٢٩

403 11 1
                                    


"عمو عايزك"

هكذا رددت صغيرة العتامنة وهى تقترب من أمها التى ما إن سمعتها حتى  أجابت بغضب مصطنع
"أنا مش قولت ألعبى مع البنات هنا و ما تطلعيش بره "
كانت زينب قد  أنحنت لتحمل الصغيرة التى يمكنك من خلال هيئتها المبعثرة و أوراق الأشجار العالقة بشعرها أن تستنج أنها لم تكن مع البنات وقد أخذها خالد للعب مع الفتيان.
خالد يصطحب نور للعب معه هو وأصدقائه لأنه وبهذه الطريقة يستطيع ضرب ثلاث عصافير بحجر يلعب مع البكائة و يهتم بها كما يوصيه أبوه و يستمتع هو بالتواجد مع أقرانه .....
الأمر متعب قليلا ولكنها غبية يستطيع دوما أن يوهمها بأنها تلعب معهم وجزء أصيل فى حين أنها تفعل لاشىء كالبحث عن الكنز المخبأ فى الطين.
أخرجت ورقة الشجر العالقة بشعر أبنتها و ربتت على ظهرها بحب وهى تلاحظ الأرهاق والنوم الذى يتسلل للصغيرة و تمنعه عنها بعناد
" تعالى  نأخد حمام سخن عشان أحنا بهدلنا نفسنا خالص و ندخل ننام "
وضعت الصغيرة رأسها على كتف زينب و كررت بصوتها الناعس
" عمو عايزك ....قالى نادى ماما "
كشرت زينب ملامحها و مدت شفتيها أمامها و أجابت
"أنتى لسه بتتلخبطى بين عمو وخالو ....عمو حسن بس وخالو صابر و زياد ومحمود ...مين فيهم الى قالك عايز ماما "
فتحت الصغيرة عينها الواسعة مرة واحدة و أبتعدت عن كتف أمها لتردد بحماس هزم نعاسها
" لا ...عمو جميل .....جميل جداااااااا وطويل جداااااا....عينه لون الشجرة "
لم تتمالك زينب نفسها من الأبتسام وهى تحتضن أبنتها، إن الصغيرة عتمانية للنخاع  ورثت من جدها أكثر من الازم وبدأت الغزل مبكرا جدا .
مدت زينب  يدها تقرص أنف الفتاة وتداعبها فتضحك الأخرى ولم يدم الضحك كثيرا فقد توقف قلب زينب  لثانية  وكأن عقلها أستوعب على حين غرة "لا "
فذهب رأسها لعم أخر ....
عم لو خطى نحو الصغيرة  خطوة فأنها ستفقد إما أبا أو أما وفى أغلب الأحيان ستفقد كليهما .
أستأنفت نبضاتها مرة  أخرى فماجد بعيد جدا عن وصفه بالجميل أو الطويل  فهى بذلك تصف شخصا مختلف تماما و إتمامها بأن عينه خضراء أكد لزينب أن الصغيرة تتخيل و ربما كانت شخصية كارتونية أو تليفزيونية أقرب من أن تكون حقيقة .
أمسكت زينب بزقن الصغيرة و تكلمت
"   مفيش  حد أعرفه زى ما بتقولى لا خال ولا عم "
ثم وبشك أكملت
"  أنتى بجد شوفتيه وأنتى صاحية ولا كنتى نايمة يا نونو "   
تملصت الفتاة من بين ذراعى أمها لتنزلها على الأرض ثم أمسكت بيدها و صوتها الطفولى يرد بعناد
"هناك ....عمو عايزك "
إبتسامة زينب لم تفارقها و حتى الحماس تسلسل إليها فهى كأم مخضرمة عاهدت سنوات طوال من الحديث إلى شخصيات خيالية و تقريبا حان الوقت لظهور شخصية أخرى ، عدلت من حجابها و نزلت على درجات السلم تتبع خطوات الصغيرة نحو الباحة الخلفية للبيت الجديد (هى مساحة صغيرة من أرض تقع بينه والأسطبل ) لتجد أطفال العائلة و معهم خالد يلعبون كرة القدم.
فى الماضى كانت للجنائز قدسية و أن تجد فى بيت توفيت كبيرته منذ يومين أطفال يلعبون لم يكن شىء حتى يجول فى الخاطر كفكرة أما وأن العتمانى نفسه هو من دفع بحفيده للعب فما كان لأى منهم أن  ينطق بكلمة .
