٢٧

303 14 0
                                    

الفصل الخامس والعشرون
مازالنا فى الماضى .....
كان قد مضى أسبوع منذ حادثة النفق الرهيبة التى مرت بها وطارق ، حادثة غيرت بداخلها مفاهيم المعادلة كثيرا فأكتئابها وبكاءها المتصل أصبح مراهقة لا داعى لها ، أصبحت تشعر بمدى سخافتها وسذاجة ما تفعله أو هكذا أوهمت نفسها وهى ترى أن الحزن فى صورته الأولى قد  أرتدى حلة جديدة فهى قد قررت أن تبدأ مع طارق للمرة الثانية بداية جديدة وكانت هى من عرضت أن تأخذ علاقتهم مستوى أعلى فالصداقة كلمة كبيرة ، كبيرة جدا فى الواقع وهذا الحيوان ألتزم بها .
حيوان ....هو وبكل تأكيد حيوان ....جزت على أسنانها وهى تحدق بصورتها المعكوسة فى المرآه بأستغراب كأنها تطالع شخصا تراه لأول مرة ....
لا تستطيع أن ترفع إصباعا وتشير إلى الأختلاف ولكنها تشعر به حقيقة لا زيف فيها ....تنظر إلى جسدها الذى نحف جدا و الى بطنها التى أخذت فى الظهور وكأن هذا الوحش الذى يفترسها ويكبر بداخلها يرفض إلا أن يثبت وجوده .
إبتسامة صفراء وملامح تقزز وقرف أنتشرت على وجهها وهى تلمس قميص النوم الحريرى الأسود الذى لم تستطيع التفريط فيه وهى تعطى كل ما جمعته فى سنوات لزواجها ببساطة لأختها ....كل قطعة كانت لها قصة تتذكرها .
وهذه هذه بالذات لها قصة طريفة ، لقد رأتها على واجهة محل " بوسط البلد" كانت تمر عليه يوميا فقط لتراها معلقة ، قميص حريرى أسود قصير يصل إلى منتصف فخذها حمالته رفيعة جدا و صدره مكشوف برحابة ولكى تمتلك الجرأة لتشتريه جلبت أربعة من زميلاتها واضطرت لشراء المثلجات لهم لتتخلص من غمزهن ولمزهن لذا فهى لن تفرط فيه أبدا .
أمسكت بطرف القميص وشدت بعنف ، تشعر وكأن ماء تغلى على نار من قرون تتصاعد بجوفها فتحرق أحشائها وهذا الشعور بالكراهية يتأكلها من الداخل .
لا تستطيع أن تتجاوز أبدا الغيرة والحقد اللذان عجزت أن تسترهما وهى ترى العتمانى ينتفض من مجلسه عند رؤيته لطارق وهو يستند عليها والرباط الضاغط يلجم رأسه ، لقد أقسم كبير العتامنة يمين " أن يأتى بمن فعل هذا بأبنه فى كفن"
وهو يمين لو تعلمون عظيم ولم يهدأ الرجل حتى أقسم طارق يمين مثله أنه أصطدم بالجدار ولا يجرأ شخص حى لديه عقل أن يقترب منه فكانت إستجابة العتمانى "قبلة " على كتف أبنه وأخرى على جبينه.
بغض النظر عن عجز زينب عن فهم هذه العلاقة التى تربط العتمانى بطارق فهى تجمع كل التناقضات التى يمكن تخيلها و تضعها أمامها على طبق فالرجل يمكنه وبسهولة أن يجلد ظهر أبنه لخطئ تافه ليس له قيمة ولكن إذا فكر أحدهم بالأقتراب منه فهو ميت لامحالة .....
لا يتوقف عن سبابه وتعيره دائما بأمه و يستقبل  من طارق لعنات و فى بعض الأحيان سباب ورفض لأى من مطالب أبيه ورغم كل هذا فالكل يعلم أن طارق "بئر أسرار " العتمانى .
العتمانى الذى لا يقترب من حفيداته ولا يقبل أو يداعب أيا منهم ،يقبل طارق على كتفه و يطبع أخرى على جبينه  و كل هذا يحدث  فى حضرت والدها .
الرجل الذى كانت تراه فوق الناس وفى مكانه لا يمكن أن يصل له فيها أنسان ثم تكتشف وفى أكثر أيامها سوادا أنه أعطى ابن أخيه سلاحا وقال له " أقتل سمرا " ومنذ ذلك الحين كسر بداخلها شى لا تستطيع حتى الأيام جبره .
فى البداية كانت تختفى من أمامه استحياءا وشعورا بالذنب والقهر أما حاليا الوقت فلا تمتلك إلا شعورا بالكراهية توزعه على الجميع بالتساوى و نال والدها منه نصيبه عندما جحدته بنظرة مباشرة متعالية تقول " أنظر إلى الأباء ".
نظره لم يفهمها الرجل و هو يجيب بفرحه أختلجته وهو الذى تجاوز الستين كالأطفال وشعرت بها زينب حتى تكاد تجزم بأنه كان على وشك أن يناديها قبل أن تهرب منه....قبل أن تهرب منهم جميعا !!!
أحيانا تظن نفسك قويا تستطيع أن تقطع يدك وتركب الصعاب وتتخذ مواقف تظن بعدها أنك ستعلو فوق الثريا لتكتشف كم أنه لم يكن سوى تسرع و كان هناك الكثير من الطرق لتجنب هذه الحماقة التى صورها لك عقلك بأنها شجاعة .
شجاعة ....نعم شجاعة كهذه التى يحاول هذا الحيوان ....
حمار الحصاوى الذى أبتلاها به الزمان أن يتقلده وهو يدعى المثالية و ينام على الكنبة الخشبية الكبيرة التى أشتراها ووضعها فى مقابل السرير .
اللعنة عليه وعلى عيونه الرمادية و جسده الملتهب كالشمس .
جزت على أسنانها وضربت الأرض بطفولية ....تريده أن يضمها
ما الصعب فى هذا ؟
كتلة الهرمونات الذكرية هذه التى كانت لا تنفرد بها فى زواية إلا وتغرقها فى حممها لم تلمسها منذ أسبوع وهى أصبحت كالمدمنين الذين تأخرت عنهم الجرعة يحكون جلودهم بشدة حتى يدموها ويواجهم صداع يفتك برءوسهم وهذا البارد لا يقترب منها ،فهل تذهب هى لتضمه هى ؟....هاه !
عضت على سبابتها حتى كادت أن تقتلع لحمها .
هل أصبحت منحرفة ؟
لا هى أصيبت بالعدوى ، هو مريض وأنتقل هذا الفيرس إليها ،خرجت صرخة مكتومة من بين أسنانها وهى تسقط طرف الحمالة عن كتفها و ذهنها ينير بفكرة
ستذهب إلى زهرة أختها وتضمها ....
ضيقت عينيها وهى تدرك سذاجة فكرتها .هل يمكنك أن تشعر بالظمأ يقرح فمك وتذهب لترويه بأكل سمك مملح !!!!
لا تعرف هل هو توارد خواطر أم أنه فقط النصيب فالحمار فتح الباب وما أن لمحها حتى عاد الخطوة التى خطاها للداخل و أغلق الباب بشدة فكاد أن يسقطه .
هنا حقا أنهارت كجسد مربوط بحبال مشدود تماما بين طرفين متضادين وفى النهاية من قوة جذبهم ستتمزق إوصالها .
أحد الطرفين الذى يمزق و بقوة هو خليط من شعور بالخجل والحياء مخلوطين بشعور من العار والفضيحة و على النقيض شعور بالنقص والقبح بأنه يكون قد هرب بهذا الشكل لأنه رأى منها ما يكرهه وفى خضم ما هى فيه لم تنتبه للأصوات التى أخذت تتعالى فى الخارج
فهاهو طارق يصيح
" لموا حاجتكم و أنزلوا أعملوا القاعدة ديه فى أى مكان "
فيجيبه زياد بإنفعال و جسد فى وضعية الهجوم
" لا يا طارق أنى مش متحلحل من إهنه و أعلى ما فى خيلك أركبه ، بجى على أخر الزمن البيت بيت أبونا والغرب يطردونا "
تدخل صابر محاولا تهدئة الأمور
" ده مطرحنا يا طارق من زمان ، هنلعب دورين طاولة "
لم يستطيع صابر إكمال ما يقول لأن زياد قاطعه بصوت عال جدا
" أنت بتحكى فى أيه ، أن مش متلحلح بجى ، هفرش على الأرض وأنام "
وفى خضم حرب كلامية يعرف محمود " أخو زينب " أن وقتها قصير ولن ينقضى وقت طويل حتى تصبح إشتباك بالأيدى وأن أصواتهم المرتفعة هذه ستحضر كل من فى الدار إليهم و سنتهى ليلتهم التى يقضونها معا على سطح الدار الفسيح والذى لا يسكنه شىء سوى غرفة الجدة القديمة والتى أنتقلت منها حاليا لتبقى بها سمرا قبل أن تبدأ.
نعم سمرا .....وضع محمود يده على ذقنه وهو يدقق النظر بطارق الراغب بإقتلاعهم من الأرض وكفه الممسكة بشدة بمقبض الباب .
ليسأل مقاطعا الحرب التى تصاعدت حدتها لتصبح تراشقا بالسباب
" هى خايتى جوه يا ابن عمى ؟ "
لم يكن صادما للجميع سؤاله المفاجىء عن زينب ولكن لهجته المحببة ونبرته الودية خاصة فى "ابن عمى " كان لها وقع مميز لامست نقطة ما فى وجدان طارق ليجيب بهزة رأس
" أه جوه "
لم ينتظر محمود أكثر من هذه الإجابة فتحرك بإتجاه زياد ليهمس فى أذنه بصوت منخفض جدا
" أجلح ....الراجل عايز يدخل لمرته "
أحمر وجه زياد و تصبب عرقا ولم يرد بحرف وهو يتخطى درجات السلم بسرعة جاذبا طرف جلبابه ليمسك به بعصبيه وهو يزفر حمما.
أقترب صابر من محمود راغبا فى معرفة ماذا قال تحديدا ليفر ولكن الأخر لم يجبه سوى بدفعه وهو يردد
" مالكش فيه ...كلام رجاله يا عيل "
مضى وقت طويل بعد أن رحلوا وطارق لم يجرؤ على فتح الباب ، يده ممسكة بالمقبض وعينه مثبته على خشبه كأنما أصبح هو الأخر قطعة من أثاث.
فُتح الباب من الداخل ولم يدرى لماذا خاف عند ظهورها ، للحظة ظن أنها ستخرج بهذا الذى لا يعرف كيف يسميه لأن الأسماء نفسها ذهبت من ذهنه .
لم يستعد طارق فقط أنفاسه حين رآها ولكن ذاكرته عادت وعبوسة عاد والأيام الخوالى أطلت تخرج لسانها لتغيظه وهى تطل عليه بعبائة سوداء وحجاب أسود كأنها مصممة على قطع أنفاسه وربما ظفر بهذه الأبنة قبل أن ينقطع خلفه !
تحدث بتهكم محاولا تخطى ما حدث وهو يشك بأنه لم يكن سوى تهيؤات أو هلاوس بصرية فى ظاهرة أقرب للسراب
"رايحة على فين يا أرملتى ....على فين ياواكلة راجلك "
جدحته زينب بنظرة نارية ولم تجيبه وهى تتخطاه فجذبها من ذراعها ودفعها إلى داخل الغرفة وبحركة سريعة أمسك بطرف العبائة ورفعها ليصل إلى ما كانت تخفيه بها فصرخت وهى تحاول أنتزاع نفسها وكان هو الأسرع بأن تركها وهو يمد شفتيه إلى الأمام  تاركا إياها تتملص من بين ذراعيه ومرددا بمرح
" كنت بتأكد من أن الى شوفته حقيقة.....روحى بقى يا أرملتى العزيزة شوفى كنت طالعة انهى ترب  عشان تلحقى  كام دافنة ...إلا الحنوتية يا زوزو بيبقبضوكى كويس "
أنزلت عباءتها بعصبية و لم تستطع الصمود أكثر
" فى أيه ......ماله لبسى "
ألقى بظهره على السرير فيما تمددت ساقاه لتصلا إلى الأرض وأجاب
" مالوش يا حبيبى ....كنت داخل أنا والحاج نراجع الحسابات سمعت البنات بيغنوا ويضحكوا فى أوضة الخبيز فأرهنت نفسى أنك مش معاهم و قولت أطلع أناديكى تنزلى تنكدى عليهم شوية  "
حبيبى ....كيف نطقها هذا المعتوه لتجعل جسدها يرتعش ؟
ليست وكأنها تسمعها ولأول مرة "فحبيبى " متلازمة على لسان الكثيرين و يالله كيف تخرج من بين شفتيه مربكة ...حقيقة ... منعشة زجاجة ماء باردة فى نهار أغسطس المهلك .
هل تطلب منه أن يكررها ؟!!
حاولت جعل صوتها يخرج بعصبية مصطنعة و غضب مفتعل وهى تجيب بعد أن تنحنحت
" قصدك إيه ....أنى حزينة "
أشار بيدهنافيا عدة مرات وفى النهاية أجاب
" لا يا وزتى أنتى ملكة جمال الحزانى ....لو أجتهدتى على نفسك شوية هتأخدى نوبل فى العياط ، أنتى كئية لدرجة أنك لابسه فانلة سودا "
أصابتها تتمة جملته فى مقتل لتصيح كثور لوح أمامه بقطعة حمراء وهى تفتح أزرار عبائتها لتمسك بقميص النوم تشده بعنف لتبزه له
" فانلة ....ديه فانلة "
كانت علامات عدم الأستيعاب ترتسم على وجهه وهو حقيقة لا يفهم لما أغتظات بسبب هذه " الفانلة " ولم تلتفت إلى ما قاله قبل ذلك فتسأل بغباء
" فانلة ولا فلنة "
ضربت الأرض بقدميها بعصبية ودارت حول نفسها باحثة عن شىء لا تعلمه ولكنها أهتدت فى النهاية الى الدولاب وفتحته  لتخرج عبائه مغريبة فتحفز طارق وأنتصب جالسا و مقدار الإثارة لديه حطم الأرقام القياسية فزينب تقريبا على وشك خلع ملابسها ولأنه كما طار الطائر وأرتفع فأنه كما طار ،سقط طارق رقبته وهو يراها تتحايل على العباءة لترديها دون أن يظهر منها شىء ونجحت فأرتمى مرة أخرى بمرارة على السرير وتقلب لينام على بطنه ويدفن رأسه فى المرتبة .
تأخر والده فى أستدعائه وهذا غير مطمئن بالمرة و جيد فى نفس الوقت ، قبل خمسة ايام أحضره والده إلى غرفته وأصدر فرمان
" بتغير وظيفة طارق فبدلا من الخروج يوميا ليعمل ثلاثة عشر ساعة موزعين بين المحل والأرض فإنه سيذهب إلى المنزل المكون من طابق واحد فى منتصف الطريق الزراعى ليذاكر وراتبه سيأخذه ثلاثة أضعاف فوظيفته الآن أصبحت طالب"
لم يكن والده يوما ممن يهتمون بأمر الشهادات والدرجات وما شابه فهو ومنذ اللحظة الأولى حريص على تعليمه التجارة و كيفية التعامل مع أرضه التى يعشقها العتمانى كأنثى لا كأرض وها هو يغير وجهته تماما ،ليسأل طارق السؤال المنطقى الوحيد هنا  " لماذا ؟" و يجيب الرجل بخشونة وتحدى يليق به
" المدرس الخرفان جاى يجولى وسط الناس جوزت الواد بدرى هيسجط ويجيب مجموع خيبان ، طيب  رب الخلايج لتجيب أعلى مجموع فى مصر كليتها "
لم يحتج طارق أن يكمل والده جملته فالأمر أتضح ، كلمات الرجل كنصيحة تناولها كتصحيح أو نقد لرأيه وهو  " الديكاتور الأول " وهذه تعتبر إهانة و فى موضع أخر كانت إجابته لتكون مختلفة و لهذا فهو قد قبل التحدى وسيرد بما يؤكد مدى حكمته ورجاحته لا فقط لهذا المدرس بل للبلدة برمتها.
لم يعترض على قرار والده وأستسلم لرغبته بإذعان فاجىء العتمانى نفسه ثم أيقن أن طارق أذكى من أن يجادل والعرض مغرى "ثلاثة أضعاف الراتب " لنفس عدد ساعات العمل هذا هو بالضبط ما كان يشغل فكره فهو ممزق بين خالته ومصروفها الشهرى و طفله القادم فى الطريق وزينب هانم ومستوى معيشتها المرفهة وخاصة بعد أن أرتاح رأسه بسبب تدخل العتمانى لينهى أمر إنتدابها بسرعة لتدرس فقط فى مدرسة البنات بعد أن حكى له طارق " فى ساعة صفى لم تكن فى الواقع سوى أثر ضرب رأسه فى الحيطة "عن تحمله ما لا يطيق وهى تقف بين الرجال فالأمر يحرقه و يضغط على رجولته .
زينب التى أصبحت تضوى فى هذه العباءة ألتفت لتخرج حجابا أنيقا يليق بها أرتدته بمهارة ، فتشت عن زينة تضعها على وجهها ففشلت فى أن تجد أن شىء سوى دهان للبشرة ثم عادت مرة أخرى إلى الدولاب العزيز لتخرج صندوقا خشيبا وضعته بجوار طارق على السرير قبل أن تفرغ محتوياته كلها والتى لم تكون سوى أساور ذهبية وقلادات وخواتم جعلته يتقلب على جنبه ويحدق فيما يراه بإنبهار حقيقى ويردد بينما يمسك بإسورة بعينها
" أنتى سارقة محل دهب ....ده بتاعك لوحدك ولا لامه دهب البلد كلها "
أجابته زينب ببساطة
" بتاعى طبعا .....بس مش هلبس غير شبكتك "
لمحت التغير فى ملامح وجهه فقد أسود على حين غرة و تشنجت عضلات رقبته و الهواء الذى زفره ساخنا من فمه وهو يتحدث بنبرة هادئة غريبة
" شبكتى ....أنتى بتعايرينى عشان مجبتلكيش شبكة "
لم ترد عليه ولكن يدها أمتدت لتخرج ست أساور ذهبية لامعة ذوى نقشة مميزة عندما أرتدتهم فى معصمها أقتربوا من بعضهم ليصبحوا كيانا واحدا كثعبان و قلادة طويلة لديها نفس النقش وخاتم ، حركت الأساور بيدها فأحدثت صوتا مميزا وتحدثت بشموخ
" شبكتك يا خوى ، يكش تكون فاكر جوزونى ليك من غير شبكة ، يعنى لا حنة ولا فستان فرح زى بجية مخاليج ربنا و كمان الشبكة كنت رايد متجبهاش "
حرك طارق رأسه نافيا بعدم فهم وأستفسر
"مين الى جاب الحاجات ديه ....أنا مجبتش حاجة "
لتجيبه زينب وهى تتخذ عدة خطوات للخلف لتضع اللمسات الأخيرة قبل نزولها
" أبوى العتمانى جابها ....ومتجلبش سحنتك إكده ،مفيش راجل فى البلد دى بيتجوز لحاله قرد قطع لازمن أبوه يتدخل عشان يلم الليلة "
أنتصب طارق وعدل من ملابسه دون أن يزحزح نظراته عنها ، نظرات إستغراب وإعجاب وبهجة فهى وبكل تأكيد تتصرف "كزوجة " .
عندما أضاءت الكلمة فى ذهنه لم يقدر على إغلاق فمه خاصة وهى تعلق برقة وغنج أمام المرآة
" مفيش مانع يعنى لما ربنا يفتحها عليك تجيبلى شبكة تانية خير ربنا كتير يا عتمانى"
أدخل طارق يده فى جيبه ثم أخذ يحرك قدمه إلى الأمام والخلف ليتكلم بخفة
"أنتى داخلة على طمع بقى "
جارته زينب وهى تسبل عينيها مرددة
" ياكش فاكر واخدينك لأجل حلاوة عينك ، لا يا بوى ده أنت العتمانى الصغتر يعنى على جلبك ياما ....بحر مهما تأخد منه ما يخلصش "
أمتقع وجه طارق بطريقة مسرحية وهو يرفع حاجبا ويسقط الأخر مجيبا
" الله أكبر ....فى ايه أنتى نسيتى نفسك ، يالا خدى بعضك وأنزلى بدل ما أنزلك أنا "
هزت زينب كتفيها بلا وهى تميل رأسها إلى جنب تدعى الحزن بطريقة بائسة لا تستطيع حتى بعد إنقضاء ستة عشر عاما على هذا الموقف أن تفهم الدافع الحقيقى وراء هذا "المواء " الغريب والمخجل .
وعلى الصعيد الآخر كان طارق يقابل ما تفعله ببرود وقلة إكتراث غريبة فقد تقدم فعلا ليفتح الباب ويدفعها لتخرج منه مصاحبا إياها بصيحات تشجيع تليق بمبارة السوبر وليس ألتقاء عاطفى ورغم غرابة ردة الفعل والموقف ككل إلا أنه يبدو واقعى جدا ومنطقى إذا وضعت نفسك مكانه فجملتها المعترضة " أنت شايفنى حتة لحمة " لا يمكن لرجل لديه ذرة كرامة أن يحتملها فهى ترفضه و تتهرب منه وكان دائما لديه تفسير ومبرر لما تفعل  حياء ،كبرا أو حتى صدمة .
عاد يوم النفق محملا بكم كبير من الدلال منها ومن والده ، دلال جعله يشعر بأنه أقرب إليها من أى وقت سبق و عقله لم يدعه كثيرا ليجعل من فكرة "إنها الشفقة" تكبر بداخله حتى أصبحت يقين ولأن كل هذا الجدل والشجار حدث فى أعمق أعماقه لم يظهر على الساحة سوى الجفاء والبعد .
تمتمت بكلمات لم يسمعها وهى تتحرك بقوة دفعه لها لتهبط درجات السلم محاولة التماسك حتى لا تسقط ، كانت أصوات الأغانى ترتفع كلما هبطت أكثر وحركته تزداد وقلبها ينقبض ثم نادى بصوت عالى جدا أجش رجولى
" يا سحر ....أفتحى خدى الغلبانة ديه رقصوها معاكم ولا إكمنها أوزعة وهبلة تسيبوها كده "
كان صوته عالى جدا وأخذ  يطرق على الباب بقوة ولازال يذكر صفات زينب الحسنة مدللا عليها
"أفتحوا خدوها ....هتقعد ساكته على جنب .....حمار وحلاوة على السيكن يا بطيييييييييييخ "
أمسكت زينب بيده تحاول إيقافه بشدة وعينها تدور فى كل مكان تترجاه أن يسكت بينما أخذ يرقص حواجبه متغنيا بنفس النبرة العالية
"اسمر وقلبك أبيض يا بتنجااااااااااااان "
فتحت سحر الباب بوجه محمر وعينين دامعتين من الضحك ، مدت يدها تناوله عصا جدته التى كانت تجلس على دكة تسند جنبها على خددية صغيرة ومدثرة بغطاء سميك بعد أن تحسنت حالها قليلا وأصرت على تقديم ميعاد زفاف زهرة
زهرة التى ذهبت إلى المسجل توقفه لتخرج الشريط  وتدس قلمها "الفرنساوى " فى بكرة الأخذ وتلفه عكس عقارب الساعة بسرعة ثم أعادته مرة أخرى وهى تتكلم بنبرة آمر للفتيات اللواتى ظهر إرتباكهن وهن يضعن غطاء الرأس وينتشرن على الجوانب
" طارق هيرقص "
سمعها طارق فأدعى الحياء وهو يثنى ركبتيه ليقترب من زينب ويسأل بمرح
" أرقص "
فأخرجت لسانها وحاولت  الإجابة بعدم الأهتمام
" أرقص وأنا مالى هو أنا ماسكاك "
وأعتبرتها زهرة إشارة البدء عندما رفع ذراعيه ممسكا بالعصا لتصدح كلما ابن عرنوس و ينفلت معها لجام ابن العتمانى
يا بت جمالك هبشنى
والهبشه جات فى العبايه
رمان خدك روشنى
خلى فطورى عشايه
انا جاى ومعدى على شوك
الحب خدنى و توانى
قالولى هتموت بشوك
جيت من غير صبر ولا توانى
العصا تدور فى كفه وساقيه تتبادلان فى الحركة على إلايقاع يحركها بمهارة وعينه تدور لترسى على شواطئها ، يرى مزاجها الذى تغير والبسمة الذى أخذت تتسرب على أستحياء حتى وصلت إلى عينها فأزدادا بريقا وأملا وهى تصفق له بحرارة كانت جمهوره الوحيد رغم أن الغرفة الفسيحة جدا كانت تضم فتيات ونساء من جميع الأعمار نظراتهم جميعا كانت منصبة نحوه فهو طارق الفتى الطويل "ابن الغازية " الصامت الذى لايظهر فى أى زفاف أو جنازة حتى نسوه فأشعل ذكره زواجه من زينب و ذاع صيته فى كل مكان يوم ألقى النار من "سطح بيتهم " على السيارات فأصابها على الطريق ، شائعات عن العنقاء التى قامت من رقادها وإشاعات عن كونه خليفة العتمانى القادم .
كان الخليفة قد مل الرقص بالعصا فهى لم تكن يوما غرامه وعندما أنتهت الأغنية وبدأت أخرى كاد أن يتوقف فدفعته سحر " أخته " مرة أخرى بعد أن بدلت الشريط  لترقص هى أمامهو  لم تكن  أبدا تجيده ولكنه كان سعيدا بسعادة أخته ومحاولة تقربها منه و أما  الأغنية كانت شعبية ولا يليق معاها العصا .....
كانت الأغنية تنادى شبحا أخر......
شبحا أخرجه بسعادة من جيبه الخلفى وأظهره للجميع بخفه وفتحه بمهارة ليعكس على صفيحته المعدنية الضوء ويصدمه بعين أخرى أنشغلت عنه بالحديث إلى أختها ......
ترى هل ملته أم ظنته لا يستطيع أن يقدم أكثر ؟
فى كلا الحالتين هى مخطئة و ثبتت لها مطواته هذا ........
مطواته البنية من العاج ، صديقة طفولته والشاهد الوحيد على ما عاشه التى لولاها لنسى من يكون ، أنثاه الأولى ........التى ما إن أمسكها حتى أنكمش العالم ليقف عند نصلها ليؤدى طارق رقصته الفردية .
لم تكن رقصة بالشكل الشائع  ولكن  إبراز للمهارة فى استخدامها وتطويعها كأنه فى مواجهة خصم خفى لا يراه سواه يضربه بسرعة ، يقفز ليهبط بها فوق رأسه ويأخذ الإيقاع فى التصاعد فتنفصل الحركة  عن الأغنية وتسقط مطواته معه فى الإثم كعاشقة يروضها بفجاجة فتتعالى الأنفاس والخليفة لا يرحم .
فترد امرأة بصوت ضعيف يصل إلى مسامع زينب وسحر وزهرة
" ابن الغازية ....ميعرفش الحيا "
ظهر الأمتعاض على وجه سحر ولوت زهرة شفتها  فأدركت زينب أنه ليس إمتعاضا فقط ولكن فيه شىء من تأكيد على ما تقوله المرأة فأغتظات زينب وأخذت تغلى وتزبد عندما أدركت ما كانتا تقصدناه ......
لقد دفعوه للرقص لأنه " ابن الغازية " يريدون إذلاله وبغباءها هى فهمته محبة ودلالا ...فأزاحتهم من جوارها تقدمت للأمام تنطلق بنظرات تطلق شرارا لهذا الأحمق الذى لمعت عيناه بفرحة طفل عندما أقتربت منه و تأتى الشهقة الكبرى من زهرة وهى تشاهد أختها " ترقص ولأول مرة " ليس رقصا عاديا فزينب تدخلت فى منتصف الأغنية وهى تجذب حجابها لتحيط به وسطها وتشرع فى
"إرتعاشه " تمتد من ساقها إلى صدرها فتنطلق أساورها لتعلن صافرة البداية لعرض أمتد لخمسة دقائق وهى المدة التى أخذها طارق ليستوعب مايحدث أمامه فزينب الكئيبة ، المعلمة الفاضلة صاحبة المواعظ والحكم ، كبيرة العتامنة ذات النبرة الواثقة والنظرة النافذة خليط هتلر وموسيلنى تملك شخصية أخرى هى فى الحقيقة خليط من فيفى عبده وسامية جمال و حمدية سبارس "فتاة من الحارة كانت ترقص فى كل أفراح المنطقة فوق طاولة خشبية كبيرة حافية القدمين وبينما كان الجميع يحدق برقصها وإنحنائات جسدها الملتهب كان طارق يفكر فيما سيحدث لو كسرت الطاولة الخشبية الكبيرة وسقطت حمدية بوزنها الكبير فوقه فإنها ستخنقه وسيموت مسحوقا " أما زينب الآن فستجعله يموت إثر أزمة قلبية حادة .
فمربية الأجيال كانت تغوى تلميذها المحترم جدا وهى تدير  نصف جسدها السفلى  فى حلقة توقفها فى المنتصف لتعطى القيادة لصدرها ليتصدر المشهد بجدارة ويسيل لعاب الفتى وهو يكتشف أن زينبه تمتلك إمكانيات أخرى تتفوق فى الحقيقة على حنان قلبها وعطفها ، إمكانيات تحتل مكانة كبيرة ،كبيرة جدا .....يجب أن تأخذ وضعها الأستراتيجى كمحرك على الارض .
هل كان أعمى فهذه الأشياء لا تظهر من العدم ؟وهل كرامته مهمة جدا يعنى ؟؟؟؟؟
درات حول نفسها لتعطيه ظهرها وعينيها تتصلان بعيينى زهرة و سحر المأخوذتين بما يروه فى خليط من الأعجاب والأنبهار والدهشة والرفض حتى سهير زوجة حسن تقدمت جدا من المجلس لتصبح قريبة من زينب دون أن تقترب من الهالة التى أحدثتها حولها  وتوقف كل هذا وطارق يضع نهاية للعرض العظيم الذى ستتحدث عنه العتمانية لسنوات بعد ذلك وكفيه تمسكان خصرها تثبته فى مكانه فتسقط هى رأسها فى تعب وصدرها يعلو ويهبط من المجهود المفاجىء وترسل قبلة فى الهواء للوحيدة التى تعبأ برأيها فى المكان
جدتها التى أشارت بإصباعها لطارق ليغادر المكان ففهم ما ترمى إليه مباشرة وهو الأخر تعلو صوت أنفاسه لا للمجهود البدنى فى رقصته ولكن أدائها أحرق بنزينه بأكمله فمال ليهمس بأذنها بصوت مغوى وقد أبعد يده عن جسدها
"أنا عارف أنه أقتراحى المهبب على عينه ولو كان فى دماغى أنك بتعرفى تحركى حاجة غير حواجبك كنت مستحيل أوافق .....أول وأخر مرة ترقصى قدام جمهور يا نجمة ، أنا هعمل معاكى عقد إحتكار مدى الحياة "
لم ينتظر ردا لم يكن ليحصل عليه وخرج سريعا وتوجهت زينب لتجلس بجوار زهرة وتردد بصوت واهن وهى ترى الفتيات يقتربون منها فى رغبة منهم لترقص مرة أخرى
" زهرة مالكيش صالح بطارق وأمه تانى ....أخر مرة أسمعك بتجيبى سيرتها"
فأجابتها سحر بشبه همس
" بتدافعى عنه ياسمرا ....الى  دخل عليكى بالسلاح ولا شكلك وقعتى فيه بحج "
لم تحتمل زينب فأجابت بعصيبة محاولة قدر الأمكان عدم رفع صوتها وهى تقبض على كفها الايمن بالأيسر وتفركه بإبهامها
" ابو الى فى بطنى ....رضا ولا غصب إلى كان كان ، الراجل مشوفتش منيه حاجة وحشة ، غيره كان رجعنى لأبويا وهو صابر عليا "
لم تكمل زينب ما تقول لأن سهر قاطعتها بنبرة شامتة من بعيد
" كنتى بتعملى ايه فى مصر يا بنت العتامنة ، راجعلنا غازية على صوح "
" الى كنتى بتعمليه فى محل العتامنة يا بنت هنية لما أخدتى الراجل من مرته وبناته "
كان هذا هو صوت زينب نفسها الذى علا الآن ليواجه سهير " فى أول أصطدام بينهم منذ سمعتها تلك الليلة تخوض فى عرضها " و ليبقى أثر هذا الصطدام سنوات تعززه كراهية ومشاحنات من الطرفين ، أى نعم زينب الحالية أصبحت لاترد ولا تولى إهتماما بما يقال ولا تمتلك نفسا طويلا للشجار ولكن ما فى القلب ظل فى القلب .
..............................................................................
خرج طارق إلى الطريق ليستنشق الهواء قليلا وجبينه الأبيض صبغته حمرة داكنة يحاول أن ينفض الأفكار التى تدفعه للعودة إلى الداخل ليجتذبها من بين الحضور و يضع شفرة على بقية مايدور برأسه
" أهلا يا طارق "
وجد ما يبعد عنه أفكاره .....طارد الأفكار الحسنة الفعال "كبرد طارد الناموس "
"سارق البسبوسة " واللزج المقرف كعرق الصيف ....معلم اللغة العربية
أستاذ أحمد
رد طارق من طرف أنفه للرجل الواقف على أول أرض العتامنة
" انا كنت جايلك يا طارق فى الحقيقة أكلمك فى موضوع ....أو لنقل خدمة ممكن ندخل نتكلم عندكم فى المندرة "
فأجابه طارق بقرف وكراهية لا يعلم مصدرها
" معندناش بسبوسة فى جله نجيبلك "
ضحك الرجل ضحكة عالية ظنا أنه يمزح فأتسعت فتحتى أنف طارق وأبتعدت شفته السفلى عن العليا ليظهر صف أسنانه العلوى وملامحه يظهر عليها التقزز جليا بينما تحدث الرجل بسعادة
" والله يا طارق أنت دمك خفيف جدا ومن أكتر الطلبة المميزة الى قابلتهم فى حياتى ....أنا على أستعداد أراهن أنك هتطلع الأول أو الثانى على الجمهورية على أقل تقدير .....فعلا أخلاقك عالية ومحترمة وأنا أشهدلك بذلك "
هز طارق رأسه مجيبا بنعم كأنما أدرك أمرا مستترا
" آه ....قول كده بقى ....أنت عايز خدمة من العتمانى "
أمسك الرجل بكف طارق بحماس وأجابه بحبور وصوت مرتبك بخفر
" قريحتك المتقدة ديه هى الى خلتنى أجى أكلمك فى أمر ليه ثواب كبير عند ربنا أنك تساعد شاب يفتح بيت بالحلال ،فى الواقع أكلمك أنت أفضل من أنى  أكلم  صديقى الأستاذ حمدى "خطيب زهرة"  لأنى لما فتحت الموضوع معاه قبل كده بشكل عام أكد أن العادات والتقاليد عندكم بترفض زواج البنات بشكل قاطع من أغراب ولكنى كنت عشمان فى كرم والدك و ان كمان ظروف زى ظروفها هتسهل زواجى منها وخاصة لأنها أتسابت من زوجها قبل الفرح بأيام وأكيد ده هيعمل حساسية بالنسبة لبقائها فى البلد ....استاذة زينب تستاهل حد يقدرها زيى "
يتشرب الكلمات كلمة كلمة دون أن ينبس ببنت شفة جامد فى مكانه ،عاقل ، رزين
ليتسائل بعدها بهدوء منقطع
" أنت جاى عشان تطلب منى أيد مراتى "
ليهتف الرجل برفض قاطع
" لا طبعا ....أنا مالى ومال مراتك ....أنا عايز أتجوز زينب العتامنى "
ليرد طارق بنفس النبرة الهادئة الفارق الوحيد أن عينيه برزتا من محجريهما وهو يبحلق فى الرجل بشدة
" أنت عايز تتجوز مراتى "

زفير الروح (الجزء الثاني من أنين الروح) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن