الفصل الثامن عشر

Start from the beginning
                                    

انتشله من غمامة ذكرياته السوداء
صوت أذان الفجر وهو يعلن وقت الصلاة، تكبير الشيخ أنقذه من السقوط في هوة الذكريات الأليمة.. تلك الذكرى التي عايرته بها فلك حينما قالت بكل قوة وجبروت
-(ما الذي أنتظره منك بعد أن تسببت في تلويث شرف شقيقتك)
كانت تعلم انه لم يلوثه بل أنقذه.. ولكن دلال كانت مصرة على التمسك بالحقير مهران.. مصرة لدرجة أنها ما عادت ترى للشرف قيمة.

ابتلع رمقه بصعوبة ووقف عن فراشه يترنح.. كان في حاجه ليبتعد عن الشقة وعن فلك.. كان يحتاج للرحيل بشكل مؤقت.
أخذته قدماه إلى المسجد المضاء الذي ينبعث منه الآذان بإلحاح كي يُذكر الغافلين.. وكان هو أيضًا غافل بلا شك
كان يود الجلوس هناك.. في مكان يملأه الضوء.. مكان بعيد عن ظلام شقته.. بعيد عن فلك.. بعيد عن القرية
مكان لا ينتمي لأحد.. بل هو ملك لرب العباد.

جلس أرضًا وأسند رأسه للحائط وأغمض عينه بسكون.. رغم اصوات المصلين وتوافدهم لصلاة الفجر.. إلا انه استطاع توفير السكون لنفسه
لم يصلي، لم يتوضأ.. بل جلس وأسند رأسه واغمض عينيه فقط... هنا لن تجرؤ الكوابيس على مداهمته.. لن يجرؤ الشيطان على وسوسته..هنا سيرتاح ولو دقائق معدودة.

وبالفعل ذهب في سباتٍ لا يدري متى تلقفه
لم يشعر سوى بكف غليظة تربت على كتفه توقظه ببعض الخشونة متلاحقة بصوت صاحبها...
-(أنت يا أخ.. استيقظ.. يجب أن نغلق المسجد)

فنح عنان عينيه بصعوبة وحدق في الشاب الغليظ أمامه
وخلفه يقف شيخ وقور يمرر حبات المسبحة بين اصابعه وشفتيه تتحركان في ذكرٍ خافت
مسح عنان وجهه ونظر للشاب بضيق وتمتم بخشونة..
-(ألا تقولوا أن المسجد بيت الله.. فلم تخرجني من مكان ليس ملكك !)

بدى الضيق واضح في عين الشاب وكاد يرد عليه رد لاذع
ولكن أوقفه الشيخ وهو يربت على ظهره ويتمتم بنبرة رزينة وقورة...
-(اذهب أنت يا كرم وافتح المطعم.. وأنا سأتي خلفك.. هيا يابني، الناس تقف أمام المطعم بعد صلاة الفجر مباشرة)

اطاعه الشاب ورحل بعدما سدد لعنان نظرة حادة لم يأبه بها حنان ولو مثقال ذرة.. ولكنه نظر للشيخ ذو الجلباب الأبيض الذي جلس أمامه وحدق في عينيه مباشرة قبل أن يقول. بهدوء...
-(لما لم تصلي الفجر معنا يا بُني ؟)

أشاح عنان وجهه عنه وهو يغمغم بخشونته المعتادة..
-(لم أتي لأصلي)

ابتسم الرجل وتمتم بهدوء يخلو من الاندهاش أو الضيق..
-(حقًا.. إذا لمَ أنت هنا ؟!)

بدت السخرية هي الشعور الوحيد الذي يملكه عنان في هذه اللحظة، فوجه للشيخ نظرة تهكمية قبل أن يقول بضيقٍ ساخر
-(خِلتُ أن أجد الراحة هنا.. ولكن أصحاب المسجد يعترضون على ما أرى)

لم يتأثر الشيخ بسخريته الوقحة، بل نظر لعينيه المنتفختان بإحمرار.. وتلك الخطوط الزرقاء التي حفرت تحت عينيه.. كان التعب واضح عليه.. الشحوب طغى على ملامحه الذهبية وجعل النمش في وجهه كحبات رمال في أرض صفراء... شعره الذي يحاوط عنقه مشعث والنظرة في عينيه تفضح شعوره بالألم
لم بحتاج الشيخ الكثير ليقول بإدراك...
-(قلبك مفطور يا بُني)

(غصونك تُزهر عشقًا) Where stories live. Discover now