العتمانى تغير
البلدة تغيرت و العالم تغير
لماذا إذن مازالت هى وطارق عالقين فى الماضى و كلما حاولوا التخلص منهم عاد أقوى ؟
لم تشعر زينب بنفسها إلا وهى تقف مع الصغيرة وسط النخيل  فصاحت
"أنتى ايه الى جابك هنا مش كنتى بتلعبى مع أخوكى هناك و ياسين سابك تيجى ازاى لوحدك هنا ...فين الزفت ده"
أرتعبت الصغيرة وتراجعت إلى الخلف  وعندما رأتها زينب تبتعد بعينين  لمعتا من دمع محبوس ووجه قد انكمش وهى تكتم صرخة ، هدأت نبرتها ونزلت على ركبتيها تمسك بالصغيرة وتقربها منها.
حاولت قدر الأمكان أن تجعل نبرتها أقل حدة رغم أن بداخلها ينتفض فجينات الأمومة قد أشتعلت و ألف سيناريو لخطف الاطفال وأغتصابهم وقتلهم يطاردها رغم أن هذا الأمر لم يحدث  من قبل فى العتمانية،التى قد لا تملك حسنة سوى هذه " الآمان " .
لقد نسيت زينب هذا فسنوات طوال فى الولايات المتحدة من الشك والخوف والريبة أفقدتها القدرة على الفصل ولكنها أجبرت نفسها.
"جيتى هنا ليه وسيبتى أخواتك "
أشارت الصغيرة الى خالد المنهمك فى اللعب فهى لم تبتعد كثيرا ولكن النخل فى هذه القطعة من الأرض  قد جعلها محجوبة نسبيا فلا ضوء يصلها مما يسهل الأختفاء بها
"الكنز هنا ....خالد قالى لو حفرت هنا هلاقيه و هلعب معاهم بالكورة .... متزعليش هاتى بوسة"
حملتها زينب فقبلتها الصغيرة على جبينها و أمالت رأسها تتابع ملامح والدتها التى لانت ظاهريا رغم أنها تغلى بالدخل فعادت الفتاة لتقبل خدها الثانى ثم تابعت كلامها
"عمو كان واقف ورا الشجرة .....قالى مفيش هنا كنز ....خالد بيكدب وهيروح النار"
أستدارت زينب بجسدها لتترك جانب النخل وتتطلع إلى خالد مجيبة
" لا يا حبيبتى مش هيروح النار بس أنا هعلقه فى المروحة "
فرحت الشريرة و صفقت بيدها فقد كانت غاضبة من أخيها وحان وقت الأنتقام ثم توقفت فجأه لتردد
" ماما عمو قالى هسيتناكى هناك "
أشارت بيدها إلى بعيد.
بعيد بعينه ......
البيت القديم...........
لا شخص تعرفه لديه هذه الصفات ،إن عين طارق الرمادية أعجوبة العتمانية فمن أين تأتيهم هذه الخضراء.
الفتاة بالتأكيد تتخيل...........تحلم
أنزلتها على الأرض و راحت تنظر إلى البيت القديم من مكانها هذا، يبدو  من هنا صغيرا وقويا كأنه الجده ....
كم تشتاق إلى رائحة العود على ملابسها ....
خطوتان الى الأمام
عمو ..... شخص ما طويل جدا ولديه عين خضراء ظهر  من العدم فى أرض النخيل القديمة وأخبر طفلتها أنه لا كنز هنا ويريد منها أن تتبعه إلى البيت القديم.
لحظة !
ذو أعين خضراء
جميل يا أمى
لا يوجد كنز هنا.
هنا بالذات إذ قلنا أن زينب التى أوشكت على الأربعين قد بللت سروالها الداخلى لن نبالغ.
بوجه شاحب و قلب مريض لا يحتمل تلك الأفكار على الأطلاق وعقل يسب ويلعن
سألت زينب أبنتها وهى ترتجف
" شعره لونه إيه "
لتجيب الفتاة بكل بساطة وهى تجرى تسبقها لتخبر أخوها أنه سيعلق فى المروحة
" أبيض "
هدأت نبضات زينب قليلا ....قليلا فقط على الأقل لم تقابله على نفس الهيئة التى قابلته بها الجدة تحت النخلة  قبل سبعين عاما
أستعاذت بالله من الشيطان الرجيم فى سرها عشر مرات أو يزيد ....لم تدرى كم مرة قرأت المعوذتين
بحق الله ما هذا الجنون ؟
الباشا إنسان
لا دليل مادى على ذلك
ولا دليل أيضا على كونه غير ذلك
ملك ملوك الجان
جنت
وأخيرا جنت سمرا ....ستمر على بيوت البلدة تغنى " حجر مبروم فى بلاد الروم"
أبتسمت زينب والفكرة تلمع فى عقلها.....الباشا عاد
أطلقت زينب ساقيها فى الهواء وأخذت تجرى !!!!!!!!
تسرع الخطى كطفلة نحو البيت القديم فى الطريق المظلم الذى عادت منه مع طارق،عيناها مجمدتان فى محجريهما وجسدها دافىء أما عقلها فبالتأكيد قد أصابته لوثه فهو كسفينة تتمايل فى بحر هائج تضربها الامواج والرياح ، تتطاير اجزائها وتنفصل كالشطايا تقتل و العالم ينحصر .....
أما  فى الحقيقة فنحن فقط على أبواب النهاية.
الماضى فى عقلها أختلط بالحاضر فلم تعد تفرق بينهم و هى ذاهبة الآن لمقابلة الباشا ....ملك ملوك الجان!!!!!
أطراف قدمها لا تكاد تلمس الأرض من السعادة
السعادة ....نعم السعادة
هل طاردتك عقدة لمدة ستة و ثلاثين عاما دون أن تجد لها مخرج ؟
إنه مصباح علاء الدين الذى كانت تنتظره طوال سنوات عمرها  ليخرج لها الجنى الباشا الذى خرج لجدتها ويحقق حلمها الذى من طول المدة قد نسيته .
و ها هو ظهر و يجب أن تذهب إليه قبل أن يغير رأيه ويعود إلى عالم الجن مرة أخرى .
قد تشعر بالحزن على حال زينب أو الشفقة ربما وددت لو ذهبت إليها الآن و هززت جسدها بشدة لتستفيق مما هى فيه.
فأنت تعلم أن الأيام الماضية كانت شديدة .....شديدة جدا على عقلها قبل قلبها
عودة ماجد ....طلاقها من طارق وزواجه من أخرى ....مرضها ، دخول ماجد إلى غرفتها و تركها بذنب لا تعرفه ولا تنكره ، طارق الذى يريد أن يزوج أبنائها وهم لايزالوا أطفال من بنات حسن "مصيبة أخرى "،معرفة ياسين وأدهم بزواجها الأول وفاة خالتها  و صبيحة التى عادت تقلب على حبيب عمرها ماضيه وتفتش فى أواجعه، قلبها ضعيف وعقلها أصبح متحلالا بلا فائدة.
وهى الآن تجرى فى الحقول باحثة عن عفريت من الجن  ....
وصلت إلى البيت الكبير ولم تتردد لحظة فى دخوله ولم ينتابها الخوف لأنها وجدت بابه مفتوح و مصباح النيون الأحمر مضاء فهى لم تلحظ هذا أصلا .
كانت تدير رقبتها باحثة عنه فى كل مكان و هى على يقين أنه هنا ولم يخيب ظنها فهو هنا  فعلا.
يقف فى الجوار ويبتسم لها فبادلته هى إبتسامة كبيرة و عينيها تلمعان بسعادة و دمعة ترقرقت و جرت على خدها فمسحتها سريعا و هى تكشف عن صف أسنانها البيضاء
نسيت كيف يكون الكلام  فهى تفتح فمها لتقول شىء فلا تتذكره ويخرج أهاه
تشرب ملامحه كسكير وقعت فى يده زجاجه خمر بعد طول عطش فلا يبالى
إنه جميل حقا كما قالت الصغيرة....عينيه خضراء فعلا وشعره رمادى ....أطول من طارق قليلا وجسده عضلى ، تظهر على وجهه ملامح العجز فتزيده بهاءا
كم عمره الآن مائة ....ألف ...ألفين
ربما عمره عشر سنين، من يعرف كيف يحسب الجن أعمارهم .....
المهم أنه شاخ قليلا عن الصورة التى رسمتها فى عقلها
أقترب منها ولم تبتعد زينب ولكن بلعت ريقها بفرح وهى تمد كفها  لتسلم عليه فمد هو أيضا يده بالسلام ونطق بعربية فصحى
" أهلا سمرا "
فهزت زينب رأسها وأجابت
" أهلا يا باشا "
تجمد الزمن هنا ويد زينب فى يد الرجل و شخصا أخر يتقدم إلى المشهد.
لم يكن هذا الشخص سوى ياسين ، الذى وضع يده فى جيب سرواله الجينز وعينه على يد أمه التى تقريبا أستكانت فى يد غريب و فمها يكاد يتشقق من الأبتسامة التى تصل إلى أذنها ، لقد لمحها تسير نحو البيت القديم وكان فى طريقه ليخبر عمه بأن يذهب ليحضر زوجته التائهة ولكن رؤيته لأمه تجرى فى الظلام جعله ينسى العالم ويركض خلفها.
