها
حاول تمالك زمام نفسه، وألا يتأثر من هيأتها النائمة، ولا خصلاتها السوداء المبعثرة حول وجهها..
منع نفسه عنها، وتمنى لو يمنع قلبه عن حبها أيضًا
-(المنزل كله مُظلم وبابك مغلق على غير العادة، خشيت أن يكون قد أصابك سوء)

-(الباب قد أُغلق على غير العادة لأنك خارج الشقة لأيام.. وأنا لا اطمئن على نفسي وحيدة في شقتك هذه)
ألقت كلماتها الباردة بصوتٍ حمل التوبيخ واللا مبالاة في آن واحد.. جعلته ضائع بين المعاني، أهي تريده في الشقة، أم أن غيابه لا يعنيها!

حاول جذب انتباهه بعيد عن تلك النقطة، وتحدث بهدوء قائلا...
-(على أي حال أريد الحديث معكِ الأن)

توقع أن ترفض، أو تغلق الباب في وجهه كما هي عادتها
ولكنها لم تفعل هذا، بل شدت حزام ردائها وسارت مبتعدة عنه، وقد اتجهت للصالة الضيقة، تجلس على أحد المقاعد المهترئة كإعلان عن جلوسها واصغائها له..
تحرك هو الأخر، وجلس على المقعد الثاني المُقابل لها، ونظر في وجهها الهادئ الذي اشتاقه.. لا لم يشتاق لوجهها البارد هذا، بل اشتاق لوجه حبيبته فلك.. وجهها المغرور الذي كان يهون صعاب الأيام عليه.. يشتاق لعينيها اللتان كانتا تلمعان حبًا له..اشتاق لها ولنفسه في الماضي
وما أضنى الاشتياق ؟!

أخرجه صوتها الفاتر من شروده وهي تقول...
-(أنا اسمعك)

حرك رأسه بإيجاب وأخرج هاتفه من جيبه وهو يدمدم في هدوء عبوس...
-(لقد قابلت ضحى.. وأخبرتها أن تأتي و...)

قاطعته بهدوءٍ مستفز وعيون باردة...
-(لا يهمني ما أخبرتها ولا ما أخبرتك.. افعل ما تريد يا عنان، أنا لا أهتم)

حاول التحكم في أعصابه رغم ثورة نفسه وأفكاره وضغط على نواجذه بحدة قبل أن يقول...
-(اصمتي واسمعيني)

اعادت إلقاء كلماتها ببساطة شديدة دون أن تتأثر بعصبيته فقالت ببرود...
-(لا لن أصمت، أنا فعلا لا أهتم بما يحدث معك.. أود اعلامك أنني سأعمل بعد اسبوع من الآن، لقد وجدت عمل يناسبني، ورأيت أن من الواجب اخبارك، تصبح على خير)

بدأ الدوار يلفه من فرط الانفعال، ووقف سريعًا يمنعها من المغادرة وقد انطلقت صرخات مجنونة في وجهها دون أن يجد القدرة على كبت حدة شعوره...
-(اخبريني من أين أتيتي بجبروتك هذا.. أقول أنني أملك دليل براءتي الآن وأنتِ تقولين أنك لا تهتمي، هل تودين أن أموت قهرًا أمامك.. هل تراهنين على جنوني.. أخبريني ما الذي تفعلينه معي، أي لعنة جعلتكِ امرأة بغيضة لهذه الدرجة)

نزعت مرفقها منه بعنف وهي تغمغم ببرود وتعالي تعلم أنها تضربه به في مقتل...
-(لعنة أنني أكرهك.. هل انتهيت الان.. تصبح على خير)

كان قد فقد أعصابه كليًا.. ماعاد يدري مالذي يفعله، فبدأ يكسر كل ما حوله في جنون وهو يطلق كل السباب النابي الذي يعرفه في حياته.. كان كأسدٍ هائج لا يتوقف عن الزئير ءهابًا وإياب..
في غمرة جنونه وحالته الهستيرية سقط أرضًا وقد ابتلعته حالة الصرع التي تغزوه في أوقات الانفعال الشديد... كان ممد أرضًا جسده ينتفض في جنون وعينيه قد استحالت لبياض ناصع وقد اختفى فيهما اللون
وفكه يضغط على نواجذه بعنفٍ كاد يكسرها.. واللعب يسير على خده الأيسر..
كانت حالته مُفزعة بشكلٍ لا يُصدق... فتحركت سريعًا نحوه، وانخضت أرضًا تضع رأسه على فخذيها وهي تردد اسمه في توتر وخوف كبيران.. كانت تعاني فزع رؤيته في هذه الحالة مره أخرى.. فأخر مره قد رأته في نوبة الصرع
كان في سنواتٍ ماضية، سنواتٍ كان هو فيها شاب مراهق، وهي فتاة بضفائر ناعمة

جذبت منديل من جيب منامتها وبدأت تمسح اللعاب كي لا يعيق تنفسه.. وبدأت تمسح على وجنته وهي تبكي بخفوت.. تحاول التحكم في رجفات جسدها من الحالة التي رأته بها.. شعرت بقلبها يعتصر بجنون عليه
لقد أغضبته حتى اوصلته لحافة الانهيار
فهي تدري أن حالة الصرع تلازمه من كثر الارهاق والتفكير، والحالة العصبية والانفعالات... ووجهه الشاحب يخبرها أنه لم ينام لأيام، عيونه الغائرة أخبرته بما يشعر

كانت الدموع تفيض من جوانب عينيه في بكاءٍ لازم حالته.. فوجدت نفسها تشهق باكية بعنف وهي تمسح دموعه وتهمس بعصبية...
-(توقف عن هذا الان يا عنان.. توقف عن هذا أنت تؤذي نفسك)

لازال لعابه يسيل ودموعه تتسارع في ضعفٍ وهو غائب تمامًا عن وعيه في هذه اللحظة.. بدأت تدلك فكه برفق خشية أن يكسر أسنانه من قوة ضغطه عليها.. فبدأت تهمس بصوت غلب عليه البكاء والضعف...
-(كفى يا عنان.. كفى، أنا لا أستطيع مجاراة ما يحدث لك.. ستكسر أسنانك من قوة ضغطك عليها.. بالله عليك توقف ستموت)

لم تصلها إجابة.. دقيقة واثنين وثلاثة، ولكن في الرابعة
شعرت بارتخاء وجهه تحت أناملها.. ماعادت اسنانه تضغط على بعضها بعنف.. وقد عادت له نظراته، ولكن نظرات ضعيفة مرهقة
بصرها فوق رأسه.. تُشرف عليه بوجهٍ باكي متوهج ودموع منهمرة على صفحة وجهها
أغمض عينيه بعذاب وهو يدرك بمرارة أنها و للمره الثانية تراه في هذه الحالة المثيرة للشفقة أو القرف

للمره الثانية تشهد على ضعفه وعلته
أي عذابٍ هذا الذي يلاحقه بلا توقف.. أي حظ عثر يُسقطه أرضًا ملما حاول أن يقف وستوي بشموخ ؟!

وجدها تقف وتمسك بمرفقه تُساعده على الوقوف وهي تغمغم بصوت لازال يحمل أثر خوفها ورنته المرتعشة...
-(حاول أن تقف وتساعدني كي أوصلك لغرفتك)

دون أي جدال أطاعها.. وأكثر ما يريده في هذه اللحظة أن يعود لغرفته ويتسطح على فراشه.. يريد أن يغمض غينه وينهي هذا الموقف السخيف.. يريد أن يهدأ، فقد تعب من كل شيء.. تعب ولا قدره له على متابعة اليوم..

كانت تسير معه خطوة بعد خطوة إلى أن وصلت غرفته وساعدته كي يتسطح على الفراش.. جلست جواره وضبطت الوساده أسفل رأسه كي يرتاح ويتنفس براحة
نظرت لوجهه الشاحب المرهق.. وقاومت ألا تمرر كفها على خصلاته الكويلة الناعمة، أو مداعبة النمش المناسر على وجنتيه بكثره.. ولوهلة شعرت أنها تنظر لعنان حبيب الماضي، وليس عنان الخائن الغادر.

كبحت شعورها عنه وكادت تقف ولكنه أمسك كفها يمنعها من المغادرة وهو يقول بصوتٍ خافت...
-(لا ترحلي يا فلك.. يكفينا عذاب)

كرهت انه استغل شعور الشفقة داخلها كي يجعلها تنسى ما حدث منه وتتجاوز عن آثامه.. فجذبت كفها منه وأعادت الدثار على صدره مره أخرى وهي تقول بصوتٍ هادئ وقد استعادت ثباتها...
-(إن كان حُبك لي هو عذابك في الدنيا وعقابك على أفعالك..فمُت بي حبًا واحترق بنار الهجر
ولكن لا تحلم بالقرب مني مره أخرى.. ما أنت سوى شريد يا عنان..والشريد لا مأوى له.)

تركته وغادرت الغرفة دون أن تنظر خلفها، واكتفت بضغط زر الاضائه تغلقها خلفها وتجعل الغرفة تسبح في ظلامٍ دامس.. أغمض عنان عينيه وهو يفكر بحسرة

كيف لها أن تكون حادة حد القسوة
ولينة في منتهى الرحمة
كانت فلك كالرصاصة الغادرة التي تحتضن صدره في دفئٍ ولكنها تقتله.
تختلط بدمه ولكنها تُسممه
كانت الداء والدواء.. القاضي والجلاد.. كانت كل شيء محبوب لقلبه.. وأليم لروحه.
***

(غصونك تُزهر عشقًا) Where stories live. Discover now