١٢

386 9 1
                                    

أنين الروح الفصل ١٢
إن مجتمعكم العنيف والفوضوى يحمل الحروب فى داخله حتى عندما يدعى السعى إلى السلام تماما كما تحمل الغيوم المطرة العواصف بداخلها ......
جوريس 1914
..................................
بالماضى ......
نزل من أعلى فرسه وقرر أن يسير على قدميه ليستطيع أن  يتطلع بحرية إلى أشجار النخيل المحيطة به .....وجهه الذى أحترق من الشمس لم يهمه ....لم يبد أية أنزعاج ولم يهتم ، لن يكره الشمس بعد الآن حتى لو حولته إلى قطعه فحم لن يكرهها ....
كيف يكرهها وقد بات ليالى يتمنى رؤيتها ؟
عرف أنها ليست فقط مصدر الضوء والحرارة فى الأرض ولكنها أيضا مصدر الدفء بقلبه ، لم يصدق حتى الآن أنه يسير على قدميه بل لم يصدق أصلا أنه مازلت لديه قدمين ....
قدمان و يدان ....فم متكامل وأنف شامخ ....عينيه مازلتا موجودتين تمكنناه من رؤية العالم
لقد أنتهت الحرب ....أنتهت
جملة يرددها بصوت حر كل ليلة عندما يقوم فزعا من جراء كوابيس لا تتركه فى نومه أو يقظته .....
حرب لم يكن له فيها ناقة ولا جملا ....هو تلميذ مجتهد لعائلة أستقراطية أنهى البكالوريا و سافر ليدرس الطب .....لم يكد ينتهى من دراسته حتى ضربت رءوس الكبار فى العالم جنون غريب ....
قام الألمان من رقادهم و قلوبهم محملة بالثأر يرغبون بعودة الأرض التى أنتزعت منهم ، لم تكن ألمانيا  وحدها التى ضربتها نيران الثأر فهى أبنة وسطى فى عائلة عاشت سنوات تمدد أرضها وتنشأ مستعمرات ...........
أخبار كثيرة تقال هنا وهناك لا يعرف أحد الحقيقى منها.......
وفى لحظة تسقط الطائرات هذا الزائف و تهتك الدبابات ستر الكذب وتنكشف الحقيقة جلية أمام العالم ......
تزدحم القطارات وتنهمر الدموع و يعزف الجنون أوتار الحرب .....
ست سنوات زادت على عمره العشرينى فجعلته ألفا
رأت عينه من الأوجاع والآلام و التشوهات و الأوبئة ما يكفى أعمار بعده .....
عاش الكثير وفقد الكثير و لكنه نجا .....نجا
سمع ضحكة عالية لأولاد صغار يلعبون تحت نخلة رءوسهم  مشرئبة و عندما  وقعت أعينهم عليه صرخوا و هرولوا مبتعدين نحو جهات متفرقة ......
كان ينوى أن يلقى عليهم السلام ...أراد أن يوقفهم ولكن لسانه وللحظات أختلطت فيه العربية بالفرنسية فصمت
نظر إلى أعلى حيث  كانوا ينظرون .....حين رأها أول مرة
رأها تهبط بحرفية وسرعة ....وصلت إلى الأرض وقبل أن تتبع سبيل أقرانها أمسكت بحجر وألقت به عليه فضرب الحجر ذراعه .....
ضحكت بسعادة ، سعادة منتصر و عندما قررت الجرى كانت خطوتين فقط هما السبيل ليمسك بها ويوقفها أمامه
فصرخت وهى تزيحه بيدها  " بعد إكد ....ديا أرض العتمانى ما بيخطيهاش غربة  يا نباشين الجبور يا حرامية "
فهم مقصدها فأجاب " أنا دكتور مش مهتم بالأثار"
نظرت له بعدم إستيعاب فحاول مجددا " حكيم....مهنتى حكيم "
هزت رأسها دلالة على استيعابها وضربت كفا بكف " بتتحدت زينا ....نفس لغوتنا"
رد بوقار " أنا مصرى ...."
لم تصدقه هذه المرة و أشارت إلى شعره
"كيف يعنى و أنت شعرك زى القش "
ملس على شعره معيدا إياه إلى الخلف وأجاب " والدتى فرنسية ووالدى مصرى من أصل تركى ما أظنش ان فى داعى للخوف والتوجس منى  "
لم يعرف إذا كانت قد فهمت أم لا وهو ينطق بأطول جملة نطق بها منذ شهور عدة ولكن أمام الخوف فى عينيها لم يستطع أن يصمت .....
أبنه لفلاح بالتأكيد بشرتها سمراء صافيه ،لا تصل فى طولها إلى خصره ، ذات جدليتين طوليتين جدا و قدمين حافيتين متسختين بالطين .....لا يستطيع أن يتنبأ بعمرها وهو الطبيب الذى تعادل خبرته فى الخنادق عشرات السنين .....
ماهى  الخبرة التى تكتسبها فى الحرب ؟
كيف تكون أسرع وأتقن من بتر أو كيفية  إخراج رصاصة  بدقة ؟
علاج الكسور و الحريق ...أم الوقوف أمام الغازات السامة وانت نفسك تضع واقيا لتتنفس؟
صراخ عسكرى لا يتجاوز عمره السادسة عشر طوال الليل وتوسلاته أن تقتله أنت بدلا من أن يقتله الألم .....
امرأة تلد فى اللحظة التى تدق فيها صافرات الإنذار تعلن إطلاق النار وتحلق الطائرات فوق رأسك ترسل  الصواريخ فتحيل الليل نهار وتضل فلا تعرف ،هل يقدر لطفلها النجاة أم يقدر لكم جميعا "الموت " وجل ما تطلبه  فى هذه اللحظة أن يكون موتك سريعا مريحا ...
" أنت بتبكى ....."
هكذا نطقت وهى تتطلع إليه و الخوف يتبدل شفقة
ولكنه لم يهتم رفع يده ليمسح بها وجنته ويتطلع إلى أول دمعة تسقط من عينه منذ بدأت الحرب ......قبض على يده يحتفظ بها طويلا
وسأل " اسمك إيه ؟"
هذه كانت البداية .....
البداية التى لولاها لما وصلنا إلى هنا .....
إلى قطار الصعيد الذى غادر للتو شمالا .....نظرة سريعة ألقاها بجواره إلى تلك المتدثرة بالسواد ولا يظهر منها شىء إلا عينها التى لا تترك الشباك بجوارها .....
تبكى ....هو على علم بهذا و لم يحاول تهدئتها .....لم يجد عزما ليفتح فمه ولم يجد فائدة من الكلام ......لقد تزوجها وأنتهى الأمر
لم يكن زواجه منها يسيرا ولكنه بالتأكيد كان سريعا ....عرف اسمها و عائلتها
اسرة فقيرة تحيا ببيت يتألف من غرفتين من الطوب بلا سقف  ورغم فقرهم إلا أنه رأى فيهم عزه وجاه لم يره فى عائلات كبرى ....رفض والدها أن يزوجها له لأنه غريب ولم يصدق كونه مصرى أو مسلم وكاد أنه يتخلى عن الفكرة حتى  تبعه أخ لها  وهمس له بأن يذهب إلى الجامع ويطلب من شيخه أن يتوسط له فوالده لن يرد لهذا الرجل طلب و بالفعل حدث ذلك
تمكن هذا الرجل الكبير ذو اللحية البيضاء والمنظر الخشن أن يغير من رأى والدها دفع المهر وكان زهيدا جدا ، حاول أن يدفع أكثر ليدفع ولو قليلا فقط عنهم البؤس وبرد الشتاء ولكن والدها رفض و أخبره أنه لا يبيع أبنته ولو بذهب الدنيا وأنه ما وافق إلا لأن إمام الجامع أخبره أنه مسلم حقا
عرف حينها لماذا طلب منه الرجل أن يتوضأ و يصلى أمامه ، أراد أن يخبره أنه لا يداوم على الصلاة بل الأدق أنه لا يصلى أصلا  و أنه لم يصلى فى حياته منذ تعلم الصلاة عندما كان فى العاشرة إلا فى الليلة التى قصفت فيها ألمانيا لوكسمبورج  عندما أنتشرت بين الممرضات
مقوله لا يعرفون هل تنتسب لراهب أم لكونيل "لا يوجد ملحدين فى الخنادق " وهو لم يكن يوما ملحدا و لم يكن أيضا ممن يمارسون أيه شعائر دينية  وفى هذه الليلة صلى لأول مرة

زفير الروح (الجزء الثاني من أنين الروح) Wo Geschichten leben. Entdecke jetzt