ولم تكن تشعر به فنادى عليها أكثر من مرة ولم ترد فأرتعب و خاف أن يلمسها فى الظلام حتى لا تسقط مغشيا عليها من الخوف أو تصاب بأزمة فتركها تركض فقط وتبعها بعد أن يأس من أن تسمعه
و فى النهاية وجدها قد وصلت إلى البيت القديم وهذا الرجل كان ينتظرها كأنما ومنذ البداية كانت تلبى نداء ...نداء خصها بالذكر دون باقى البشر .
أستغرق ياسين  ثوان ليفهم ما يدور حوله ثم سأل السؤال المنطقى الوحيد  وسط هذا الجنون الحتمى  بصوت عالى
" أنت مين ؟"
الآن فقط سمعته زينب فأستدارت دون أن تترك يد الرجل وهى تشير بيدها الأخرى لياسين ليقترب وأخذت تردد ببلاهة
"أنت كمان شايفه" "
أبعد الرجل يده سريعا من كف زينب بعد أن أدرك أن نظرتها وابتسامتها ليستا طبيعيتين على الأطلاق وأجاب  على سؤال ياسين
" أنا من يجب أن يسألك من أنت "
الإجابة السابقة التى رددها الرجل الذى يبلغ من العمر سبعة وخمسين عاما بينما يبلغ جسده الرياضى خمسة وأربعين كانت بلغة إنجليزية أصيلة ولكنة بريطانية
جعلت أسارير زينب تتهلل مؤكده نظريتها وهى تميل برأسها إلى ياسين وترد بإنجليزية أيضا
" أرايت ؟ "
و لم يدع الصبى أمه تكمل فأقترب منها ليمسك بيدها و يقربها منه و شرع  يمسح على ظهرها بينما يوجه كلماته للرجل بإنجليزية ذات لكنة أمريكية سريعة
"هذا البيت ملكا لجدى وليس مزارا سياحيا كما أن الوقت متأخرا جدا .....يمكنك أن تذهب وتحضر فى الصباح وسأصطحبك  فى جولة سياحية فى هذا المكان والبلدة بأكملها ،إنها طيبة القديمة ستبهرك "
أجاب  الرجل و حاجبيه يكادان يلتصقان ببعضهما من شدة الأستغراب
"كيف يمكنك التحدث بالأنجليزية بهذه الطلاقة ؟ ....كيف يمكن لحسن هذا الحمار أن ينجب شخصا ذكيا "
قرب ياسين والدته التى بدأت ترتعش من جسده ورد
"أنا لست أبنا لحسن ، هو عمى ولا أسمح لك أن تسبه حتى وإن كنت صديقا مقربا منه ....أنت الآن أجبتنى من أين جئت بمفتاح البيت ....هو بالتأكيد من سمح لك بأن تقيم هنا الليلة و الآن اسمح لى بالذهاب فوالدتى مريضة"
" أنت ابن سمرا وحسن ليس والدك ....من تزوجت إذا ....ماجد "-
ضربت الكلمة ياسين و أفكاره لم تكن قد  استراحت اصلا من هذا الامر بينما كانت الكلمة لطمة على وجه زينب جعلتها تستفيق قليلا من غيبتها بعد أن أصابتها خيبة أمل من إدراكها أنه ليس الجنى الذى أنتظرته طوال عمرها بل هو بشرى أخر من جنس أدم.
كم هو محبط ربما ستموت قريبا ولن تسمح لها الفرصة أن تراه أسندت رأسها على كتف أبنها وقد أصابها الحزن
بينما إجابة ياسين خرجت بحدة
" لست ابنا لماجد أو حسن ....أنا ابن طارق ....طارق العتمانى  "
كانت ردة فعل الرجل غريبة فقد  ضحك بصوت عالى وقال
"لقد تزوج العتمانى للمرة الخمسين ....من أين يأتى هذا الرجل بهذه الطاقة ....إذا كان العتمانى قد أنجبه بعد سفرى  فإنه بالتأكيد أصغر منك يا سمرا ...يمكنهم أن يزوجوكى حمار العتامنة فقط حتى لا تتضيع الأرض "
ماذا يزوجوها حمار، مع من يتحدث هذا بهذه الطريقة ؟
هل جاء على ذكر فارق السن بينها وبين زوجهاو أزمة الأرض فى جملة، واحد لا محالة  ستقطعه بأنيابها وتلوكه ثم تبصقة ........
رفعت رأسها و نظرت لعينه مباشرة وكأن الأسلاك فى عقلها قد أتصلت ببعضها أخيرا فى إستجابة حسية فعلية بعد أن كادت المثيرات أن تفتك بحواسها لتفيق و تعود إليها الذاكرة الغائبة عن أعين خضراء  من سلالة العتامنة يملك مفاتيح البيت.
بصوت واضح ونبرة عالية ربما أكثر من اللاز رددت بإنجليزية فقط للتباهى
"  لقد كنت أظنك عفريتا من الجن لأن عودتك أكثر أستحالة من ظهوره ....
و لا يمكن لأى شخص أن يلومنى فأنت من فعلت هذا .....تمرض أمك و تبقى فى المشفى عاما و يذهب بصر أبيك  فنرسل لك رسالة كل أسبوع لنبلغك  بأن المسكينة  تريد رؤيتك فلا ترد سوى ببرقية و مكالمة لا تتجاوز الدقيقة  ، خمسة وثلاثون عام وهى تنتظر و الآن بعد أن تيقنت أنها لن تراك عدت ......
هل عدت إذن لأجل الميراث ؟ ....إذا كان من أجل هذا فمن الأحق أن تذهب إلى الجنازة بالبيت الجديد لا أن تختفى خلف نخلة وتتحدث إلى طفلة ، فى عمرك هذا يجب أن تكون جد ولكن تصرفاتك لا تصدر من فتى ....
أليس كذلك يا سليم العتمانى ؟"
بالرغم من غضبه من كلماتها إلا أن أنبهاره بلغتها القوية ومعرفتها به رغم أنه عندما رحل كان عمرها أربع سنوات كان أكبر  وأدرك أيضا  من أين جاءت لمعة الذكاء فى عين الفتى فبالتأكيد ليست لوالده والذى  هو حمار أخر كحسن وماجد .
هل أصاب العتمانية وباء ....كم عاما غاب ليعود فيجدهم إنجليز !!!!
أستأنفت زينب حوارها بنفس القوة
"هل ذهبت إلى قبر والدتك وقرأت الفاتحة إذا لم تفعل يجب أن تنتظر حتى الصباح ......سيفرح العتمانى بعودتك إنه يتظاهر فقط بالقوة أمام الجميع ولكن عينيه لا تجفان عن الدمع، لن يسألك أحد أين كنت أو ماذا فعلت ....على الأقل عرفنا أخيرا أنك على قيد الحياة  ، هل تزوجت وأنجبت ، يجب أن تحضرهم ليناموا مع النساء بالأعلى لا تخف أصبح لدينا أسرة ومكيف هواء وغرف أفضل من التى فى الفنادق ذات الخمس نجوم "
كتف سليم ذراعيه و دقق النظر والسمع فيمن تقف أمامه
تركها حتى أنهت كلامها  ورد
"كنت أتسآل كيف سيصبح بيت العتامنة دون الجدة و أمى ......كيف يمكن أن يستمر هذا البيت دون ديكتاتور يمتلك الأرض والمال و يسعى نحو امتلاك الأرواح ، نسيت أن الديكتاتور لا يموت دون أن يترك غيره ، نسيت أنهم أرادوكَ خلفا"
أرتفع صوته الجهورى وملامح وجهه أخذت فى التشكل من جديد لينبت العتمانى من تحت جلده و تتغير هيئته إلى صعيدى رفعت امرأة صوتها عليه  و تحدث بلهجة سيئة
" صوتك ما يعلاش وما تنسيش أنتى بتتحدتى مع مين  "
و قبل أن تعود مندرة البيت القديم إلى عهدها القديم كأرض مناسبة لصراع الديوك وضعت زينب يدها على صدرها وصرخت من ألم أحل بها فجأة
"سكاكين بتضرب فى صدرى يا ياسين"
ثم أكملت و هى تستند إليه لتجلس على الأرض
" روح هات الدوا من البيت وقول لطارق  .....روح متخافش هو موجود"
رددت الكلمات بسرعة وهى تشير بيدها إلى الرجل الواقف الذى لم يعرف ياسين من هو الى الآن ولكنه تيقن أنه شخص تعرفه أمه وتثق به ، يكفى أنه ينتهى بعتمانى .
توجه بكلماته للرجل بعين زائغة
" أمى مريضة قلب لو سمحت خليك معاها دقيقة وهكون هنا أنا وبابا لو سمحت
ما تسبهاش "
تكلم بسرعة شديدة ولم تكن الكلمات متناسقة وحتى بعضها لم يعرف إذا كانت خرجت من حلقه ولكن الرجل الذى أقترب من زينب أومأ برأسه عدة مرات دلالة على فهمه ثم هرول ياسين مسرعا إلى الخارج فأحنى  الرجل جسده فى إتجاه زينب  التى ابتعدت عنه واستقامت تعدل هندامها بسرعة وقوة ممثلة قادرة على أرتداء أى شخصية تريد وبنبرة متحدية قالت
"طارق الى جاى يبقى أبن صبيحة ....فاكر مين صبيحة ولا نسيتها يا ابن عمى "
كان يستعد للوقوف فجمدت حركته ثانية عندما سمع الاسم ولكنه استقام بعدها ليتسائل بلا مبالة
"وفيها أيه "
وضعت زينب ذراعيها بجوارها كعسكرى  وأستعدت جيدا قبل أن تكمل جملتها
" ابن صبيحة والعتمانى ....صبيحة اتجوزت العتمانى "
يمكنها أن تقسم أنها قد رأت شعره من رأسه قد وقفت كأبسط وصف لمنظر رجل وقعت صاعقة على رأسه ثم  أنشطر إلى جزئين بسيف ساموراى.
صاح كالمجنون
" لا يمكن ....مستحيل "
فرفعت زينب جانب فمها وقد أدركت أنها أصابت صيد اليوم أكبر من الجنى الغائب .
هل رأيتم يوما رجلا يشيخ فى ثانيتين ،رجلا  يصبح كهلا فى لمحة ؟
هل رأيتم رجلا  وقلتم سيصاب هذا بسكته دماغية أو جلطة فى الشريان التاجى بعد دقيقة ؟
إذا لم يمر عليكم كل هذا فيمكنكم الآن النظر فى وجه سليم العتمانى والذى يبلغ عمره الآن مائة.
جاء اليوم يا زينب لتنتقمى ممن أحرق  البيت فهتفت بحرقة
"لا أعرف إذا كنت تتذكر العربية أم لا ....ستة وثلاثون عام زمن لا أتصور أن أحياه فى غربة فعشر سنوات قتلتنى  بما فيه الكفاية، دعنى  أخبرك بقصة قصيرة فى دقيقة، عندما كان طارق بعامه الدراسى الثانى بالجامعة وجدت فى المجلة الفنية التى كنت أتابعها خبرا صغيرا  عن دخول راقصة استعراضية مشفى الأمراض العقلية نتيجة تدهور حالتها النفسية بعد أن أصابها ورم فى ساقها وأضطروا الى بترها ودفعت فى العلاج كل ما جمعته طوال حياتها واستدانت أيضا ،كنا حينها نعيش فى باب الشعربية بالبيت الذى كنت تسكنه عندما كنت فى الجامعة ،ذهبت لزياتها بعد أن كذبت على زوجى وأخبرته أنى ذاهبة لأشترى ملابس فهذه هى الطريقة الوحيدة التى يدعنى بها أرحل دون أن يسأل حتى لا أجبره على أصطحابى ......أنا زوجة أبنها لذلك أستطعت زيارتها بسهولة بشهادة ميلاد أبنها ، كانت حالتها الصحية و النفسية فى أنهيار تام ولم يسمحوا لى بزيارتها  فى البداية سوى نصف ساعة ثم  تكررت زيارتى  فى أيام متفرقة بعد ذلك
إنها تكرهنى بشدة ، لا تكره شخص فى العالم قدر كراهيتها لى ولكن لم يكن أمامها سوايا لتنظر له وتتحدث إليه ، رفضت  الحديث إلى الأطباء فكنت وعاء لتفريغ  نوبات من الصراخ والكلمات غير المتزنة لم أفهم منها سوى أمر واحد ....أن سليم العتمانى الذى كانت تعشقه أغتصبها عندما كانت فى السادسة عشر هو وشخص ما معه لم تتبين ملامحه وأنها عندما أخبرت خالتى بذلك طردتها من البيت وقطعت لقمة عيشتها من العمل فى باقى بيوت العتمانية ، حتى مدة قصيرة كنت متأكدة من جنونها رغم كون هذا يفسر الكثير ، الكثير فوق تصورك فهذه المرأة عندما دخلت البيت مرة أخرى كزوجة للعتمانى أصاب خالتى جلطة بالدماغ وظلت فى العناية المركزة مدة شهر كامل وبعدها ظلت فى المشفى عاما نتيجة مضاعفات و هذا أمر لا يمكن تصوره منطقيا فالعتمانى تزوج بعدد شعره رأسه من فتيات من كل المستويات الأجتماعية و ببساطة كان يمكن لخاتى سعاد التى يعرفها الجميع أن تلقى بها تحت قضبان القطر ولكن يبدو أن الامر كان فوق أحتمالها و العتمانى نفسه تغير، حرم على جسده النساء  و فقد عينه اليسرى أما أبى أصابه داء السكرى و أرتفاع ضغط  الدم و ظل يعانى حتى توفاه الله .....كانت لعنة وحلت على الدار و ما  فعلته هذه المرأة بطارق بعد ذلك لا يمكن أن يكون له تفسير سوى كونها تنتقم من كل ماله علاقة بالعتامنة ، كانت تنقم منك ومن خالتى فى طارق فتركته جثه متفسخه وجسدا بلا روح .....هو وحده من دفع ثمن كل شىء "
لم تكمل زينب قصتها و أذنها تلتقط  صوت  طارق من الخارج
" زينب ....زينب "
ألتفت تنظر إلى الباب فى إتجاه صوت طارق ، تراه قادما من بعيد يجرى  يضرب الأرض بقدمه ....
كل كلمات الحب التى جاء بها الأولون والأخرون تعجز أن تأتى بوصف لما أعتمر بقلب طارق  فى حينها ،فألتفت زينب للواقف خلفها و تحدثت بصوت أخفضته نسبيا
"طارق لا يعرف أى شىء عما حدثتك به ، صبيحة عادت إلى البلدة وهى تحاول الوصول إليه ولكنه لا يسمح لها بالكلام معه أو ترك مجال للقاء بينهم ، أنه يوهم نفسه بكرهيتها حتى لا يعترف بأنها أكثر ما أراده فى هذا العالم ويجب أن يصل إليه ...إنها هنا و لا يجب أن تلتقى بها أبدا "
أنهت زينب كلماتها ولم تنظر له لأن طارق وصل وبعده بقليل  ياسين ولم يكن  هذا اللقاء سوى مشهد درامى غريب فزينب تمسد ظهر طارق تحاول تهدئته بينما تخبره أنها بخير فيقسم هو أنها ليست بخير وأنها كاذبة
صاح وهو يثبت جهاز إلكترونيا بإصبعها ليقيس عدد نبضات قلبها ونسبة الأكسجين
" طالعة نازل طول النهار تودى وتجيبى .....عايزة جايزة  الست المثالية خديتها أتخرسى بقى "
أجابته زينب بنظرة نارية و صمتت صمتا يعنى " لينا بيت يلمنا "
و بالتأكيد لم يدقق طارق لا فى هذه النظرة ولا حتى فى وجهها  لأن بصره أرتكز على شخص أخر كان يقف فى الخلف .
تعلقت عين طارق بهذا الغريب للحظة قاطعتها زينب موضحة
"رجعت أجيب مقارص للعجين ولقيت الراجل ده فى الدورا .....سليم العتمانى لو مكانش عنديك فكر "
رد عليها ياسين  و طارق كلاهما بإستنكار
" مقارص "
فى حين أكمل طارق وحده وهو يتقدم من الرجل
"  سليم العتمانى .....عرفتيه ازاى ده "
" يمكن عشان شبهك "
هكذا رد سليم العتمانى بتعثر شديد ولجلجة جعلت طارق يدير رأسه مرة أخرى و ينظر لزينب بينما يحرك سبابته بينه وبين سليم و على وجهه تعلو نظرات  التكبر والأستنكار وكطفلة فى الثانية عشر أخبروها أن أختها الكبرى أجمل منها قال وهو يستنجد بزينب
" أنا أوسم صح يا زوزو "
أبتسمت زينب بينما كان رأس ياسين عالقا فى أمه التى لم يعرف كيف أستطاعت أن تتغلب على الألم الذى كاد يفتك بها مذ لحظات لتقف بعدها بهذه القوة
هل أدعت أنها أصيبت بأزمة صحية أما أنها تحاول طمئنتهم ؟
قبل أن ترد زينب أو يجد ياسين إجابة لسؤاله  سمعوا صوت ألة تنبيه سيارة من الخارج عالى جدا ولا يتوقف فأسرعوا جميعا إلى الخارج ليجدوا سيارة سوداء جديدة تقف على الطريق بجوار البيت وأدهم على كرسى القيادة والذى عندما رآهم أخرج نصف  جسده العلوى من النافذة ونادى بصوته الجهورى
" هيا بنا ....لا توجد سيارة إسعاف "
أما ما حدث بعد ذلك فهى مشاهد يجب حذفها لأننا أصبحنا فى مجتمع  يدعى نبذه للعنف والتربية الحديثة للأبناء القائمة على الحوار والتفاهم و هذا يتنافى تماما وما فعلته "زينب " التى قفزت إلى السيارة لتمسك بأذن الفتى تقرصها بينما الصبى نصف جسده العلوى متدلى من النافذة فأخذ يصرخ من ألم
"أنا غلطان أنى كنت فاكرك تعبانه وعايز أوديكى المستشفى ....كنت سيبتك لجوزك الى لما بيخاف ما بيعرفش يسوق "
هل قال أدهم ما قاله حقا ........
أسودت الشاشة من بشاعة المشهد فزينب لم تتوارى عن خلع ما ترتديه بقدمها وتنزل به عموديا على رأسه حتى طارق الذى غضب من قول أبنه تحول غضبه لأعجاب بزوجته التى أخذت له حقه وحق عشيرة بجواره و نظر للرجل  وعقب
" هى مريضة فعلا بس بتخف على الخناقات "
كانت عين سليم العتمانى معلقة بأدهم وزينب يتابع حركتهم وسكنهم دون أن يظهر على وجهه أى تأثر واضح فالواقع طارق أدرك أن وجه الرجل جامد لا يسفر عن أى مشاعر ربما هذا هو تأثير الحياة فى موسكو جعلته قطعة ثلج .
وبعد هنيهة تسآلت قطعة الثلج
"زوجتك وأبنائك يتحدثون الأنجليزية  بلكنة أمريكية وطلاقة .....هذا الأسمر لا يستطيع أن يتم جملة واحدة .....لماذا سافرت ؟"
كان السؤال عجيب كصاحبه ، الذى لم يسمع عنه طارق طوال حياته إلا عابرا ....
لا يعلم طارق لماذا ولكنه أجاب
" خدت منحة من جامعة القاهرة للماجستير فى يل  بعد ما اتخرجت من سياسة واقتصاد و كملت هناك الدكتوراه وأشتغلت ...."
سأله سليم دون أن يحيد بنظره عن أدهم
"أشتغلت فى السياسة ؟"
هز طارق رأسه نافيا وأجاب
" لا ....حتى لما أشتغلت فى الأمم الممتحدة كنت فى اللجنة التانية ....اللجنة الأقتصادية "
كان الصراع قد وصل أشده على نافذة السيارة والغضب أخذ من زينب مآخذه وياسين الذى يحاول أن يفك هذا الهجوم لم ينل سوى ضربتين عابرتين على ظهره
"أنت يا ود المركوب ماهتهوبش  يمة  الدريكسون تانى إلا وربى ما هتجيبش عربية لما شعرك يشيب "
ألتقط طارق السبة واضحة فصاح من مكانه
" زينب أنتى بتخانقى مع أبنك لازمتها ايه تشتمى أبوه .....خلاص كفاية كده خدى العيال وروحى يا أما المركوب هيجى يدور ضرب فيكم كلكم "
توقفت زينب عما تفعل وهى تشعر بأن جسدها أنتابته سخونه مفاجئة وهى تدرك ما كانت تفعل .....لقد فقدت أعصابها تماما وردت فعلها كانت مبالغ فيها و كل هذا أمام رجل غريب يرها لأول مرة ....هو بالتأكيد قد أخذه عنها فكرة أنها مخبولة وطارق هذا يردد السبة خلفها حتى إذا لم يكن الرجل قد أستمع إليها فى المرة الأولى فهاهو يعيدها على مسامعه .
هتفت بصوت يغلب عليه الحياء وهى تعيد هندامها
"هأخدهم وأرجع وأنت تعالى على مهلك مع الباشا "
لم تكن على علم لماذا أرادت فعل ذلك  فهى فعلت مافعلت منذ البداية لتدبر هذا اللقاء قبل أن يتكابل العتامنة على الرجل .....قبل أن يحدث أى لقاء بينه وبين أبيه أو صبيحة ،أرادت لطارق أن يحصل على هذا اللقاء .
كلمات صبيحة رغم كونها تفسر الكثير إلا أنها كلمات من امرأة تعانى خلل نفسيا إذا صدقت بها فإنه كتصديقك لأن شخص يمكنه أن يكون فى مكانين فى نفس الوقت أو أن فضائين قد أختطفوا كراسة الواجب المنزلى لأبنك أما وأن سليم العتمانى لم ينكر حرفا واحدا منها وأنه دون وأن يفتح فمه أكدت كل ذرة فى جسده صدق ما قالته صبيحة فإنه لم يعد للشك بداخلها مكان ........
ابن من طارق لاتريد أن تعرف .......
العتمانى ،سليم أو الشخص الأخر وربما شخص رابع لا يعرفه أحد ، لا يهم أبدا ولا يجب أن يعرف طارق بهذا الأمر أيا كان الثمن .....أيا كان الثمن !
قبل أن يرد طارق على كلمات زينب ألتف سليم العتمانى وقال
" يمكنك أن تصطحبنى لقبر والدتى أم أنك تخاف من زيارة القبور ليلا ؟"
وافق طارق وللمرة الثانية يشعر بأن هذا الرجل لديه قدرة رهيبة على إقناعك ، مغناطيس جاذب لا تستطيع إلا أن تقول له نعم ......
أستأنف الرجل كلماته وقد شرع فى السير
" سنأخذ الطريق من الداخل ....لقد أشتقت إلى البلدة وأرغب فى السير بحرية "
فتبعه طارق  وأرد ياسين  مصاحبتهم ولكن أمه جذبته من قميصه و نظرت إلى قدمها مهددة فتبعها المراهق دون كلمة .

زفير الروح (الجزء الثاني من أنين الروح) Where stories live. Discover now