كادت تقف وتقرن كلماتها بالأفعال، ولكن شهقت فيدرا بصدمة وهي تمسك بيدها تمنعها من المرور بعد القاء تلك القنبلة بكل برود وبعدها تتحدث عن النوم والطعام؟!
انتفضت فيدرا من محلها وهي تنظر لملامح فلك الرخامية وتقول بصدمة واضحة...
-(ألا تمزحين !؟)

أجابتها فلك بذات الهدوء والبرودة دون أن يرف لها جفن
أمام نظرات الفزع على وجه فيدرا
-(وهل في الطلاق مزاح يا فيدرا !)

تعاظم القلق في نفسها وهي لا تجد أثر للفكاهة في حديثها، جلست وجذبت شقيقتها لتجلس أمامها هي الاخرى.. تأملتها مطولا وهي ترى صمتها مثير للاعصاب
كيف لها أن تكون بهذا الهدوء وهي تخبرها عن طلاقها
تتحدث وكأن شيء لم يكن.
لطالما كانت فلك كتومة ومنغلقة على نفسها، متباهية بأنها لا تحزن ولا شيء يمس قلبها أو كرامتها، لطالما تمسكت بمظهر المراة الفولاذية التي لا يحركها شيء
ولكن الآن لن تستطيع تركها تتصرف بهذا البرود.
انطلقت كلمات فيدرا بتصميم حنون وهي تتمسك بكف شقيقتها قائلة...
-(ما الذي حدث يا فلك لتصل الأمور بينكما لهذه المرحلة، هل ما حدث في القرية له علاقة بما يدور بينكما، اخبريني أنا توأمك أنا هنا لأكون معك؟!)

صمتت فلك للحظات قبل أن تقول بخفوت جاف، وعيون غائرة تحكي عن ألمها..
-(انا من دفعه للطلاق)

لم تجد فيدرا سوى الصمت أمام إجابتها المموهة
ولم تجد فلك حل سوى البوح لشقيقتها بكل ما عاشته
علها تساعدها في محنتها، أو تربت على ألامها وتشاركها بؤسها.. وانتهى بها الأمر تبكي على كتفها وهي تقص عليها كل شيء منذ أن وطأت قدمها خارج دار أبيها
إلى اللحظة التي تشهق فيها بدموع نادمة، ولا حيلة لها سوى الندم.

مرت ساعات النهار سريعة وحل الليل أخيرًا بهدوئه ونسماته.. ولم تكن فلك معتادة على طرقات الباب الهادئة التي تعلم صاحبها.. فنظرت لساعة معصمها وترى عقاربها تشير للثامنة مساءًا ؟!
هل عاد مبكرا أم انها جارتها ؟
وقفت واتجهت لتفتح الباب بعدما تأكدت من هويته
وابتعدت بضع خطوات لتراه يدلف مُحمل بأكياس كثيرة يخطو بها للداخل مع القاء تحية مختصرة جدًا.

تبعته للمطبخ وهي تراه يضع الحقائب أرضًا
وقبل أن تسأله سمعته يقول بلهجة جافة....
-(إن كان ينقُصك شيء أخر أخبريني)

كاد يتحرك من أمامها ويُعلن الغياب مره أخرى
ولكن جاءه صوتها هادئ رزين وهي تسأله...
-( ألن تبيت هنا ؟!)

-(بما أن شقيقتك حاضرة، سأبيت هنا لأنقذ كبريائك من تساؤلاتها.. سأذهب لأنام الآن تصبحين على خير)
كلماته الجافة كانت بالأشواك المسممة، تؤذيها ولكنها صامتة، تتأمله وهو يمارس حقه في التعبير عن ضيقه وغضبه.. وإن كان ثمن أفعالها جفاء مؤقت، فلا بأس
ستتحمل كما تحملها هو في أقسى لحظاتها معه.

تنهدت قبل أن تفرغ الأكياس وتضع الفاكهة في المياة لتنظفها.. وتضع باقي الأغراض في أماكنها الصحيحة
شعرت به خلفها مره أخرى وكادت تلتفت، ولكنه سمرها بصوته الجافي...
-(سأساعدكِ في غسل الفاكهة والخضراوات.. طريقتكِ في التخزين سيئة وتجعل الأشياء تفسد قبل أوانها.. حضري العُلب والمناديل والورقية)

نمت بسمة صغيرة على ثغرها وهي تسمع انتقاده اللاذع
ولكن لا بأس، حديثه أفضل من صمته وتباعده
لذا بصمت مطبق أحضرت له ما طلبه وجاورته في وقفته تتلقى منه الفاكهة المبللة وتبدأ بتجفيفها، في البداية لاحظت ابتعاده عنها بضع انشات وكأنه لا يطيق جوارها
ولكن ما هي الا لحظات وصار الأمر طبيعيًا رغم الصمت
فمن يراهما من بعيد يظن بهما الحياة الزوجية المتفهمة

وهذا ما ظنته فيدرا حينما خرجت من غرفتها ووقفت أمام المطبخ تنظر لهما بعيون حزينة على ما علمته من شقيقتها القاسية، ولكنها عقدت العزم على مساعدتها مهما كلف الأمر.
تقدمت خطوة للأمام وهي تتحدث بنبرتها الخجولة الباسمة....
-(مساء الخير)

التفت لها الزوجان فورًا، ومنحتها فلك ابتسامة صغيرة
بينما عنان اتسعت بسمته بترحيب مؤدب وهو يغمغم بهدوء...
-(كيف حالك يا فيدرا الصغيرة؟!)

غامت عيناها بخجل أكثر وهي تستذكر لقبها عند كل رجال العائلة، ورغم انها وفاك تؤأمتان إلا أن الجميع يناديها فيدرا الصغيرة، أجابته مبتسمة...
-(بخير يا عنان المتهور)

تلاشت ابتسامة عنان وحل محلها شرود
بينما فلك غامت عيناها بحنين مؤلم وهي تتذكر سبب لقب المتهور، فحينما كانا مراهقين، حاول أحد الصبية ابن أحد العمال في المزرعة مغازلة فلك، حينها تجاهلته تماما ولم تبدي أي أهمية، ولكن فيدرا ثرثرت أمام العائلة بما حدث... وكان عنان أول من انطلق كسهمٍ طائش نحو الخارج ليثأر من الوقح الذي غازل ابنة عمه ومحبوبته
وانتهى به الأمر ليلتها في مخفر الشرطة بسبب تعديه على المراهق الاخر بالضرب.
فأخذ الجميع يلمونه على تهوره وغضبه المجنون
ولكنه لم يأبه لأي شخص.. كانت المهمة هي فلك.. التي منحته ابتسامة كانت كجائزة كُبرى بالنسبة له.

لاحظت فيدرا الصمت الذي حل بينهم فسارعت تقول معتذرة ونبرتها الناعسة واضحة...
-(كنت أريد مساعدتكما ولكنني مجهدة من السفر، أريد فقط زجاجة مياه.. ولا تُقظيني يا فلك من فضلك.. لي أيام أجد صعوبة في العودة للنوم مره أخرى حينما استيقظ فجأة... تصبحان على خير)

اخذت الزجاجة واختفت من أمامهم بعدما ألقت تلميح واضح بألا ترى فلك في غرفتها الليلة، وهذا ما جعل عنان يخرج باقي الفاكهة من المياة ويتركها تجففهم، بينما ذهب لغرفته بضع دقائق.

انتهت من عملها وخرجت من المطبخ
لتراه يضع وسادة على الأريكة الخشنة، مع شرشفه
كانت خطوته اعلان صريح انه لن يشاركها الفراش، بل تركه لها تهنأ فيه وحدها
-(ماذا تفعل )

القت سؤالها حينما رأته يجلس ويستعد للنوم بصمت دون تبرير، ولكن اجابته المقتضبة خرجت جعلتها تردد في خطوتها القادمة...
-(سأنام هنا، احتفظي بغرفتي)

التفتت لتغادر بصمت، ولكنها تسمرت للحظات وهي تهمس لنفسها أنها إن لم تحاول الآن جمع خيوط حياتها
لن تستطيع فعلها أبدًا.. لا وقت للالتفات نحو كبريائها
عليها الآن أن تختار
إما الوقوف في وجهه ودفاع عن حقها فيه
او الاستسلام وتركه لغيرها تنعم بحنانه وحبه
وكان قرارها أسرع من وقت تفكيرها، فاستدارت له تقول بهدوء تحسد عليه...
-(لا يجوز نومك هنا، قد تراك فيدرا عن خروجها من الغرفة ولن تتحرك في الشقة بحرية..)

صمتت للحظات قبل أن تقول متماسكة رغم ذوبانها الداخلي...
-(لنتشارك الغرفة، لا أجد سبب يمنع أن ننام على فراشٍ واحد)

                             ***

(غصونك تُزهر عشقًا) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن