الفصل الثاني

35.4K 661 49
                                    

أمشي بروحٍ حالم مُتَوَهِّجٍ

في ظُلمة الآلامِ والأدواءِ ...

النّور في قلبِي وبينَ جوانحي

فَعَلامَ أخشى السَّيرَ في الظلماءِ

إنّي أنا النّايُ الذي لا تنتهي

أنغامُهُ ما دامَ في الأحياءِ ...

لأذوبَ في فجر الجمال السرمديِّ

وأَرتوي منْ مَنْهَلِ الأضواء

(أبو القاسم الشابي)

**************
البشر يصفون الحياة وكأنها جنة عندما يتحدثون عنها وبمجرد إختبار بسيط لتقلبات القدر تتحول إلى كابوس مرعب والقليل منهم يصبر ويحتسب عند الله محسنين الظن بأن الأدب في البلاء عبادة راقية والرضا يعقبه فرح جميل .. هكذا كانت هي راضية.. متقبلة لظروفها..ممتنة لمن حولها..شاكرة لكل من حاول تخفيف ألمها ..مبتسمة رغم مابها..تحاول إقناع الجميع بأنها قوية.. صامدة.. منتصبة كجذع شجرة مر عليها سبعون خريفاً ولم تسقط .. عالمها صغير جداً ومحدود لايتواجد في محيطها الكثير ، فمن سيرغب في التقرب من تلك اليتيمة الضريرة التي تستند علي كف مربيتها وتصطحبها صديقتها الوحيدة للذهاب إلى دروس البيانو التي تعطيها للأطفال داخل دار الرعاية المقيمة بها وبالرغم من قلة حيلتها وظروفها القاسية إلا انها تعتبر نفسها محظوظة للغاية فهي تمتلك مكان يأويها ومربية تحبها كثيراً وترعاها ولديها صديقة وفية لاتستطيع الاستغناء عنها .... إنها " مريم  إبنة ال 21 ربيعاً .. الطفلة المدللة لدار وسيلة علوي لرعاية الأيتام .. أكثر الناس محبة لمن حولها.. تؤمن بمبدأ واحد ألا وهو ( من دون الحب.. كل الموسيقى ضجيج.. وكل الرقص جنون.. وكل العبادات عبأ) .. لم تكن على علم بما حدث لها في طفولتها وأفقدها بصرها لكنها تشعر دوماً بعدم حاجتها للرؤية .. تعيش بقلب لم يجزع يوماً من عجزها ولاتدري أن هذا سر تسلل النور لباطنها.. تضحك عندما تخبرها مربيتها عن جمالها وتصفها ب "الأوڤر " والحقيقة أن المربية لم تكذب عليها أبداً فوجهها لوحة فنية بارعة الجمال سبحان من أبدع في تصويرها .. ملامحها ملائكية تفسر آية الرحمن (سيماهم في وجوههم) ..وعينيها المكفوفتين جرم صغير فيهما ينطوي العالم الأكبر.. يتجسد حُسنها في القول السائد (عيونها جنة وباقي تفاصيلها نعيم)..  خصلاتها الكستنائية اللامعة الطويلة تنسدل خلفها وتنحدر كالندى المبلل بماء الورد وحينما تجمعه بملاقطها الوردية تصبح كزهرة أوركيد تفتحت تحت قطرات طَلّ كاريبي النسائم .. والمليحة عطرها يفوح من هدوء طباعها وأخلاقها .. يتيمة الأبوين أنبتها الله نباتاً حسناً رغم قسوة عالمها.. قام عمها بتسليمها للدار في الثالثة من عمرها بعد وفاة والديها ثم إنقطعت أخباره تماماً عنها.. هذا كل ماقصته عليها مربيتها صباح التي تولت رعايتها منذ نعومة أظافرها حتى تعلقت بها كثيراً وإعتبرتها كأمها التي حُرِمَت منها .. مرت السنة تلو الأخرى و أصبحت مريم فتاة بالغة حرة التصرف بحياتها وإختارت الإستمرار في الدار مقابل تعليم بعض الأطفال من النزلاء دروساً موسيقية خاصةً أنها تمتلك صوتاً عذباً أَهّلَها لإتمام دراستها بالمعهد العالي للموسيقى بمساعدة "ريهام "صديقتها وتوأم روحها ورفيقة اليتم وشريكتها في الغرفة والتي تعمل مدربة لياقة داخل الدار وأحيانا بالخارج لكنها فضلت البقاء بجوارها بدلاً عن الأستقلال بحياتها الخاصة ، اليوم كانت التجهيزات للحفل السنوي تسير علي قدمٍ وساق .. الجميع منهمكون في آداء مهامهم تحت إشراف السيدة "وسيلة علوي " تلك السيدة الأربعينية الوقورة التي كرست حياتها لخدمة الأيتام خاصةً أنها لم تنعم بالأمومة ودائماً ترى عوض الله الغالي في أبناءها من النزلاء والنزيلات وأثناء مكوثها داخل مكتبها منشغلة في متابعة بعض الأوراق المتعلقة بالعمل قاطعها صوت طرقات خفيفة علي الباب ...أجابت وسيلة بنبرة مرتفعة قليلاً  (إدخل )

عيون الريان (مكتملة)Where stories live. Discover now