الفصل السادس عشر2

3.8K 335 31
                                    

الفصل السادس عشر (الجزء الثاني)
.....................................
منذ مواجهتهم الأخيرة وهو لا ينظر لوجهها حتى، ما عاد يلح عليها أو يقترب منها ويحاول توضيح أي شيء كما كان يحاول سابقًا.. شيء ما في نفسه عافها بعد أخر مواجهة لهما.. كلماتها تتردد كالصدى في رأسه وتمنعه عن تخطي الألم الذي سببته .. فلك أحدثت في نفسه جرح غائر لن يشفيه الزمن ولن تلطفه الأيام ابدًا.. لقد تشقق قلبه من الجميع.. ولكن أكثر ما أوجعه هو عدم ثقتها فيه.. لا يعنيه كفر الجميع ما دامت هي مؤمنة ببراءته.. ولكنها لم تكن كذلك.. لم تكن تحبه بالقدر الذي يجعلها واثقة به.. لم تكن مشاعرها نحوه قوية بالقدر الذي يجعلها ترفض الزواج من صديقه.. لم تحارب الجميع.. بل حاربته مع الجميع.
له يومين خارج المنزل، ولم تكلف نفسها بالاتصال به كي تطمئن عليه.. وكأنه هواء غير مرئي، أو جرذ لا يعنيها
زفر دخان سيجارته بمرارة وهو يخبر نفسه.. فـلك التي أحبها في الماضي لم تكن هي ذاتها التي تعيش معه أسفل سقف واحد.. فـلك الحبيبة كانت تحبه، تعينه على الحياة، تربت على جراح قلبه.. أما فلك الأخرى كانت مجرد حِمل ثقيل على قلبه.. خاصة كلما رمقته بازدراء وتعالي غريب.. فلك تحتقره وتشمئز منه وتنعته بفتى الشوارع الزاني.. لا قطعًا ليست هي ذاتها فـلك حبيبته.. ليست هي أبدا.
خرج من شروده بصعوبة وألقى سيجارته من نافذة سيارته وهو يعاود النظر للمقهى الراقي أمامه.. ذاك المقهي الذي يقف أمامه ما يقارب الساعة ونصف دون أن يظهر مراده.. ولكن أخيرًا لمعت عيناه وهو يراها تهبط من سيارتها الفارهة، وتلتفت للمقعد الخلفي، تُمسك حاملة طفل صغير وتضمه لصدرها قبل أن تتحرك بخطوات واثقة داخل مقهاها.
لطالما كانت ضحى الراشد واثقة
امرأة تدري أنها جميلة، وراقية، ومرغوبة
ورغم كل مزاياها إلا أنه يحتقرها لأبعد مدى
ليس لأنها بكل قسوة تركت صديقه والتصقت به كالعلكة
وليس لأنها حملت في طفلها سفاحًا ونسبت له أبوته دون وجه حق
بل لأنها أضاعت أغلى شيء يملكه.. بل الشيء الوحيد الجميل في حياته

أنبه صوت ساخر في نفسه وهو يخبره بالحقيقة المُره.. ضحى لم تكن السبب في ضياع فـلك وكراهيتها له.. لو كانت فـلك تحبه من الأساس لما كانت سمعت حديثها، لا هي ولا ألف غيرها.. ولكن حبها كان هش.. مزيف.. يطير من نفحة هواء بسيطة..أه من فـلك
ألقاها في زاوية رأسه قبل أن يخرج من سيارته العتيقة ويصفق الباب خلفه، قبل أن يسير بخطواتٍ متزنة نحو المقهى.. يتخطى الأمن بملامح لا مبالية.. ونظرة فاترة توضح مدى برودة الرجل في هدوئه وجنونه في أحيان أخرى.. تابع سيره داخل المطعم الذي يحفظ أركانه ركن ركن.. قبل أن يتجه لمكتب ضحى.. وقبل أن يدخل جاء صوت النادل خلفه يوقفه قائلا..

-(المعذرة يا سيد.. ولكن اتود شيء ما)

وجه له نظرة جامدة وهو يمسك الباب قائلا بخفوت مستفز للشاب..
-(اعتني بشؤونك يا فتى.. اعرف طريقي)

ودون تردد دلف وأغلق الباب خلفه دون أن يدع فرصة للشاب ان يتحدث ولو كلمة واحدة.. وقبل أن يلتفت ويواجه ضحى سمعها تقول بذات النبرة المتعالية التي لطالما سمعها قبل عامين.. قبل أن تدر حياته وتمزقها..

-(ما الذي تفعله هنا يا سيد)

التفت لها عـنان في بطئٍ كاره.. يكره صوتها.. يكره رؤيتها، يكره جمالها البارد وكبريائها الزائف.. كبرياء يعلم الحقيقة خلفه.. الحقيقة التي كان يشفق عليها ولكن الان، يراها تستحق كل ذرة ألم عاشتها.. تستحق المعاناة.. وتستحق ما سيفعله بها
سمعها تشهق بصدمة وهي تنظر لوجهه الأسمر ذو النمش الذهبي الذي كانت تبدي إعجابها به سابقًا..خصلاته البنية التي تحاوط عنقه في وحشية وعبث.. طوله الفارع وجسده الذي هزل عن أخر مره رأته فيها.. ملابسه الرثة المكونة من كنزة خضراء شاحبة، وبنطال من الجينز الباهت.. لم يكن عـنان الذي تعرفت عليه سابقًا.. كان أخر يثير في النفس رعبًا حقيقيًا، خاصة بسبب نظراته السوداء والظلال التي تحاوط عينيه.. فمه الذي كان يلويه في سخرية كارهة تعلمها جيدًا.
ابتلعت رمقها وأغلقت فمها وشدتت عليه قبل أن تقول بلهجة حادة أخفت خلفها كم الغضب الذي كانت تشعر به..

-(ما الذي تفعله هنا.. أخرج قبل أن أجلب الأمن يلقونك خارجًا)

-(لازلتِ كما أنتي يا ضحى  ، فتاة خاوية ذات كبرياء مزيف ونفس عارية.. اه نعم  ، أنتي الان امرأة  ، ولست فتاة)

اتم كلماته بلهجة كانت تتنوع بين السخرية واللوذعة.. ونظرة الازدراء في عينيه جعلتها تبتلع كرامتها بصعوبة وقد تحفز جسدها بعدائية واضحة قبل أن ترفع سماعة الهاتف الداخلية لمكتبها وهي تغمغم بحدة..
-(لن أتعب نفسي بإجابتك  ، سأتصل بالأمن وهم يفعلون اللازم معك)

في لحظاتٍ قليلة سحب السماعة من يدها وصفقها على الهاتف بقوة قبل أن يقول بنبرة جافة..
-(لن أخرج من هنا قبل أن نتبادل حديث حضاري.. إلا لو كنتِ تفضلين العنف)

تحركت نحو الباب بسرعة كي تفتحه وتستدعي الأمن كي تتخلص من وجوده الثقيل، ولكنه تبعها وجذبها من مرفقها بقوة وقد سد عليها الوصول للباب وقد لفظ كلماته في لهجة سجان قاسي لا يملك الرحمة.. بل لا يعرفها من الأاساس..

-(أنا اعني ما أقول.. اعني كل كلمة)

جف حلقها وهي تسمع نبرته التي خرجت كالفحيح، حدقت في هيأته القاسية وجهه الجامد وهي تفكر في مرارة..هي تعرف أن عـنان لن يتركها سوى بعدما يقول كلماته، ظهوره في حياتها فجأة يُشير أن ما يريد قوله هام جدًا، وإلا لمَ كان عاد وقابلها.. هي تعلم أنه يكرهها، يكرهها من كل قلبه كما تكرهه هي تمامًا.
تنهدت بقوة قبل أن تقول بصوتٍ حاد اخفت به توترها وكراهيتها الواضحة...

-(ماذا تريد)

زفر ساخرًا وهو يجلب كرسي ويضعه أمام الباب، فهو لا يأمن حيلها التي لا تنتهي، ثم نظر لها بتهكم واضح وهو يخرج سيجارة من العلبة ويضعها في فمه ويشعلها بعود ثقاب اشتعل ثم اختفى حينما نفخ فيه قائلا...

-(يالوقاحتك.. بعد كل الضرر الذي أحدثته في حياتي تساليني ماذا أريد؟!)

أدركت في نفسها انه يحاول بث الخوف في قلبها.. عنان أل غانم عنيف، بري، لا يشبه نُصير في هدوئه ولا عبدالعزيز في دماثته.. كان رجلًا لا يهتم لأحد في الدنيا.. لا يهتم سوى لنفسه ولمحبوبته التي لا يضعها نصب عينيه في كل خطوة في حياته، وفي هذه اللحظة لا تدري.. أهو ازداد سوءًا بعد الذي حدث بينهما،  أن الهالة الحادة التي تحيطه هي من تجعلها قلقه..
بللت شفتيها بلسانها قبل أن تقول بجمود...

-(أنت من ابتدأ هذه اللعبة، لا تبكي كالأطفال الأن)

ابتسامة قاسية رُسمت على شفتيه قبل أن يجيبها ساخرًا...
-(من أخبرك أنني سأبكي كاالأطفال.. أنا أريد ثمن ما فعلته بي)

الثمن؟!
كانت كلمة غريبة على سمعها  ، خاصة من رجل ينتمي لعائلة غنية جدًا رغم كونهم قرويين.. ولكن أعمالهم الواسعة وثروتهم الغير معلنة تجعله في غنى عن الثمن الذي يطلبه منها.. ولكن بالنظرة الثاقبة التي مسحت بها هيأته الرثة، اودعت أنهم لازالوا غاضبين منه، وبعد تدهور سمعته كرسام داخل مصر، فهو يعاني أزمة مالية جعلته يهبط من برجه العادي ويأتي لها طالبًا الثمن؟!
تنفست الصعداء وارتفعت ابتسامة باردة على زاوية فمها, قبل أن تتجه خلف مكتبها وتجلب دفتر الشيكات من حقيبتها الغالية، وتكتب داخله شيء ما، قبل أن تمد كفها بالورقة الصغيرة وتقول بلهجة  باردة مفعمة بكبريائها...

-(حسنًا لا مانع.. بعد انتهاء مسيرتك الفنية كرسام، وبالطبع قد تبرأت منك عائلتك.. لذا سأكون كريمة وأعوضك بملغ جيد يبعدك عن طريقي تمامًا)

نظر للشيك المالي المدود له، ثم إلى وجهها المتعالي.. كم بدت له فتاة حمقاء تافهة، فتاة لا تهتم سوى بنفسها وتحتمي خلف الأموال كي تنظف بها قذارتها.. تنظف الوحل عنها.. وللدهشة مهما فعلت لا تشعر بنظافة.. كان يدري عقدة النقص داخلها بسبب ماضيها المُظلم ونسبها المجهول  ، لذا لم يتحرك له جفن وهو يقف ويجذب الشيك من يدها يمزقه لقطع صغيرة قبل أن يُلقيه في وجهها ويلمح لها عن ماضيها بإزدراء رأى أنها تستحقه...

-(اسمعي يا مُحدثة المال والنعمة..كل مال الدنيا لن يعوضني عما أفسدته  ، لذا ابلعي لسانك واسمعيني جيدًا)

كبحت صرخات هيستيرية كادت تطلقها في وجهه، ولكن ما منعها هو صغيرها النائم جوار مكتبها في مهده.. لن تفزعه بصراخها، ولن تفعل شيء يجعل عنان ينتبه له، لذا استمعت لنصيحته وابتلعت كلماتها الحادة قبل أن تقول بضيق...

-(قُل ما عندك و ارحل)

اقترب من مكتبها وبدأت يطرق بأصابعه عليه وهو يقرن كل طرقة بكل كلمة تخرج منه بتصميم شديد، وكلماته تحمل تهديد مبطن لم تستطع تحديد فحواه خاصة وهو يردد بقوة...

-(ستأتين معي الأن وتخبري زوجتي بكل شيء، ستعترفين بأفعالك وتقسمي أمامها انني لست والد الطفل)

حان دورها لتسخر منه ومن مطلبه الفارغ الذي لا يهمها أبدًا.. ميزت ان زوجته تلك هي فلك، ابنة عمه الذي كان مولع بها.. لم تحاول اشغال عقلها لرغبته المفاجئة أن توضح ما حدث في الماضي.. فهو لم يهتم بإثبات الحقيقة للجميع.. وانما اكتفى بمواجهتها أمام عبدالعزيز ونصير والده حينما صرح بكل هدوء أنه لم يقربها او يعاشرها كما تدعي، ولم يأبه لها مثقال ذرة، وإن شاء من يصدقه يصدق، والعكس.. فهو لا يهتم أبدًا
أما الان وبعد مرور عامان يأتي لها فجأة ويأمرها أن تأتي معه كي تقول الحقيقة لزوجته.. أي عبث هذا!؟
تاملت خطوط وجهه العصبية وهو ينتظر ردها بعد طول الصمت الذي غلفهما فقالت...

-(وما الذي يدفعني لهذا)

حسنًا.. هو لم يتوقع أن تحرك رأسها بذنبٍ بالغ وتتبعه حيث اراد وتقول الحقيقة.. لقد توقع منها أي شيء عدا الاستسلام والاعتراف بخطأها.. لذا فقد فكر للحظات وهو يطلق همهمة تنم عن تفكيره الطويل، قبل أن يحرك أحد حاجبيه بشماته وينظر لوجهها الساخرًا قائلا بجدية شديدة لا تقبل الشك ولو للحظة واحدة.. كان يعني ما يقوله الان...

-(سأذهب لأول صحيفة أخبار ذات صيت  ، وأخبرهم أن ضحى الراشد فتاة سفاح وليست ابنة عبدالله الراشد الطبيب المشهور، بل هي فتاة لقيطة، وعلى خطوات والدتها سارت وانجبت طفل مجهول النسب وحاولت إلصاقه لشخص غير والده البيولوجي.. أظن أن والدك السيد عبدالله الراشد سيسعد بهذه الأخبار الجميلة)

كانت كلماته تندفع لها كخناجر سامة تقطع ولا تجرح.. كان يتحدث عن حياتها المروعة بلا مبالاة غريبة.. غامت عيناها بدموعٍ حارة غاضبة وهي تكاد تاكل نفسها ندمًا أنها صرحت له بحقيقتها ذات مره.. لقد عرت له جرحها.. فمرر مدية قسوته عليه ليزيده بشاعة.. خرجت كلماتها مجروحة من حنجرتها ومُثقلة بالالم الحارق...

-(كيف تجرؤ.. كيف تجرؤ يا حقير)

لم يتاثر بحالتها التي انقبلت رأسًا على عقب حينما اشار لحياتها بكل صراحة.. لم يتحرك له جفن، وانما ردد بهدوء شديد، يرد لها سبابها ببرود...

-(مثلما جرؤتِ على ما فعلته معي.. ثم ان حقارتي من بعض ما عندكم)

-(أخرج من هنا قبل أن أتصل بالشرطة.. ابتعد عن حياتي يا حقير)

لم يتأثر لصيحتها الغاضبة ولا الهيستيرية التي بدت عليها، لقد أخبر نفسه قبل أن يأتي إلى هنا أنه لن يشفق عليها ولو لحظة واحدة.. لقد أشفق عليها في الماضي إلى أن جعلته كبش فداء لها وللحقير الذي استغل تشتتها
تنفس بهدوء على عكس غضبها الواضح، وتابع كلماته ببرودة شديدة...

-(أما الاختيار الثاني هو أنني سأتنازل وأقول أنني والد الطفل، وسأخذه منكِ ولن تريه مره أخرى)

أنهى كلماته وهو يسير لمهد الطفل؛ ينظر مليًا لملامحه النائمة، كان الطفل ملاك بمعنى الكلمة، بوجهه الأبيض الخلاب الذي ورثه عن ضحى، وخصلاته السوداء القاحلة التي أخذها عن والده الهارب..
خرج عن شروده وهو يسمع صيحة ضحى الشرسة وهو تجذب مرفقه وتبعده عن مهد الصغير...

-(ابتعد عن طفلي، لا تلمسه)

جذب مرفقه منها ومال نحو الصغير، يحمله بأنامل قوية لم تؤذي.. ورفعه أمام وجهه ينظر له نظرات أربكت ضحى وحطمت حصونها ودوافعها؛ فأزاد عليها أكثر وهو يغمغم بابتسامة فاترة...

-(دعيني اتعرف على طفلي بهدوء يا ضحى..ممم يبدو جميلًا ورقيقًا)

نشبت أظافرها في ذراعه بعنف وهي تحاول أخذ الطفل منه وقد انتابتها نوبة فزع عجزت عن كبحها...

-(أقول لك ابتعد عن طفلي حالًا)

دفعها عنه بقوة وهو يتشبث بالطفل والسخرية تموج في عينيه، ولسانه اندفع يُعلن في حدة واضحة، وصبرٍ شارف على النفاذ..

-(وأنا سأخذ طفلي إن لم تختاري الأن)

-(لن اختار وافعل ما بوسعك، لن يصدق أحد جرذ مثلك)

بصقت كلماتها بعصبية مفرطة وهي تعاود محاولة انتزاع الطفل منه...
جذب وشاح الطفل، ولفه حوله دون أن يأبه بأناملها التي تحاول انتزاع الصغير منه، وفي غضون لحظات، استفاق الطفل وبدأ يطلق صرخات فزعه وهو يطالع وجه عنان الغريب عنه... فتحدث عنان متجاهلًا بكاء الطفل وصياحها...

-(حسنًا دعينا نجرب.. وإلى أن نتأكد من حديثك سأخذ طفلي)

-(زيد لن يذهب معك لأي مكان، ارتكه وارحل حالا)

دفعها عنه مره أخرى وسار نحو باب المكتب ينوي فتحه وهو يكرر في برود لم يمل من استخدامه في وجهها...

-(لن أرحل دون طفلي..أنا أعني ما اقول، سأخرج هنا مع طفلي رغم أنف الجميع)

-(هذا ليس طفلك يا لعين وأنت تعلم هذا، أترك الطفل حالا)

انطلقت صرخاتها الحادة كصواريخ نارية في وجهه وهي تعترف بالحقيقة أمامه دون استخدام رواياتها المزيفة عن كونه ولده الناتج عن علاقتهما المتهورة
حينها ارتخى وجهه أكثر، وسار نحو المهد مره أخرى يضع الطفل الباكي فيه وهو يغمغم متهكمًا...

-(حقًا.. إذًا لمَ تبجحتي بكوني والده)

أخذت الطفل من المهد بأنامل مرتعشة، وضمته لصدرها كي تهدأ بكائه، أو لعلها حملته لتهدأ خفقاتها الهادرة رعبًا عليه، ورغم ارتجافها وحالتها السيئة في هذه اللحظة
لم تمنع نفسها من التحدث بازدراء وألم توارى بين جنبات صوتها المُتعب...

-(كان عليك أن تدفع ثمن حقارتك معي.)

تجعد وجهه في حدة واضحة وضغط على نواجزه وهو ينظر لها مستهجنًا كلماتها الكاذبة؛ التي تُصر على استخدامها كلما ضاق بها الخناق
ضرب المكتب بقبضة لتنتفض على أثرها...

-(أي حقارة هذه.. أنا لم أكن سوى صديق وفي لكِ ولعبدالعزيز إلى أن..)

صديق وفي ؟!
جملة جعلتها تكاد تضحك ساخرة كما المجانين
ويجرؤ على نعت نفسه بصديق وفي؟!..
هو بالفعل كان صديق، ولكن صديق خائن، استغل ارتياحها له وما قصته عليه من أحداث سوداء، حاولت اخفائها هي وعائلة الراشد.. ولكن في لحظة انهيار أخبرته بالحقيقة كاملة
أخبرته ايضًا أنها تنوي فسخ خطبتها هي وعبدالعزيز، لأنها أحبت شخص أخر.. شخص لن يوافق عليه عبدالله الراشد.
ما ان ادارت ظهرها له حتى غدر بها، أخبر والدها بكل ما قالته له سرًا، وتعاونا على ابعاد الرجل الذي تحبه
دون أن يعرف عبدالعزيز بشيء.. وبالفعل نجحوا
ولكن غفلوا عن كونها حامل..!
بسبب عنان تألمت إلى أن كاد قلبها ينشطر في صدرها
بسبب العذاب الذي عانته من والدها.. كادت تموت حسرة

خرجت من شرودها ونظرت له بكراهية واندفعت كلماتها تتردد بمرارة....

-(إلى أن فضحت أمري ونشرت أنني لست من صلب أبي، فضحت كوني متبناه، وفوق كل هذا فعلت كل ما في وسعك مع أبي كي تخفي زيدان وترسلونه بعيدًا عني)

ما اوقحها.. تلومه لأنه ساعدها !
تلومه لأنه خشى على علاقتها بصديقه ؟!
رد عليها بصوتٍ حاد يوبخها...

-(انتِ كنتِ خطيبة صديقي, لم اكن لأسمح لكِ أن تجرحيه لأجل نزوتك مع رجل وضيع يسعى خلف مالك)

تصاعد الدخان من أنفاسها الثقيلة واندفعت تقول في جنون منفعل....
-(وما شأنك انت.. ما شأنك بي لتتصرف في حياتي بحرية)

ضغط على نواجزه بقوة قبل أن يتحدث بحدة...
-(ولهذا قررتي ان تنسبي الطفل لي بدلًا من ذاك الحقير)

ردعته بقوة وحده تثنيه عن سُبابه في حق والد طفلها..
-(اخرس ولا تقل عنه كلمة واحدة.. هذا الشاب أشرف منك ومن..)

رد ساخرًا...
-(ومن؟! أبوك بالتبني؟!)

تنهدت مطولًا ما ان عاد طفلها للنوم، فوضعته في مهدة ودثرته برقة رغم ارتعاش أناملها.. ثم تمالكت نفسها وهي تنظر لعنان بجمود وغمغمت...

-(ما الذي تريده مني)

-(أن تأتي معي وتخبري فلك بكل شيء)

ظهر التهكم على وجهها بوضوح
إذًا الموضوع فيه فـلك.. يبدو أن الأخرى لم تصدقه حتى الآن، حتى بعد زواجها منه.. لازالت تصدق ما أعلنته ضحى ؟!
عنان الوحشي يحاول اثبات براءته أمام فلك، في حين أنه لم يهتم باثبات العكس لعائلته
أي سخرية هذه
تأملت ملامحه المشدودة في غضب مكبوت، وكأنه على استعداد بضرب أحدهم.. فحاولت جعل نبرتها هادئة ناعمة وهي لا تأمن مكره، فقالت...

-(وهل زوجتك العتيدة، ستصدقنا بهذه السهولة)

-(المهم أن نقول لها الحقيقة، وإن تطلب الأمر سنذهب لمختبر لنجري تحليل أبوه للطفل كي تصدق، وإن لم توافقي سأسحبك جرًا رغم أنفك)

رغم الإهانة التي استفحلت أخر كلماته، إلا إن أكثر ما أغضبها جملة " تحليل أبوه" اندفعت الدماء حارة في عروقها، وبصقت كلماتها بحدة...

-(لن أُعرض طفلي لهذا الهراء)

-(هذا ما عندي)

كان الإصرار مرسوم على وجهه، لقد جائها اليوم عازمًا على ما أراد، وإن كان الموضوع يخص فـلك، فهو لن يتراجع عن اثبات الحقيقة لها، حتى لو اضطر لجرجرتها كما قال.. لذا حركت رأسها بإيجابٍ وقالت..

-(حسنًا أنا موافقة  ، ولكن لي شرط)

-(لستِ في حالة تخولك للشروط)

حركت رأسها بإيجابةوكتفت يديها متهكمة...
-(وانت لن تستفيد شيء عند فضح أمر نسبي، لذا كن متعاونًا وللنهي هذا المهزلة)

هي محقة، هو لن يستفيد شيء من فضحها.. أمره مع فلك سيظل عالقًا في الهواء دون حلول.. ستظل على يقينها أنه خائن حقير رفض الاعتراف بنسبه لطفله
تراجع في حدته وقرر أن يجاريها، عله يصل لنقطة استفادة من حديثهما البالي...تمتمه حانقة خرجت منه وهو يسألها..

-(ما الذي تريدينه)

صمتت للحظات، حاولت تنظيم أفكارها أولًا.. وتمالكت خفقاتها المدوية في صدرها.. تشحذ كل ما تملك من قوة وصمود وهي تواجه عيناه الساخرة.. قبل أن ترطب ثغرها بلسانها وتقول بسرعة...

-(تبحث عن والد طفلى  ، ترجع لي زيدان الذي أخفيته)

تنهد بصبرٍ نافذ وعاد صوته يرفع في عصبية وحنق.. وكرر كلماته مره أخرى علها تدخل لعلقها الصلد..

-(انا لم أخفه، هو أخذ المال الذي عرضه والدك ورحل)

-(أنا لا أصدقك)

جائته إجابتها قوية وعنيفة.. هي تُصر على إرادتها إذًا..
ارتبكت أهدافه في نفسه للحظات، ونظر لمهد الطفل مطولًا.. مهما كانت ضحى حقيرة، ومهما كانت أفعالها قذرة تتنافض من وجهها الملائكي، فلا ذنب لطفلها أن يكبر دون أب، أو على الأقل دون أن يعرف والده ويُكتب على اسمه.. لذا جمع شتات نفسه ونظر لها جامدًا قبل أن يقول...

-(حسنًا..سأساعدك لأجل الطفل المسكين، ولكن سأضع لنفسي مهلة اسبوع، إن لم أجده ستأتين معي وتنفذي باقي اتفاقك)

حركت رأسها نافية وهي تكرر كلماتها وتشدد على كل حرف فيها؛ مُصممة على تنفيذ الشق الأول من اتفاقهما أولاً فقالت..

-(لا.. أعرف طريق زيدان أولاً وبعدها سأذهب لزوجتك المصون وأخبرها بكل شيء  ، وإن تطلب الأمر سأفعل التحليل لتصدق.. وكل هذا متوقف على عودة زيدان)

-(حسنًا)

القى كلمته المختصرة وخرج من مكتبها صافقًا الباب خلفه بقوة؛ جعلتها تنتفض هي وصغيرها الذي اندفع في البكاء من جديد.. سارعت تحمله لتهدهده وفي فمها سُبه لعنان ألف مره.. كانت ترتعش بلا توقف، قلبها يخفق بقوة مؤلمة.. وفي نفسها أمل وألم.. أمل لاحتمال لُقيا حبيبها
وألم على ما آلت إليه أمورها.. ورغم كل كراهيتها لعنان، تعلم أنه سيلتزم بكلمته ويساعدها في العثور على زيدان.. وتتمنى ألا يخون ثقتها مره أخرى.


كادت تنسل دمعة من عينها ولكنها منعت نفسها بصعوبة وهمست لصغيرها بصوت متهدج حزين...

-(لا بأس يا صغيري، سنجد والدك.. لا بأس)

                                 ****
لازالت مبعثرة منذ أخر مره خرجت فيها مع نُصير
لازالت مرتبكة، عاجزة عن استيعاب إرادة هذا الرجل
لا تُنكر أنه لم يضغط عليها أكثر في هذه الليلة، واكتفى بوضع قبلة حارة على وجنتها وهو يُذكرها أنه سينتظرها، فهو لا يبغي جسد ميت، وانما امرأة واعية، حارة، ترغبه كما يرغبها.
ارتعشت وهي تتذكر كلماته التي غمغم بها أمام وجهها مخلفًا موجاتٍ حارة تصفعها...

-(لا تكوني خائفة مني ياحفنة العسل، لست رجلًا شاذ لأُجبر امرأة على شيء لا تريده.. لذا اطمئني، لا إجبار بيننا.. لا الآن ولا لاحقًا)

كان شأن هذه الكلمات أن تُهدأ خوفها منه وتُسكن رجفتها
ولكنها زادتها تشتت وانهيار.. خاصة حينما اتخذ لقبه الجديد اسمًا لها.. (حفنة العسل).. ذاك الاسم الذي قرنه بها دون سبب وجيه، غير أن شعرها ذو لونٍ عسلي فقط ؟!

وبعد هذه الليلة تركها غادر دون أن يُضيف كلمة أخرى، ثم غاب عنها ليلة وأخرى وثالثة، ولكنه لم يكن غياب منقطع
بل لم يخلو من اتصالاته مره أو مرتين في اليوم وهو يردد على سمعها بصوتٍ مثير بدت فيه تسليته...

-(ما أخبارك يا حفنة العسل.. ألم تشتاقي لي ؟!)

حينها تصمت عاجزة عن التنفس أو الإجابة، تظل ممسكة الهاتف بأنامل متصلبة، وهي تقاوم صوت داخلها يدفعها أن تلقي الهاتف وتحتمي في غرفتها من غزوه عليها.
فيصلها صوته العميق وهو يخبرها بصوتٍ باسم...

-(عندي أعمال كثيرة في المصنع.. ولكن لو اشتقتِ لي حادثيني وسآتي فورًا ياا...حفنة العسل)

كانت تغلق الهاتف سريعًا واشهق كمن يغرق..في حياتها لم ترتبك هكذا، ولم تشعر بالوخز في جميع أنحاء جسدها بهذا الشكل.. وكأنه.. وكأنه يؤثر بها؟!

شهقت فزعة من ذاك الخاطر المُخجل واندفعت الحرارة لوجهها.. كيف يؤثر بها.. هل جُنت مثله.. هل فقدت عقلها وكرامتها ووفائها لفايز كي تتأثر بنُصير؟!
ولمَ تتأثر به من الأساس.. هي لا تأبه بالشكل ولا الوسامة
كي تعزي الأمر أنها معجبة بشكله.. في الحقيقة هي لا تؤمن بالمشاعر المتعلقة بالشكل، تؤمن بالمضمون والروح.

علها تُقدر حمايته لها، وأنه فتح لها بيته دون تردد
رعاها ورعى طفلها، وجعل نجاة الحبيبة تعتني بهما
عل تأثرها به بسبب امتنانها العميق له... نعم هي ممتنة لهذا تـ.. تـ..

شهقت عاجزة عن إكمال الجملة، ودفنت وجهها في وسادتها بعذاب.. لم يكن ينقصها نُصير وأفعاله العابثة كي يصبح ثقل ضمن أثقالها.. كان عليها أن تصده بحزم ألا يلاطفها، تركله بعنف لو اقترب منها
أن تصفعه على فمه قبل أن يغمغم بكلمة (حفنة العسل) تلك ويربكها.

ولكنها دون إرادة أو قوة تنكمش في نفسها حالما يقترب منها ولو خطوة، تتحول لأخرى عاجزة لا حيلة لها سوى الارتجاف كهرة بللها المطر.
جسدها الخائن يتحول لهلام من فرط الارتباك والتشتت
كل هذا بسبب نُصير.. الرجل الذي حذرتها منه نفسها في أول يوم رأته فيه.. لقد عرفت أنه يُشكل خطر على نفسها
ولكنه خطر عاطفي، ويكاد يتطور لخطر جسدي.

انتبهت من شرودها على طرقات نجاة على باب غرفتها
ثم دخولها للغرفة وهي تقول بنبرة حانية سريعة...

-(المعذرة يا عزيزتي لو كنت أيقظتك، ولكن جائني غلام صغير يخبرني أن والدته تلد في السيارة على أول الطريق... سأذهب سريعًا لها لأساعدهم في نقلها للمركز الطبي)

اعتدلت مرام في الفراش سريعًا، تحاول طرد أثر النوم ومشاعرها، كي تستفيق كليًا.. وقالت بخفوت...

-(انتظريني سأتي معكِ لنساعدها)

-(لا بأس يا عزيزتي، اكملي نومك مع طفلك، وأنا سأفعل كل ما بوسعي مع المرأة، وإن احتجتكِ سأتصل بك، أو أُرسل الصغير يخبرك)

حركت مرام رأسها بإيجاب وغمغمت باسمة..
-(حسنًا يانوجة.. اذهبي وأنا على أي حال استيقظت)

-(تسلم لي ابتسامتك الرقيقة يا قلب نوجة.. ابتسمي وانفضي الغراب الأسود عن روحك.. دعينا نرى رقة وضحكات بنات القُرى)

ألقت نجاة كلماتها المازحة وهي تخرج من الغرفة وتغلقها خلفها.. بينما مرام ضحكت على كلماتها، وحاولت التوزان والوقوف من الفراش.. وقد استعادت جزء من راحتها لسبب مجهول لا تعرفه.

بعد خروج نجاة من المنزل مع الغلام، اتجهت مَرام نحو المطبخ لتحضر كوب قرفة بالزنجبيل كي تبتدأ به صباحها
وقررت ألا تأكل شيء لحين رجوع نجاة، كي تتشاركًا الفكور سويًا.

رفعت الكوب لفمها ترتشف منه ببطئ كي لا تلسعها حرارته
ووقفت أمام النافذة العريضة المُطلة على البحر
كانت السماء ساحرة، خاصة بسرب الطيور الذي بدأ يحلق فيها بطيرانٍ متناغم مع بعضهم البعض
والسحب البيضاء المنتفخة وكأنها حلوى غزل البنات.
زرقة البحر وبياض الزُبد الأبيض يتزاحف على الشاطئ الذهبي..

تنهدت مطولًا وهي تريح رأسها على إطار النافذة، وتتحدث لنفسها بخفوتٍ شارد

-(كم تبدو الحياة مُبهجة وجميلة هكذا)

أغمضت عيناها وهي تتنفس بعمق وتقول في نفسها بتمني.. ليتها كانت بلا ذكرياتٍ أليمة.. ليتها كانت مجرد فتاة حرة، تعيش مع عائلتها في مكانٍ كهذا.. كانت ستفعل أشياء كثيرة.. كانت ستجمع الصدف، وتتمتع بملمس الرمال الحارة.. وقد تفكر بالسباحة رغم خوفها من البحر.

كانت لتكون فتاة أخرى
ليتها كانت فتاة أخرى، لا حاضر حزين، ولا خوف من مستقبل مجهول.. ليتها كانت متزوجة رجل يحبها وتحبه، لا يخدعها بحبٍ زائف.. يرعى طفله ويظلل عليهما بحمايته..

ليت والدها يغفر لها..وستغفر له هي الأخرى
ليت عائلة آل غانم يتركونها لحال سبيلها، ليتهم يدعوها بسلام.. او تنساهم وينسوها

كانت الأمنيات تندفع في نفسها بلا توقف، كسيل ماء منهمر، كم تبدو أمنيتها حُلوة كطعم العسل ؟!
زحفت ابتسامة كسولة وصوته يتردد في رأسها كالصدى البعيد وهو يقول (يا حفنة العسل)
وتسألن في نفسها بذهول مقطوعة الأنفاس، من أين جاء بوصفٍ كهذا؟!

انتبهت من أحلام اليقظة على صوت طرقات الباب
فوضعت الكوب جانبًا وهي تدري هوية الطارق
نجاة أخبرتها أنها لو احتاجت لها سترسل الغلام يصطحبها.

فسارت خطوات سريعة نحو الباب تفتحه دون أن تتحرى من هوية الطارق.. ولكن عكس ظنها، لم يكن الغلام
بل رجل ضخم ذو ملامح واجمة، ونظرة حادة جعلتها تضيق فتحة الباب وهي تغمغم بخفوت قلق..

-(أي خدمة؟)

جاء الرد على سؤالها بطريقة خشنة عنيفة، فقد دفع الباب بقوة وطاحت هي أرضًا متأوه من قوة اصتدامها بالارض
وفجأة بصرت رجلان هيئتهما وحشية، ملامحهما إجرامية بعثت الرعب في نفسها، خاصة وهي تراه يغلق الباب بإحكام ويرفع عصا غليظة بين أنامله وهو يقترب منها

شهقت برعب وزحفت للخلف تحاول الابتعاد عنهما وهي تتحدث بصوتٍ متقطع فزع...

-(من أنتما وما الذي تريدونه.. أنا لم أفعل شيء)

مع كل زحفة لها كان الرجلان يقتربان منها بملامح مصممة، مهمة قد عزما على تنفيذها على أكمل وجه، دون خطأ واحد.. دون تردد أو شفقة بالضعف الظاهر على المرأة الزاحفة..

-(ونحن لن نفعل شيء، مجرد هدية تذكارية من شخص يحبك، ونحن نوصل الهدايا بمنتهى الأمانة)

أتم الرجل الغليظ كلماته الساخرة ورفع عصاه للأعلى وبكل قوته هبط بها على ساق مرام التي أطلقت صرخة عنيفة كادت تمزق حلقها وتشق جدران المنزل.

اندفعت الدموع غزيرة على وجهها وهي تصرخ وتتألم من الضربة القاسية التي تلقتها..وهي تعتدل ففجأها الثاني بضربة أكثر قوة على ظهرها لدرجة أنها سمعت قرقعة عظامها، فانطلقت منها صرخة أخرى شابهت الأولى في مدى ألمها.. ولكنهما لم يتركا الفرصة لها كي تبكي أو تصرخ، بل توالت ضرباتهما العنيفة بالعصيان الثقيلة "النبوت" ينهالان بها على كل أجزاء جسدها
ساقيها
رأسها
كتفها
معدتها
ظهرها
وبعد ثاني ضربة على رأسها الذي شُج وسالت منه الدماء بغزارة.. فقدت وعيها تمامًا وما عادت تُخرج أي صوت أو ردة فعل.. وهذا لم يمنعهما من اكمال ضرباتهما القوية على أجزاء جسدها.. وكأنها حجر يودان تفتيته.. وقد فُتت.

توقفا عن ضربهما وهما يتنفسان بعمق وينظران برضا للنتيجة.. كانت سابحة في برقة دماء أسفل رأسها
وجسدها منبطح بسكون.
ادخل يده في جيبه يُخرج مديته، ويقترب منها قاصدًا وجهها.. ولكن الطرقات العنيفة على الباب جعلته يبتعد وهو يركض هو زميله في اتجاه الشرفة، يفتحها كي يقفزان منها كفصوص ملحٍ قد ذاب.

كانت طرقات نجاة تضرب الباب بقوة وهي تصيح في الخارج بقلق، وقد سمعت صرخة مرام  العالية التي جائت من المنزل.. ولكن قابلها السكون..

لم تكن مرام في عالم الأحياء.. كانت لازالت في أرضها
وجهها قد اختفى أسفل خطوط الدماء، وخصلاتها العسلية تشابكت بفعل لزوجة دمائها الحارة.. امرأة بلا ملامح أو حياة في هذه اللحظة.

نجاة تتابع الطرق على الباب الموصد
طفلها يصرخ داخل الغرفة
لازال بخار مشروبها يتصاعد من كوبها
ولازالت أحلامها عالقة على إطار النافذة منذ أن تركتها
أما مرام فكانت قد انفصلت عن عالم الأحياء، مقطوعة الأنفاس وخفقاتها تُعلن النهاية.

                                    ***

(غصونك تُزهر عشقًا) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن