24- اِنهيار وعِناق.

1K 91 37
                                    

لو كان يعرف أنّها اللحظة الأخيرة..
لكان عانقه، وقضى برفقته تلك الساعة قبل أن يغادر وما كان عجّل بالوقت دونه، كان سيتشاجر معه حول أضرار القهوة دون أن يأكل، سيستنكر منصبه كطبيب وهو يهمل صحته هكذا ومن ثم يعود فيتحدثان حول عدة أمور عشوائية.

يشكو همه وحزنه ومن ثم يضحك على نكات سخيفة كأنّ شيء لم يحدث، ولكنّه غادر.. ويتمنى لو أن اللحظات الأخيرة كانت بعناقه في ذكرى سعيدة وواقعية، كان سخبره بأنّه لطالما كان له خير الابن والرفيق، ولربما كان سينصحه لمرةٍ أخيرة أن يبقى بصحة جيدة وألّا يعيش مثله أبدًا لربما يعيش سعيدًا باقي حياته، لو كان يعرف أنها آخر مرة يراه فيها لكان قد أكد حبه حتى وإن غادر.. وتواجده حتى وإن لم يرَه..

لم يكُن يتخيل يومًا أن يأتي يوم كهذا يسير فيه وعلى كتفه يحمل جسد والده، دموعه أخذت طريقها على وجنتيه بغير قدرة على إيقافها وفي عقله بقايا مشهد فراق غادره نصفًا فقط.. جسد بدون روح.

يتذكر منذ بضع ساعات، حين هاتف جواد ويديه ترتعش بغير قدرةٍ على إمساك الهاتف ونبرته باكية يملؤها الخوف:-
"جواد ألحقني.. أنا بابا مبيردش عليَّ يا جواد."

انهمرت دموعه في صمتٍ وضجيج قلبه المحطم يرتفع في الأرجاء، وعقله لا يتوقف عن سرد المشهد بعد أن جاءته حالة من الانهيار العصبيّ، متذكرًا استيقاظه بفزعٍ ظنًا منه أن كل ذلك كابوس وسينتهي، ولكنّه تفاجئ  بمشهد وضع والده في الكفن الأبيض، وحينها ركض ناحيته بقدمين كالهلام، وصديقه يمسكه قبل أن يقع أرضًا ونبرته المبحوحة ارتفعت ببكاء:-
"أنتم واخدينه فين؟ سيبوني أحضنه طيب، حضن واحد بس.. آخر مرة."

حينها أمسكه جواد بقلبٍ مُحطم وهو يرى صديقه في حالة الانهيار تلك، ومازال أمان ينظر إلى جواد ليتركه برجاءٍ باكٍ:-
"جواد عشان خاطري سيبني أحضنه، سيبني أعيش على ذكرى واحدة تصبرني."

فك جواد قبضته عنه وركض أمان إلى والده ليأخذه في عناقٍ أخير تمنى فيه أن يتوقف الوقت عنده، ولكنّها دقائق معدودة انتهت بابتعاده بالإكراه ورائحته تعلقت بين حنايا ذِكْراه، وعينيه تحفر ما تبقى من ملامح نصفه الآخر لتُحفر بقلبه وعقله قبل كل شيء.

الآن فقط أدرك المعنى الحقيقي لقسوة الحياة وهيَّ تأخذ منه والده على غفلةٍ منه، سرقت منه الوقت وأفاقته على مشهد موته.. مشهد لا يحتمله أبدًا.

يسير كطفلٍ تائه، جميع أصدقاءه يحملون النعش على أكتافهم، عبدالرحمن يبكي غير مصدقًا لشيء، إلياس يسير بقلبٍ ثقيل يجعله لا يقدر على التنفس، مراد يسير بأعين ضبابية لا ترى من الطريق شيء على عكس جواد الّذي رغم شروده كان صامدًا، يحاول التماسك بينهم حتى لا يزداد الوضع سوءًا رغم انفطار قلبه لأشلاء لا يمكنه تجميعها.

أشباهُكِ الأربعون.Where stories live. Discover now